أوّلا: وصف شربل
أ- تعريف
كان طوله 160سم، مستقيم
الظهر، طويل الأصابع رفيعها، رزينا، معتدل الفم والعنق، قصبة أنفه
طويلة ودقيقة، شعر رأسه طويل على عادة الحبساء، ضعيف الجسم، رقيق
البدن، وزنده مثل الباهم. ووجهه مستدير ورقيق، ولكنّه مشرق يطفح
نورا، وهيبة الله عليه. ويجذب كلّ القلوب إليه. مجعّد الجبين، ويلوح
عليه الفرح والوداعة والسكينة وطمأنينة القلب. وفي وجهه إنعكاسات
التقوى ومحبّة الله في كلّ آن، ولاسيما في وقت الصلاة. كان نور سماوي
يضيء وجهه لأنّ الربّ قد أصبح قوّته، وغناه، وفرحه الدائم. ولون وجهه
شاحب، حنطي، أسمر اللون قد لفحته الشمس. ومن كثرة التقشّف والسهر،
أصبح جلدا على عظم؛ لكنّه يمشي بسرعة، حتّى في شيخوخته. وكان ملتهبا
في جميع أعماله. وقصير اللحية خفيفها، متوسطة، ميّالة في أصلها إلى
الشقرة، وقد وخطها الشيب في وسطها وفي أعلى جانبيها؛ ونادرا ما كان
يغسلها، فكانت فتايل فتايل لقلّة الغسيل والعناية بها. وظلَّ شعره
أسود، بأكثريّته، إلى حين وفاته تقريبا.
ب- روايات وأحداث
1- أصفر اللون
لمّا زار الأب مبارك تابت محبسة شربل للمرّة الأولى، إستدعى
الحبساء، فجاء الأب شربل وجلس إزاءه مطرقا إلى الأرض بنظره، ويداه
على ركبتيه بشكل صليب. وما كان يرفع نظره إليه ولا إلى الأخ الذي
معه. وما كان يحادثهما، ولا يسألهما عن شيء، بل كان يجاوبهما عمّا
يسألاه عنه بكلّ اختصار ووداعة. ولمّا زاره في المرّة الثانية، بعد
ستّ سنوات، كان بتصرّفه، جلوسا وكلاما، كالمرّة الأولى. ولم يلحظ
عليه أقلّ تغيير سوى في شحوب وجهه. كان أصفر اللون، وإذ لم يلحظ
مخاطبه أنّ عينيه ترفرفان كان يَظُنّ أنّه ميّت، فجسمه ذاب كالشمعة
في محبّة الله، حتّى صار نحيلا هزيلا أصفر اللون.
2-
يوميّاته
عندما
يقرع جرس النهوض باكرا جدّا، كان يُرى الأب شربل راكعا نصبا قرب
الباب خلف الكلّ، ويبقى على هذا الشكل كتابه بيده وضامّا يده إلى
صدره وجهه في الأرض؛ ثمّ يقدّس باكرا، ويذهب إلى شغله، دون مهلة أو
تلهّي، ومعه حبله ومعوله. ولكن لا يذهب من تلقاء ذاته بل يتقيّد بأمر
رئيسه أو بأمر صاحب الوظيفة. يمشي إلى شغله في الحقل البعيد أو
القريب أو الكرم، حاملا مسبحته بيده، ويصلّي، لا يتحدَّث مع أحد في
الطريق، ولا يلتفت لا يمينا ولا شمالا. وإذا قال له أحد: المجد لله.
يجيب: الله يباركك. ومتى وصل إلى محلّ شغله، بالحال يأخذ
معوله ويبدأ بالشغل بكلّ رغبة ونشاط، كأنّه أجير، وله أجرة كبيرة
يزيدونها له إذا زاد شغله. ولا يهمّه إذا كان رئيس الشغل قسّيسا أو
أخا أو أجيرا، فالكلّ يمثِّلون عنده السلطة، التي هي من الله. يشتغل
بكلّ قوّته شغلا متواصلا شاقّا لا يأخذ راحة؛ أحيانا ينكش بالمعول لا
يرفع رأسه من الأرض يضرب بكلّ قوّته، ويكدّ نفسه حتّى يجري العرق
متصبّبا من جبينه، وثيابه مبلّلة من العرق، ولم يرفع قلنسوته ليمسح
عرقه، بل دائما كانت محزومة بجرزونة. وأحيانا يُعمِّر حيطان، ويجمع
الحجارة جانبا بيديه، ويقطع الغوف ليُعزِّل الأرض أمام الزارع. وفي
شغله أيضا كان نظره دائما منخفضا إلى الأرض، ويداه كانتا قد تكلكلتا،
ويبست جلدتهما من كثرة الشغل. وفي أيّام الحرّ الشديد في زمن الحصاد
كان مثله في أيّام الشتاء، لا يرفع قلنسوته عن عينيه. ومتى قعد غيره
للراحة وأخذ الماء البارد، والتسلّي ببعض أحاديث، كان هو يجلس على
حدة وانفراد، لا يتكلّم ولا يشرب كأنّه ينتظر العودة إلى الشغل بفارغ
صبر. ولولا أمر الطاعة لما ارتاح.
وعندما
يقرع الجرس للصلاة، يعتزل حيث لا يُرى، ويركع على التراب والحجارة،
ويرفع يديه، ثمّ يصلّي في كتابه. ثم يعود إلى الشغل. وإذا تأخّر رئيس
الحقل عن دعوة الأب شربل والرهبان إلى الأكل عند الظهر، لا يتململ،
ولا يقول مرّة جعنا أو تعبنا. فهذه الكلمة لم تخطر بباله قطّ، فهو ما
تلفّظ بها قطّ؛ وإذا كانت حجارة الحقل وأشجاره تتكلّم، كان الأب شربل
يتكلّم. فما كنت تسمع حوله إلاّ وقع معوله على الحجارة، أو صدى
الحجارة التي كان يرفعها من الأرض ليعمّر بها جدران، أو يلقيها في
الرجامي، فالصمت كان أليفه وعشيره. وكان الرهبان والأجراء حوله
يهابونه ويحترمون فضائله ويتحاشون أن يتحدّثوا أمامه بحديث ما بطّال،
فلم يتجرّأ أحد حتّى أن يمزح أمامه، أو يحادثه بحديث عالميّ بالحوادث
الواقعة، إذ لم يكن يهتمّ لها، ولا يكترث بما يجري في البلاد، أو في
الرهبانيّة من الأمور المتعلّقة بالإدارة، بل كلّ همّه في شغله مع
ربّه، تاركا كلّ شيء لعناية الله.
