Pure Software code
 
www.puresoftwarecode.com

SOFTWARE Institute
Teach YourSelf
100 Software Programming Training Courses
For Free Download


CHRISTIANITY Institute
HUMANITIES Institute
more the 400 Subjects, All for Free Download.
Lebanon  
CHRISTIANITY Institute
Devotion to Mary     
 
 
  Home : Devotion to Mary              
Home
Christianity Institute
  Maronite Church   Virgin Mary   Saints   Audio   Sharbelogy   Evangeliza   Читать  
    Devotion to Mary - إكرام مريم   Virgin Mary   Apparitions of Virgin    
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء       1   2  
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء: 2
13  في صعوبة المحافظة على النعم والكنوز ...    
14  في اختيار الاكرام الحقيقي للعذراء مريم 20  في الأسباب التي تدعونا إلى هذا التكريم 
15  في عاملات التكريم الباطل والحقيقي 21  وجوه كتابية عن التكريم الكامل
16  الإكرام الحقيقي للعذراء مريم 22  العذراء مريم وعبيد محبتها
17  في ممارسة الإكرام الحقيقي لمريم العذراء 23  في المفاعيل العجيبة الناجمةِ عن هذا التكريم 
18  في طبيعة الإكرام الحقيقي للعذراء مريم  ... 24  ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم
19  في أن هذه الممارسة هي تجديد كامل  ... 25  في الممارسات الباطنيةِ الخاصة ...
 
to enlarge
 
13  في صعوبة المحافظة على النعم والكنوز المقتبلة من الله
الحقيقةُ الخامسة. إنه لمن الصعب جداً علينا أن نحافظَ على النعم والكنوز التي قبلناها من الله، نظراً إلى ضعفنا ورخاوتنا. لأنَّنا نحمل هذا الكنزَ الثمينَ في «آنيةٍ ضعيفة» (2كور 7:4) أي في جسد قابلٍ للفساد ونفسٍ ضعيفة متقلبة، يُقلقها شيء بسيط ويوقعها.

إنَّ الشيطانَ اللصَ الخبيث، يدور حولَنا بلا انقطاعٍ ليفترسَنا ويباغتَنا ليسرقَنا بارتكاب خطيئة، فيسلبَنا كلَّ ما حصلّناه في سنين عديدة من نعم واستحقاقات. إنَّ خبثَه وخبرتَه وحيلَه يجب أن تُخيفَنا، لأنَّ أُناساً أكثرَ نعمةً منا، وأغنى فضيلةً وارسخَ خبرةً وأسمى قداسةً سَلبهم بنوع فظيع. مع الأسف، كم من أرز لبنان قد سقط ونجمٍ لامع هوى في وقت قصير. وكان سببَ ذلك، عدمُ تواضعِهم اذ ظنوا أنهم يقدرون المحافظة على كنوزهم، معتمدين على ذواتهم، حاسبين بيتهم راسخاً كفاية، وصناديقَهم قوية للمحافظة على كنوز النعم، إلا أنَّ العادلَ سمح بتركهم لذواتهم. فلو أودعوا ما لهم إلى يد مريمَ الأمينة، لحافظت عليها بحرصٍ عظيم.

إنَّه من الصعب الثباتَ في القداسة بسبب فسادِ العالم. إنَّ العالمَ فاسدٌ جداً، حتى أنَّ القلوب تُبان وكأنها ملوثةٌ، اذا ليس بوحله، فأقلَّه بغباره. لذا عندما يبقى الشخص ثابتاً وسطَ هذا التيار العارم دون أن يجرفَ منه، أو في البحر الصاخبة امواجُه ولا يغرق، أو يُسلَبُ من القراصنة، أو لا يختنقُ في هواء فاسد، يعتبرُ ذلك كمعجزة تقومُ بها العذراءُ الامينة، تلك التي لم يصر للحية فيها نصيب، نحو الذين يخدمونها ينوعٍ جميل.
 
 
to enlarge
 
14   في اختيار الاكرام الحقيقي للعذراء مريم
علينا الآن أن نختار الاكرامَ الحقيقيَّ للعذراء الطوباوية، لأنَّ هناك كثيراً من الممارسات الباطلة التي من السهل ان نُخدَعَ فيها. إنَّ الشيطانَ مكارٌ ودجالٌ ماهر ذو خبرةٍ في الغش وإهلاك الناس بتقديمه تكريماً باطلاً لمريم موهماً إياهم بأنهم مثلاً في تلاوة بعضِ الصوات لها، ولو بنوعٍ رديء فهذا كافٍ، او بممارستهم بعض الأعمال الخارجية لتكريمها، فلا بأس عندئذ بتماديهم في الخطيئة. إنه كمزيفِ النقودِ الذي لا يزيف عادة إلَّا النقودَ الذهبية أو الفضية، ونادراً فقط تلك المصنوعةَ من معادنَ بخسة، لأنها لا تسوى التعب، هكذا الروح الخبيثة، لا تزيفُ اعتيادياً الممارساتِ الأخرى، بل عبادتي يسوع ومريم، أعني التناولَ المقدس وتكريمَ العذراء، لأنها بالمقارنة مع بقية الممارسات هي كالذهب والفضة بالنسبة إلى بقية المعادن.

إذن من المهمّ جداً ان نعرف الممارسات الباطلةَ لنتجنَّبها، والحقةَ لنعتنقَها. ثم أن نرى ما بين هذه المختلفةِ الجيدة، أية منها هي الأكمل والأحسن والتي تعطي مجداً لله اكثر وتقدسُنا أزيَد لنتعلقَ بها.
 
 
to enlarge
 
15    في علامات التكريم الباطل والحقيقي
نقدر أن نميّزَ بين المصلين سبعةَ نماذجَ يقومون بممارساتٍ باطلة، هكذا:
    1- المنتقدون
    2- الموسوسون
    3- المتظاهرون خارجياً
    4- المعتدّون بذواتهم
    5- المتقلّبون
    6- المراءون
    7- أصحاب المصالح.
 
  1. الملصون المنتقدون

    هم عادةً علماءٌ متكبرون من ذوي النفوس القوية والمعتدية بذاتها، يتلون بعض الصلواتِ للعذراء القديسة، إلّا أنهم ينتقدون تقريباً كلَّ ممارسة لها يقوم بها الشعب المتواضعُ ببساطة وقداسة، لأنها لا تطيبُ لخيالهم.

    إنهم يشكّون بكل الأعاجيب والحوادث المذكورة من رواةِ ثقةٍ، أو المستقاة من اخبار الرهبنات التي تتكلم عن مراحم وقدرة العذراء مريم. يرون بمضض الشعبَ البسيط المتواضع راكعاً أمام مذبح أو صورةٍ للعذراء الطوباوية، أحياناً في زاويةِ طريق، متضرّعين إلى الله، متهمين إيّاهم بالوثنية، كأنهم يعبدون الخشبَ أو الحجر، وقائلين إنهم لا يحبون هذه الممارسات الخارجية لأن نفوسَهم ليست ضعيفةً حتى تثقَ بمثل هذه القصصِ المنسوبة إلى أُمنا مريم.

    وعندما تذكر لهم المدائحَ العجيبة التي يطرى عليها الآباءُ القديسون، يجيبون بأنهم فاهوا بها كخطباءَ مغالين، أو يعطون لتلك الأقوالِ شرحاً رديئاً. إنَّ هؤلاء المصلين غير الحقيقيين والأناس المتكبرين والعالميين يخيفون كثيراً، ويُسيئون جداً إلى العذراء الطوباوية، ويبعدون عنها الشعوب، بحجةِ أنهم يريدون القضاء على سوء استعمال.
     
  2. المتعبدون الوسواسيون

    هم أولئك الذين يخافون إهانة الإبن عند تكريمِهم الأم. وأن يحطّوا من قدر الواحد بتعظيمهم لآخر. لا يتحملون أن تُعطى العذراء مريم المدائحَ التي قدَّمها لها الآباء القديسون. يتبرمون من رؤية الناس راكعين امام مذبحها أكثر ممّا امام القربان الأقدس، كما لو كان الواحدُ مخالفاً للثاني. كأنَّ الذين يصلون امامها، لا يبتهلون بواسطتها إلى ابنها يسوع. إنهم لا يحبون أن يُحكى عنها بتواتر، وأن يلتجئوا إليها غالباً.

    هاكُم بعض أقوالِهم المعتادة: لِمَ كل المسابح والأخويات والإكرامات الخارجية لمريم؟ أليس هذا ناجم عن جهل؟ إننا، يواصلون، نجعل بهذا ديانتنا سخرية. كلمونا عن المتعبدين ليسوع المسيح، ولنلتجئ إليه لأنه وسيطُنا الأوحد، لنكرزَ به، فهو الجوهري.

    إنَّ ما يقولونه هو الصواب من جهة، ولكن نظراً إلى المقارنة التي يعملونها لمنعِ إكرام مريم، فإنه خطرٌ جداً، شَرَكٌ دقيقٌ نصبَه الخبيث بحجةِ خيرٍ أعظم. بالحقيقة، إننا لا نحترم أبداً يسوع المسيح أكثر، إلّا عندما نحترمُ أكثر أُمّه، لأن احترامنا لها، ما هو إلّا لكي نحترمه هو أزيَد، وذَهابَنا اليها، هو كما الى الطريق الموصل الى هدفنا يسوع.

    إنَّ الكنيسةَ المقدسة، بوحي من الروح القدس تُباركُ مريم قبل ابنِها يسوع، فتقول: «مباركة أنت في النساء، ومبارك ثمرة بطنك يسوع»، ليس لأنَّ مريم هي أسمى من يسوع، أو لأنها معادلة له، وقانا الله من هرطقةٍ لا يُمكن تحملها، ولكن لكي نباركَ يسوع بنوع اكمل علينا أن نباركَ أولاً مريم. وهكذا نقول بثقة مع كل المصلين الحقيقيين للعذراء القديسة، دون خوفٍ أو وسواس، مباركة انت في النساء، ومبارك ثمرةُ بطنِك يسوع.
     
  3. المصلون الظاهريون

    إنّ المصلين الظاهريين هم الذين يتوقف تكريمُهم للعذراء مريم على ممارساتٍ خارجية لا غير. فلا يتذَّوقون من إكرامهم لها إلّا الظواهرَ، ولا عجب، فالروحُ الباطني بَراءٌ منهم. تراهم يتلون سبحاتٍ كثيرة بسرعة، ويسمعون قداديسَ بلا انتباه، ويذهبون إلى التطواف بدون ورع، وينتمون إلى كل الأخويات، ولكن دون إصلاحِ سيرتهم، أو قَمعِ أهوائهم. وبدون الاقتداء بفضائلِ مريم المباركة، لا يحبون إلّا ما هو شعوري من الإكرام، غيرَ متذوقين الجوهري الأساس، ولا يشعرون بلذةٍ في ممارساتهم، يَخالُ لهم أنهم لا يعملون شيئاً، فيضطربون، ويهملون كل شيء ويمارسون إكرامَهم بلا نظام.

    إنَّ العالَم مملوء من مثل هؤلاء المصلين الظاهريين، أمَّا المصلون المواظبون على الأمور الباطنية، فإنهم يفحصونها بدقة، ولهذا يعتبرونها جوهرية، دونَ احتقارِ الاحتشامِ الخارجي المرافق دوماً للإكرام الحقيقي.
     
  4. المصلون المعتدون بذواتهم

    هؤلاء هم خطأة يُرخون العنانَ لأهوائهم الفاسدة، ويحبون العالم، يُخفون تحت اسم المسيحي، الجميل، أو المصلي لمريم الطوباوية، كبرياءَهم أو بخلَهم، عهارتَهم أو سكرَهم، غضبَهم أو حلفانَهم، نميمتهم أو ظلمهم، فيلازمون عاداتِهم الذميمة، دون أن يُغصبوا ذاتَهم كثيراً أو يُصلحوها، مُطمئنين أنفسهم بأن الله يغفر لهم فلا يموتون دون اعتراف لأنهم يكرّمون العذراء القديسة، ولا يُهملون سبحتَهم، أو أنهم يصومون يوم السبت، أو لأنهم ينتمون إلى أخوية الوردية، أو لأنهم لابسون ثوبَ الكرمل، ومسجلون بإحدى أخوياتها أو يحملون على ذاتهم، ثوب العذراء، أو السلسلة الصغيرة للعذراء وما شاكل ذلك.

    فإذا قيل لهم بأنَّ ممارستَهم هي خدعةٌ شيطانية، وادعاءٌ خطر بوسعه أن يؤديَ بهم إلى الهلاك، لا يصدقون ذلك، قائلين بأنَّ الله صالح رحوم، لم يَخلقنا لكي يهلكَنا، لأنه لا يوجد إنسان لا يُخطئ. فيؤملون الاعتراف قبل مماتهم، أو أنه يكفيهم أن يقولوا في ساعة الموت، «أخطأت»، لا بل يدَّعون أنهم يكرّمون العذراء القديسة، إذ يصلون يومياً بأمانة وتواضع سبعَ مراتٍ أبانا والسلام لك، إكراماً لها، كما يتلون أحياناً سبحتَها وفرضها، ويصومون إكراما لها والخ ويؤيدون قولَهم بسردِ رواياتٍ سمعوها أو قرأوها في كتبٍ حقيقية أو مزوَّرة، لا يهمهم، عن أناسٍ ماتوا في الخطيئة المميتة، وبدون اعتراف، ونظراً إلى بعض الصلوات التي كانوا يصلونها، أو ممارساتٍ تقوية يقومون بها أكراماً لها، قاموا في جسدهم عجائبياً واعترفوا وتابوا في ساعة موتهم، توبةً حقيقية ونالوا مغفرةَ خطاياهم، فخَلصوا. ويأملون هم أيضاً الحصولَ على هذه الامتيازات التي حصلَ عليها أُولئك.

    لا شيءَ في المسيحية أتعس من هذا الادعاء الشيطاني، لأنه هل يجوز القول عن أحد حقاً أنه يحبّ مريم ويكرهها، عندما يجرح بخطاياه ويثقب ويصلب ويهين بلا شفقة، إبنَها يسوع المسيح؟ لو كانت مريم تساعد بشفقتها أُناساً كهؤلاء، لكانت تسمحُ بارتكاب الموبقات وتوازر صالبي ومهيني إبنها، فهل يتجاسر أحدٌ على الافتكار بذلك؟

    أقول إن من يسيء استعمالَ إكرام مريم بهذا النوع، هذا الاكرام الذي هو أقدسُ وأسمى بعد العبادة لربنا في سر القربان الأقدس، فإنه يرتكبُ نِفاقاً فظيعاً، هو أعظم نفاق بعد تناولِ القربان بدون استحقاق.

    أُصرّحُ بأنه لكي يُكرمَ المرءُ الأُمَّ الطوباويةَ، ليس من الضروري مطلقاً بأن يكونَ قديساً حتى أنه يُحيد عن كل خطيئة، ولو أنَّ ذلك مرغوب فيه كثيراً، بيد أنه يجب أن يكون أقلَّه:
    1. قاصداً بإخلاص أن يَحيدَ عن كل خطيئة مميتة، تهينُ الأمَّ كما تهين الإبن أيضاً.
    2. أن يَغصُبَ ذاته لتجنب الخطيئة.
    3. أن ينتمي إلى الأخويات ويتلو السبحة أو الوردية بكاملها، او صلواتٍ أخرى ويصوم على شرفها وما شاكلَ ذلك من الإكرام.

    هذه هي نافعة جداً لارتداد الخاطئ ولو كان قاسيَ القلب، فإذا القارئ منزلقٌ في الهاوية فإني انصحه بأن لا يمارسَ بعد هذه الأعمال إلّا مع النية بأن ينالَ من الله بشفاعة الأم القديسة، نعمةَ التوبة ومغفرةَ خطاياه، وأن يغلُبَ عاداتِه الرديئة، وليس ليبقى جامداً بهدوء وسكينة في حالةِ الخطيئة، ضدَّ توبيخِ ضميرهِ متحدياً يسوع والقديسين والمشوراتِ الانجيلية.

  5. المصلون المتقلّبون

    هم أُولئك الذين يكرمون العذراءَ القديسة حسب الظروف والشعور. فتراهم احياناً حارّين وطورّا فاترين. يُظهرون مرة مستعدين لعمل كلِ شيء لخدمتها، وبعده بقليل، كأنهم ليسوا هم ذاتَهم. يعتنقون أولاً كل الممارسات للعذراء الطوباوية، فينتمون إلى أخوياتها، ثم لا يمارسون أبداً قوانينَها بأمانة، إنهم يتقلّبون كالقمر (يشوع 12:27) فتضعهم مريم تحت قدميها، مع القمر، لأنهم متقلّبون وغيرُ أهلٍ ليُحسَبوا بين خدامها الأمينين الثابتين. إنه لأفضلُ بأن لا يحمل المرءُ نفسَه عبء صلواتٍ وممارساتٍ كثيرة، بل ان يمارسَ القليلَ منها بمحبة وأمانة، رغمَ العالم والشيطان والجسد.

  6. المصلون المراءون

    هؤلاء هم كذبةُ يخفون خطاياهم وعاداتِهم الذميمة تحت كنفِ العذراء القديسة، ليراهم الناسُ أحسن ممّا هم عليه.

  7. المصلون ذوو المصالح

    يلتجئ هؤلاء إلى العذراء الطوباوية ليحصلوا مرافعةً في المحاكم، أو يتجنبوا خطراً، أو لنيل شفاءٍ من مرض، أو لحاجةٍ ما. لولا هذه، لكانوا ينسونها، فسواء هؤلاء او الذين سبقوا، يكرمونها كَذِباً، وليسوا أهلاً للوقوف أمام الله أو أُمه المباركة.

    إذن لنحترسَ من المصلّين المنتقدين الذين لا يؤمنون بشيء وينتقدون كل شيء، من أصحاب الوسواس، الذين يخافون من المبالغة في إكرامهم لمريم، إحتراماً لابنها، ومن الظاهريين الذين يعتمدون على الممارسات الخارجية فقط، ومن المتكبرين الذين يتذرّعون بإكرامهم لها ليستمروا بخطاياهم، ومن المتقلبين، الذين بسبب خفتهم يغيّرون ممارساتِهم، أو يتركونها تماماً لأصغر تجربةٍ، ومن المرائين الذين ينتمون إلى أخوياتها ويحملون شاراتِها، ليظُنَّ الناسُ أنهم صالحون، وأخيراً من النفعيين الذين يلتجئون إليها للتخلص من الشرور الجسدية أو الحصول على الخيور الزمنية.

 
 
to enlarge
 
16    الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
هذا الإكرام هو:
  1. باطني
  2. رقيق
  3. مقدّس
  4. ثابت
  5. ومتجرّد.
  1. هو إكرام باطني

    أعني أنه يصدر عن الروح والقلب، وينتج عن التقدير الواجب للعذراء القديسة، عن فكرتنا السامية لعظمتها ومحبّتنا البنوية لها.

  2. هو إكرام رقيق

    أعني مملوءٌ ثقةً بالعذراء المباركة، كثقة طفل بأمّه المُحبّة. يجعل الإنسان أن يلتجئ اليها في كل حاجاته الجسدية والروحية، ببساطة وثقة ورقّة، طالباً عونها الرؤوم، في كل حين ومكان وفي كل أمر. في ارتياباته لنيل الأنوار، في زَيغانه لتقويم اعوجاجه، في تجاربه لتشديده، في ضعفه لتقويته، في سقطاته لنهوضه، في خمود همّته لتنشيطها، في وساوسه للتخلّص منها، في صلبانه وأشغاله ونكسات الحياة، للحصول على التعزية، وأخيراً في جميع مساوئ الجسد والروح، مريم هي الملجأ الدائم، دون خوف إزعاجها او إهانة إبنها.

  3. هو إكرام مقدّس

    يحمل الإنسان على تجنّب الخطيئة والإقتداء بفضائل أمّه مريم، لا سيما بتواضعها العميق وإيمانها الحي وطاعتها وصلاتها غير المنقطعة وأمانتها التامة وطهارتها الملائكية ومحبّتها المتّقدة وصبرها الجميل ولطفها الفائق وحكمتها العديمة النظير، هذه هي الفضائل العشر التي سطعت فيها دوماً.

  4. هو إكرام ثابت

    اي يوطّد الإنسان في الخير ويحمله على عدم الحياد عنه وترك الممارسات الروحية بسهولة، فيُعطي الشجاعة ضد أهواء العالم وتقلّباته وتعاليمه، ويُخمد شهوات الجسد ويطرد الشيطان في تجاربه. فمن يُكرّم مريم حقّاً ليس متقلّباً في شعائره فلا تراه يوسوس ولا يهاب المحن. إلا ان هذا لا يعني انه لا يسقط ربما أحياناً، او لا يشعر باليبوسة الروحية وغير ذلك، لكنه اذا ما سقط فإنه ينهض سريعاً، باسطاً يد الثقة لأمّه الحنون لترفعه، وإذا لا يشعر بلذّة في التقوى، فإنه يغتمّ، لأن البار يحيا بالإيمان (عبرانيين 38:10) وبيسوع ومريم، وليس بشعوره الحسّي والجسدي.

