نعم، لقد
علموا بها وبتأثيرها الكارثي على الجيش العثماني وعلى المدنيين.
فخلال حملة السويس لم تتجاوز حصّة المقاتل العثماني 150 غراماً
من الخبز والتمر والزيتون، ونصف ليتر من الماء يومياً، وهي غير
كافية لجندي يقاتل في الصحراء.
ويؤكّد
المارشال ليمان فون زاندرز في مذكراته: أنَّ 17 ألفاً من الجنود
العثمانيين في سورية قضوا جوعاً بين شتاء العام 1917 ونيسان
العام التالي. ويضيف، أنَّ المجاعة تسبّبت في فرار عدد كبير من
الجنود العثمانيين من جبهات القتال، فبلغ عددهم أكثر من عدد
الجنود الباقين في الخدمة. ويقول: “إنَّ النقص في الطعام كان
كبيراً جداً، بحيث أنَّ القوات العثمانية المحاربة لم يكن لديها
بشكلٍ عام ما تأكله في اليوم التالي، وإنَّ هذا تسبّب بفرار
الجنود من ساحات القتال، ما جعل قيادة الجيش الثامن العثماني في
طولكرم تقرّر إطعام الجنود في الخطوط الأمامية فقط، إلى درجة
الشبع. أمّا الجنود في المؤخّرة ، فحصلوا على حصص غذائية
أقلّ.
ومن خلال التقارير العديدة، كانت ترفع من
قبل القناصل الألمان في بيروت وطرابلس، ومن قبل السفارة
الألمانية في استانبول إلى برلين، فقد علمت الحكومة الألمانية
بالمجاعة وبحجم معاناة اللبنانيين منذ العام 1916، كما فرنسا
وبريطانيا، وبأنَّ إدارة التموين العثمانية للقطاع المدني سيئة
وفاسدة، ما سمح بالاحتكار والمضاربة بالأسعار. ونقل موتيوس
(Mutius)، القنصل الألماني في بيروت، فحوى محادثة بين بيارد دودج
(Bayard Dodge) المسؤول عن الإغاثة الأميركية، الذي أصبح فيما
بعد رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت، مع التاجر ميشال سرسق
الذي أصرَّ على بيع طحين اشتراه بـ 40 قرشاً بـ 250 قرشاً، مع
علمه أنَّ دودج كان يريد شراء الطحين لأطفال جائعين لدى جمعية
الإغاثة الأميركية.
وفي
تشرين الثاني 1916، وهو بداية فصل شتاء سيكون قاسياً جداً على
اللبنانيين، رفع السفير الألماني في استانبول إلى رئيس الوزراء
تقريراً لموتيوس عن حجم معاناة السكان في بيروت والجبل، وجاء
فيه: “بالنسبة إلى الطبقات الوسطى والفقيرة يشتدّ الصراع من أجل
البقاء صعوبة، بسبب استمرار الارتفاع في الأسعار، وانهيار قيمة
العملة (الليرة التركية أصبحت تساوي 39 قرشاً).. وفوق كلِّ شيء
عدم استطاعة السلطات تأمين الرغيف للناس (هبوط الحصّة اليومية
للشخص من الخبز من 200 غرام، إلى 100 غرام)، فيما لا يجد
البعض هذه الكمية ليقتات”. مع ذلك، فإن هول المجاعة في بيروت
والجبل لم تكن لها النتائج الكارثية نفسها في المناطق الأخرى.
فأقليم الخروب، على سبيل المثال، وفق شهادة الحاج جمال بشاشة، من
برجا، لم يتأثر بالمجاعة، ولم يخل من القمح الذي كان يوفره له
ثلة من التجار الذين كانوا يحملونه على دوابهم عبر الأودية
والهضاب من صيدا وفلسطين ويبيعونه، بينما كان بإمكان النسوة
تهريب القمح من فلسطين إلى صيدا، وقلّما تعرّض لهن الجند
العثمانيون. أما دروز الجبل، فلم يتعرّضوا لكارثة المجاعة، بسبب
لجوئهم إلى أبناء مذهبهم في حوران. إلى ذلك، لم يفرض جمال باشا
حصاراً على تموين جبل عامل. وقد قارن أحد الباحثين اللبنانيين
بين الوفيات في مناطق شمال لبنان حيث الغالبية المسيحية ومناطق
في جنوب لبنان، بأن عدد الوفيات كان كبيراً جداً في المناطق
المسيحية. وهذا يجعلنا نميل إلى فرضية أن
العثمانيين، رغم
تأثّر المناطق اللبنانية بمستويات متفاوتة، إلا أنهم تعمدوا
إجاعة المناطق المسيحية، خاصّة إذا صحّة المعلومات حول تصريحين
لجمال باشا وأنور باشا باستهداف المسيحيين.
|