يبقى
في شغله حتّى غياب الشمس، وإذا ما بقي رئيس الحقلة، يشتغل إلى ساعة
متأخّرة. كان الأب شربل يظلّ مشتغلا بنفس النشاط الذي بدأ فيه الشغل،
بل كانت حماسته، تزداد على طول الشغل. ولا ينبِّه رئيس الحقل إلى
فوات الوقت، إذ ما كان يعترض أصلا على شيء. وعند المساء كان يجمع من
الغوف والحطب حملا كبيرا يحمله على ظهره، ويعود إلى الدير منحنيا
تحتها، ومسبحته في يده يصلّي. وأيّام الثلج والمطر، وأيّام الآحاد
والأعياد في الصيف، ما كان يفارق الكنيسة ولا غرفته.
3-
كيف يأكل
شهد الأب الياس إهمج: عند العصر، ميقات الأكل كان يدعوه رفيقه،
فيأتي مكتوف اليدين، منخفض الرأس، منخفض البصر، وإسكيمه على عينيه،
فيصل ويقف. فيأمره رفيقه بالجلوس فيجلس، بعد أن يصلّي، يقعد على
الأرض ويتربّع، ويجمع ثيابه تحت قدميه لئلاّ يظهرا. ويبقى مكتوف
اليدين، منخفض الرأس والبصر، إلى أن يأمره رفيقه قائلا: كُلْ. ويضع
أمامه صحن فخّار. فيرسم على جبهته إشارة الصليب بتأنٍّ وخشوع كأنّه
في الكنيسة، ويبدأ بالأكل ساكتا، هادئا، محتشما. وبعد نهاية الأكل،
كان يأمره أحد رفيقيه بغسل الآنية، فينهض ويصلّي ويتمّ الأمر. ونهوضه
كان نهوض نشيط، دفعة واحدة دون أن يتوكّأ. والذي سمعته أنّه كان يشرب
غسالة الصحون
ولم أره، لأنّه ما كان يعمل تقشّفاته تظاهرا للناس. بل يجتهد أن يفعل
ذلك خفية. وبالحيلة كنّا نختلس النظر إلى بعض حركاته... وإذا كان يقع
قليل من الطعام، أو من فتات الخبز من رفيقه على الأرض بغير انتباه،
كان شربل ينتهز الفرصة، ويلتقط ذلك ويأكله بترابه.
4-
سرّ وجود لبنان
قال
نخلة شاكر كنعان سنة 1950: تعود معرفتي بشربل إلى صيف 1897 وكان عمري
24 سنة. وكنّا في ذلك الوقت نقصد بعض الأصدقاء في كلّ صيف لزيارة جهة
من جهات الجبل العالية. ولم تكن هناك فنادق كبرى وطرقات مزفّتة
وسيّارات. فكنّا نقصد الجبال ركوبا على الخيل أو الدواب. وصدف تلك
السنة أن عاد صديقي شكري بك أرقش من باريس حاملا شهادة الحقوق
العليا. فقررت أن نقوم برحلة إلى ميروبا لعند الشيخ بشارة الخازن.
ثمّ انتقلنا جردا إلى العاقورة واللقلوق. وفي أثناء وجودنا في ذلك
الجرد أردنا زيارة الحبيس الذي اشتهرت فضائله وقداسته في المنطقة.
فنَزلنا إلى العويني. ومن جبل العويني انتقلنا إلى محبسة القدّيسين
بطرس وبولس. فاسترحنا تحت السنديانة التي توزّع الناس أجزاءها
للتبرّك منذ أيّام. وبينما المكاري المرافق يحضّر لنا طعام الغداء من
محمولنا إذا براهب طويل ضعيف يطلّ علينا من الحقل، وبيده منجل وضمّة
من الأعشاب. فسلّم علينا دون أن يرفع رأسه. فاستأذنّاه بالإستراحة
للزيارة والغداء، فأذن بكلّ رحابة وسرور وأخذ يتولّى خدمتنا
دون أن يجالسنا ويجلب لنا الماء والعنب. ودعوناه لمشاركتنا الطعام،
فاعتذر برقّة وحياء، وتمتم: سبق الفضل، أكلت في الدير
وأذكر من حديثه مع شكري بك وأجوبته على أسئلته بما يلي: الله
خلقنا وهو يدبّرنا، الله قدير عا كلّ شيء، نحن بخير على غير استحقاق،
والله يكون معكم، ولمّا أطنبنا في وصف جمال المناظر المنبسطة
أمام العين في الجبل والبحر! أجاب الحبيس: إنّها عطيّة من الله
وهبه الله للبنانيّين، إنّ هذا الموقع عطيّة من السماء لنمجّد فيه
اسم الله القدّوس، كلّ ما لدينا هو لله. ولم يشأ أن يأخذ منّا
هديّة أو تقدمة. وكان الحبيس يستمع لحديث الأستاذ أرقش الذي أخذ
يردّد على مسامعنا أعمال الحبساء والأتقياء في فرنسا، فقال شربل
تعليقا عليها: إنّ فرنسا هي ابنة الكنيسة البكر. وفي هذه
الأثناء قرع جرس دير مار مارون للتبشير، فطلبت إلى الحبيس أن يتلو
علينا تبشير العذراء، فردّد صلاة البشارة واتبعها بطلبة العذراء
وزيّاح مريم. وكنّا خاشعين راكعين نردّد الصلاة وراءه وكان يرتّل
بصوت خافت ورأسه تحت الإسكيم منحنٍ إلى الأرض وعيناه مغمّضتان كأنّه
ملاك في صورة إنسان متنقّل بالروح إلى السماء. ساعة غادرنا المحبسة،
وقف الحبيس بتواضع ورقّة غريبتين يشيّعنا بنظراته المتّجهة إلى ما
وراء الفضاء، ويداه مشتبكتان على صدره يتمتم كلمات الله معكم.