  5. هو إكرام متجرّد

    يُلهم المرء على عدم التفتيش على المصلحة الشخصية، بل على الله وأمّه القديسة. إن الإكرام الحقيقي لايخدم مريم بروح المنفعة او المصلحة، ولا حتى لخير زمني او روحي، وقتي او دائم، بل فقط لأنها تستحق ذلك، وفي تكميل ذلك يصل الى قمّة الخدمة الواجبة لله. فمن هو متجرد في إكرامه، لا يُحبّ مريم بسبب عطائها، ولكن لأنها أهل لذلك فيجب محبّتها وخدمتها بأمانة في الضجر واليبوسة، في الحلاوة والعذوبة، يُحبّها على السواء سواءٌ كانت فوق الجلجلة أم في عرس قانا، فهذا الإكرام الحقيقي هو المرضيّ والثمين في أعيُن يسوع وأمه القديسة، طوبى لمن يمارسُه.
أشعر بالسعادة لو وقع هذا الكتيّب بيد إنسان وُلد من الله ومريم، وليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من إرادة رجل (يوحنا 13:1) ليكشف له الروح القدس ويُلهمه سموّ وقيمة الإكرام الحقيقي الراسخ لمريم، والذي كنت أود ان أكتبه بدمي لو كان ذلك يجدي نفعاً أكثر لإدخال هذ الحقائق في العقول.

إني أشعر اكثر من اي وقت آخر وأومل طالباً من الله، بأن كل ما رسّخته عميقاً في القلوب سيعطي للعذراء الطوباوية، عاجلاً أم آجلاً، أبناء كثيرين وخدّاماً وعبيد محبّة، أزيد من أي زمن مضى، وأن يملك سيدي المحبّ يسوع على القلوب، بواسطتها أكثر فأكثر.

أرى بعيداً وحوشاً كثيرة حانقة، تهجم لتمزّق بأنيابها الشيطانية هذا الكتيّب، محاولة إلقاءه في الظلمات وقعر صندوق، كيلا يرى النور أبداً، مهاجمين ومضطهدين قرّاءه ايضاً، ولكن لا بأس بذلك، لا بل إن الأفضل، إذ يشجّعني هذا المنظر ويجعلني ان أومل نجاحاً باهراً، لأني أرى بعيداً جيشاً عرمرم من جنود بواسل وأبطال من كلا الجنسين، يحاربون العالم والشيطان والطبيعة الفاسدة، وينتصرون عليهم، ومن يقرأ ليفهم، ومن يقدر ان يفهم فليفهم (متى 12:19).
 
 
to enlarge
 
17    في ممارسة الإكرام الحقيقي لمريم العذراء
  1. الممارسات العامة

    هناك عدة ممارسات باطنية، أوجز أهمّها:
    1. تكريمها كأمّ الله المُستحقّة إكراماً سامياً، يفوق احترام وتقدير جميع القديسين الآخرين، لأنها عمل النعمة الإلهية الأساس والأول بعد يسوع المسيح، الإله الحقّ والإنسان الحق.
    2. تأمّل فضائلها وامتيازاتها وأعمالها.
    3. تأمّل عظائمها.
    4. تقديم أفعال المحبّة والمديح ومعرفة الجميل نحوها.
    5. الإستغاثة بها قلبياً.
    6. تقديم الذات لها والإتحاد معها.
    7. القيام بأعمالنا بغية إرضائها.
    8. بدء وإنهاء كل أعمالنا بواسطتها، فيها ومعها ولأجلها، وذلك لكي نعملها بيسوع المسيح وفيه ومعه ولأجله، لأنه هو غايتنا الأخيرة.

    أما الممارسات الخارجية فهي ايضاً كثيرة وهاك أهمّها:

    1.  الإنتماء الى أخوياتها والإنخراط في جمعياتها.
    2. الدخول في الرهبانيات المؤسسة على شرفها.
    3. نشر مدائحها.
    4. القيام بصدقات وأصوام وإماتات روحية او جسدية إكراماً لها.
    5. حمل شاراتها، مثل الوردية المقدسة او ثوب الكرمل او سلسلتها.
       
    6. تلاوة الوردية المقدسة بانتباه وخشوع واحتشام، إكراماً للأسرار الرئيسية التي تُمثّل حياة المسيح، وهي خمسة عشر سراً، اسرار الفرح الخمسة وهي: البشارة، زيارة مريم لنسيبتها اليصابات، ولادة يسوع، تقدمته في الهيكل، ووجدانُه في الهيكل بعد فقدانه ثلاثة ايام. اما اسرارُ الحزن الخمسة فهي: نزاع يسوع في البستان، جلد يسوع على العمود، تكليل رأسه بالشوك، حمله للصليب على طريق الجلجلة، وموته فوق الصليب. وأسرار المجد الخمسة هي: قيامة يسوع من بين الأموات، صعوده الى السماء، حلول الروح القدس على مريم والتلاميذ، انتقالها الى السماء، وتكليلها من قبل الثالوث الأقدس. ويمكن ان تتلى سبحة مؤلفة من ستة او سبعة اسرار إكراماً للسنين التي يُظن ان العذراء قضتها على الأرض، بعد القيامة. او السبحة الصغيرة المؤلفة من ثلاث مرات أبانا الذي واثنتي عشرة مرة السلام لكِ، إكراماً لإكليلها المؤلف من اثني عشر نجماً أو امتيازاً، او فرضها المقبول من الكنيسة، او المزامير الصغيرة المؤلفة من القديس بونفنتورا، وهي مزامير عاطفية تكريمية مؤثرة، او ايضاً اربع عشرة مرة ابانا والسلام إكراماً لأفراحها الأربعة عشرة، او ايضاً بعض الصلوات الأخرى والمدائح والأناشيد الكنسية مثل السلام عليك يا ملكة أمّ الرحمة، وغيرها، حسب مواسم السنة الطقسية، مثل السلام عليك يا نجمة البحر… او ايتها السلطانة الممجّدة، او «تعظم نفسي الرب» وغيرها من الصلوات التكريمية.
       
    7. ترتيل المدائح الروحية إكراماً لها وتعليم الآخرين ايضاً وحثّهم على ذلك.
    8. الإنحناء مع تلاوة عدة مرات «السلام عليك يا مريم العذراء الأمينة» كل صباح، لنيل الأمانة نحو نِعم الله إبّان النهار، وتلاوة كل مساء «السلام عليك يا مريم أمّ الرحمة» لطلب الصفح من الله بواسطتها عن الخطايا المقترفة أطراف النهار.
    9. الإهتمام بأخوياتها، وتزيين مذابحها وتكليل وتجميل صورها.
    10. حمل صورها أثناء التطواف، وجعل الآخرين ايضاً ان يفعلوا ذلك، وحمل صورتها على شخصنا كسلاح قدير ضد اللَّعين.
    11. الإهتمام بحمل صورها او إسمها، ووضعها سواء في الكنائس او في الدور، او على الأبواب ومداخل المدن والكنائس والبيوت.
    12. تكريس الذات لها بنوع خاص واحتفالي.


    وهناك عدة ممارسات أخرى لإكرام العذراء الطوباوية، تلك التي ألهمها الروح القدس للأنفس القديسة، وهي تقوية يمكن مطالعتها مفصّلاً في كتاب «الفردوس المفتوح» تأليف الأب بولس باري اليسوعي، حيث جمع فيه عدداً كبيراً من الممارسات، قام بها القديسون إكراماً لمريم العذراء، ممارسات مفيدة جداً لتقديس النفوس، شريطة القيام بها كما يجب، أعني:

    1. بنية صالحة ومستقيمة لإرضاء الله فقط وبالإتحاد مع يسوع المسيح كفّارتنا الأخيرة.
    2. بإنتباه دون طياشة إرادية.
    3. بتقوى بلا استعجال او تهاون.
    4. باحتشام ولياقة لنعطي المثال الصالح.

     

  2. الممارسات الخاصة الكاملة

    أقول بصراحة إنني قرأت تقريباً كل الكتب التي تتكلّم عن تكريم العذراء مريم، وتحدّثتُ بدالةٍ مع اكبر القديسين والعلماء المعاصرين، إلا انني لم أعرف قط، إكراما آخر يضاهيه، ويطلبُ فيه من النفس تضحيةً اكبر نحو الله، يُفرغها من محبّتها الذاتية ويحفظها أمينة أكثر للنعمة، كما يحفظ النعمة فيها، ويتّحدها مع يسوع المسيح بنوع كامل، وأخيراً، يُعطي الله مجداً أكبر، مقدّساً النفس ومفيداً للقريب. ويتوقّف أساس هذا التكريم على الباطن، لذا لا يفهمه الكثيرون، ويقف أغلبهم على الظواهر، والذين يفهمونه باطنياً، هم درجات، فأولئك الذين يصبح لديهم هذا النوع من الإكرام ممارسة اعتيادية، سيتقدّمون من فضيلة الى أخرى، ومن نعمة الى نعمة، ومن نور الى نور، ليصلوا الى الإستحالة الذاتية في يسوع المسيح، والى ملء الزمان على الأرض والمجد في السماء.
   
 
to enlarge
 
18   في طبيعة الإكرام الحقيقي للعذراء مريم أو في التكريس التام ليسوع المسيح
بما أنَّ كلَّ كمالِنا يتوقف على أن نكونَ شبيهين ومتّحدين ومكرَّسين ليسوع المسيح، فالعبادةُ الأمثل من جميع العبادات، هي بلا ريب، تلك التي تجعلُنا شبيهين ومتّحدين ومكرّسين بنوعٍ اكمل له. والحالُ مريم هي الأكثرُ شَبَهاً بيسوع المسيح من كلِ الخلائق. إذن ينتج بأنه ما بين جميعِ العباداتِ، تلك التي تُكرس وتجعل النفس شبيهة أكثر من غيرها، بسيدنا الإلهي، هي تكريم العذراء مريم، وكل ما كانت النفس أكثرَ تكريساً لها، كلما ستكون أيضاً أكثر ليسوع المسيح.

لذا فإن التكريسَ التام ليسوعَ المسيح، ما هو إلا تكريس النفس الكلي والكامل، لمريم المباركة وهذه هي الممارسة التي أدعو اليها، وان اردت فهي تجديدٌ حقيقي لمقاصدِ أو مواعيدِ العماد.

في تكريس النفس التام والكامل لمريم العذراء

تقومُ هذه الممارسةُ على بذلِ الإنسان ذاته بجملتها لمريم، ليكونَ بواسطتِها كلياً ليسوع. لذا يجب أن نهدي لها: 1) جسدنا مع كل حواسه واعضائه، 2) نفسَنا بكل قواها، 3) خيراتِنا الخارجية المسمّاة الأموال، من حاضرة ومستقبلة، 4) خيراتِنا الباطنية والروحية التي هي استحقاقاتِنا وفضائلَنا واعمالَنا الصالحةَ الماضية والراهنة والمقبلة. بكلمةٍ، كلَّ ما هو لنا في النظام الطبيعي والروحي، وكل ما سنحوز عليه في المستقبل، على الأرض وفي السماء، دون تحفظٍ، ولا استثناء، إلى آخر فلس، وحتّى أقلِ عملٍ صالح، وذلك إلى الأبد، دون أن ندَّعيَ ولا نرجو ثواباً آخر، عدا شرفِ الانتماء الى يسوع المسيح بواسطتها وفيها، رغم أنَّ هذه السيدةُ هي دوماً أسخى الخلائقِ وأكثرُها عرفاناً للجميل.

ولا بُدَّ هنا من الملاحظة بأنَّ أعمالَنا الصالحة تحمل صِفَتين هما: التعويضَ والاستحقاق، أو قيمة التعويض والطلب وثوابَ الاستحقاق، فالأول هو عبارةَ عن كل عملٍ صالح يكفّر أو يعوّض عن القصاص الواجب للخطيئة، أو يحصل على نعمة جديدة، بينما الثاني هو العملُ الصالح الذي هو أهلٌ للحصول على النعمة والمجدِ الأبدي. فعند تكريس نفسنا لمريم، نَهَبُها ثوابَنا التكفيري والاستمدادي والاستحقاقي، أو بكلمة أخرى، نقدّم لها: استحقاقاتِنا ونعمنا وفضائلنا، ليس لتوزعَها على الآخرين، الأمر الذي هو غيرُ ممكن، لأنَّ فقط يسوع المسيح الذي كان كفيلُنا لدى الآب، استطاعَ اشراكنا باستحقاقاته، بل لتحفظَها لنا وتنميَها وتجعلَها أكثرَ بهاءً، فنقدّمُ لها مع ذلك تعويضاتِنا أو تكفيراتِنا لتمنحَها لمن تريد لمجد الله الأعظم.

ينتُجُ من هذا بأنَّ هذه الممارسةَ تُعطي ليسوع المسيح، كلَّ شيءٍ، وبأكمل نوع ممكن، أكثر من أي اكرام آخر، لا سيما إذ تمنحُه بيدي مريم، لا فقط قسماً من الوقت أو جزءاً من الأعمال الصالحة، أو شيئاً من الاستحقاقات والإماتات، ولكن كلَّ شيء، حتى حق الاهتمام بالخيرات الباطنية والاستحقاقات التي يكتسبُها المرءُ يوماً بعد آخر، والتعويضات، الأمرُ الذي لا يتم في أية رهبنةٍ كانت، لأنَّ هذه تُقدمُ لله بنذور الفقر والعفة والطاعة، الأموالَ وملذاتِ الجسد والإرادة الخاصة لا غير.

هكذا فإنَّ الشخص المكرس ذاته بهذا الشكل والمضحي بها ليسوع المسيح، بواسطة مريم، لا يحق له بعد أن يهتمَّ بشيءٍ، لأنَّ كلَّ ما له صار لمريم التي تُدبره حَسَبَ إرادةِ ابنها ولمجده الأعظم، دون أن يعيقَ ذلك بالطبع واجبات الحال التي هو فيها الآن، أو التي سيكون فيها في المستقبل، مثلاً الكاهن الذي يجب عليه أن يخصصَ نياتِ القداديس لأشخاص معيّنين. إذن يتم التكريس للعذراء الطوباوية وليسوع المسيح معاً، فللعذراء كواسطة كاملةٍ اختارها يسوع لنتحد مع بعضنا، وله كغايتنا الأخيرة بما أنه مخلصُنا والهُنا، ولنا منه كل ما نحن عليه.
 
 
to enlarge
 
19    في أن هذه الممارسة هي تجديد كامل لمواعيد المعمودية المقدسة  
قلت إن هذه الممارسة يمكن تسميتها جيداً: تجديدٌ كاملٌ لمواعيد العماد. لأن كل مسيحي، كان قبل اعتماده عبداً للخطيئة، وعند قبوله العماد، كفر احتفالياً بالشيطان، سواء فعل ذلك هو شخصياً، أم بفم العرّاب أو العرابة، وبكل أباطيله واعماله واتخذ يسوع المسيح معلماً له وسيداً مطلقاً يخضعُ له كعبد حب، وهذا ما تعنيه المواعيد: أكفر بالشيطان وبالعالم وبالخطيئة، مخصصاً ذاته بجملتها ليسوع المسيح بواسطة مريم. إلا أنه ههنا يفعلُ أكثر من ذلك، لأن في المعمودية، يعلن ذلك اعتيادياً بفم الاشبين أو الإشبينة، فيقدمُ ذاتَه ليسوع المسيح بواسطة الوكيل، بينما في هذه الممارسة، يقدمُ هو ذاته، نفسَه، باختياره ومعرفته التامة.

ثم في المعمودية المقدسة، لا يُعطي المرء ذاتَه ليسوعَ المسيح، بواسطة مريم، أقلَّه ليس بنوع صريح، ولا يُعطي ليسوع المسيح، استحقاقَ اعماله الصالحة، فيبقى الإنسانُ بعد المعمودية حُراً في التصرف فيها، مقدّماً اياها، إمّا للآخرين، أو يحتفظ بها لذاته، بينما في هذه الممارسة، يخصص الإنسان ذاتَه لمخلِصنا الإلهي، بيدي مريم، ويكرّس له استحقاقَ أعمالِه كلِها.

يقول القديس توما، إن البشرَ ينذرون في المعمودية المقدسة، بجحد الشيطان وأباطيله (الخلاصة اللاهوتية 2، 2، 2:88)، وحسب القديس اوغسطينوس، إن هذا النذرَ هو الأكبرُ والأكثرُ ضرورةً (رسالته لبولينوس 59).

هذا ما يؤيده الحقوقيون أيضاً بقولهم: إن أهمَّ نذرٍ، هو ذاك الذي نعمَلُه في العماد، ومع ذلك، فمن هو هذا الذي يحافظ على هذا النذر الكبير؟ ومن هو ذاك الذي يتمسكُ بأمانةٍ بمواعيدِ المعمودية، ومن يأتي هذا الفسادُ العام؟ أليس من نسيان هذه الوعودِ التي قمنا بها، ومن عدم تأييده شخصياً هذه المعاهدة التي عملها الله، العرّاب أو العرّابة باسمه.

هذه هي الحقيقةُ حتى أن مجمع سنس الملتئم بأمر الملك لويس الصالح لإصلاح الفسادِ الكبير بين المسيحيين، أقرَّ بأنَّ العلة لذلك كانت متأتيةً من النسيان والجهل لهذه المواعيد، فلم يجد واسطةً أفضلَ لمداواةِ هذا الشر الفظيع، إلّا حملَهم على تجديدِ تلك المواعيد.

ويحرّضُ التعليم المسيحي «لمجمع ترنت»، الشارح الأميني للمجمع، الكهنةَ على عمل نفس الشيء، أعني حمل الشعب ليتذكرَ ويؤمن بأنه مقيدٌ ومكرسٌ لربنا يسوع المسيح، كالعبد لسيده، فيكتب: «على الكاهن أن يحثَ الشعبَ ليعلم بأنه من العدل والصواب، أن يُكرسَ ذاتَه لمخلصنا وسيدنا إلى الأبد، كالعبد لسيده» (1، 3، 15:2).

فإذا ما المجمع والآباء والخبرةُ تبيّن بأنَّ أحسنَ وسيلةٍ لمداواة فسادِ المسيحيين هو تذكّرُ واجباتِ المعموديةِ وتجديدُ مواعيدِها، أليسَ إذن من الأفضل فعلُ ذلك من خلال تكريسِ ذواتِنا للرب بواسطة أُمه القديسة؟

يعترضُ البعضُ بأنَّ هذا التكريمَ هو صيغةٌ جديدة. أجيبُ بأنَّ مجامعَ كَنَسية وعدداً من آباء الكنيسة والكتبة الروحيين القدامى والمعاصرين، يتكلمون عن تجديد مواعيدِ المعمودية كصيغةِ إكرامٍ موجودة قديماً ويوصون بها.

وقد يَظُنُّ آخرون بأنَّ هذا النوعَ من الإكرام، طالما يجعلُنا نُهدي كلَّ أعمالنا الصالحة من صلواتٍ وصدقاتٍ وتقشفاتٍ فإنه يجعلُنا نَحرمُ أهلنا وأصدقاءنا والمحسنين الينا من مساعدتهم بها. أقولُ بأنه لأمرٌ لا يقبلُ التصديق أن يتحملَ أصدقاؤنا وأهلُنا والمحسنون الينا، العذابَ بسبب تكريمنا وتكريس أنفسنا دون قيدٍ لخدمة ربنا وأُمه القديسة. إنَّ هذا القولَ يهينُ قدرةَ وجودةَ يسوع ومريم اللذان يعرفان جيداً كيف يساعدان هؤلاء سواء بواسطة استحقاقاتِنا أو بطرقٍ أُخرى.

إنَّ هذا الإكرام لا يمنعُ بتاتاً، بأن نصلي عوضَ الآخرين، سواء كانوا أحياء أم متوفين، رغم أنَّ توزيع أعمالنا الصالحة هو منوطٌ بإرادة العذراءِ الطوباوية، فإنَّ هذا يجعلُنا أن نصلي بثقةٍ أعظم.

كمثلِ شخص وهبَ كلَّ ما له لأميرٍ كبير حباً بتكريمه، فإذا ما طلب ذلك الغنيُّ شيئاً من أميره، لتصدق على أحد أصدقائه، فإنه لا فقط لا يخيب أملَه، ولكن يجعله سعيداً ليظهرَ تقديرَه لِما عَمله نحوه. وهكذا لا يدع ربنا وأمه المباركة أن نغلَبهما سخاء.