وأذكر أنّ شكري لم يقطع ذكر الحبيس وكان يقول: إنّ هؤلاء الحبساء
الأتقياء في رؤوس الجبال هم في طهرهم وصلاحهم سرّ وجود لبنان.
5-
شربل يتصرّف ببساطة
شهد موسى موسى: في أحد الأيّام كنت معه، وهو حامل حملة قندول
لسياج الكرم، فرأى غلاف دفتر سيجارة عليه ماركة خيّال. فبعد تجاوزه
بمسافة، وضع الحملة عن ظهره وعاد فلمّه. ولمّا وصل إلى المحبسة، وضعه
قرب الصور، وركع يصلّي له. فقلت له: ماذا تصنع؟! فأجاب: هذا مار
جرجس أصلّي له. فقلت له ضاحكا: هذا دفتر سيجارة. فسكت. وأعطاني
الدفتر فرميته.
ثانيا: شربل الرسول
(مر
4/18؛
ومتّى10)
أ- تعريف
لم يكن
الأب شربل خادم رعيّة، ولا مرسلا. ولكن كلّ مرّة يتاح له أن يؤدّي
أيّ خدمة للنفوس، كان يقوم بها بابتهاج. فكان أحيانا يسمع إعترافات
من يطلب منه من إخوته الرهبان والكهنة، ومن العلمانيّين. وكانت
إرشاداته مفيدة وخلاصيّة جدّا. وعندما كان يُطلَب إلى زيارة المرضى
والمحزونين، كان يعمل ما في وسعه لتعزيتهم، ويجعلهم يسلّمون إرادتهم
لله تعالى، بالصلاة لأجلهم وعلى مرضاهم. وكان يصلّي للمحسنين
وللخطأة، ويذكرهم في قدّاسه. ولم يكن يتعاطى الوعظ، لكنّه لم يكن
يبخل بنصائحه وإرشاداته على من يطلب منها. وكان يطيع الأب الرئيس إذا
أمره أن يذهب فيقدّس للشركاء يوم الأحد والعيد، ويعود إلى الدير، دون
أن يخاطب أحدا. ويذهب إلى حضور جنّاز في الخارج، في القرى المجاورة،
ملبّيا أمر الطاعة بارتياح، ثمّ يذهب توّا إلى الكنيسة، وحالما يشعر
الناس بوصوله يتراكضون إليه ليصلّي لهم على الماء، بينما الرئيس
وسائر الآباء يذهبون أوّلا إلى بيت الفقيد، ثم يعودون مع الجثّة إلى
الكنيسة، حيث يصير الجنّاز، فيشترك معهم في صلاة الجنّاز ويعود توّا.
ب- روايات وأحداث
1- فرحة مسرورة
شهد الخوري رميا: ذات
يوم استدعاني الحبيس الأب مكاريوس، وكنت وقتئذ عامّيّا موجودا في
محلّة العويني، قرب المحبسة، فحضرت ووجدت رجلا من بقاعكفرا، هو شقيق
الأب شربل ومعه امرأته، أتيا لزيارة المحبسة وعمادة ولدهما، فلم
يقابل الأب شربل أخاه إلاّ نحو ثلاث دقائق داخل المحبسة. أمّا امرأة
أخيه فلم يقابلها، ولم تكن مع ذلك إلاّ فرحة مسرورة مع ابنها وزوجها،
بالرغم من عدم مقابلة الحبيس لها، وهكذا كان جميع أهل بيت الأب شربل
وأسرته مقدّسة وتحبّ القداسة مثله. فعمّد الولد الأب مكاريوس، ولم
يحضر الأب شربل حفلة عماده، وكنت أنا عرّابا للولد. وبعد مرور مدّة
طويلة رجعت الإمرأة لزيارة المحبسة، وبمرورها في طريق العويني
شاهدتها، وكنتُ قد صرت كاهنا. فقالت لي إنّ الولد الذي كنت عرّابا له
قد توفّي، وكان دائما يقول لي: يا أمّي خديني لعند عمّي الأب شربل
لأراه. فلمّا رأتني قد حزنت وبكيت على موت ولدها، قالت لي: هنيئا له
إنّه في السماء، ولم تسقط لها دمعة واحدة.
2- رفض أن يُعمِّد
شهد عيد نكد: ذهبت أمّي
بأخي بطرس قبل اعتماده، لتعمّده من يد عمّها الحبيس شربل في محبسة
مار مارون، فما واجهها بل خاطبها بكلام قليل من داخل المحبسة، وهي
واقفة قدّام الباب المغلق فما رأته وما رآها. وقد رفض أيضا أن
يُعمِّد الولد بذاته. فعمَّده الحبيس الذي معه. وما سمح لأمّي، وهي
إبنة شقيقه أن تدخل الكنيسة وتسمع قدّاسه، بل إنّها سمعته من طاقة في
باب الكنيسة المغلق.
3- عمّدوهم
(متّى
28/19)
لدينا شهادتا عماد
وحيدتان بيد شربل: "أنا القس شربل بقاعكفرا
قد عمّدت
ميخائيل ابن روفايل رزقالله الشبابي وذالك في 8 ك1 سنة 1873". و"قد
قبل سرّ العماد المقدّس من يدنا بطرس بن شلّيطا من بقاعكفرا
عرّابه مخايل الخوري شخنيّا فى 7 أيلول 1887 كاتبه القس
شربل الحبيس."
4- اشفوا المرضى
(متّى
10/8)
توجّه مرّة إلى الفتوح
في كسروان، إلى غدراس، بطلب من البطريرك بولس مسعد إلى الأب الرئيس،
ليصلّي على أبناء الشيخ سلّوم الدحداح المرضى. وكان للشيخ سلّوم
الدحداح خمسة صبيان، مات منهم ثلاثة بالسِلّ، وبقي اثنان مصابين بهذا
المرض. فأرسل الرئيس الأب شربل ليقضي مدّة عندهم، يصلّي للأولاد حتّى
يشفوا. فمضى مع عبدالله يوسف عون، وصرف في دار الشيخ المذكور نحوا من
شهر حتّى شفي المريضان. وعند رجوعه، حضر الخوري رميا إلى المحبسة
وسأله قصدا: كيف حالك؟ وما نظرت في طريقك؟ أجابه: رحت من هون رايح
ورجعت من هونيك جايي.
5- أن يتوبوا إلى
الله (اع
20/21)
وفي أسبوع الآلام بإحدى
السنين، أرسله الأب الياس المشمشانيّ، رئيس دير عنّايا، إلى كفربعال،
إلى شركاء الدير لكي يعمل واجباتهم الروحيّة، في زمن الفصح، بما أنّ
خادم نفوسهم، كان قاصرا في المعارف اللاهوتيّة. فلبّى الأب شربل بكلّ
ارتياح، وصرف الاسبوع كلّه هناك.
6- يكلّفنا أن
ننسخ له
شهد يوسف خليفة: كان
الأب شربل يطلب منّي، ومن أخي مخايل، الذي صار راهبا فيما
بعد، أن نأتي إليه، في المحبسة أيّام الأحاد، حيث كان يكلّفنا
أن ننسخ له كتب مار أنطونيوس ومار قبريانوس، ليعطيها للذين يطلبونها،
ليضعوها، في بيوتهم، تبرّكا. وبقيت أتردّد عليه تقريبا مدّة 4 سنوات.
وكان عمري، عندما تعرّفت عليه، حوالي 18 سنة.
7- لي طعام لا
تعرفونه (يو
4/ 32)
كان هو وبعض الآباء في
حفلة جنّاز في قرية مشمش، فبعد انتهاء الصلاة على الميّت، دعا
الأهالي قسس الدير لتناول طعام الظهر ما عدا الأب شربل، فلم يدعوه،
لأنّهم يعرفونه أنّه يرفض ملتمسهم. أمّا هو فحالما تسنح له فرصة،
يقفل راجعا إلى الدير.
8- يا فتى!
قم!
(لو 7/14)
شهد الأب الياس إهمج:
أنّ والدي كان قد أصيب بمرض التيفوئيد. ووصل إلى حالة خطرة جدّا، فقد
فيها الوعي. وكان يعالجه أطبّاء من ذلك العهد لا يملكون شهادات. وقد
قطعوا الرجاء من شفائه. ولم يعودوا يعالجونه، وكان في النِزاع.
فالتجأ إخوته وذووه إلى الأب شربل، وهو جارنا، وطلبوا من رئيس الدير،
الأب الياس المشمشاني، أن يأمره بالذهاب للصلاة عليه، فلبّى أمر
الرئيس، وأتى إلى بيتنا، وذلك ليلا، وكان الناس مجتمعين في البيت.
وعند دخوله إلى البيت، وصعوده على درجة الفريز. وقف ونادى والدي
قائلا: يا ريشا! ثلاث مرّات، ففتح عينيه. فقال له الأب شربل:
لا تخف. وكان يُحبّه لأنّه كان شمّاسه، ويخدم له القدّاس عند
الحاجة. وصلّى عليه، وعلى ماء رشّه به وسقاه منه. وذهب الأب شربل إلى
محبسته قائلا: لم يعد من خوف عليه. وبالواقع فقد وعي وأكل
وشرب. وبعد قليل، تعافى تماما وقام من الفراش.
9- طاليتا قومي
(مر
5/41)
طُلِب ليصلّي على جرجس
جبرايل من إهمج، وقد كان مصابا بمرض ثقيل فذهب بأمر الرئيس للصلاة
عليه، وبات عنده ليلة، وقد شفاه الله بصلاته.
10- للصلاة عليهم
(مر
6/5)
اجتاح الجراد المنطقة،
ومن جملتها إهمج. فأتى نواطير إهمج إلى الدير يطلبون من الرئيس، أن
يأذن للأب شربل، أن يرافقهم، ويُصلِّي على الجراد، فيَنْزح عنهم.
فصَلّى على ماء، رُشَّ على الجراد، فابتعد الجراد. وكان في البلدة،
بيت فيه مرضى بالحُمّى، فطلبوا منه أن يذهب للصلاة عليهم. فأجاب
أنّه لا يستطيع الذهاب إلاّ إذا أمره بذلك الناطور، لأن الرئيس قد
سلّمه إلى الناطور. فقال له الناطور: كيف أستطيع أن آمرك، وأنت
راهب؟! فأجاب الأب شربل: إنّ الرئيس قد سلّمني لك، وأنا تحت أمرك،
أذهب حيث تأمرني. حينئذ قال له الناطور ليذهب. فذهب وإيّاه إلى
بيت المرضى للصلاة عليهم.
11-
أليعازر مات!
(يو
11/14)
شهد اسكندر بك الخوري: ذات يوم، دُعي جدّي، الذي كان يتعاطى الطبّ
العربي، الذي كان يحسن معاطاته أكثر أبناء عائلتنا، لمعالجة شخص وحيد
لأبويه، من أعيان عمشيت، المدعو جبرائيل سليمان عباس، فتوجَّه جدّي
إلى عمشيت، وبقي مدّة أربعة أو خمسة أيّام يقوم خلالها بمعالجة
المريض. ولمّا يَئِس من شفائه، ولم يبقَ لديه من وسيلة يستعملها،
أرسل رسولا لأبي يقول له: توجّه إلى محبسة مار بطرس وبولس، واطلب من
الحبيس الأب شربل، أن يحضر معك إلى عمشيت للصلاة على رأس المريض،
لعلّه يُشْفى. فلَبّى الطلب والدي فورا. ووصل إلى المحبسة بعد الظهر.
وطلب إلى الأب شربل أن يرافقه إلى عمشيت، بعد أن أفهمه المهمَّة التي
من أجلها انتُدِب. فتردَّد الأب شربل في البدء، ثمّ قَبِل بشرط أن
يأذن بذلك رئيس الدير، الذي كان وقتئذ الأب الياس المشمشانيّ. وبعد
أن وافق رئيس الدير، على ذلك، بدأ الأب شربل يُهيِّئ قنديلا، يضاء
على الزيت، ليستعين به أثناء سيره في الطريق. ولم يُبارِح المحبسة
إلاّ بعد أن رأى الليل أوشك أن يخيّم ظلامه، كي لا يرى ولا يُرى، كما
كانت عادته طيلة أيّام حياته في المحبسة. وكان سائرا على قدميه،
لأنّه رفض الركوب بقوله: لا يمكنني الركوب لأنّي أخاف من أن أسقط
عن ضهر الدابة، لأن لم يسبق أن امتطيت دابة ما، برفقة الأب مارون
مشمش والأخ الياس المهرينيّ ومكاري الدير، فقال لهم شربل: هيا بنا
لإنجاز أمر الطاعة.