وقد يحتجُ آخرون بقولهم اذا ما قدَّمنا كل اعمالنا الصالحة الى العذراء القديسة لتوزعَها، أفلا نتعذب في المطهر زمناً أطول؟ إنَّ هذا الاعتراضَ نابعٌ عن الأنانية وعن جهلِ سخاءِ الرب وأمِه المباركة. هل من المعقول أن شخصاً وَرِعاً وسخياً يَودُّ الاهتمامَ بمصالح الله أكثرَ من أموره الفردية، هل هذا الشخص، الذي قدّم كلَّ ما له لله، دون قيدٍ ولا شرط، ولا يتنفسُ إلّا لمجد الرب يسوع وأمه القديسة، هل يعقل بأن يقاصَصَ في العالم الآخر، بسبب سخائِه وغيرتِه المتقدة؟ لا ريبَ أنَّ هذا الإنسانُ سينالُ من جودةِ الربِ وأمه، أكثرَ بكثير سواء ههنا أو ما وراء هذه الحياة على كل الأصعدة من أفضالٍ عميمة في حقل الطبيعةِ والنعمةِ والمجد.
 
 
to enlarge
 
20    في الأسباب التي تدعونا إلى هذا التكريم
  1. إن هذا التكريم يعهدُنا بجملتنا الى خدمة الله، ولا نستطيعُ تصور وظيفة أرضية أسمى من هذه الخدمة. إن خادم الله هو أغنى وأقدر وأنبل من كل ملوك الأرض واباطرتها، اذا لم يكونوا من خدامه تعالى، ومن كل الثروات والسلطة والمقام. إن العبد الأمين والمحب ليسوع بواسطة مريم، الذي لم يدَّخر لذاته شيئاً، يفوق كل ذهب الارض وجمال السماوات.

    إن الرهبنات والجمعيات والأخويات المؤسسة لإكرام ربنا وأمه القديسة، والتي تعمل خيراً كبيراً في المسيحية، لا تهب كل شيء، دون قيد، لأنها لا تفرض على أعضائها إلا بعض ممارسات وأعمال لتكميل واجباتهم، تاركة إياهم احراراً في بقية اعمالهم وأوقات حياتهم. بينما هذا الاكرام، يطلب ممن يمارسه أن يقدم ليسوع ولمريم كل أفكاره وأفعاله وآلامه، وأوقات حياته، فسواء كان ساهراً أم نائماً، سواء أكل أم شرب، سواء مارس أكبر الاعمال أم احقرها، فإنه يفعل ذلك، ولو أنه لا يفكر به، يفعله ليسوع ومريم، بفضل تقدمته، إلا اللَّهم اذا ما تراجع عنها صريحاً.

    لذا لا يوجد إكرامٌ آخر افضل منه، حتى لو تسربت بعض النقائص في أعماله، ويسوع الذي وعد بأن يعطي مئة ضعف لمن يترك من أجله بعض الخيور الخارجية (متى 29:19) ماذا ستكون مكافأته لمن ضحى له حتى بخيراته الباطنية والروحية؟

    قد منحنا يسوع، صديقنا العظيم، كل شيء له من جسد ونفس وفضائل ونعم واستحقاقات وبتقديمه ذاته لنا بجملتها، قد اكتسبنا، يقول القديس برنردس، فهل ليس من العدل ومعرفة الجميل ان نبادره نحن أيضاً بدورنا، ونعطي له كل ما لنا وقد سبقنا في العطاء سنختبر في حياتنا وبعد مماتنا، ومدى الابدية كلها كم هو كريم نحونا.

    إن هذا التكريم يجعلنا ان نقتدي بمثال يسوع والله ذاته، ونمارس به التواضع. لم يستنكف هذا المعلم الصالح من أن يغلق عليه في أحشاء العذراء القديسة كأسير وعبدِ حبّ، وأن يكون خاضعاً لها وطائعاً مدة ثلاثين سنة. بالحقيقة، يتيهُ العقلُ البشري عند تأمله العميق، موقف الكلمة المتجسد الذي رغم قدرته، لم يُرد أن يتقدم الى الناس مباشرة، بل بواسطة العذراء الطوباوية، فلم يرد ان يدخل العالم بعمر رجل كامل، وبنوع مستقل عن الآخرين، بل جاء كطفل مسكين وصغير، متعلق باهتمام وتدبير أمه القديسة.
     
  2. إن هذه الحكمة اللامتناهية، التي كان لها الشوق العظيم في تمجيد الله وخلاص البشر، لم يجد قط وسيلة أكمل وأقصر من خضوعه في كل شيء للأم العذراء، لا فقط مدة سنوات عديدة من حياته، كبقية الأطفال والأولاد، ولكن لمدى ثلاثين سنة، وقد أعطى بذلك مجداً أكبر لله الآب، مما لو كانت تُستعملُ في اجتراح العجائب او الوعظ لاهتداء البشر، ولو كان هذا الفرض غير صحيح، كما فعل. فهل نحن أكثر حكمةً وفهماً من الحكمة الالهية؟ هل من حاجة ان نذكّرَ بما قلتُه بخصوص الثالوث المجيد السامي، الذي يعلمنا الخضوع للعذراء مريم؟ إن الآب لم يعطِ ولن يعطي ابنه إلا بواسطتها، ولا يصير البشر أبناء الله الا بها، ولا يفيض نعمه عليهم الا بواسطتها. وكذلك الله الابن، لم يُعطَ لجميع الناس الا بها، ولا يكون ويولد كل يوم الا بها وباتحادها مع الروح القدوس، فلا يُشرك استحقاقاته وفضائله الا بواسطتها، والروح القدس لم يكوّن يسوع المسيح الا بواسطتها، ولا يكوّن اعضاء جسده السري الا بها. فبعد هذه الامثلة المُلحّة من قبل الثالوث الأقدس، هل بوسعنا دون أن نُرمى بأقصى العمى الروحي، أن نستغني عن مريم وأن لا نكرس ذواتنا لها ونخضع لها حتى نذهب الى الله، نضحي بذاتنا لأجله تعالى.

    ويقول القديس بونافنتورا بعد اوريجين: «لمريم ابنان، الواحد انسان اله، والآخر انسان محض، فهي ام الأول جسدياً، والثاني روحياً». اما القديس برنردوس فإنه يكتب: «هذه هي إرادة الله، على أن نحصل على كل شيء بواسطة مريم. فاذا ما لنا المواهب الخلاصية والنعمة والرجاء، فلنعلم أنها كلها تسيلُ من يديها». أو أيضاً: «كنتم غير أهلين لقبول النعم الالهية، لذا أعطيت لمريم، كيما كلما تحصلون عليه يكون بواسطتها». ويقول القديس برنردينوس السياني بدوره: «تُوزَّع جميع المواهب والفضائل ونعم الروح القدس بيدي مريم، لمن تريد وعندما تريد وكيفما تريد».

    «لما رأى الله، يواصل برنردس، بأننا غير أهلٍ لقبول نعمة مباشرة، منحها لمريم، لنحصل عليها بواسطتها، ويجدُ مجده في الحصول بواسطة مريم، مع عرفاننا بالجميل واحترامنا والمحبة التي يجب تأديتها له على انعامه. إذن من العدل ان نقتدي بهذا المثل الالهي، اي نعيد الشكران الى المصدر بنفس القناة التي جاءتنا النعمة».

    هذا ما نعمله بهذا الاكرام، أي أننا نقدم ونكرس ذاتنا وكل ما نملك للعذراء الطوباوية، كيما يقبل الرب بشفاعتها، المجد ومعرفة الجميل الواجبة له من قبلنا. إننا نستعرف ذاتنا بأننا غير أهلٍ وغير قادرين للدنو من جلاله اللامتناهي. لذا نلتجئ الى شفاعة العذراء القديسة.

    علاوة على ذلك، فان هذا الاكرام، يفترض تواضعاً عميقاً، الفضيلة التي يحبها الله فوق كل الفضائل، لأن النفس التي ترتفع «تُنزل الله، والتي تتواضع، تَرفع الله». إن الله، يقول الرسول يعقوب (6:4) «يقاوم المتكبرين ويمنح نعمه للمتواضعين».

    إذا ما تحتقرُ ذاتك وتعتبر نفسك غير أهل للظهور امامه والاقتراب منه، عندئذ هو سينزلُ اليك، وتطيب له الاقامة، ليرفعك نحوه رغماً عنك، ويصير عكس ذلك تماماً، عندما يدنو المرء منه بجسارة وبلا شفيع، فحينئذ يهربُ منه ولا يقوى على البلوغ اليه.

    إن الله يُحبُّ حقاً تواضعَ القلب، وهذا الاكرام يحث على ذلك، لأنه يعلمنا ان لا نقترب منه أبداً بذاتنا، مهما كان الرب وديعاً ورحيماً، بل أن نستخدم دوماً شفاعة العذراء القديسة، سواء كان للظهور امامه أم التكلم معه، أو الدنو منه، أو لتقديم شيء له، وتكريس الذات والاتحاد معه.
     
  3. إن هذا الاكرام يمنحنا عطف مريم وحبها.

    إن العذراء الطوباوية هي أم الطيبِ والرحمة، فلا تدع أن تغلبَها في الحب والعطاء، عندما ترى أحداً يقدمُ ذاته بجملتها لها، لإكرامها وخدمتها، بتجرده عن كل ما هو غالٍ ليزينها، عندئذ هي أيضاً تُعطي له ذاتها كلياً وبنوع لا يوصف، فتجعله يغرقُ في هُوَّة نِعَمِها، وتُجملُه باستحقاقاتها، وتسنده بقدرتها، وتنيره بضيائها، وتحرقه بمحبتها، وتُشركه بفضائلها من تواضع وايمانٍ وطهارة وغيرها، فتصبح له كفيلةً وممولةً وعزيزته نحو يسوع.

    وبما ان الشخص المكرس ذاته هو لمريم بجملته، فكذلك مريم هي له بكاملها، بنوع أنه يمكن القول عن هذا الخادم الكامل وابن مريم، ما قاله الانجيلي يوحنا عن ذاته، أنه اخذها الى خاصته (يوحنا 27:19)، أي سينجمُ له من هذا، إذا ما هو أمين، وعديم الثقة بذاته، واحتقرها وكرهها، ومن الجهة الأخرى، ستكون له ثقةٌ كبيرة واعتماد عظيم على العذراء القديسة سيدته الصالحة. فلا يستندُ بعد، كالسابق على استعداداته ونياته واستحقاقاته وفضائله واعماله الصالحة. اذ ضحَّى بها ليسوع على يد مريم، ولم يبقَ له بعد الا كنزٌ واحد فقط، فيه وضع كل خيراته، خارجاً عنه وهو مريم.

    هذا ما يجعله أن يدنو من الرب دون خوف ولا وسواس، وأن يصلي اليه بثقة كبيرة، متخذاً شعائر العلامة التقي روبيرت، الذي بتلميحه عن غلبة يعقوب للملاك (تكو 24:32)، يخاطب العذراء الكلية القداسة بهذه العبارة الجميلة: «يا مريم، أميرتي، وأم الله الانسان، يسوع المسيح، المحبول بها بلا دنس، أود أن أحارب مع هذا الانسان، أعني الكلمة الالهي، مسلَّحاً ليس باستحقاقاتي الخاصة، ولكن باستحقاقاتك».

    حقاً إن المرءَ لقديرٌ وقويٌ لدى يسوع المسيح عندما هو مسلح باستحقاقات وشفاعة كذا أم لائقةٍ بالله، التي كما يقول عنها القديس اوغسطينوس «غلبت بحبها الكلي القدرة».

    تُطِّهر مريمُ اعمالنا الصالحة وتزيّنُها وتجعلُها مقبولةً لدى ابنِها.

    تطهرها من كل تلوث المحبة الذاتية والتعلق بالخليقة، هذا التعلق الذي يندسُّ بنوع غير محسوس في خير أعمالنا. فحالما تصير ما بين يديها الطاهرتين، اللتين لم تتدنس ولم تبق عاطلة، تنقي كل ما تلمسه، وتنزع من هديتنا المقدمة لها كل ما فيها من دنس وعدم كمال.

    إنها تُجمّلها بتزيينها باستحقاقاتها وفضائلها. كمثلِ فلاحٍ يَودُّ كسبَ صداقةِ وعطفِ الملك، فيذهب لدى الملكة ويقدمُ لها تفاحةً هي كلُّ ما يملك، لتُهديَها للملك. إنَّ الملكة بقبولها الهديةَ الحقيرةَ والتافهة، تضع التفاحةَ وسطَ صحنٍ كبيرٍ جميلٍ ذهبيّ وتُقدّمها هكذا للملك باسم الفلاح. إنَّ التفاحةَ بذاتها لا قيمة لها لتقدَّم للملك، لكنها تصبحُ هديةً لائقة بجلاله نظراً الى الصحن الذهبي الموضوعة فيه، والى خاصة، شخصِ الملكةِ التي تقدمها.

    إنها تقدم هذه الاعمالَ الصالحةَ ليسوع المسيح، لأنها لا تحتفظ بشيء لنفسها مما يهدى لها، بل تعيد كل شيء بأمانة الى يسوع. فاذا ما يُعطى لها، معناه يُعطى ضرورةً ليسوع، واذا ما تُمدح وتُمجَّد، فحالاً تَمدح وتُمجد يسوع. الآن كما في السابق، عندما القديسة اليصابات، مدحتها، رتَّلت: «تُعظم نفسي الرب» (لوقا 46:1).

    عندما يقدمُ شخصٌ هديةً ليسوع معتمداً على لباقته واستعداده الخاص، يفحصها يسوع، ومراراً بسبب فسادها الناجم عن محبة الذات، كما رفض في الماضي ذبائح اليهود التي كانت مملوءة من إرادتهم الشخصية، ولكن عندما يُقدَّم له شيء بيدي امه الحبيبة، فإنه لا يقدر رفض شيء لها، لأنه لا ينظر الى الهدية ذاتها، ولا الى ممن هي، لكن فقط الى من يُقرّبها، لذا لا يرفض أمه مريم ابداً، بل العكس، يقبلها بكل طيبة خاطر، مهما كانت الهدية حقيرة بذاتها، او صغيرة، يكفيها انها مقدمة من أمه المحبوبة. هذه كانت مشورة القديس بيرنارد الكبيرة التي كان يوصي بها اولئك الذين يقودهم نحو الكمال، قائلا: «عندما تريد تقديم شيء لله، اهتم أن تفعل بذلك بواسطة مريم المباركة، الا اذا ما اردت ان ترفض، ان الطبيعة ذاتها توصي الصغار عمل ذلك لدى معاطاتهم مع الكبار، كما أن النعمة ايضاً تحملنا على استعمال نفس الصيغة مع الله صاحب السمو اللامتناهي، لا سيما ولنا محامية كذا قديرة ولبقة، لا تَردُ قط، تعرف كل الاسرار لاجتذاب قلب الله، ولا ترفض بدورها احداً مهما كان صغيراً وفقيراً.
     
  4. بهذا الاكرام نعطي لله مجدا اعظم

    اذا ما يُمارس هذا التكريم بأمانة، يصبح واسطة سامية تُعطي لكل اعمالنا الصالحة قيمة للحصول على مجدٍ أعظم لله. لا احد تقريباً يقوم بأعماله لأجل هذه الغاية النبيلة، رغم اننا ملتزمون بذلك. والسبب هو لأننا سواء لا نعلم أين هو مجد الله الأعظم وسواء لأننا لا نريد ذلك. اما العذراء الطوباوية التي اودعنا اليها قيمة واستحقاق كل اعمالنا الصالحة، فإنها تعلم علماً كاملاً اين هو مجد الله الاعظم، ولا تفعل شيئاً الا لتحقيقه. لذا فعبدها الحقيقي يمكنه القول بجسارة بان قيمة كل اعماله واقواله هي مستعملة لمجد الله الاعظم، الا اللهم اذا ما تراجع عن قراره بنوع صريح. فهل من تعزية اعظم للإنسان المحب لله محبة حقيقة، المهتم بمجد الله ومصالحه أكثر مما لنفسه؟
     
  5. إنَّ هذا التكريم يؤدي الى الاتحاد مع الرب، بنوع أسهل، لأنه طريقٌ قصيرٌ وكاملٌ وآمن.
    1. فهو طريقٌ سهلٌ سلكه يسوع المسيح في مجيئه الينا، ولا صعوبة للعودة به. لا ريب أنه يمكن الاتحاد مع الله بطرق أخرى، إلا أنها ستكون أصعب بتحمل صلبان أكبر، وميتاتٍ روحية وصعوباتٍ جمة لا نقوى عليها الا بصعوبة. اذ علينا ان نجتاز بليال مظلمة وممارساتٍ روحية غريبة وتسلق جبال عالية وتحمل اشواك مرهفة والسير في صحارى مخيفة. بينما بطريق مريم يمكن الاجتيازُ بحلاوة لذيذة وأمانٍ أعظم. لا شك أنه ستكون هناك صراعاتٌ قوية وأزماتٌ حادة يجب السيطرة عليها، فستكون هذه الأم الرؤوم بجانب خدامها الأمناء لتنير ظلماتهم وتشجعهم في مخاوفهم وتشددهم في صراعهم، بنوع ان الطريق المريمي يوصلنا الى يسوع كأننا نسير بين الورد ملتذين بالعسل، عكس الطرق الاخرى. وقد اختبرَت نخبةٌ صغيرة من القديسين ذلك من امثال إفرام ويوحنا الدمشقي وبرنارد وبرنردوس وبونافنتورا وفرنسيس سالس وغيرهم، إذ ان الروح القدس أنار عقولهم لمعرفة ذلك، عكس غالبية القديسين الذي بلغوا الى يسوع في طرقٍ خطرةٍ وسط صعوباتٍ مخيفة.

      قد يستغربُ كون بعض خدام مريم الأُمناء، يلاقون صلباناً كثيرة، ومضادات واضطهادات وافتراءات، ويسيرون وسط ظلمات روحية باطنية بلا عزاء. فأقول إن الصلبان هي هدايا السماء فلا عجب ان يحصلوا عليها. ولكن هنا أيضا أود القول بأن خدام مريم يتحملون هذه الصلبان بسهولة أكثر وباستحقاق ومجد. وما يوقف ألف مرة آخرين، او يجعلهم يسقطون، لا يوقفهم بتاتاً، لا بل يجعلهم يتقدمون، وذلك لأن هذه الأم الصالحة، الممتلئة نعمة وحلاوة الروح القدس، تقطَعُ هذه الصلبان وتضعُها في سكر طيبها الوالدي، فيبتلعونها بفرح كأنَّها جوزٌ في السكر، رغم مرارتِها الطبيعية.

      أظن أن العابد الذي يود العيش بتقوى نحو يسوع والذي بالنتيجة يتحمل الاضطهاد دوماً، لن يحمل صلبانه الكثيرة والكبيرة بفرح، ما لم يكن ذا إكرام فائق للأم العذراء التي تُحلّيها، كما لا يستطيع أحدٌ دون قسرٍ أكل الجوز الأخضر المر، ما لم يكن مغموساً في السكر.
       
    2. إنه طريق قصير.

      سواء لأنه لا يتيهُ، وسواءٌ لأنه يمشي فيه بفرح، فلا يشعر بتعب، فيسيرُ بسرعة اكثر. من يكرمُ العذراء مريم، يتقدم روحياً في وقت قصير، أكثر من الشخص المعتمد على ذاته وإرادته في سنوات كاملة. إن الطائع لمريم والخاضع لها، يرتلُ الانتصارات على أعدائه، الذين سيحاولون مضايقته في سيره ليسقط او يتقهقرَ، إلا أنه سيخطو كجبارٍ نحو يسوع المسيح، في نفس الطريق التي سلكها هو في وقتٍ قصير. هل تفكر لماذا عاش يسوع على الارض قليلاً وقضى تلك الفترة تقريباً كلها في الخضوع والطاعة لأمه؟ إنه في أمدٍ قصير، عاش طويلاً، وأكثر من آدم الذي جاء ليكفّر عن خسارته والذي رغم عمره الطويل الذي عاشه، فإن يسوع بخضوعه واتحاده مع أمه القديسة، عاش أكثر منه. يقولُ الروح القدس: من يحترمُ أُمَّه يشبهُ رجلاً يَكنِزُ له كنوزاً، فمن يُكرّمُ مريم أمه بخضوعه لها، وطاعتِه لها في كل شيء، سيصبحُ غنياً، كمن يَكنِزُ له كنوزاً (سيراخ 5:3).

      إن حُضنَ مريم ولَدَ وعانَق الانسانَ الكامل الذي لم يستطع الكون فهمه ولا احتواءه ففي هذا الحضن، يصبح الشباب شيوخاً ويشعّون نوراً وقداسة وخبرة وحكمةً فيصلون في فترةٍ وجيزة الى عمر يسوع المسيح الكامل.
       
    3. إنه طريق كامل

      لأن مريم المباركة هي أكمل وأطهر الخلائق، ولأن يسوع في سفره العجيب والكبير نحونا، جاءنا بواسطتها في هذا الطريق. إن المتسامي الذي لا يمكن فهمه ولا البلوغ اليه، ذاك الذي هو، أحب المجيء الينا، نحن دودة الأرض الصغيرة والحقيرة. إن العلي نزل الينا كاملاً والهياً، بواسطة الصغيرة، دون فقدان شيء من عظمته، وعلينا أيضاً بواسطة مريم أن ندعها تحتوينا وتقودنا، بنوع كامل وبلا تحفُّظ. إن الذي لا يمكن فهمُه، اقترب واتحد مكيناً وبنوع كامل وشخصياً بناسوتنا، بواسطة مريم دون أن يخسر شيئاً من جلاله. وبواسطة مريم أيضاً، علينا ان نقترب من الله ونتحد بجلاله كاملاً ومكيناً دون خوف من أن نُرفض. وأخيراً ذاك الذي هو، أحب المجيء نحو من ليس شيئاً، ليجعله إلهاً او من هو، وفعلَ ذلك بنوع كامل، بإعطاءِ ذاته وخضوعه كلياً لمريم العذراء الشابة، دون ان يتخلى في الزمن، عن من هو منذ الأزل. وبنفس الترتيب نحنُ الذين لسنا شيئاً، نقدر بواسطة مريم، ان نصبح شبيهين بالله، بالنعمة والمجد، بإعطاء ذواتنا لها، بنوع كاملٍ وبجملتنا، دون خوف الغلط، رغم أننا لسنا شيئاً في ذاتنا، ولكن نحنُ كلُّ شيء فيها.