وبعد أن ساروا مسافة طويلة، وصلوا إلى مهرين، فوقف الأب شربل
مبهوتا، فسأله ما بكَ؟ نريد أن نعجِّل المسير! فقال لوالدي، الذي كان
يسبقه ويتقدَّمه مسافة لا تقلّ عن العشرين مترا أو أكثر، وهو يمتطي
جواده: إسمع! إسمع! بيقولو مات؟! عندئذ
أوقف والدي جواده وقال له: مع من تتكلّم يا بونا شربل؟! فأعاد
الكلام: يقولوا إنّه مات؟! فقال له والدي لماذا تقول هكذا؟ مع
من تتكلّم؟ عندئذ وجّه الكلام لوالدي وقال له: بشِّر
(أي قل التبشير الملائكي) فلنصلِّ لأجل الرجل، لأنّه مات! وركع وأخذ يصلّي.
عندئذ رسم والدي إشارة الصليب، واستولى عليه الاضطراب، ، فنزل عن
جواده واقترب من الأب شربل بخشوع لا مزيد عليه، ورجاه تكرارا بأن
يتابع السير معه، بعد أن راجع ساعته لمعرفة الوقت عند قيام الأب شربل
بكلامه المارّ ذكره. فقال الأب شربل: لا فائدة من الذهاب! لا لزوم
أن نواصل السير، لأنّ المهمّة التي أمرنا بها الرئيس انقضت، والمريض
توفّي! ولكنّ والدي، بالنظر لإلحاح جدّي عليه، باصطحاب الأب شربل
إلى عمشيت، ولعدم تصديقه وإقتناعه بوفاة المريض، ألحّ عليه بمتابعة
السير.
وقال الأب مارون للأب شربل: لنتابع سيرنا إطاعة لأمر الرئيس. وبعد
مسير حوالي ساعة ونصف، وعلى مسافة حوالي 500 متر من بيت المريض،
سمعوا الصراخ والعويل. فثبت لهم أنّ المريض حقيقة تُوُفِّي. عندئذ
أخذ والدي يَستَفحِص الأب شربل، عن كيفيّة معرفته بوفاة المريض، وهم
في نقطة تبعد أكثر من ساعة ونصف من عمشيت، حيث لا يُسمَع صوت، ولا أن
تُرى البلدة. ولكنّ الأب شربل لم يردّ عليه بشيء بل كان يتابع صلاته.
وعند وصول والدي إلى البيت، استفحص عن الوقت الذي حصلت فيه الوفاة،
فعرف أنّها تمّت عندما توقّف الأب شربل عن المسير وقال: بيقولو
مات! عندئذ أخبرهم والدي بما حصل في الطريق، فتعجّبوا. وأخذوا
يتأسّفون كيف أنّهم لم يستدعوا الأب شربل قبلا. وقد انتشر هذا الخبر
في عمشيت وجوارها. وقد ردّد والدي هذا الخبر، حوالي 20 مرّة عليّ،
وعلى سواي، بينهم كهنة وذوات من البلاد. وعلى أثر هذا الحادث، كان
سكّان حجولا وبشتيلدا وعلمات، وكلّهم من الطائفة الشيعيّة، يأتون إلى
الأب شربل ليتبرَّكوا منه، ويصحبون إليه مرضاهم ليلتمس لهم الشفاء.
أمّا الأب شربل، فلم أسمع قطّ أنّه ذكر هذا الحادث، أو غيره من
الحوادث التي كانت تتمّ على يده، ويتناقلها الناس.
12- المريض مات!
أصيب يوسف بن الياس
أنطون، من قرية مشمش، بمرض ثقيل. فطلب أهله الأب شربل من رئيسه،
ليذهب فيصلّي عليه. فتوجّه مع الرسول بأمر الطاعة. وبوصوله إلى نصف
الطريق بهت ساكتا، نحو خمس دقائق. ثمّ قال للرسول: أنا راجع إلى
المحبسة، ما الفائدة من الذهاب إلى مشمش، والمريض قد
توفّاه الله الآن! فكان المريض توفِّي في الساعة عينها التي عاد
فيها من الطريق.
13- فركض المتاولة
(يو
4/39-42)
اجتاح الجراد مرّة
أملاك قرية طورزيّا. وهي قسمان: قسم للمسيحيّين وقسم للشيعيّين. فجاء
المسيحيّون وشركاء الدير إلى الأب شربل قائلين: دخلك يا بونا شربل
دبّرنا. فأرسلهم إلى الرئيس. فأمره الرئيس بأن يذهب مع الأهالي. فذهب
وبارك الماء، وأخذ يرشّه. ويعاونه في عمله راهب آخر على الجراد. فكان
الجراد يغادر أملاك الدير والمسيحيّين نحو أملاك المتاولة. فركض
المتاولة وراء الأب شربل، يتوسَّلون إليه أن يبعد الجراد عن أملاكهم.
فتابع شربل رشّ الماء المبارك على الجراد في أراضيهم. فغادر الجراد
الأراضي والمنطقة كلّها، التي رشّ فيها الماء المبارك.
ثالثا: شغل وصلاة
أ- تعريف
هذا
بعض من قانون العمل الذي سار شربل بموجبه: ليكن صامتا هادئا نشيطا في
شغله. ولا يختار له الشغل الهيّن ولا الحاجة الجيّدة، ويترك لغيره
العاطلة. بل يختار لذاته الشيء الدنيء ولغيره الحسن، ويفعله بتواضع.