      إذا ما يُعملُ طريقٌ جديدٌ للذهاب الى يسوع المسيح، معبّدٌ بكل استحقاقات الطوباويين، ومزينٌ بكل فضائلهم البطولية، ومنورٌ بكل انوارِ وسحرِ الملائكة، مع كل الملائكة والقديسين، ليقودوا ويدافعوا ويثبتوا السائرين فيه، فإنني اتجاسر وأقول الحق، بأنني أُفضلُ على هذا، طريق مريم المحبول بها بلا دنس، الطريق الكامل والنظيف والخالي من كل خطيئة، وبدون اي ظلٍ وظلمات. وعندما يجيء يسوعي المحبوب في مجدِه، الى الأرض، للمرة الثانية، ليملك عليها، فإنه لن يختار في سفره طريقاً آخرا، عدا طريق مريم المباركة، التي جاء بواسطتها في المرة الأولى، بنوع أكيد وكامل. إن الفرق بين المجيئين هو أنه في الأول كان سرياً وخفياً، وفي الثاني سيكون مجيداً وعجيباً، وكلاهما كاملان، لأنهما تمتا بواسطة مريم. إنهُ لسرٌ لا يُفهم للأسف، وليصمُت هنا كلُّ لسان.
       
    4.  إنه طريق أمين
       
      • إن الممارسة التي أعملها ليست جديدة. يقولُ اللاهوتي بودون الذي كتب عنها كتاباً، لا يعلم بالضبط متى ابتدأت. مع ذلك فإن آثارها موجودة في الكنيسة، منذ أكثر من سبعماية سنة. وكان القديس اوديلون، رئيس دير كلوني، الذي عاش حول سنة 1040، من الأوائل الذين مارسوها في فرنسا، كما هو مدون في سيرة حياته.

        ويَذكرُ الكاردينال بطرس داميانوس (ملفان الكنيسة) عن أخيه الطوباوي مارينوس، بأنه في عام 1016 خصَّص ذاته عبداً للعذراء المباركة بحضور مرشده. كما يذكر قيصر بولانوس عن فارس اسمُه فوتييه بيرباك، من أنسباء دوق لوفان أنه نحو سنة 1300 كرس نفسه ايضاً للعذراء القديسة. فمارس هذا الاكرام كثيرون بنوع خاص، حتى أصبح معروفاً في القرن السابع عشر.

        نَشرَ بنوع شعبي، الأب سيمون روباس واعظُ الملك فيليب الثالث، هذه الممارسة في كل إسبانيا والمانيا، وحصل بإلحاح فيليب الثالث، من البابا غريغوريوس الخامس عشر، غفرانات عديدة لمن يمارسها. واجتهد الاب لوس ريوس، مع صديقه الحميم الاب روباس، في نشر هذه الممارسة بكتاباته وأقواله في اسبانيا والمانيا، وألف كتاباً ضخماً، بعنوان «السلسلة المريمية» تكلم فيه عن معرفة عن قدم وسمو ورسوخ في هذه الممارسة بأسلوب تقوي.

        ووطَّد الرهبان الثياتيون، هذه الممارسة في الجيل الماضي، في ايطاليا وصقليا وسافويا، كما نشر بنوع فريد، الاب ستانيسلاوس فلاسيوس اليسوعي هذه الممارسة في بولنده. ويذكُر الابُ لوس ريوس في المؤلف المذكور، أسماء الامراء والاميرات والدوقات والكرادلة الذين مارسوا هذا التكريم من مختلف الممالك.

        ومَدَحها الابُ كورنيليوس الحجري، المعروفُ بتقواه وعلمِه الزاخر، المُفوّض من قبل الاساقفه واللاهوتيين، بفحص هذه الممارسة، فأصدر بشأنها مدحاً لائقاً بتقواه. وقدّم الآباء اليسوعيون الغيورون دائماً على خدمة العذراء الكلية القداسة، باسم اخويات مدينة كولون، بحثاً صغيراً عن هذه الممارسة، الى فيرديناند دوق بافاريا، ليسأل رئيس أساقفة كولون، بطبعه، وتحريض الكهنة والرهبان في الأبرشية، لنشر هذه الممارسة الراسخة قدر طاقتهم.

        وكان الكاردينال دي بيرول (ذكره للبركة في كل فرنسا) بين أكبر الغيورين على نشر هذه الممارسة في بلده، رغم كل الافتراءات والاضطهادات التي شنها ضده المنتقدون واللادينيون، متهمين اياه بأمور جديدة وشعوذة، ونشروا ضده كتاباً محشواً إفتراءاتٍ مستخدمين، أو بالأحرى، استخدم الشيطان بواسطتهم، ألف حيلةٍ لمنه من نشر هذه الممارسة في فرنسا. إلا أن هذا الرجل العظيم والقديس، لم يبال بذلك محتملاً اياها بصبرٍ جميلٍ، وردَّ على اعتراضاتهم الملفَّقة في كتابهم، بتأليفٍ صغير مُفنداً إدعاءتهم بقوة، مُبيّناً أنَّ هذه الممارسة هي مبنيةٌ على مثال يسوع وعلى الواجبات التي علينا نحوه، وعلى النذور التي ابرزناها في العماد، خاصةً بهذا البرهان الأخير سَدَّ افواهَ أخصامِه، وأظهر أنَّ هذا التكريسَ ما هو الا تجديدٌ كاملٌ لمواعيدِ ونذورِ المعمودية.

        ويمكن مطالعة أسماء الباباوات العديدين الذين أيدوا هذا الاكرام (في كتاب السيد بودون) وكذلك أسماء لاهوتيين كثيرين فحصوه والاضطهادات التي لاقاها وانتصر عليها وأسماء آلاف الاشخاص الذين مارسوه، دون أن يحرمهم أي بابا، فلا يمكن أن يصير كل ذلك دون هدم المسيحية.

        يثبتٌ بأن هذه الممارسة ليست جديدة أبداُ، وإن هي غير عامة، لكونها ثمينةً جداً فلا يتذوقها الجميع.
         
      • إن هذا التكريم هو طريق أمين يبلغنا إلى يسوع المسيح والى الآب الأزلي بنوع أكيد. لا يظن الروحانيون غلطاً أن مريم تمنع وصولهم الى الاتحاد الالهي. فهل يعقل أن تلك التي وجدت النعمة أمام الله لكل العالم، تصبح مانعاً لنفس تتحد مع الله؟ هل يمكن للتي كانت ممتلئة نعمة وفائضة بها ومتحدة كلياً به حتى تجسد فيها، أن تعيق أحداً من الاتحاد به تماماً؟ إن رؤية بعض الخلائق حتى القديسة، قد يؤخرُ أحياناً، الاتحاد مع الله، ولكن ليس مريم، فإن أحد الأسباب الذي من أجله يبلغ أناس قليلون الى ملء قامة المسيح، هو لأن مريم التي هي أم الابن ومقرُ الروح، هي غير كاملة في قلوبهم. من يود اقتناء ثمر ناضج جيد ولذيذ، عليه ان يغرس الشجرة التي تنبته. ومن يرغب امتلاك ثمرة الحياة التي هي يسوع المسيح، عليه نصبُ مريم شجرة الحياة عنده، ومن يريد الحصول على فعالية الروح القدس، يجب أن تكون له مريم الامينة والمباركة التي تعطي لعمله الخصوبة الثمر.

        اذاً كلما نظرتم الى مريم اكثر، سواء في صلواتكم او انخطافاتكم او اعمالكم او عذاباتكم، اذاً ليس بنظرة واضحة ومتميزة، فأقله بنظرة عامة وغير دقيقة، ستجدون بنوع اكمل يسوع الذي هو دوماً مع مريم، عظيم وقدير وغير قابل الادراك، واكثر حتى مما في السماء او في أية خليقة أخرى في الكون. وهكذا بالأحرى، فإن مريم التي تغيرت كلياً في الله لا تصبح عائقاً للكاملين من البلوغ الى الاتحاد معه، لأنه لم يصر قد حتى الآن، ولن تكون ابداً خليقة بوسعها مساعدتهم بأكثر فاعلية في هذا العمل العظيم، سواء بواسطة النعم التي تمنحُها لهم لهذه الغاية، لأنه لا يوجد أحدٌ مملوءٌ من فكرة الله الا بواسطتها كما يقول القديس جيرمانيوس، وسواء بصيانتها إياهم من خداعات وغش الروح اللعينة.

        فحيث مريم، لا يمكن وجود روح خبيثة. ومن العلامات الأكيدة، لمعرفة اذا ما الروح الصالح هو الذي يدير المرء، هي إكرامه الكبير لمريم، وافتكاره فيها مراراً، والتكلم عنها، كما يقول القديس جيرمانوس، والذي يضيف، كما أن النفس هو علامة الحياة الاكيدة للإنسان، كذلك الافتكار المتواتر والدعاء الحبي الى مريم هو اشارة واضحة على حياة المرء روحياً.

        وكما ان مريم وحدها، كما تقول الكنيسة والروح القدس مرشدها، أبادت كل الهرطقات مهما تذمر الناقدون، فإن من يكرم مريم حقيقياً وبأمانة، لن يسقط في الهرطقة، أو أقله في الخداع الصوري، قد يتيه مادياً، ويظن الكذب حقاً، والروح الخبيثة صالحة، ولكن يحدث هذا بصعوبة أكثر مما لدى غير المكرمين لها، وعندما سيعرف غلطه، عاجلاً أم آجلاً فإنه لن يعاند البتة، أو يصدق أو يعتنق ما كان يظنه، أنه الحقيقة.

        إذن كل من يرغب التقدم في طريق الكمال، دون خوف الضلال، والبلوغ الى يسوع المسيح، بنوع أكيد وكامل، يعتنق «بقلب رحب ونفس منشرحة» (2مكاب 3:1) هذه الممارسة للعذراء الطوباوية، التي ربما لم يعرفها بعد، وليدخل في هذا السبيل الذي كان مجهولاً منه، والذي أريه إياه (1كور 31:12). إنه الطريق المسلوك من يسوع المسيح الكلمة المتجسد، رأسنا الوحيد، لذا فمن يسير لن يتيه.

        إنه طريق سهل، بسبب ملء النعمة وحلاوة الروح القدس، لا يتعب المرء فيه أبداً ولا يتقهقر قط، حتى اذا ما سار فيه. إنه طريق قصير، يوصلنا في زمن قصير الى المسيح يسوع، هو طريق كامل لا وحل فيه ولا غبار ولا رائحة خطيئة، وهو أمين ليبلغنا الى يسوع الحياة الأبدية بنوع مستقيم وأكيد، ودون انحراف. لندخل فيه ولنسر ليل نهار حتى نبلغ قيامة المسيح (افسس 13:4).


  6. هذا التكريم يمنحُ حريةً باطنيةً كبيرة

    وهي حرية أبناء الله (رومية 21:8) للذين يمارسونه بأمانة، لأنه يجعل المرء عبداً ليسوع الرب الصالح الذي يجازي عبده بنزعه عنه كل وسواس وخوف يضايقانه ومنحه ألفة مقدسة مع الله، معتبراً إياه كأبٍ، واهباً له حباً حقيقياً بنوياً ورقيقاً.

    ولا أود إثبات ذلك ببراهين عقلية، بل أكتفي بسرد حادث قرأته في ترجمة الأم الراهبة أغنيسة ليسوع المتوفية بعُرف القداسة عام 1634. فكانت هذه الراهبة تتعذب كثيراً، وسمعت صوتاً يقول لها: إذا ترغبين التخلص من عذاباتك، صيري عبدةً ليسوع وأُمَّه مريم. فقبلت ذلك فوراً وأعلنت ذاتها هكذا، وكعلامة لذلك حملت على حَقويها سلسلة حديدية إلى مماتها (كان العبدُ مراراً يشد بالسلاسل الحديدية)، فشفيت من آلامها وشعرت براحة وسلام يغمرانها. وعلّمت هذه الممارسة للأب أوليه مربي معهد سان سولبيس وغيره من الكهنة.
     
  7. هذا التكريم يمنح خيرات جزيلة للقريب

    بتسليم المرء أثمن شيء له، وهو قيمة اعماله الصالحة التكفيرية الى مريم لتوجهها حسب رغبتها الوالدية، سواء لارتداد الخطأة وسواء لتخليص الأنفس المطهرية، يُظهر الإنسان ذاته أنه تلميذ كامل لمعمله يسوع، ويحب قريبه، عاملاً على خلاصه، سواء كخاطئ على الارض أو متعذب في المطهر. ولمعرفة سمو ذلك، يكفي القول بأنه عملٌ أعظم من خلق السماء والأرض، حسب القديس أوغسطينوس، لأنه يُعطي للإنسان خير حصوله على الله. فلو أعطي للإنسان أن يخلص ولو شخصاً واحداً فقط، من المطهر أو إرجاع خاطئ واحد، فهل ليس ذلك شيئاً عظيماً لكل إنسان أن يمارس هذا النوع من الإكرام؟

    مع هذا نلاحظ أن أعمالنا الصالحة التي تمر بيدي مريم، تنال نقاء أكثر، ومن ثم زيادة في الثواب والقيمة الوفائية والاستحقاق الطلبي، فتصير أقدر على تخفيف العذابات المطهرية وهدية الخطأة مما تكون بذاتها ولم تمر بيدي مريم. وقد يكون عند وفاة شخص أمين لهذه الممارسة، أنه خلّص نفوساً كثيرة من المطهر وأرجع خطأة عديدين دون قيامه بأعمالٍ خارقة العادة، إلا ما تطلبه حالته الاعتيادية، فيا لعظم سعادته يوم الدين.
     
  8. إنَّ ممارسةَ هذا التكريمِ هي واسطةٌ عجيبة للثبات

    ما هو سببُ عدم ثبات أغلب ارتدادات الخطأة؟ ولم يقعون بسهولة في الخطيئة؟ لماذا أكثر الأبرار بدل أن يتقدموا في الفضيلة، ويكتسبوا نعماً جديدة يفقدون مراراً القليل الذي لهم من النعمة. إن هذه التعاسة مصدرها من اعتماد الإنسان على ذاته، واستناده على قواه الخاصة، ظاناً بأنه قادرٌ على المحافظة على كنز نعمه وفضائله واستحقاقاته.

    بواسطة هذه الممارسة يؤمّن صاحبُها لدى الأم القديسة، الأمينة، كل ما له، معتبراً إياها، مستودعاً عاماً لكل خيراته الطبيعية والروحية، واثقاً بأمانتها مستنداً على قدرتها، ومعتمداً على رحمتها ومحبتها كي تحفظ وتنمي فضائله واستحقاقاته، رغم الشيطان والعالم والجسد الذين يحاولون جهدهم لانتزاعها منه.

    إنه يقول لها، كما يقول الطفل الصالح لأمه والعبد الأمين لسيدته: «حافظتُ على الوديعة» (طيما 20:6) يا أماه الصالحة، ويا سيدتي، إني أقرُّ بقبولي حتى الآن النعم من الله بشفاعتك، أكثر مما أستحق، وإن اختباري البائس يعلمُني أنني أحمل كنزي في إناءٍ سريع العطب، وانني ضعيفٌ جداً وحقيرٌ كثيراً، حتى أستطيع المحافظة عليها بذاتي، لأني «صبيٌ حقير» (مز 141:118)، لذا أرجو قبول كل ما لي كوديعةٍ، تحافظين عليها بأمانتك وقدرتك، فإذا ما انت تحرسيني لن أفقد شيئاً، وإذا تستنديني لن أسقط أبداً، وإذا ما تحاميني فسأكون في مأمن من أعدائي.

    هذا ما يقوله القديس برنردس بكلمات صريحة مشوّقاً إيانا الى هذه الممارسة، فيكتب: «عندما تسنُدك (مريم) لا تسقط ابداً، وعندما تحرسك لا تخافُ قط وعندما تقودُك، لا تتعب البتة، وعندما تهتمُ بك، ستصلُ إلى مرفأ السلامة». ويكرر القديس بونافنتورا ذلك بكلمات أقوى قائلاً: «إن العذراء القديسة ليست فقط من عداد القديسين، لكنها هي التي تحفظُ ملئهم من النقصان، وفضائلهم من الخسران، واستحقاقاتهم من الفقدان، ونعمهم من الحرمان، والشياطين من إيذائهم، وتمنعُ أخيراً الرب من معاقبتهم عند الخطأ».
إن العذراء الكلية القداسة هي البتول الأمينة نحو الله، التي عوضت عن الخسارة الناجمة من حواء اللاأمينة، فتطلب من الله، الثبات لأولئك الذين يتعلقون بها. لذا يُشبهها أحد القديسين بالمرساة الراسخة التي تخلّص من الغرق في بحر هذا العالم الخضم، الكثيرين المتشبثين بها. ويقولُ يوحنا الدمشقي بدوره: «إننا نعلّق النفوس برجائِك، كما في مرساةٍ وطيدة». إن القديسين الذي خَلُصوا تعلقوا بها، وعلَّقوا الآخرين ليثبتوا في الفضيلة. فطوبى ألفَ مرةٍ لأولئك المسيحيين الذين يتشبثون بها بأمانة كاملة كما في مرساة ثابتة. إن أعاصير هذا العالم لا تقوى على إغراقهم، ولا على حرمانهم من الكنوز السماوية. طوبى لأولئك الذين يدخلون اليها كما الى فلكِ نوح. إن مياه طوفان الخطيئة، التي تُغرق الكثيرين في العالم، لا تضرُّهم، لأن أولئك الذين يشتغلون لخلاصهم لا يُخطئون. طوبى لأبناءِ حواء التعيسة اللاأمناء، الذين يتشبثون بالأم والبتول الأمينة «التي تحبُ دوماً الذين يحبونها» (أمثال 17:8) لا فقط بمحبة عاطفية، ولكن بمحبة فعالة أيضاً تمنعهم من السقوط في الطريق وفقدان نعمة ابنها. إذ يمنحهم فيض النعم.

إن هذه الأم الصالحة تقبل دوماً بحب كل ما يُقدَم لها كوديعة، وعندما تقبلُها تحافظ عليها من باب العدل، إذ هي ملتزمةٌ بعقد الامانة، كمثل شخصٍ اودعت عنده ألف ليرة، فهو ملتزمٌ بالمحافظة عليها، بحيث أنه إذا فُقدت بسبب إهماله، يكون هو المسؤولُ عنها عدلاً. إنَّ مريم الأمينة لا تدع قط أن يعقد ما يُودَع عندها، عن إهمال. فالسماءُ والأرض تزولان، أحرى مما أن تصبح مهملة لا أمينة نحو المعتمدين عليها.

يا أبناء مريم المساكين، إن ضعفكم لشديد، وعدم ثباتكم لكبير، وباطنكم فاسد. إنكم أبناء آدم وحواء، ألا تعزّوا وافرحوا، فإني أكشف لكم سراً، غير معروف تقريباً من الجميع حتى ايضاً من الأتقياء. لا تضعوا ذهبكم وفضتكم في صناديقكم التي كسرتها الروح الخبيثة وسرقتها، إنها صغيرة وضعيفة وقديمة، لا تصلحُ لاحتواء كنز كذا ثمين وكبير. لا تضعوا الماء الرائق والنقي في آنيةٍ ملوثةٍ بالخطيئة، وإذا ليس فيها خطيئة الآن، فإن رائحتها لا زالت بعد فيها، فسيكون الماء ملوثاً، ولا تضعوا خمركم الممتاز في براميل كانت مملؤة خمراً فاسداً، إنها ستُفسد هذا الخمر أيضاً، فحذار من ذلك.

رغم أنكِ تفهمينني أيها النفوس المختارة، فإني سأتكلم بصراحة وأقول: لا تضعوا ذهب محبتكم وفضة طهارتكم ومياه نعمكم السماوية وخمر استحقاقاتكم وفضائلكم في كيس مثقوب، وإلا سوف تسلبه اللصوص، أعني الشياطين اللذين يفتشون عنكم ليل نهار ويتجسسون، منتظرين الفرصة السانحة ليقوموا بذلك. ستُفسدون برائحتكم الكريهة الناجمة عن محبتكم الذاتية واعتمادكم على نفسكم، كل ما يعطيكم إياه الله مما هو طاهر.

ألا ضعوا واسكبوا في أحشاء وقلب مريم كل كنوزكم ونعمكم وفضائلكم، فانه إناء الروح، إناء مكرم، إناء العبادة الجليلة، منذ ما الله تعالى أغلق ذاته داخله بكل كمالاته، فأصبح روحانياً بجملته، ومسكناً روحياً للنفوس الأكثر روحية، أصبح مكرماً وعرش شرف لأكبر أمراء الأبدية، صار إناء العبادة الجليل والمسكن الأكثر حلاوة ونعمةً وفضيلةً، أمسى أخيراً غنياً كبيتٍ من ذهب، وقوياً كبرج داود، ونقياً مثل برج عاجي.

آه كم هو سعيدٌ الانسان الذي وهب كل ما له لمريم، ويثق ويفقد كل شيء في مريم. إنه بجملته لها وهي كلُها له، ويمكنه القول بجسارة مع داود: «هذه صارت لي» (مز 56:118)، أو مع التلميذ الحبيب: «أخذتُها الى خاصتي» (يوحنا 27:19) أو مع يسوع: «كلُ شيء لي هو لك، وكل ما هو لك، هو لي» (يوحنا 10:17).

إذا ما يقرأُ ناقدٌ هذا ويَخالُ له أنني أبالغ وأتكلم عن ممارسة مبالغ فيها، يا للأسف، إنه لا يفهمني، سواء لأنه جسداني لا يتذوق الامور الروحية البتة، وسواء لأنه من العالم الذي لا يقدرُ أن يقبل الروح القدس، وسواء أيضاً لأنه متكبرٌ ومنتقدٌ، فيحرم ويحتقر كل ما لا يفهمه، إلا أن الناس المولودين من دم ولا من مشيئة لحمٍ، ولا من إرادة إنسان (يوحنا 13:1) بل هم من الله ومن مريم، يفهموني ويتذوقوني.

ومع ذلك أقول، إن مريم المباركة هي أفضل وأسخى الخلائق، ولا تدع ان تُغلب قط في المحبة والكرم، وبدل بيضة، يقول شخصٌ قديس، تعطي ثوراً، أي بدل شيء زهيد يُقدَم لها، تمنحُ كثيراً مما اخذته من الله، وبالنتيجة إذا ما تقدمُ نفسٌ ما ذاتها لها دون تحفظ، فهي أيضا بدورها تُعطي ذاتها لها دون تحفظ. إذا ما يضع الانسان كل ثقته فيها دون كبرياء، ساعياً لتحصيل الفضائل وقلع الرذائل. ليقل إذن خدامُ مريم الامناء، بجسارة مع القديس يوحنا الدمشقي: «إذا كان لي ثقةٌ فيكِ يا أم الله فإني سأخلص، وإذا كانت حمايتُك لي، فلا أهابُ شيئاً، وبعونك سأحاربُ وأهزمُ اعدائي لأن إكرامك هو سلاحُ الخلاص الذي يُعطيه الله لمن يُريدُ خلاصَهم».
 
 
to enlarge
 
21    وجوه كتابية عن التكريم الكامل
رفقة ويعقوب

يُعطينا الروحُ القدس في الكتاب المقدس (تكو 27) رمزاً خلّاباً عن هذه الحقائق التي وضعْتها عن العذراء مريم الكلية القداسة وأبنائها وخدامها في قصة يعقوب الذي نال بركة أبيه إسحق بهمةِ وفضلِ أمهِ رفقة، وها هي.
 
  1. قصةُ يعقوب

    بعد أن باعَ عيسو حقَّ بكوريته ليعقوب، أكدت رفقة، أم الأخوين، تلك التي كانت تحب بحنو يعقوب، فائدة ذلك له، بعد عدة سنوات، بعملية مقدسةٍ غامضة. لما شعر إسحق أنه قد طُعنَ في السن، أراد أن يبارك ولديه قُبيل وفاته، فدعا إليه إبنه عيسو – ذاك الذي كان يحبُه – وأمره ان يصطاد شيئا ويأتيه به ليأكل ويباركه. أنذرت رفقة بسرعة، يعقوب بذلك، وامرته بالذهاب الى القطيع ويأتيها بجديين، وعندما أعطاهما لوالدته، أعدت منهما لاسحق ما كانت تعرف أنه يستطيبه، وألبست يعقوب ثياب عيسو التي كانت تحفظها عندها وغطت يديه وعنقه بجلد الجديين، لكيما إذا ما سمع أبوه الذي كان قد فقد بصره، صوت يعقوب، يصدق أقله بشعر يديه، أنه عيسو أخوه.

    إستغرب فعلا اسحق من صوته الذي كان يظنه صوت يعقوب، فجعله يقترب منه، ولما لمس شعر الجلد الذي يغطي يديه، قال بأن الصوت كان بالحقيقة صوت يعقوب، ولكن اليدين كانت يدي عيسو، وبعد أن أكل واستنشق رائحة ثيابه المعطرة، عندما قبّله، باركه متمنياً له ندى السماء وخصوبة الارض، وأقامه سيداً على كل امواله، وأنهى بركتهُ بهذه الكلمات: «من يلعنُكَ يكون ملعوناً، ومن يباركُك يمتلئ من البركات».

    بالكاد انتهى اسحق من هذه الأقوال حتى دخل عيسو وقدم له الطعام الذي اصطاده وأعدّه ليباركه. انذهل الشيخ القديس كثيراً، وأدرك ما جرى، إلا أنه لم يتراجع عما فعل، وبالعكس أيّده، لأنه رأى واضحاً فيه إصبع الله. عندئذ أخذ عيسو يزأر، كما يلاحظُ الكتاب المقدس، وصار يتشكى عالياً من غدر أخيه، وطلب من أبيه إذا لم يكن له إلا بركة واحدة. وكان في هذا، كما يلاحظُ الآباء القديسون، صورة أولئك الذين يربطون الله مع العالم، ويحبّون التمتع معاً بتعزيات السماء والارض. تأثر إسحق من صرخات عيسو، فباركه أخيراً، ولكن بركة الأرض، جاعلاً إياه خاضعاً لأخيه، الأمر الذي جعله يبطنُ ليعقوب حقداً فتاكاً، فكان ينتظرُ عيسو موت أبيه ليقتله، وما كان يستطيع يعقوب التملص من الموت لو لم تكن أمهُ المحبةُ رفقة قد ضمنت بذكائها ومشوراتِها الصالحة التي أعطتها له والتي إتّبعَتها.

    قبل أن أشرح هذه القصة الجميلة، لا بُد من الملاحظة بأنه حسب جميع الآباء القديسين ومفسري الكتاب المقدس، يعقوب يمثل صورة سيدنا يسوع المسيح والمختارين، وعيسو، هو رمزُ الهالكين. فلنفحص أعمال وسيرة الاثنين لنحكم على ذلك.
     
  2. قصة عيسو

    كان عيسو هو البكر، وكان شجاعاً وقوياً في جسمه، ماهراً وقديراً في سحب القوس وفي الحصول على صيد وفير. لم يكن يمكثُ في البيت تقريباً ابداً، يضع كل ثقته في قوته ومهارته، مشتغلاً في الخارج، غير مهتم كثيراً بإرضاء والدتِه رفقة، ولا يعمل لها شيئاً. كان نَهماً جداً، يحب فمه، حتى أنه باع بكوريته بصحن من العدس، فكان مثل قائين ممتلئاً حسداً ضد أخيه يعقوب ويضطهده كثيراً.

    هذه هي سيرة الهالكين التي يقضونها كل يوم، معتمدين على قوتهم ومهارتهم في الامور الزمنية، إنهم أقوياء كثيراً، ماهرون وفاهمون في الشؤون الأرضية لكنهم ضعفاء جداً وجهلاء كثيراً في اعمال السماء. لهذا لا يبقون أبداً أو قليلاً جداً في بيوتهم ومساكنهم الخاصة، أي في باطنهم الذي هو البيت الداخلي الذي أعطاه الله لكل إنسان ليسكن فيه، على مثاله، لأن الله يسكن دائماً في ذاته، أما الهالكون فإنهم لا يُحبون الحياة الروحية ولا العبادة الباطنية، ويعتبرون الباطنيين والمختلين عن العالم، والمشتغلين في الداخل، أكثرَ من الذين في الخارج، كنفوسٍ صغيرةٍ ومفرطةٍ في التقوى ومتوحشين.

    إن الهالكين لا يهتمون البتةَ في إكرام مريَم أُم المختارين. نعم إنهم لا يبغضونها صريحاً، بل يُقدّمون لها أحياناً، بعض الاكرام، ويدَّعون أنهم يحبونها، ولكن في الباقي لا يحتملون أن تُحَبَ بحنو، لأنهم ليسوا حاصلين على حنو يعقوب. فينتقدون ممارسةَ الاكرام التي يُقدم لها ابناؤُها وخدامُها الذي يريدون أن يكونوا أُمناءَ نحوها ليكتسبوا عطفَها، ولا يظنون بأنَّ هذا الاكرامَ ضروريٌ لخلاصِهم طالما لا يكرهونها، فيعتبرون ذاتَهم من خدامها، إذا ما تلو بعضَ الصلوات على شرفها، دونَ عطف، ولا بقصد إصلاحِ انفسهم.

    يبيعُ هؤلاء الهالكون حقَّ بكوريتهم، أعني أفراحَ الفردوس بصحنِ عدسٍ، أي بملذاتِ الارض، فيضحكون ويشربون ويأكلون وينشرحون، يتلذذون ويرقصون.. دون أن يهتموا مثل عيسو، بأن يُصبحوا آهلين لبركة الآب السماوي. بكلمة إنهم لا يفكرون إلّا بالأرض، ولا يحبون إلا الأرض، ولا يتكلمون ولا يفعلون شيئاً إلّا لأجل الارض وملذاتها، يبيعون لأجلِ دخانٍ باطلٍ من الشرف، ولأجل قطعةِ أرضٍ صفراءَ أو بيضاءَ، نعمةَ المعمودية وثوبَ برارتِهم وإرثهم السماوي.

    أخيراً يكرهُ الهالكون ويضطهدون كل يوم المختارين سراً وعَلناً، يضايقونهم يحتقرونهم، ينتقدونهم، يُضادُّونهم يهينونهم، يسرقونهم وبخدعونهم، ويجعلونهم فقراء ويطردونهم، ويتركونهم على الحضيض، وبينما يثرون متمتعين في ملذاتهم، يقضون أوقاتاً طيبةً ويصبحون عظاماً عائشين في راحة.
     
  3. يعقوب رمزُ المختارين

    كان يعقوب الأخ الأصغر، ضعيف البنية، حلو الشمائل، هادئاً. يمكثُ عادةً في البيت ليَحظى بألطاف أمهِ الحنونة رفقة، التي كان يحبُها حباً جماً. وإذا ما كان يذهبُ إلى الخارج، فلم يكن ذلك حسَبَ إرادته، ولا اعتماداً على فنه ومهارته، بل طاعةً لأوامر أمهِ. كان يحبُ أمَّه ويُجِلُّها، ويَودُّ البقاء في البيت بالقربِ منها، وكان أشدُّ فَرحِه، رؤيتَها، متجنباً كل ما لا يروقُ لها، الأمرُ الذي كان يَزيدُ في محبة رفقة له.

    كان يعقوب الصغير خاضعاً في كل شيء لأمه العزيزة، يطيعها تماماً في كل شيء، فوراً ودون تأخير، وبمحبة دون تذمر، يركض لأقل إشارة من إرادتها. كان يصدق كل ما تقوله له، بلا جدل، فعندما تقول له: تيني بجديين، وعندما يجلبهما وتصلحهما طعاماً لأبيه اسحق، لم يجبها قَط بأنَّ جدياً واحداً كان كافياً لاطعام شخصٍ واحد، إنه يعمل ما تقوله له دون مماطلة.

    وكانت ثقته بأمه المحبّة عظيمةً، لأنه لم يكن يعتمدُ على حذاقته، بل يستندُ فقط على اهتمام وحماية أُمِه التي كان يطُلُبها في كل حاجاته، ويستشيرها في كل ارتياباته مثلاً عندما سألها اذا ما بدلَ البركةِ ينالُ اللعنةَ، صدّقها واعتمدَ على قولها له أنها هي ستأخذُ اللعنةَ على نفسِها.

    أخيراً كان يقتدي حسب طاقته، بالفضائل التي كان يراها في أُمه، ويُبان أحدُ أسبابِ مكوثِه جالساً في البيت، كان ليقتدي بأُمِّه الفاضلة، مبتعداً عن العشرات الرديئة، مفسدةِ الاخلاق، وبهذه الواسطة كان يجعلُ ذاتَه أهلاً لقبول البركة مضاعفةً من أبيه العزيز.

    هذه هي المشيةُ التي يسير فيها كل يومٍ المختارون الجالسون في البيت مع أُمهم، بمعنى أنهم يحبون العزلة فهم باطنيون، مثابرون على الصلاة على مثال وفي عشرة أُمهم، العذراءِ القديسة، تلك التي كلُ مجدِها هو من الباطن والتي أحبَّت في حياتها الخلوةَ والصلاةَ كثيراً.

    يظهرون أحياناً في الخارج، إلا أنهم يقومون بذلك طاعةً لارادة الله وإرادة أمهم العزيزة، مكمّلين واجبات حالتهم. فمهما عملوا من الامور العظيمة ظاهرياً فإنهم يعتبرون أفضل تلك التي يقومون بها داخل أنفسهم وفي باطنهم وفي عشرة الأُم القديسة مريم، لأنهم يقومون بعمل خلاصهم العظيم. وجميعُ الأعمال الأُخرى بالمقارنة معه، ما هي إلّا ألعابٌ صبيانية. لذا بينما يشتغلُ أحياناً إخوتُهم وأخواتُهم في الخارج بقوة كبيرة، ولباقةٍ ونجاحٍ مع مديح العالم ورضاه، يعلمون بنور روح القدس، أنهُ أفضلُ بكثير مع مجدٍ أعظم، المكوث مختفين في العزلة مع يسوع المسيح مثالِهم. في خضوع كاملٍ وتامٍ لأُمهم، أحرى من اجتراح عجائبِ الطبيعةِ والنعمة في العالم، من أمثال عيسو الكثيرين الهالكين: «فالمجدُ والغنى في بيته» (مز 3:111) يَعني أنَّ مجدَ الله وثرواتِ العالم هي في بيت مريم.

    كم هي جميلةٌ مذابحُك أيها الرب يسوع. العصفورُ وجد له بيتاً لمأواه، والحمامةُ عشاً لصغارها. كم هو سعيدٌ الانسانُ الذي يسكنُ في بيتِ مريم، حيث أنت أولُ واحدٍ عملتَ فيه أقامَتك. في هذه دار المختارين، يقبل عونَه منك وحدك، وقد هيأ مصاعدَ ودرجاتٍ لكلِ الفضائل في قلبه، للرقي نحو الكمال في هذا وادي الدموع.

    إنهم يُحبون بحنان ويكرّمون حقاً العذراء الطوباوية، كأُمِهم الفاضلةِ وسيدتِهم، ويحبونها لا فقط بالفم، بل حقاً، يحترمونها لا فقط خارجياً، ولكن من عمق القلب. إنهم يتجنبون مثلَ يعقوب، كلَّ ما يقدرُ أن يكدرَها، ويمارسون بحرارة كلما يظنون أنه يقدرُ أن يكسبَهم عطفَها. إنهم يحملون لها جديين كما فعل يعقوب وذلك
    1. لكي تستلمَها كشيءٍ عائد لها
    2. لكي تقتلَ فيهم الخطيئة وتميتهم عن ذاتِهم، فتسلخَ جلدَهم وتخلِصَهم من محبتهم الذاتية، وهكذا تُرضي إبنَها يسوع، ذاك الذي لا يُريدُ أصدقاءَ وتلاميذَ له، إلّا المائتين عن ذواتهم
    3. ولكي تصلُحَ لذوق الآب السماوي ولمجدِه الأعظم، الأمرُ الذي تعرفُه أحسنَ من كلِ خليقة
    4. ثم لكي باهتمامها وشفاعتِها يصيرُ هذا الجسدُ وهذه النفسُ المطهران من كل وصمةٍ والمائتين جيداً والخالصين، طعاماً سيتذوَّقون ويُمارسون التكريسَ الكاملَ ليسوع المسيح بيدي مريم، حسبما ستعملُه لهم، ليُظهروا نحو يسوع ومريم محبةً فعّالةً وشُجاعة.

يقول المرذولون أنه تكفي محبة يسوع وإكرام مريم، ولكن ليس حسب جوهرهم (امثال 9:3) ولا إلى درجة أن يذبحوا لهما جسدهم وحواسهم، نفسهم واميالهم كما يفعل المختارون.

أمّا المختارون فإنهم خاضعون وطائعون للعذراء القديسة، كما لأُمهم الصالحة، على مثال يسوعَ المسيح الذي في الثلاث والثلاثين سنة التي عاشَها على الأرض، قضى منها ثلاثين في تمجيد الله أبيه، بخضوعه التام والمطلق لأمه القديسة.

إنهم يُطيعونها باتّباعهم بدقةٍ نصائحَها، مثل يعقوب الصغير الذي كان يطيع نصائح رفقة، التي كانت تقول له: «إِصغ لنصائحي» (تكو 8:27)، أو مثل مدعوي عرس قانا الذين قالت لهم العذراء: «كلُّ ما يقولُه لكم افعلوه» (يوحنا 5:2) فيعقوب بسبب طاعتِه لأُمه، اقتبلَ البركةَ كما في أعجوبة، ولو أنه طبيعيٌ ما كان يجبُ أن ينالها.

كذلك المدعوون في عرس قانا، لأنهم اطاعوا مشورة العذراء القديسة، تشرفوا بالحصول على أولِ أعجوبة ليسوعَ المسيح، حيث حوّل فيها الماءَ خمراً على طَلَب أمِه القديسة. وهكذا جميعُ الذين سيقتبلون بركةَ الآب السماوي حتى نهاية الأجيال. أولئك الذين سيشرفون بالحصول على عجائبِ الله، لن يقبلوا هذه النعَم إلّا نتيجة طاعتِهم الكاملةِ لمريم.

أما أمثال عيسو، فبالعكس يخسرون بركتهم بسبب عدم طاعتهم لمريم. للمختارين ثقةٌ كبيرة في صلاحِ وقدرةِ العذراء الطوباوية، فإنهم يطلبون دون انقطاع معونتها، ينظرون إليها كما إلى نجمتِهم القُطبية، ليصلوا الى الميناء الصالح، يكشفون لها صعوباتهم وحاجاتهم بسذاجة قلبٍ كبيرة، يتعلقون بجودتِها ولطفها، ليحصلوا على مغفرةِ خطاياهم بشفاعتها أو ليتذوقوا ألطافَها الوالدية في شدائدِهم وضجرِهم.

لا بل يُلقون ذاتَهم، ويُخفون أنفسَهم ويختفون بنوع عجيبٍ في حضنها المحب البتولي، ليَتَنقّوا من أقل الأدران ويجدوا عندها بنوع كامل، يسوع، حيث يسكن فيها كما في عرشه الممجد. يا للسعادة، الا تظنوا، يقول الأبُ غيريك، بأن أعظمَ سعادةٍ هي السُكنى في حشا مريم، حيثُ الربُ وضعَ فيه عرشَه، أحَرى من السُكنى في حضنِ إبراهيم؟

اما المرذولون، فالبعكس، يضعون ثقتهم كلها في ذواتهم، ولا يأكلون إلّا مع الابن الشاطر، ما تأكله الخنازير، لا يغتذون إلا مع الضفادع السامة، التراب ولا يحبون إلا الأشياء المنظورة والخارجية، مع مجد الدنيا، فانهم لا يتذوقون قط حلاوة صدر مريم وحليبها. إنهم لا يشعرون بتاتاً بسندٍ ما، أو بالثقة التي يشعر بها المختارون نحو أمهم الصالحة مريم. إنهم يحبون جوعهم في الخارج، كما يقول القديس غريغوريوس لأنهم لا يحبون ان يتذوقوا الحلاوة المعدّة لهم في داخلهم وداخل يسوع ومريم.

أخيراً يُحافظ المختارون على طرق العذراءِ مريمَ أمِهم، أعني أنهم يقتدون بها، لذا هم سعداء حقيقة، ويحملون العلامةَ المعصومة لخلاصِهم، كما تقولُ هذه الآية المباركة، «طوبى لمن يحفظُ طرقي» (أمثال 32:8) أي طوبى لمن يمارسُ فضائلي، ويقتفي آثارَ حياتي بمعونةِ النعمةِ الإلهية إنهم سعداء في هذا العالم، في حياتهم بكثرة النعم والملذات التي أشركهم فيها من امتلائي، وبنوع فائض، أكثرَ مما للذين لا يقتدون بي عن قرب. إنهم سعداءَ في مماتهم التي هي طيبةً وهادئةٌ والتي أحضرُ فيها عادة، لأقودَهم بنفسي الى الافراح الدائمة. وأخيراً سيكونون سعداءَ في الابدية، لأن لا احَد من خُدام الصالحين الذي اقتدوا بفضائلي اثناء حياتهم يهلِكون أبداً.

أما المرذولون، فالبعكس، إنهم تعيسون في حياتهم، وفي مماتهم، وفي الابدية، لأنهم لا يقتدون بفضائل مريم، بل يكتفون بالانخراط احياناً في أخويتها، أو أن يتلوا بعض الصلواتِ إكراماً لها، او ربما ان يمارسوا اكراماً خارجياً على شرفها.