ويُخضِع نفسه لأدنى وظائف الدير، وأدنى حاجاته، ليَخلُص من محبّة
الذات التي لولاها لما كانت جهنّم موجودة. لذا لم يكن له وظيفة
في الدير، سوى القدّاس والصلاة، والشغل في الحقلة. كان أكثر شغله في
تعزيل الحجار، وعمار الحفافي قدّام الزارع. وكان، قبل دخوله المحبسة،
يساعد المعّاز في ملاحظة الماعز ورعايتها وخدمتها. كان يشتغل مع
الإخوة والأجراء في الحقل والكرم من كلّ قلبه، بحدّة ورغبة، أشغالا
شاقّة، مع كونه قسّيسا فاضلا محترما. لا يلتفت إلى جهة، ولا يأخذ
راحة، إلاّ قليلا ليرسم وجهه بإشارة الصليب مرارا كأنّه ما كان ينقطع
عن الصلاة في وقت شغله. وعندما يقصد التلهّي كان يذهب عاملا ليجمع
الحصى من أرض الكرم. ولا يعتذر عن الشغل في الحقل، لا في برد ولا في
حَرّ. ويبقى في شغله حتّى يأتي رفيقه ويقول له كفى، أو حتّى يقرع جرس
الصلاة، فيستأذن الأخ رئيس الحقلة، أو الأجير في غياب رئيس الحقلة،
حتّى يسمح له بالعودة إلى الكنيسة لتلاوة الفرض، أو كان يركع على
الأرض والحجارة، يصلّي فرضه.
وعندما يؤمَر بحملة غوف، أو الحوائج يحمل قدر ما يستطيع وزيادة، ولا
يقول هذا ثقيل أو خفيف. ما تذمّر ولا غضب، بل دائما في حالة واحدة.
ولم يكن يعرف البطالة، بل يكره الراحة، ولا يحبّ النوم بل يحب
الإماتة والعمل. فكلّ حياته الرهبانيّة كانت صلاة وشغلا وصمتا. وإذا
طلب منه خادم الدير أن ينقل آلة الحراثة، يحملها حالا.
ب-
روايات وأحداث
1- ينقلها على ظهره
شهد
الأب الحصروني: لا يخرج شربل من الكنيسة إلاّ عندما يستدعيه رفيقه
الأب مكاريوس، إمّا للنوم أو لحدالة السطوح ولجرف الثلج عنها...
وحينما تكون الثلوج متراكمة يذهب رهبان الدير مع الأجراء يقطعون
أغصان السنديان من حرش المحبسة علفا لماعز الدير. وبعد أن تعرّي
الماعز تلك الأغصان من أوراقها يأخذ الحبساء الحبال ويأتون بالأغصان
إلى داخل المحبسة والكرم؛ فالأب مكاريوس يحزم السيكون والأب شربل
ينقلها على ظهره.
2-
ذهب الى الكنيسة يصلّي
(متّى
14/23)
شهد سمعان غاتا: دعاني الأب الياس المشمشاني،
حوالي
سنة 1880،
لأجل بنيان فرن لدير مار مارون عنّايا. ولمّا طلبت منه عملة
لمعاونتي، كان الأب شربل أحدهم. فاشتغل معي ستّة أيّام، كان فيها
مثال الكمال، لأنّه بأوّل الشغل سألني:
ماذا تريد يا معلّم؟
فقلت له: حجار وشحف وطين للبناء. فأخذ يناولني ذلك بكلّ اجتهاد
ونشاط، ويرفع الأحجار الثقيلة على صدره، ويرفعها على الصقالة. ويغرف
الشحف بيده، فيسيل الدم تحت أظافره. فكنت أقول له: لا! لا! يا معلّمي
توقّى حالك، ولا تتعب حالك هكذا، على مهلك. فما كان يجاوب، وما كان
يكفّ عن العمل الشاقّ. وقضى كلّ الاسبوع معي، يشتغل هكذا، دون أن
يفوه بكلمة، ولا يسألني سؤالا إلاّ هذه الكلمة: ماذا تريد؟
وأنا كنت أشفق عليه، وأجتهد دائما أن أخفِّف عنه. وكنّا نرتاح نحن
ونشرب سيجارة، تراه ذهب الى الكنيسة يصلّي.
3-
توّا إلى الكنيسة
لمّا كان الخبز على فرن الدير يقوم به ليلا كلّ من الرهبان في
دوره، كان الأب شربل أيضا يباشر هذه الخدمة كسائر إخوانه، فيأتي من
المحبسة إلى الدير مساء ويذهب توّا إلى الكنيسة، ويبقى فيها إلى نصف
الليل ريثما يختمر العجين ويصلح للخبازة، فيستدعيه الأخ متسلِّم
الكرار، فيحضر لمساعدة إخوانه، ولا يفارقهم حتّى ينتهوا من الخبز،
فيقفل عندئذ راجعا إلى المحبسة ويتلو فيها الذبيحة الإلهيّة.
4-
ما كان يترك أدنى فرصة
كان -
قبل دخوله المحبسة - يشتغل مع الرهبان في الحقل، كان عندما يأتي
ليحمل لهم الطعام من الدير، يضع الآنية لدى العشّي ليملأها، ويذهب هو
إلى الكنيسة ليختلي إلى القربان المقدّس، ممّا يدل على أنّه ما كان
يترك أدنى فرصة، إلاّ ويصرفها، إمّا أمام القربان، وإمّا في الشغل.
5-
صموتا مهما شغّلوه
(متّى
5/11-12 و41)
شهد الأب أفرام نكد: كان الرهبان المسؤولين عن الدير أكثرهم من
بلدة مشمش، وكان الأب شربل الوحيد بينهم من بلاد الجبّة. وكان صموتا
مهما شغّلوه لا يقول لأحد لا، لا يتذمّر، ولكن ما كان أحد يشفق عليه
منهم، ولا هو يشفق على نفسه. وكان الأخ الكرارجيّ فرنسيس شقيق
الرئيس، يشغِّل الأب شربل بدون شفقة وينتهره، والأب شربل يطيعه، مع
كونه أخا، وهو قسّيس، كما يطيع الرئيس. حال رجوعه من الحقل حاملا
حطبا يرزح تحته إلى الأرض، يأمره بعمل آخر كجلب الماء أو غيره. ومرّة
أمروه بحمل الماء في سطل لسقاية الدخان، فظلّ طول النهار يستقي
بالدلو حتّى سلخ جلد يده.