أيتها العذراءُ القديسة، يا أمي الفاضلة، كم هم سعداء أولئكَ الذين لا يدَعون ذواتِهم يُخدَعون من عبادةٍ باطلة نحوك، بل يحفظون بامانة طرقَك، ومشوراتِك وأوامرك وكم هم تعساء وملعونون أولئك الذي يُسيئون استعمالَ تكريمِك، ولا يحفظون وصايا ابنِك « ملاعين هم كلُ الذين لا يحفظون وصاياك» (مز 20:118).
 
 
to enlarge
 
22    العذراءُ مريمَ وعبيدُ محبتِها 
أُلخّص هنا الواجبات الحبيةَ التي تُسديها الأمُ العذراء كخيرِ الامهات نحو خدامِها المحبين الذي كرَّسوا ذواتِهم لها.
 
  1. إنها تحبهم

    «إني أُحبُ الذين يحبونني» (امثال 17:8). فتحبهم لأنها أُمُهم الحقيقية، وككُل أمٍ تحبُ دائماً ابنها ثمرة أحشائِها. تُحبهم شاكرةً لهم محبتَهم لها كأُمٍ صالحة.

    تحبهم لأنهم مختارون من الله: «احببت يعقوب وابغضت عيسو» (روميه 13:9). تحبهم لأنهم كرَّسوا ذاتَهم لها، فهم نصيبُها وإرثُها. تحبهم بحنوِ وحنانِ كل الأُمهات معاً، ضعوا اذا استطعتم الحبَّ الطبيعيَ لكل الامهات نحو اولادهم، في قلبٍ واحدٍ وأمٍ واحدة لابنٍ وحيد، فسيكون بلا ريبَ هذا الحبُ عظيماً جداً لا مثيلَ له، ومع ذلك فانه أكيدٌ أنَ مريمَ تُحب أبناءَها بحنان أعظمَ، من هذه الامِ لابنِها. إنها لا تُحبُهم فقط عاطفياً، ولكن أيضاً فعلياً. ان محبتها لهم هي حيةٌ وفعّالة، كمحبة رفقة ليعقوب وأكثر، هذه الأمُ الصالحةُ التي لم تكن رفقةُ الا رمزاً لها.

    إنها تتحيَّنُ الفُرصَ، لتحصلَ لأبنائِها بركةَ الآبِ السماوي، مثل رفقة، لصُنعِ الخير معهم، ورفع مقامهم وإثرائهم. واذ ترى واضحاً في الله كلَّ الخيور والشرور، والنصيب الصالح والحظ الطالح، البركات واللعنات، فانَّها ترتبُ عن بُعد، الامور لتُخلِصَ خدامَها من كل الشرور وتفيضَ عليهم كل خيرٍ، بنوع أنه اذا ما يوجد طالعٌ سعيدٌ للحصول عليه من لدن الله، فإنه أكيدٌ أنَّ مريمَ ستحصلُ عليه لأحدِ ابنائِها الصالحين، وستُعطيهم النعمةَ لإنجازِ عملِهم بأمانة، لأنها المهتمةُ بتدبير أمورِنا.

    تمنَحُ لمُحبيها المشورات الصالحة، مثل رفقة ليعقوب، ومن بين هذه، تُلهمُهم بحملِ جَدْيين إليها، أعني جسدَهم ونفسَهم، ليكرّسوها لها، فتصنعَ منها طعاماً لذيذاً لله وأن يعملوا هم كلَّ ما علّم إبنُها يسوع بالكلماتِ والافعال. واذا لا تُلهمُهم ذلك بذاتِها، فانها توحي الملائكةَ بمساعدةِ خدامِها الأُمناء.

    ماذا تفعلُ هذه الامُ الصالحةُ عندما يُكرسُ المرءُ لها جسَدَه ونفسَه وكلَّ ما يتعلقُ بهما، دونَ استبقاءِ أي شيء؟ إنَّها تفعلُ ما صنَعته رفقةُ سابقاً بالجديين اللَّذَين حَمَلَهما لها يعقوب:
    1. إنها تذبحهما وتُميت آدمَ القديم.
    2. تَسلُخُهما وتُجرّدُهُما عن جلدِهما الطبيعي وأميالِهما الطبيعيةِ ومحبتِهما الذاتيةِ وارادتِهما الخاصةِ ومن كلِ ما يتعلقُ بالخليقة.
    3. إنها تُطهّرهُما من أدرانِهما وأوساخِهما وخطاياهُما.
    4. تُصلحُهما حسبَ رغبةِ اللهِ ومجدِه الاعظم.


    وبما أنه لا توجدُ الا هي التي تعرف بنوعٍ كامل، الذوقَ الالهيَ، ومجدَ العلي الاعظم، فلا يوجد غيرُها يعرفُ بلا غلط، كيفَ يُعدُ ويهيء جسدَنا ونفسَنا للذوق المتسامي جداً، وهذا المجدُ المختفي بنوع غيرِ متناهي وأزلي.

    وعندما تقبلُ هذه الأمُ الصالحةُ التقدمة الكاملة التي عملناها لها بتقديمنا ذاتنا واستحقاقاتنا وتعويضاتنا بواسطة الاكرام الذي تكلمت عنه، وتكونُ قد جرَّدَتنا عن ثيابِنا القديمة، فانها تُحضرّنا وتجعلُنا أَهلاً للمثول امام أبينا السماوي. وتُلبسُنا ثياباً نظيفةً وجديدة، ثمينةً ومعطرة من عطريات عيسو البكر، أي ابنها يسوع المسيح، تلك الثيابَ التي تحفظُها في بيتها، أعني التي هي تحتَ سلطانها، اذ انها المؤتمنةُ على الخزانة والموزعةُ العامةُ لاستحقاقاتِ وفضائلِ ابنِها يسوع المسيح تلك التي تمنحُ وتُشركُ بها من تريد، وكما تُريد، وعلى قدرَ ما تُرِيد.

    فتحيطُ رقَبةَ ويدي خدمِها بجِلْد الجديين المذبوحين والمسلوخين، أعني أنها تُزينها باستحقاقات وقيمة أعمالهم الخاصة، فتذبح وتُميت حقاً كل ما يوجد في شخصهم من غير طاهرٍ وغيرِ كامل. إلا أنها لا تضعُ ولا تُضيّع كلَّ الخير الذي عملَتهُ فيهم، بل تحفَظُه وتَزيدُه لتجعلَ منه زينةً حول عنُقِهم ويديهم، أعني لتقويَهم لحملِ نيرِ الرب، الذي يُحمَلُ على الرقبة، ولكي يقوموا بأعمالٍ كبيرة لمجد اللهٍ ولخلاصٍ إخوتهم المساكين.

    ثم تُعطي عطراً جديداً ونعمةً جديدةً لهذه الثياب والزينات باعطائها لهم ثيابَها الخاصة اي استحقاقاتِها وفضائلَها تلك التي ورَثَتْها لهم عند موتها، فكلُ خدامِها وعبيدِها الأُمناء، لهم ثيابٌ مضاعفة أعني لهم ثيابُ ابنِها وثيابُها الخاصة (امثال 21:31) ولهذا لا يخافون بردَ يسوع الأبيضَ كالثلج، البَرد الذي لا يَقوى المرذولون على تحملّه، اذ إنهم مجرَّدون من استحقاقات يسوع المسيح ومريم العذراء.

    وأخيراً تجعلُهم ينالون بركةَ الآبِ السماوي، ولو أنهم ليسوا إلَّا مولودين بعده وأبناء بالذخيرة، وما كانوا يستحقون طبيعياً ذلك. إنهم يتقدمون بثقة، بهذه الثيابِ الجديدةِ والثمينة، وذاتِ العطورِ الطيبة، بجسدهم ونفسِهم المستعدين والمهيَّئين من سرير الراحة لأبيهم السماوي، فيَسمع صوتَهم ويميْز صوتَ الخطأةِ، يلمَسُ أياديهم المغطاةِ بالجلود، ويشتمُ رائحةَ ثيابِهم الطيبة، ويأكلُ بفرحٍ مما اعدته له مريمُ أُمُهم، فيعرف فيهم الاستحقاقاتِ والرائحةَ الطيبة التي لابنه وأمه القديسة فيُعطيهم بركتَه المضاعفة، بركةَ سمْنِ الارض (تكو 28:27)، أعني أن هذا الأبَ الصالحَ يمنحُهم الخبزَ اليومي مع كفايةٍ فائضةٍ من خيرات الارض، ويُقيمُهم سادةً على إخوتِهم الآخرين المرذولين، ولو أنَّ هذه الاولوية لا تظهرُ دائماً في هذا العالم، حيث تعبر في لحظة واحدة (1كور 31:7) وحيث المرذولون يسيطرون مراراً (مز 3:93) ولكن هذه الأولويةَ هي حقيقيةٌ وستظهرُ بوضوحٍ في العالم الآخر، في كلِ الأبدية، حيث الابرار، كما يقولُ الروحُ القدس، يسيطرون ويحكمون الشعوبَ (حكمة 8:3) ولا يَكفي ان تُباركَ جلالتُه شخصَهم وخيراتِهم فقط، تبارك ايضاً كلَّ الذين سيباركونهم، وتلعنَ جميعَ الذين يلعنونهم ويضطهدونهم.
     

  2. إنها ترعاهم

    إنَّ الواجبَ الثاني الحبيّ الذي تُمارسُه العذراءُ القديسةُ نحو خدامِها المحبين، هو رعايتُهم جسماً ونفساً، مقدِمةً لهم ثياباً مضاعفةً، مع أطيب الاطعمة من المائدة الالهية أي خبزِ الحياة الذي عملته، فتقول لهم بفم الحكمة: «امتلِئوا من أجيالي» (ابن سيراخ 26:24) يا أبنائي الاعزاء، امتلئوا من يسوع ثمرةِ الحياة الذي وضعْتهُ في العالم لأجلكم. هلُمّوا كُلو من خبزي اشربوا خمري الذي مزجْته لكم (امثال 5:9) كلوا واشربوا واسكروا يا اعزائي» (نشيد 1:5) هلموا كلو من خبزي الذي هو يسوع واشربوا من خمر محبتِه الذي مزجْتهُ لكم مع حليبي.

  3. إنها تقودُهم

    إنَّ الخيرَ الثالثَ الذي تَعملُه الامُ القديسةُ لخدامِها الأُمناء، هو قيادتُهم وتدبيرُهم حَسَبَ إرادةِ ابنِها. كانت رفقة تقودُ يعقوبَ الصغير وتُعطيه من حينٍ إلى آخر نصائحَ مفيدةً سواءٌ للحصول على بَرَكة أبيه، وسواءٌ لِتجنُّبِ كراهيةِ واضطهادِ اخيه عيسو. ومريمُ التي هي نجمةُ البحر، تقودُ كلَّ خدامِها الأُمناء الى مرفأ السلام، فتُريهم طرقَ الحياةِ الابدية وتجعلُهم يتجنبون الخطواتِ الخطرةَ، وتقودُهم باليدِ في سبيل البرارة وتسندُهم عندما يَميلون نحو السقوطِ وتُوبخهم كأُمٍ مُحبة، عندما يرتكبون نقصاً وتُقاصصُهم أيضاً أحياناً بمحبة.

    فهل يقدر ابنٌ طائعٌ لمريمَ أُمِه المرضعةِ ومدبرتِه العظيمة أن يتيهَ في طُرقِ الأبدية؟ «باتباعِك إياها لن تضيعَ»، يقولُ القديس برنردس. لا تخافوا على ابنٍ حقيقي لمريم من خداع الخبيث وسقوطِه في هرطقة، لأن حيث تمشي مريمُ، لا يقدِرُ الاقترابَ لا الشيطانُ ولا الهرطقاتُ، «اذا تمسكك لن تسقطَ» يقول القديس برنردس.

  4. إنها تُدافع عنهم وتُحاميهم

    إنَّ الرعايةَ التي تؤديها مريمُ لأبنائها وخدامِها الأُمناء هو دفاعُها عنهم وحمايتُهم ضدَّ اعدائِهم، كما نجَّتْ رفقةُ بهمتها ومهارتها يعقوبَ من كلِ الأخطارِ التي احاقت به، لا سيما من القتل الذي كان سابقاً لقائين ضدَّ هابيل. فمريمُ الامُ المحبة للمختارين، تُخفيهم تحتَ أجنحةِ حمايتها، كما تفعلُ الدجاجة بفراخِها، تتصل بهم وتُخاطبهم وتَغُضُ الطرْفَ عن ضعفَهم لتنقذَهم من الباز والنسر، فتبقى بجَانبهم، وتُرافقُهم كجيشٍ مصطفٍ للقتال، فهل يخافُ إنسانٌ مُحاطٌ بمئةِ ألفِ جندي من اعدائه؟ إنَّ الخادمَ الأمين لمريمَ، المُحاطَ بشفاعتها وقدرتِها الملوكية يخافُ أقل. إنَّ هذه الأمَ الفاضلةَ وأميرةَ السماوات القديرة تُرسِلُ بالأحرى فِرقاً من ملايين الملائكة، لمساعدة أحَدِ خدامِها، الذي كان أميناً لها، وملتجئاً اليها، فلن يرضخَ لخَباثةِ وعددِ وقوةِ أعدائِه.

  5. تتشفعْ بهِم

    إنَّ الخيرَ الخاصَ والأكبرَ الذي تُقدمُه لهم الأمُ الحبيبةُ مريمُ لمحبيها الامناء، هو تشفعُها بهم لدى ابنِها لتهدئتِه، فتربطهُم به برباطٍ مكين جداً وتحفظُهم له. قرَّبتْ رفقةُ يعقوبَ من فراش أبيه، فلمَسَهُ الشَيخُ وعانقه وقَبَلّه ايضاً مسروراً، لأنه كان فرحاً وشبعاً من اللحوم المعدةِ جيداً والتي حملَها له. فاستنشق بلذة رائحةَ العطورِ التي تفوحُ من ثيابه، فهتف: «هوذا رائحةُ ابني مثلُ رائحة حقلٍ ممتلئٍ، باركه الرب» (تكو 27:27). فهذا الحقل المملتئ الذي خلبت رائحتْه العطرةُ قلبَ الأبِ الشيخ، ما هو الا رائحةُ الفضائلِ والاستحقاقات المريمية التي هي كحقلٍ ممتلئ من النعم، زرعها اللهُ الآبُ لابنه الوحيد، كبِذرةِ حنطةِ المختارين.

    إن ابناً معطَّراً بعطورِ مريمَ المحبوبة، هو مقبولٌ من يسوع المسيح ابي الاجيال المقبلة (أشعيا 6:9) إنه حقاً متحدٌ معه فوراً وبنوع كامل.

    هذا وبعد أن تَملأَ أبناءَها ومحبيها الأمناءَ من امتيازاتها وقد استمدَّتْ لهم بركةَ الآب السماوي والاتحادَ مع يسوع المسيح، تحفظهم فيه وهو فيهم، وتسهر عليهم دائماً، خوفَ أن يَفقدوا نعمةَ الله ويسقطوا في فخاخ اعدائهم، «إنها تُمسك القديسين في امتلائِهم وتثبتهم حتى النهاية» (القديس بونافنتورا). هذا شرحٌ لهذا الرمز الكبير والقديم للاختيار والرذلِ المجهول والمملوء أسراراً.
 
 
to enlarge
 
23    في المفاعيل العجيبة الناجمةِ عن هذا التكريم الحُبّي
  1. معرفةُ الذات واحتقارُها

    ستعرفُ بالنور الذي يهبُكَ إياه الروحُ الالهيُ بشفاعة الأم الحبيبة مريم، عمقَكَ الرديءَ وفسادَك وعدَم مقدرِتك على الخير. وكنتيجة لذلك، ستحتقرُ ذاتَك ولا تفتكرُ في نفسك الا كبشاعة. ستنظر الى ذاتك مثلَ الحلزونة التي تُفسد كلَّ شيءٍ بلُعابها، او كحيةٍ خبيثةٍ مراوغة. إن مريمَ المتواضعةَ ستُشاركُك بتواضعها العميق الذي يجعلُك أن تحتقرَ ذاتَك ولن تزدري أحداً بل تُحبَ الهوان.
     
  2. الاشتراكُ بإيمانِ مريمَ

    تُشركُك العذراءُ الطوباويةُ بإيمانها الذي كان لها على الارض، والذي كان اعظمَ من ايمان كل الاباء والانبياء الرسل، وكل القديسين معاً. حالياً وهي من المالكين في السماء قد انتهي عندها دورُ الايمان، لانها ترى بوضوح كل شيء في الله، بواسطة نور المجد. إلا انها لا تنسى أبناءها المحبين الذين يلتجئون اليها، فتطلبُ لهم ايماناً راسخاً وخالصاً في حياتهم الارضية، كيلا يتعلقوا بالامور الحسية، بل ان يكونَ لهم ايمانٌ حارٌ وحيٌّ بالمحبة، يجعلُهم ان يعملوا كل شيء عن محبة كاملة، فيثبتون كالطَودِ وسط الزوابع والمصائب، إيماناً فعّالاً كمفتاحٍ سري يفتحُ امامهم كل الابوابِ لفهم أسرار يسوع وغاية الانسان الاخيرة، وحتى قلب الله، ايماناً شجاعاً يحث على القيام بأعمال كبيرة لمجد الله وخلاص النفوس، إيماناً يشبه مصباحاً مضيئاً لمعرفة الحياة الالهية وكنوز الحكمة المخفية، تنيرُ به ظلالَ وظلماتِ الموتِ لاضرام الفاترين وإحراقِهم بذهبِ المحبة الخالصة، فيَهِبوا الحياة الروحيةَ للمائتين في الخطيئة، ويلمَسوا بكلماتِ اللطفِ القلوبَ الباردةَ وقاوموا الشيطان وكل أعداء الخلاص.

  3. يمنحُ نعمةَ المحبة المحضة

    إنَّ الأم المحبة الجميلة (سيراخ 24:24) ستنزع عن قلبك كلَّ وسواس وكل خوف عبدي، وستفتحه وتوسعه لتركض في وصايا ابنها (مز 118: 32) بحرية أبناء الله المقدسة، ولتُدخِل فيه المحبة المحضة التي بيدها وهي كنوزها، بنوع أنه لا تسير بعد كما فعلت حتى الآن، خوفاً من الله المحبة، ولكل لأجل المحبة الخالصة، فستنظر إليه كما إلى أبيك الصالح، لتعمل كل ما يُرضيه دائماً، وتتحدث معه بثقة، كما يتحدث الابن مع والده الفاضل، وإذا ما لِتَعس حظك اهنته، فإنك ستخجل حالاً من ذاتك أمامه، وتطلب منه بتواضع، المغفرة ، وتبسط نحوه اليد ببساطة وتنهض بمحبة دون سجس ولا قلق، وتُكمل نحوه بلا قنوط.

  4. يعطي ثقةً عظيمةً بالله ومريم

    ستملأُك العذراء القديسة بثقة عظيمة نحو الله ونحوها. لأنك لن تقترب بعد من يسوع المسيح بنفسك، ولكن دائماً بواسطة هذه الأم الفاضلة. وبما أنك قد أعطيت لها كل استحقاقاتك ونعمك وتعويضاتك، لكي تتصرف بها حسب إرادتها، ستُشركُكَ بفضائلها وتُلبسُك استحقاقاتها بنوع أنك تقدر أن تقول لله بثقة: هوذا مريمُ أمتُك، ليكن لي كقولك (لوقا 1: 38)، ثم بما أنك قد خصصت لها ذاتك بجملتها من نفس وجسد، فهي السخية مع الأسخياء، وأسخى الجميع. ستهب ذاتها لك بالمقابل بنوع عجيب وحقيقي، حتى أنك تقدر أن تقول لها بجسارة: «خلصيني، إنني خاصتُك» (مز 118: 94) او مع التلميذ الحبيب: «آخُذُكِ إلى خاصتي»، او أن تقول أيضاً مع القديس بونافنتورا: “ها هي سيدتي المخلصة لي، أعملُ بثقة، ولن أخاف لأنكِ أنتِ قوتي ومجدي في الرب»، وفي موضع آخر جاء: «إني خاصتُك بجملتي، وكل شيء لي هو لكِ، أيتها العذراء المجيدة والمباركة في الجميع، أضعُكِ مثل خاتمٍ فوق قلبي لأنَّ محبَتك قويةٌ كالموت».

    وبشعائر النبي يمكنك أن تقول لله: «لم يتكبر قلبي يا رب ولم ترتفع عيوني، ولم أسر متكبراً ولا أفتش عن أمور عظيمة عجيبة، ومع ذلك لستُ متواضعاً بعد، الا أني رفعت نفسي وشجعتها بالثقة فأنا كطفلٍ مفطومٍ من ملذات العالم، مستند إلى صدر أمي، وهنا أفيضُ بالخيرات» (مز 130: 1-2)، هذا وإن ما يزيدك ثقة فيها، هو انك قد أعطيت لها كل ما لك من الصلاح لتوزعه وتحفظه، فستكون لك ثقة أقل في ذاتك واكثر بكثير فيها، لأنها كنزُك. يا لثقة وتعزية تلك النفس التي تقدر أن تقول بأن كنز الله الذي وُضع فيه كل ما هو ثمين، هو أيضاً كنزُه.

  5. الاشتراكُ بنفسِ وروحِ مريم

    إن نفسَ مريمَ ستشتركُ معكَ لتمجيدِ الرب، وروحَها سيأخُذُ مكان روحِك لكي تفرح بالله مخلصها، شرط أن تكون أميناً في ممارسة هذا التكريم. «لتكن نفسُ مريمَ في كلِ واحدٍ لتُعظمَ الربَ، ليكن روحُ مريمَ في كلِ واحدٍ ليفرحَ بالله» (القديس أمبروسيوس).

    متى يكونُ الزمنُ السعيدُ الذي فيه تُثبَت الأمُ المباركةُ سيدةً وملكةً على القلوب، لتُخضِعَها بجملتها لسيرةِ ابنِها العظيمِ الوحيدِ يسوع؟ عندها ستستنشقُ النفوسُ مريَم قدرَ ما تستنشقُ الأجسامُ الهواءَ. حينئذٍ ستحدث أمورٌ عجيبةٌ في هذه المواضع المتواضعة حيثُ الروحُ القدسُ يجدُ أمتَهُ الحبيبةَ مصورةً في النفوس، عندئذ هو أيضاً سيأتي بفيضٍ ويملأُها من مواهبِه، خاصةً موهبةِ الحكمةِ، لتفعلَ عجائبَ النِعَم.

    عندما سيأتي هذا اليومُ السعيد، الذي سيكون عصر مريم، حيث نفوسٌ كثيرة ممتازةٌ طلبتها مريم من العلي، تَفقُدُ ذاتها في عمقِ باطنِها، لتصبحَ صُوراً حية لمريم، لتُحب ولتمجد يسوع المسيح، ولكن لن يأتي هذا إلا عندما سيُعرَفُ ويمارَسُ هذا الاكرامُ. ليأتِ ملكوتُك ومُلكُ مريم.

  6. تحويلُ النفوس في مريم على غِرار يسوع

    إذا تحرثُ جيداً مريم التي هي شجرةُ الحياة في نفوسِنا بأمانة، بواسطة هذا التكريم، فإنها ستحمِلُ ثمرَها في حينهِ، وما ثمرُها هذا إلا يسوع المسيح. أرى كثيرين من الوَرِعين الذين يفتشون على يسوع، البعض في هذا الطريق وهذا الاكرام، والآخرين في غيرها. ومراراً بعد أن يكونوا قد اشتغلوا كثيراً، كما قال الرسل: «اشتغلنا طيلة الليل ولم نصطد شيئاً» (لوقا 5:5)، فيُمكن القول لهم: «اشتغلتم كثيراً وربحتم قيلاً» (حجاي 1: 6) لأن يسوع لا زال بعد ضعيفاً عندكم. غير أنه في اسلوب مريم المحبول بها بلا دنس، وهذا النوع من التكريم، يشتغل المرء في النهار، وفي محلٍ مقدس، وقليلاً، فلا ليل في مريم أبداً، لأن لم يكن فيها قط أية خطيئةٍ ولا ظلٍ. إنها مكان مقدس، وقدسُ الأقداس، حيثُ يُصاغ القديسون في القالب.

    لاحظوا قولي بأن القديسين يُصاغون كما في قالب، في مريم، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين عمل ِصورةٍ بارزةٍ بالمطرقة والازميل، وإخراج صورةٍ بالقائها في القالب.

    إنَّ النحاتين فناني التماثيل، يشتغلون كثيراً لعمل صورة في الاسلوب الأول، ويحتاجون إلى وقت كثير. بينما في الطريقة الأخرى، يشتغلون أقل جداً. ويُسمي القديس اوغسطينوس، مريم العذراء، قالبَ الله، فيكتبُ: «إذاً ادعوكِ قالبَ الله، فانك تستحقين ذلك»، إنها القالبُ الخاصُ لصياغة وعملِ آلهة. من يُلقى في هذا القالب، يُصاغُ سريعاً ويُصوّرُ في يسوع المسيح. ويسوع فيه، بنفقاتٍ زهيدةٍ وزمنٍ قليل يصبح «إلهاً» لانه أُلقي في عين القالب الذي صاغ إلهاً. إنني أستطيع أن أُشبّه أولئك المرشدين والأشخاص الاتقياء الذين يريدون صياغة يسوع في ذواتهم وفي الآخرين بواسطة ممارسات غير هذه، بنحاتين يضعون ثقتهم في فنهم ومعرفتهم ومهارتهم، فيضربون ضرباتٍ لا تُحصى من المطارق والازميل لحجرةٍ صلبةٍ أو لقطعةِ خشبٍ غير نظيفة، ليصنعوا منها صورة ليسوع المسيح، فأحياناً لا ينجحون سواءً لعدم معرفتهم بيسوع المسيح كما يجبُ وسواء بسبب قلة الخبرة في الضربات والموضع غير الملائم التي تخربُ العمل.

    إما الذين يتقبلون ممارسة التكريم الحقيقي، فإني أشبّهُهم بحقٍ بالسبّاكين وأصحاب القوالب الذين اختاروا مريم كقالبٍ جميل، صيغَ فيه يسوع المسيح طبيعياً وإلهياً، دون الاعتماد على مهارتهم الخاصة، ولكن فقط على جودة القالب، فانهم يُلقون بذاتِهم فيه، ليُصبحوا صورةً طبيعيةً ليسوع.

    يا للتشبيه الجميل الواقعي، ولكن من يفهمُه؟ لنتذكر بانه لا يُلقى في القالب إلا ما هو سائلٌ مُذاب، أي يجبُ أن تُخرّبَ وتُذيبَ نفسَك، صورةَ آدمَ القديم، لتصبحَ أنت الجديدُ في مريم.

  7. يُعطي مجداً أعظمَ ليسوع المسيح

    سنُعطي بالمحافظة على هذه الممارسةِ بأمانةٍ، مجداً أكثرَ بيسوع المسيح، خلال شهرٍ واحد، أكثر من أيةِ عبادةٍ أخرى، ولو كانت أصعبَ ومدةَ سنينَ كثيرة.

    لأن بقيامِكَ بأعمالكَ بواسطة العذراء القديسة، كما تُعلّمُ هذه الممارسةُ، فإنك تترك نياتك الخاصة واشغالك، ولو صالحةً ومعروفةً، لتُذيب ذاتك نوعاً ما، في نيات واعمال مريم، ولو كانت غير معروفةٍ من قبلك، وتشتركَ هكذا بسموِ النياتِ الطاهرة، التي أعطت مجداً لله بأقلِ أعمالِها، كردن المغزلِ وغرزةِ الابرة، أكثرَ مما أعطاه لورنيسيسوس فوق المشواةِ، واستشهاده الغالي، وحتى أكثر من كل القديسين، بأعمالهم البطولية، الأمرُ الذي أكسبَها على الأرض فيضَ نعمٍ واستحقاقاتٍ لا توصف. لأنه أسهلُ عد النجوم في السماء وقطرات الماء في البحر، وذرات الرمل على الساحل، من عدِ استحقاقاتِها ونعمِها وإعطائِها مجداً لله أكثر من كلِ ما يعطيه الملائكةُ والقديسون.

    يا لأعجوبةِ مريم. إنكِ لقادرةٌ على عملِ معجزاتِ النعمة في النفوس التي تفقدُ ذاتها فيك.

    إنَّ النفسَ التي تُمارس هذا التكريمَ، لا تعتبرُ شيئاً، كلَّ ما تُفكرُ فيه، أو تعمَلُه من ذاتِها، ولا تستندُ أو تَرضى إلا في استعداداتِ مريم، للتقدم من يسوع، والتكلم معه، وهكذا فإنها تتواضعُ أكثرَ من النفوس التي تعمَل بذاتِها والمستندة على قواها والمنشرحةِ بلطفِ استعداداتها. بالنتيجة، تُمجدُ الله أكثر، لأن المتواضعين والصغيري القلب يُعطونه مجداً أكمل.

    عندما تأخذُ أمُنا مريم بيديها الطاهرتين وبمحبة عظيمة هدية أعمالِنا، تُضفي عليها رونقاً وبهاءً زاهيين، لتقدمَها هي بنفسِها إلى يسوع، لا فقط بلا صعوبةٍ البتة ولكن مع مجدٍ أعظمَ مما نقدمُها نحن بأيدينا الأثيمةِ.

    إنكَ لا تفكر أبداً بمريم الا وهي تفكرُ بذلك في الله، ولا تمدحُها أو تكرمُها، الا وهي معك تَمدحُ وتُكرمُ الله. فمريم هي بجملتها منوطةٌ بالله، حتى أقدر أن أُسميَها علاقةَ الله. فليست هي إلا بالنظر إليه، أو هي بالأحرى صدَى الله، تُردده وتُكرره. فإذا أنتَ تقولُ مريم، هي بدورها تقولُ: الله. تمدحُها القديسة أليصابات وتدعوها مغبوطةً، لأنها آمنت. اما هي صدى الله الأمين، فتنشدُ: تُعظمُ نفسي (لوقا 1: 46). إنَّ ما عَمِلته مريم في هذه المناسبة، تعمله كلَّ يوم. فعندنا يمدحونها ويحبونها ويكرمونها، أو يقدمون شيئاً لها، فيكون الله هو الممدوحُ والمحبوبُ والمكرَّمُ بواسطةِ مريم وفيها.
 
 
to enlarge
 
24    ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم - الممارساتُ الخارجية   
  1. الممارساتُ الخارجية - ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم

    الممارساتُ الخارجية

    ولو انَّ الأساسَ في هذا التكريم هو شيءٌ باطنيٌ، مع ذلك فله أيضاً عدة ممارساتٍ خارجيةٍ لا يَجبُ إهمالُها: «هذه يجبُ عملُها، وتلكَ عدمُ إهمالِها» (متى 23:23). لأنَّ الممارسات الخارجية المعمولةَ جيداً تُساعد الباطنية، وتُذكّر الانسان الذي يُقاد دائماً من الحواس، بالشيء الذي عَمِلَه ويجبُ أن يعملَه، وبما أنها صالحة لبُنيان القريب الذي يراها، الأمرُ الذي لا تعملها الممارساتُ الباطنيةُ. فلا يقِلُّ اذن أيُّ دنيوي وناقدٍ بأنَّ هذه الممارسة هي في القلب، ويجبُ أن تتجنبَ كلَّ ما هو خارجي، كيلا يصير فيها تعجرف، ولهذا يجب إخفاؤها. أُجيبُ هؤلاء مع معلمي يسوع: ليرَ الناسُ أعمالَكم الصالحةَ ويمجدوا أباكم السماوي (متى 5: 16) إنّنا لا نعملُ اعمالنا وممارساتِنا الخارجيةَ، كما يقول القديس غريغوريوس، لنُرضيَ الناسَ ونحصلَ على مديحِهم، فهذا كبرياءٌ، ولكن نعملُ أحياناً أمام الناسِ لإرضاءِ الله ولتمجيدِه ودونَ الاهتمامِ بذَمِ أو مدحِ الناس.
     
  2. التكريسُ بعدَ الممارسات التمهيدية

    من يُريدُ ممارسةَ هذا التكريم عليه أن يقضيَ أقلَّهُ إثني عشرَ يوماً، لافراغِ روح العالمِ عن نفسِه، هذا الروح المخالفُ ليسوع المسيح، ومستعملاً ثلاثة اسابيع أُخرى للامتلاء منه بواسطةِ مريم امه، حسبَ هذا الترتيب: يستعمل في الاسبوع الأول صلواتِه وممارساتِه التقويةَ لنيلِ معرفةِ النفسِ والتوبةِ عن الخطايا وعملِ كل شيء بروح التواضع والتأملِ بما ذكرته عن عمقنا الرديء والنظر إلى الذات كما إلى بهيمةٍ بليدة، متأملاً بكلمات القديس برنردوس: «كنت قليلاً من الوسخ، ولا زلت قليلاً منه وستكون مرعى للدود». ليُصَلِّ إلى الرب وروحه القدوس لينيرَه قائلاً: «يا رب أن أُبصر» (لوقا 18: 41)، أو «لأعرفَ ذاتي» (القديس اوغسطينوس). أو «هلُمَّ ايها الروحُ القدس»، مردداً كلَّ يوم، طلبة الروح القدس والصلاةَ التابعة، وملتجئاً إلى العذراء الطاهرة، طالباً هذه النعمة العظيمة أساس البقية ومصلياً: «السلامُ عليكِ يا نجمةَ البحر…».

    وفي الاسبوع الثاني ليحاول في كلِّ صلواته واعمالِه اليومية التعرفَ على العذراء الطوباوية طالباً ذلك من الروح القدس، ومصلياً ما ذكرتُ سابقاً بالإضافة إلى مسبحةِ الوردية، على هذه النية، ومثله في الاسبوع الثالث ليتعرف على يسوع المسيح من الممارسات السابقة، ويتلو في نهايتها صيغةَ التكريسِ التي يكون قد كَتَبها وأعدّها.

    ويُستحسَنُ بأن يُقدمَ في ذلك اليوم عملَ توبةٍ ليسوع ولمريم تكفيراً عن عدم أمانتِه الماضية لنذوره في المعمودية ولإظهارِ خضوعهِ لهما، مثل صومٍ أو صدقةٍ أو شمعةٍ وغيرِ ذلك، يُشيرُ بها إلى محبته نحوهما. وليجدد تكريسَه هذا كلَّ سنة في عين النهار، محافظاً على نفس الممارسات لثلاثة اسابيع، لا بل يُفضلُ أنّ يجددَ كل شهر وحتى كل يوم تكريسَه بهذه الكلماتِ الوجيزة: «إنني بجملتي لك، وكل ما هو لي هو لك، يا يسوع الحلو، بواسطة مريمَ أُمِك القديسة».
     
  3. تلاوةُ المسبحة الصغيرة

    تتألفُ هذه المسبحة من «ابانا الذي» مع اثنتي عشر مرة «السلام لك» تُتلى إكراماً لاثني عشر امتيازاً للعذراء الطاهرة، وتستندُ هذه الممارسةُ على رؤيا القديس يوحنا للمرأة المتلحفةِ بالشمس المكللة باثني عشر كوكباً والقمرُ تحت قدميها (رؤيا 12: 1) إذ يرى القديسون فيها، رمزاً للعذراء مريم، وتُصلَّى هكذا:
    1. نؤمن بإله…
    2. ابانا الذي…
    3. اربع مرات: السلام لك…
    4. المجد للآب…
    5. ابانا الذي…
    6. اربع مرات: السلام لك…
    7. المجد للآب…
    8. ابانا الذي…
    9. اربع مرات: السلام لك…
    10. المجد للآب…
    11. تحت ستر حمايتك…

     

  4. تعبُّدٌ عميقٌ لسرِ التجسد

    إنَّ التعبدَ الخاصَ لسرِّ تجسدِ الكلمةِ يومَ 25 اذار كما أوصى به الروح، يُعلِّمنا أولاً أن تكرمَ ونقتدي بخضوع الله الابنِ لمريمَ، هذا الخضوع غير القابل الوصف الذي قَبِلَهُ لتجيد الله أبيه، لأجل خلاصنا. فيظهر يسوع كأسيرٍ وعبدٍ في أحشاء مريم المحبوبة. ثم أن نشكر الله على النعم الفريدة التي أغدقها على مريم بانتخابه لها لتكون أمَّه الجديرة بالاحترام. هاتان هما الغايتان الرئيستان من العبودية ليسوع المسيح بواسطة مريم. فالأفضل استعمالُ عبارةِ عبيدِ يسوع، أحرى من عبيدِ مريم، كيلا نُعطي مأخذاً لبعضِ المنتقدين. وبالحقيقة لأنَّ غايتَنا هو يسوع المسيح، أمّا مريم فهي الطريق الموصلُ إليه. ولهذا نوصي بهذه الصلاة التي كان يتلوها رجالٌ عظامٌ وهي: «يا يسوعُ الحي في مريم، تعال واحيا فينا، بروح قداستِك…».

    إنَّ هذا الكلام يُظهِرُ الاتحادَ المتينَ بين يسوع ومريم. إنّهما متحدان بنوع وثيق، حتى إنَّ الواحد هو في الآخر، يسوع هو كله في مريم، ومريم هي كلها في يسوع، أو بالأحرى ليست هي بعد، ولكنه يسوع وحده هو فيها، إنّه لأسهل فصل النور من الشمس، من فصل مريمَ عن يسوع، لذا يُمكن اعطاءُ هذه التسميةِ: يسوع لمريم، أو أيضاً: مريم ليسوع.

    ولا يسمح الوقت بالتوقف هنا لشرح سمو وعظمة سر يسوع الحي والمالك في مريم، أو تجسد الكلمة. إني أكتفي بالقول بأن لنا هنا السرُ الأولُ ليسوع المسيح، السرُّ الأكثر خفاءً وسموّاً والأقل معروفاً فانَّ يسوعَ في هذا السر، بالاتفاق مع مريم، ظهَرَ في أحشائها التي يُسميها القديس امبروسيوس: «غرفة الأسرار»، قد اختارَ كلَّ المنتخبين وقام بجميع أسرار حياتِه التي توالَت بعده، بقبوله إياها عندَ دخوله العالم إذ قال: «ها أنذا آتٍ يا الله لأعملَ بمشيئتِك» (عبرا 10: 9) وبالنتيجة فانَّ هذا السر هو مختصرُ كل الأسرار التي تَحوي إرادةَ ونعمةَ بقيةِ الأسرار، لأنه عرشُ الرحمةِ والجودةِ ومجدُ الله.

    فهو عرشُ الرحمة، لأنه لا يمكنُ الاقترابُ من يسوع الا بواسطةِ مريم، ولا رؤيتُه ولا مكالمتُه إلا بها، ويسوعُ الذي يستجيبُ دوماً أُمَّه العزيزة، يمنحُ بواسطتها نعمَتهُ ورحمتَه للخطأة المساكين، «فلنذهب بثقةٍ إلى عرش النعمة» (عبر 4: 6).

    وهو عرشُ جودتِه، لأنَّ آدمَ الجديدَ الذي سكَن هذا الفردوسَ الأرضيّ الحقيقي، قامَ وهو فيه بأعاجيبَ خفية، لا يفهمُها لا الملائكةُ ولا البشر قط، ولهذا يُسمي القديسون، مريمَ، «جلالَ الله»، كما لو أنَّ الله ليس عظيماً إلَّا في مريم، «فقط هناك الربُّ هو عظيم» (أشعيا 23: 21)

    وهو عرشُ مجدِ أبيه، لأنَّ في مريمَ، يسكّنُ يسوعُ، غَضَبَ أبيه على البشر، بنوعٍ كاملٍ، ويعوّض تماماً عن المجد الذي أزالته الخطيئةُ، وبواسطة ذبيحةِ ارادتِه أعطى له مجداً أكثرَ من كل المحرقاتِ البشريةِ القديمة، وبكلمةٍ يهبُ له مجداً لامُتناهٍ، لم يقبله من أي انسانٍ قط.
     
  5. محبةٌ كبيرةٌ لتلاوةِ السلامِ الملائكي

    سيكونُ لأصحاب هذا الاكرام، محبةٌ كبيرةٌ لتلاوة «السلام لك»، أو قليلون هم المسيحيون حتى المنورون منهم من يعرف قيمةَ وسموَّ وضرورةَ هذه الصلاة، لذا التزَمت العذراءُ مريمُ بأن تَظهرَ لقديسين كبار متنورين، لتَبيانِ قيمتِها كما فعلَتْ مع القديس عبد الاحد، ويوحنا من كابيستران، والطوباوي الان من روش. وألَّفوا كتباً كاملةً عن عجائبِ ومفاعيل هذه الصلاة، لهدايةِ النفوس، وأذاعوا عالياً، ووعظوا جهراً بأنَّ خلاصَ العالم إذ ابتدأ بواسطة «السلام لك» فإنَّ خلاصَ كل فردٍ متعلقٍ على هذه الصلاة التي حملت ثمرةَ الحياة إلى هذه الأرض اليابسة والقاحلة. وإذا ما تُليت هذه الصلاة جيداً، فستُنبتُ في نفوسِنا كلمةَ الله، وتحملُ ثمرةَ الحياة التي هي يسوعُ المسيح. «فالسلامُ لك» ندى سماوي يسقي الأرضَ، أعني النفسَ، لتحملَ إليها ثمرتَها في أوانِها، وإنَّ النفسَ غير المسقيةَ بهذا الطلِ السماوي لا تحملُ البتَّة، ثمرةَ ولا تُعطي إلَّا حَسَكاً وشوكاً، وهي قريبةٌ من نَيلِ العفة (عبرا 6: 8).