6-
الحجارة تلمس جلده
شهد الأب أفرام نكد: وكنت ذات يوم أُحَمِّله حجارة في الحقل على
ظهره، وما كان يستخدم غطاء سميكا على ظهره، بل كان يحمل على العباءة
والقميص. وظلّ يحمل كذلك حتّى تمزَّقت العباءة والقميص عن ظهره،
وصارت الحجارة تلمس جلده، وكنت أشفق عليه خصوصا لأنّه قسّيس، فذهب
إلى الرئيس وقال له بوداعة وصوت منخفض: أنظر إلى عباءتي. فأمر
له بعباءة.
7- أيش بتريد أعمل؟
راهب شغل وصلاة وسكوت. وشهد يوسف سليمان: لا نذكر نحن الشركاء، الذين
كنّا نشتغل مع الرهبان في الحقل، أنّا سمعناه يتلفّظ بغير هذه
الكلمة: يقف مكتوف اليدين، أمام رئيس الحقلة، ويقول له برأس منحن،
وصوت منخفض: أيش بتريد أعمل؟
8- يرسم إشارة الصليب
شهد
الأب أفرام نكد: كان يذهب معنا نحن المبتدئين إلى الحقل فيشتغل كواحد
منّا. فكنت أنا أفلح على الفدّان وهو ينكش ورائي. وكلّ ما نكش حينا
كان يرسم إشارة الصليب، عملا بقانون المبتدئ: "كلّما ابتدأت بشغل ما،
أرسم ذاتك بإشارة الصليب على وجهك، ثمّ قدّم ذاك الشغل لله قائلا:
أنا أقدّم لك يا ربّي وإلهي، قلبي ونفسي مع هذا الشغل، أعطني أللهمّ
قوّة حتّى أتمّمه حسب مشيئتك، وليكن لرضى ومجد لاهوتك"، حافظا
الصمت العميق. ولا يكلّمني كلمة واحدة، لا أنا ولا غيري. فإذا سُئل
عن شيء، يجاوب بكلمة نعم أو لا، أو بوجيز من الكلام
محكم، وهذه عادته.
رابعا: فقر شربل
(مر
10/21)
أ- تعريف
يقول القانون: "يجب على الراهب ألا يقتني شيئا ذاتيّا". لذا ما مسكت
يده يوما طوعا نقدا من فضّة أو ذهب. وكان يستعمل أحقر الأشياء، ولا
يرمي شيئا صغيرا أوكبيرا، ولو كان ضلعا من البقول، وإذا رأى تحت
العريشة حبّة عنب، أو كسرة خبز على الطريق يلتقطها ويحملها إلى
المطبخ. وقد كان فقيرا كأحد الشحاذين. ولم يوجد فقير يرضى بطعامه
ومرقده وثيابه. فكان يعتبر كلّ خيرات الدنيا كالتراب المدوس
بالأقدام.
ولكنّ الفقر الحقيقيّ كان بظهوره مظهر الغبيّ الخامل، مع أنّه كان
غنيّا بنعم الله والفضائل السامية. وكان متجرّدا عن أهله، بحيث ما
زارهم قطّ في حياته، ولا تحدّث عنهم ولا سأل أيضا. ولمّا كان يزوره
أخوه كلّ سنة أو سنتين، ما كان يقابله إلاّ قليلا بأمر رفيقه. وكان
متجرِّدا عن إرادته، لا بما ينصّ عليه القانون فقط، بل في كلّ شيء،
كأنّه بلا إرادة. ومع كونه ذكيّا، لم يظهر ذلك، لا بالكتابة ولا
بالكلام. وما لفظ بفمه كلمة: هذا لي، أو هذا لنا، أو هذا لديرنا. كان
يشتغل بكلّ قوّته، في أيّ عمل كان، أو يصلّي بكلّ حرارة في الكنيسة،
حالما يأمره رفيقه، بترك ذلك إلى عمل آخر ينصرف حالا، كما يمشي
الخيال عندما يمشي صاحبه، وهذا منتهى التجرّد، غنيّا بمحبّة الله،
قلبه لم يكن متعلّق بشيء في الدنيا على الاطلاق. لكأنّه غير موجود في
هذه الدنيا، بل في دنيا الله.
وعملا بالقانون: "لا يضيّع الوقت بطّالا، بل كلّما قدر فليصلّ
للمحتاجين ولموتاه، ولا يتكاسل لئلاّ يقع في فخاخ الشيطان"، كان شربل
شديد الحرص على الزمن، ولا يترك فرصة، ولو زهيدة جدّا، تمرّ دون أن
يأتي عملا تنتفع به الرهبانيّة، ويكتسب بها ربحا يناله في الأبديّة
لأنّه كان يعلم العلم اليقين أنّه إنّما أعطي الزمان لتقديس نفسه؛
فعندما لم يكن في العمل، ينصرف إلى الصلاة والتأمّل.
ب- روايات وأحداث
1- خد لك هدا
إذا حضر نعوة في
الخارج، وأعطوه جزوة، يأتي بها إلى الرئيس فور وصوله الدير، ويعطيه
إيّاه قائلا له: خد لك هدا. وهذه عبارته بالحرف. ويكون إمّا
ريالا أو بشالك (ومع أنّهم كانوا يعطون
عموم الكهنة ثلاثة بشالك
(البشلك =5غروش)
كانوا يعطون الأب شربل ريالا مجيديّا
(سعره بين 20و25غ))
وما كان يعرف أصناف العملة. وإذا ما وجد الرئيس في غرفته حاليّا، يضع
المجيدي على طبق قصب كان تحت سريره.
2- خذ هذا الشيطان
عنّي
كان الأب شربل مع آباء
الدير في نعوة، وقد أعطي كلّ منهم ثلاثة بشالك. وعند رجوعهم إلى
الدير، حمل الأب شربل، هذه البشالك، حالا إلى الرئيس. فقال له
الرئيس: إحفظها معك، فقد تحتاج لشراء محرمة أو حاجة أخرى. فامتثل
لأمر الرئيس، واحتفظ بها. وفي المساء لم يعد يستطيع إبقاءها معه،
فحملها إلى الرئيس وقال له: خذها عنّي فلا أريد أن أبقي هذا
الشيطان عندي.