    جاء في كتاب الطوباوي الان من روش، «سمو المسبحة»، بأن العذراء المباركة أوحت إليه قائلة: «إعلم يا ابني، واشهره للمَلا بأنها علامةٌ محتملةٌ وقريبةٌ للرذلِ الابدي، أن تكون للانسان كراهيةٌ وفتورٌ وإهمالٌ في تلاوة السلام الملائكي، الذي عوَّض عن كل العالم، إنّها كلماتٌ معزيةٌ جداً، ورهيبةٌ أيضاً، وبالكاد تُصدَقُ، لو لم يكن لنا كفلاء بها أمثالُ هذا الرجل القديس وقبلَه القديس عبد الاحد، وبعدَه كثيرٌ من الشخصيات الكبيرة وخبرةُ أجيالٍ عديدة.

    قد لوحظ بأنَّ الذين يحمِلونَ علاماتِ الرذلِ، مثل جميعِ الهراطقة، والكَفَرةِ والمتكبرين ومحبي العلم، يُبغضون ويَحتقِرون «السلام لك» والمسبحة، التي هي هولُهم، ويفضلون أفعى أحرى من مسبحة. وكذلك المتعجرفون ولو أنهم كاثوليك، لهم عينُ الانحرافات التي لأبيهم لوسيفوروس، يحتقرون أو أقلّه ليس لهم إلّا اللامبالاة «للسلام لك» وينظرون إلى المسبحة، كما إلى إكرامٍ صالحٍ للنساء قليلاتِ الذكاءِ، وجيدة للجهال والذين لا يعرفون القراءةَ. وظَهَرَ بالاختبار بأنَّ الذين لهم علامات كبيرة للاختيار الالهي، يحبون ويتذوقون ويتلون بلذةٍ «السلام لك» وكل ما كانوا أكثر لله، كلما يحبون هذه الصلاة أكثر، هذا ما قالته العذراء القديسة أيضاً للطوباوي ألان.

    لا أعرفُ كيف يَحدُثُ ذلك ولا لماذا، مع ذلك فإنه لأمرٌ حقيقيٌ، وليس لي وسيلةٌ أفضل لأعرفَ شخصاً ما، إذا هو من الله، إلّا بفحصه إذا ما يُحبُّ تلاوةَ «السلام لك»، والسبحةَ. اقول: يحبُ، لأنه ربما قد يكون هناك شخص لا يستطيعُ طبيعياً أو أدبياً أن يتلوها، لكنه يحبُها ويحثُّ الآخرين على ذلك.

    أيتها النفوسُ المختارةُ منذُ الأزلِ، يا عبيدَ يسوع في مريم، إعلمي بأنَّ «السلام لك» هي أجملُ كل الصلواتِ بعد «ابانا الذي» وهي أكملُ تهنئةٍ يمكنُ تقديمُها لمريمَ، لأنها تهنئةُ العلي التي حَمَلها أحدُ رؤساءِ الملائكةِ لجَذبِ قلبِها، وأحبتها للغاية لتلاوتها السحريةِ الخفية حتى إنها أعطت رضاها بتجسيدِ الكلمة، رغمَ تواضعِها العميق، وبتلاوتها كما يجب، يمكنُك كَسبُ قلبِها أكيداً.

    إنَّ صلاةَ «السلام لك» عندما تُتلى جيداً، أي بانتباهٍ وتقوى واحتشام، هي حَسب القديسين، عدوةُ الشياطين التي تهزمُهم، والمطرقةُ التي تسحقُهم. فهي تقديسٌ للنفس وفرحٌ للملائكة، نغمةُ المختارين، أنشودةُ العهدِ الجديد، لذةُ مريمَ ومجدُ الثالوث الأقدس. «السلامُ لك» ندى السماءِ المُخصبِ للنفس، قُبلةٌ طاهرةٌ حبيةٌ لمريم، زهرةٌ قرمزيةٌ تُهدى لها، لؤلؤةٌ ثمينةٌ تُقدَّم لها، قَدَحٌ من العنبر والرحيقِ الإلهي يُرفع إليها، إنّها تشابيهُ القديسين.

    أرجو بإلحاحٍ بالمحبةِ التي أكنُّها لكم بيسوعَ ومريم، أن لا تكتفوا بتلاوة السبحةِ الصغيرة، ولكن إذا ما لكم الوقتُ صلوا السبحةَ كلَّها، بأقسامها الثلاثة، كلَّ يومٍ، وستبارَكون ساعة موتِكم، اليوم والساعة التي فيها صدَّقتموني، وبعدَ أن تكونوا قد زرعتم ببركاتِ يسوع ومريم، ستحصدون البركاتِ الأبدية في السماء (2 كور 9: 6).
     
  6. نشيد «تعظم نفسي»

    من يُكرمُ العذراءَ القديسة، عليه أن يشكُرَ الله على النعم التي أغدَقَها عليها، بتلاوته مِراراً نشيدَ «تُعظم نفسي» على غِرارِ القديسين الكثيرين. إنَّها الصلاةُ الوحيدةُ من تأليفِ العذراءِ القديسة، أو بالأحرى عَملَها يسوع بواسطتها، لأنه هو كان يتكلمُ فيها. فهي أعظمُ ذبيحةِ حمدٍ اقتبَلها الله في شريعة النعمة. إنه النشيدُ الأكثرُ تواضعاً والأكثرُ عُرفاناً بالجميل. لا بل الأسمى والأعظم، وفيه أسرارٌ كبيرةٌ خفيّةٌ حتى من الملائكة.

    كانَ جرسون، الملفانُ الوَرِعُ العلَّامة، بعد أن استعملَ قسماً كبيراً من حياته في وضعِ مؤلفاتٍ مملؤةٍ علماً وتقوى، عن أصعبِ المواضيع، شَعَر برجفةٍ فقط في نهاية حياتِه، يشرح نشيد «تعظم نفسي»، ليكلل كلَّ تآليفه. ويذكرُ في كتابٍ ضخم أنه قد كتب أشياءَ عجيبةً لهذا النشيدِ البديع، حيث يقول، بأنَّ العذراءَ الكليةَ القداسة كان تتلوه كلَّ يومٍ مراراً عديدة، لا سيما بعدَ التناول المقدس كفعلِ شكر. ويسرُد بينزونيوس العالِم في شرحه لهذا النشيد، «صنعَ الغلبةَ بذراعه وبدَّدَ المتكبرين بفكر قلوبهم» (لوقا 1: 51).
     
  7. احتقارُ العالم

    على محبي مريم الأمناء أن يحتقروا العالَم الفاسدَ كثيراً، وليبغضوه ويهربوا منه.
 
 
to enlarge
 
25    ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم - الممارسات الباطنيةِ الخاصةِ لراغبي الكمال   
بالإضافة إلى الممارساتِ الخارجية التي أتيت على ذكرها، والتي لا يجبُ تركُها عن إهمالٍ أو احتقار، قدر ما تسمحُ حالةُ كلِ واحدٍ وظروفُه، أُقدّمُ ممارساتٍ باطنية مقدسة كثيراً لأولئك الذين يدعوهم الروحُ القدس إلى الكمال.

وأُلخصُها بهذه الكلمات الأربع: أن نعملَ كلَّ أعمالنا بواسطةِ مريم، مع مريم، ولأجل مريم، لكي نعملَها بنوعٍ أكملَ بواسطةِ يسوعَ، ومع يسوع، وفي يسوع، ولأجلِ يسوع.
 
  1. أن نعملَ بواسطةِ مريم

    أي يجبُ طاعةُ مريمَ في كلِ شيء، والانقيادُ لروحِها الذي هو روحُ الله القدوس. فمن يقودُهم روُح الله، هُم أبناءُ الله (روميه 8: 14) ومن يقودُهم روحُ مريمَ هم أبناءُ مريم، وبالنتيجة أبناءُ الله.

    بينَ المكَّرسين الكثيرين للعذراء ، محبون حقيقيون وأُمناء، يقودهم روحُها، الذي قلت، هو روحُ الله. لأنها لم تنقاد بروحِها الخاص قط، بل دائماً بروح الله المسيطر عليها كُلياً حتى أصبحَ روحُها. لذا يقولُ القديسُ امبروسيوس: «لتكن في كل واحدٍ نفسُ مريم تُعظمُ الله، ليكن في كلِ واحدٍ روحُ مريمَ ليفرحَ بالله».

    كم تكون سعيدةً تلك النفسُ التي على مثال الأخِ رودريكس اليسوعي (أعلن بعده قديساً في 1888) هي ممتلكةٌ ومحرَكة من روحِ مريم، الذي هو روحٌ وديعٌ وقويٌ، غيورٌ وفَطِنٌ، متواضعٌ وشجاعٌ، نقيٌ ومخصب.

    ولكي تنقادَ النفسُ لروح مريمَ يجب التخلي عن الروح والأنوار والإرادة الخاصة، مثلاً قبلَ القيام بالصلاة، أو الاشتراكِ بالقداس، أو التناولِ والخ لأنَّ ظلماتِ روحِنا وخبثَ ارادتِنا الخاصةِ واعمالنا التي إذا ما نتبعُها، ولو أنها تظهرُ لنا صالحةً، فإنها تُعرقلُ روحَ مريم القدوس.

    لذا يجبُ الاستسلامُ لروح مريم، لنحركَ منه ونتقادَ إليه، كما هي تريد. لنضع ذاتَنا بين يديها البتولية كآلةٍ صماء بين يدي مُشغلها، أو كناي بيدِ عازفٍ حاذق. يجبُ فقدانُ شخصيتِنا لنتركها لها كحجرةِ تُلقى في اليم، الأمر الذي يتمُ فوراً بنظرةٍ روحية إليها، أو بحركة صغيرة إرداية أو شفهياً قائلين: أتخلى عن نفسي وأقدمُها لكِ يا أمي الحبيبة، ورغمِ أننا لا نشعر بأية حلاوةٍ حسيةٍ في هذا العملِ الإرادي، إلّا أنه حقيقيٌ ومقبول.

    ثم من وقت إلى آخر، نجددُ أثناءَ عملِنا وبعدَه، فعل التقدمةِ والاتحاد، وعلى قدر ما نعمَلُه، فإننا نتقدسُ أكثرَ فأكثرَ، ونصِلُ أسرعَ إلى الاتحاد بيسوع المسيح، لأنه يتبعُ دائماً وضرورة الاتحاد مع مريم. لأنَّ روحَ مريمَ هو روحُ يسوع.
     
  2. أن نعملَ مع مريم

    أي يجبُ أن ننظرَ إلى مريمَ كما إلى مثالٍ كامل، لكلِ فضيلةٍ في أعمالنا. هذا المثالُ الذي صاغَهُ الروح القدس في خليقة لكي نقتديَ به حَسَبَ طاقتِنا الضعيفة، إذ ننظرُ في كلِ عملٍ إلى مريم، كيف عملته أو كانت تعمله، لو كانت مكانَنا. لذا يجبُ أن نفحَصَ ونتأملَ الفضائلَ الكبيرةَ التي مارسَتها في حياتها، خاصة:
    1. إيمانُها الحي، الذي بواسطتِه آمَنَتْ دونَ تَردُدٍ بكلمةِ الملاك، آمنَتْ بأمانةٍ وثباتٍ حتى تحتَ أقدامِ الصليب، فوق الجلجلة.
       
    2. تواضُعُها العميقُ الذي جعلَها أن تختفيَ وتسكُتَ وتخضَعَ لكلِ شيء وتجلسَ آخر الكل.
       
    3. طهارتُها الساطعةُ التي لم يصرْ لها نظير، وهكذا في كل فضائِلها الأخرى. لنتذكر بأنَّ مريمَ هي قالَبُ الله الكبير والوحيد واللائق بعملِ صورٍ حية لله، بنفقاتِ قليلةٍ وفي زمنِ قصير، وأن النفسَ التي وجدَتْ هذا القالبَ وتَفقدُ ذاتَها فيه، تتغيرُ سريعاً في يسوع المسيح الذي طبيعياً يمثلُه هذا القالب.

     

  3. أن نعملَ في مريم

    لفهم هذه الممارسةِ جيداً، لا بُدَّ من معرفة أنَّ العذراءَ القديسةَ هي الفردوسُ الأرضيُّ لآدمَ الجديد، وأنَّ الفردوسَ القديمَ لم يكنْ إلا رمزاً له لا غير. في هذا الفردوس، غنى وجمالٌ وأشياء نادرة وملذاتٌ لا توصف، تركها فيه آدمُ الجديد، يسوع، الذي فيه طابَ له المقام مدَّة تسعةِ أشهر، عَمِلَ فيه آياتٍ مظهراً غناه بأُبَّهة إليهة.

    يتألفُ هذا المكانُ المقدسُ من أرضٍ بكرٍ طاهرة، صيغَ فيها آدمُ الجديد وتغذى، دون وصمةٍ ولا شائبة، بقوةِ الروح القدس الحالِ فيه. في هذا الفردوس، تجدُ شجرةَ الحياة الحقيقية، التي حملت يسوعَ المسيح، ثمرةَ الحياة، وشجرةَ معرفةِ الخيرِ والشر، التي أعطتِ النورَ للعالم. في هذا المحلِ الإلهي، توجد أشجارٌ مغروسةٌ من الله، ومسقيةٌ من عذوبتِه، لا زالت تحمِلُ كلَّ يوم ثماراً ذاتِ نكهةٍ الهية. فيه حدائقُ مزدانةٌ بورودٍ جميلةٍ، مختلفةِ الفضائل تُعطرُ حتى الملائكة. فيه مروجٌ خضراء للرجاء وحصون محصنةٌ وبيوتٌ خلابة تمنح الثقةَ، والروحُ القدس فقط يقدر أن يكشفَ الخفيةَ لهذه الأمورِ المادية.

    في هذا المكانِ هواءٌ نقيّ بلا عدوى، نهارٌ رائعٌ بلا ليل، للبشرية المقدسة، شمسٌ ساطعةٌ دون ظلٍ لللاهوت، أتونٌ مضطرمٌ ودائمُ المحبةِ يستعرُ فيه الحديدُ ويتحولُ إلى ذهبٍ، فيه نهرٌ للتواضعِ ينبجسُ من الأرض ليسقيَه، ينقسمُ إلى أربعةِ فروعٍ، هي الفضائلُ الرئيسية الأربع.

    يدعو الروحُ القدسُ بفمِ الآباءِ القديسين، العذراءَ القديسة:
    1. الباب الشرقي الذي يدخلُ منه ويخرجُ الحبرُ الأعظم يسوع المسيح إلى العالم (حزقيال 2:44- 3). دخل المرة الاولى بواسطتها، وسياتي مرة أخرى أيضاً هكذا،
    2. إنّها هيكل اللاهوتِ وموضعُ راحةِ الثالوثِ الأقدس، فهي عرشُ الله ومدينتُه ومذبحُه وهيكلُه وعالمُه. كلُّ هذه الصفاتِ المختلفةِ والإطراء هي حقيقةٌ تماماً، نَظراً إلى المعجزات المختلفةِ التي فَعَلها العليُّ في مريم.


    يا لَلغنى ويا لَلمجد ويا لَلذة، يا لَسعادةِ الإنسان إذا ما يقدر على الدخول والمكوث في مريم، حيث وضع العليُّ عرشَ مجدهِ الأعظم. كم هو صعبٌ لخطأةٍ مثلنا الحصولُ على السماحِ والقدرةِ والنورِ للدخول إلى موضعٍ كذا عالٍ ومقدسٍ، محروسٍ ليس من كاروبيم كما كان الفردوسُ القديم (تكو 24:3) ولكن من الروح القدس ذاتِه الذي صار السيدَ المطلقَ عليه كما قال: «بستانٌ مغلقٌ هي أختي، عروستي، بستانٌ مغلقٌ وينبوعٌ مختوم» (نشيد 12:4) فمريم هي مغلقةٌ، مختومةٌ، وابناء آدم وحواء التعيسون المطرودون من الفردوس، لا يقدرون أن يدخلوها إلّا بنعمةٍ خاصة يستحقونها من الروح القدس.

    فبعدَ قبول هذه النعمةِ الساميةِ، على المرءِ البقاءُ في باطنِ مريم البديع، عن طيبِ خاطرٍ، ويستريحُ فيه بسلام، مستنداً عليه بثقةٍ، ومختفياً فيه كما في مأمن، ليَفْقدَ فيه ذاتَه بلا تحفُظ، حتى يتغذى في هذا الحشا البتولي، من حليبِ النعمةِ ورحمتِها الوالدية، ويتلخص من قلقه ومخاوفِه ووساوسِه، وينجوَ من كلِ أعدائِه، أي الشيطان والعالمِ والخطيئة. لذا نقولُ بأنَّ الذين يَدخلون اليها لا يُخطئون البتة، (سيراخ 30:24)، أي أولئك الذين يسكنون فيها بالروح لا يرتكبون خطيئةً كبيرةً قط، ويُصاغون في يسوع وهو فيهم، لأنَّ حشاها كما يقولُ الآباءُ هو «غرفةُ الأسرار» الإلهية، حيث صنعَ يسوع كلَّ المختارين، «وُلد منها إنسانٌ وإنسان» (مز 5:86).
     

  4. أن نعملَ لأجلِ مريم

    أخيراً علينا أن نفعل كلَّ أعمالِنا من أجل مريم، لأنه إذا سلَّمْنا ذواتِنا بجملتها إلى خدمتها، فمن العدل أن نعملَ كلَّ شيء لأجلها كما يفعلُ كلّ خادمٍ أو عبدٍ، ليس لأنها هي غايتُنا الاخيرة، إذ هذه هي يسوع المسيح وحده، ولكن كغايةٍ قريبةٍ، ووسيطٍ سري ووسيلةٍ سهلةٍ للبلوغ إليها. هكذا لا نَبقى بطَّالين بل كعبدٍ صالح وخادم آمين، أن نقومَ بعملِ أشياء كثيرة لهذه الملكةِ السامية، مستندين على حمايتها. فنحامي عن امتيازاتها عندما يجادلون عليها، وندافعُ عن مجدِها عندما يُهاجَمُ، ونجذُب كلَّ العالم، إذا أمكنَ، إلى خدمتِها، وممارسةِ الإكرامِ الحقيقي لها، والتكلمِ والصراخِ ضدَّ أولئك الذين يُسيئون استعمال إكرامِها لإهانةِ ابنِها، وفي عينِ الوقت أن نثبتَ الإكرامَ الحقيقيَّ، ولا نُطالبُها من أجل خدماتِنا هذه الصغيرة، إلّا بشرفِ الانتماءِ إلى أميرةٍ كذا محبوبة، وسعادةِ الاتحادِ بواسطتها مع ابنِها يسوع، برباطٍ لا يَقبلُ الانفصام، لا في الزمن ولا في الأبدية.
     
المجدُ ليسوعَ في مريم

المجدُ لمريمَ في يسوع

المجدُ لله وحده.
 
 
كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم،   جزء       1   2  
 
 
 www.puresoftwarecode.com  :    HUMANITIES Institute  ART Institute & Others
 SOFTWARE Institute  CHRISTIANITY Institute    
 "Free, 100 Software Programming Training Courses"       History of the MARONITES in Arabic  Basilica Architecture, in the Shape of a Cross
 VISUAL STUDIO 2010 in English  Holy BIBLE in 22 Languages and Studies ...  Le HANDICAP c'est quoi ?   (in French)  Old Traditional Lebanese houses
 VISUAL STUDIO .NET, Windows & ASP in En  220 Holy Christian ICONS  Drugs and Treatment in English, french, Arabic  5 DRAWING Courses & 3 Galleries
 VISUAL STUDIO 6.0 in English  Catholic Syrian MARONITE Church  Classification of Wastes from the Source in Arabic  Meteora, Christianity Monasteries, En, Ar, Fr
 Microsoft ACCESS in English  HOLY MASS of  Maronite Church - Audio in Ar  Christianity in the Arabian Peninsula in Arabic  Monasteries of Mount Athos & Pilgrimage
 PHP & MySQL in English  VIRGIN MARY, Mother of JESUS CHRIST GOD  Summary of the Lebanese history in Arabic  Carved Rock Churches, in Lalibela, Ethiopia
 SOFTWARE GAMES in English  SAINTS of the Church  LEBANON EVENTS 1840 & 1860, in Arabic  
 WEB DESIGN in English  Saint SHARBEL - Sharbelogy in 10 languages  Great FAMINE in LEBANON 1916,  in Arabic  my PRODUCTS, and Statistiques ...
 JAVA SCRIPT in English  Catholic RADIO in Arabic, Sawt el Rab  Great FAMINE and Germny Role 1916,  in Arabic  
 FLASH - ANIMATION in English  Saint SHARBEL Family - Evangelization  Armenian Genocide 1915  in Arabic  4 Different STUDIES
 PLAY, 5 GAMES  Читать - БИБЛИЯ и Шарбэль cвятой, in Russe   Sayfo or Assyrian Genocide 1915 in Arabic  SOLAR Energy & Gas Studies
   Apparitions of  Virgin Mary - Ar  Christianity in Turkey in Arabic  WELCOME to LEBANON
 SAADEH BEJJANE Architecture  Andree Zouein Foundation    YAHCHOUCH, my Lebanese Village
 CARLOS SLIM HELU Site, new design  REPORT, Cyber Attack Attacks the Current Site  Prononce English and French and Arabic Letters  ZOUEIN, my Family - History & Trees
       Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
© pure software code - Since 2003