3- أعطها للأب
مكاريوس
شهد الأب الحصروني: كنت
في دير مار أنطونيوس قزحيّا في شهر تموز سنة 1898، وكان الأب
أنطونيوس علوان آنذاك في ذلك الدير، قد أبرز النذور من وقت قصير.
وبعد تركه دير مار مارون عنّايا، أخبر أحد أنسبائه، بفضائل الأب
شربل. فشاء أن يرسل له حسنة قدّاس، يتلوه على نيّة، وسلّمه ربع
مجيدي، لكي يرسله له. فسلّمني هذا الربع مجيدي، وكلّفني بأن أسلّمه
يدا بيد إلى الأب شربل، لكي يتلو القدّاس المطلوب على نيّة صاحبه،
تاركا ذلك لضميري. فأخذت الحسنة، وأتيت إلى المحبسة. وعندما قابلت
الأب شربل، قلت له: تفضّل، هذا حسنة قدّاس على نية الأب أنطونيوس
أيطو فقال: أعطها للأب مكاريوس. قلتُ له بحدّة: هو استحلفني،
وطلب منّي، أن أسلّمك إيّاها، يدا بيد، ولا يمكن أن أسلّمها لغيرك!
فمدَّ يده على طولها، وأغمض عينيه ناظرا إلى الأرض، فوضعتها في كفّه.
فمنذ لمسته مشى نحو الأب مكاريوس، مناديا بصوت لم يُؤْلَف سماعه إلاّ
في الكنيسة قائلا: يا بونا مكاريوس. يا بونا مكاريوس. خذ هذه حسنة
قدّاس. وكان مبعدا يده عنه كأنّه يحمل عقربا. ودفعها إليه دون أن
ينظر إليها، أو يعرف كميّتها.
4- قرب الفجر
شهد الأب اغناطيوس
مشمش: أتاني مرّة وأخبرني - وكنت وقتئذ رئيس الدير - قرب الفجر،
أنّ بعض الزوّار أعطوه أربعة بشالك سلّمني إيّاها وقالوا له:
إشترِ بها لوازمك الخصوصيّة. وقصّ عليّ كيف أنّ عدوّ الخير جرّبه كلّ
الليل بشأنها، حتّى يحتفظ بها لنفسه. وأنّه بنعمة الله انتصر عليه،
وأتاني بها كما تقدّم فقلت له: هل أنت في حاجة إلى شيء؟ فقال لي:
إذا شئت يلزمني بعض محارم لاستعمالي في التمسيح والتنشيف.
فأعطيته أربعة محارم سوداء حسب طلبه.
5- لا تدعيني أرى
صورة الدراهم
(مر 10/23-25)
شهد حوشب نكد: كانت
والدة وردة ابنة شقيق الأب شربل تملك طاسة من فضّة، توضع على رأس
النساء للزينة. وبعد وفاتها، باعتها ابنتها وردة، بثلاثماية غرش، أي
نحو ليرتين عثمانيّتين ذهبا. وحملت هذا المبلغ إلى عمّها الأب شربل،
حسنة قدّاسات عن نفس والدتها زوجة أخيه. لكنّ الأب شربل، أبى أن
يستلم المال، وخاطب ابنة أخيه، من داخل الغرفة، دون أن يرى وجهها،
قائلا لها: أعطي هذا المال للأب الرئيس. فأجابته: أريد أن
أسلّمك إيّاه أنت، لتقدّس أنت. فأجابها: إنّي أقيّده في دفتري،
وأقدّس. ولكنّي لا أتسلّم المال. إذهبي وأعطيه للرئيس، ولا تدعيني
أرى صورة الدراهم. فنَزلت عند إرادته.
6- ضعا النذر على
الرفّ
شهد الأب نعمةالله
نعمة: زاره اثنان من إخوانه العلمانيّين، وألحّا عليه أن يقبل منهما
بضعة غروش فأبى، ومن كثرة إلحاحهما، وقولهما له: إنّ هذا نذر
للمحبسة، قبل وقال لهما: ضعا النذر على هذا الرفّ، بدون أن
ينظر إليه أو يعرف كميّته، ولمّا زرت ذات يوم المحبسة، بادرني بهذا
الكلام: إنّ شقيقيّ زاراني ووضعا هذا النذر للمحبسة فهاكه هناك
على الرفّ فخذه، فتناولته وكانت قيمته 8 بشالك.
خامسا: لباس شربل
أ- تعريف
يُلزِم
القانون: "لتكن كسوة الراهب وفراشه وغطاؤه بما يناسب الفقر"، لذا كان
في لبسه مثل أحقر فقير، والمبتدئين في الرهبانيّة. فلم يلبس يوما
ثوبا جديدا،
بل
كان يلتمس باتضاع،
وهو يرغب في الثياب العتيقة،
أن
يلبس فضلات الرهبان والإخوة أي ثيابهم العتيقة؛ عباءة رهبانيّة
مرقَّعة، رثّة، تُعدّ خيطانها؛ من صوف بلديّ خشن، جرباء، محمرّة
لزوال صباغها؛ دائما نظيفة، لأنّه كان يُنظِّفها بيده؛
ويُرقِّعها بيده غير متأنِّق ولا معتن بها،
كلّ 5أو 10سم قطبة. ولم يكن له أثواب خاصة للصيف أو للشتاء. ويبقى
لابسا ثوبه حتّى يبيّن أنّه كاد يتنثّر ويرثّ. فيعطى له غيره.
وزنّاره جلد كباقي الرهبان، لكنّه مشرحط على حمل الحجار والسيكون.
وكان يلبس سروالا واحدا مصبوغا أسود، وقميصا من الخام، وصدريّة عباءة
قديمة، وفوق الصدريّة العباءة الرهبانيّة؛ وما لبس كلسات طول حياته،
رغما عن البرد القارس. وكان يلبس المشلح في الكنيسة، وخارج المحبسة،
إلاّ في الشغل. ولم يكن يَنْزع الإسكيم عن رأسه، لا صيفا ولا شتاء،
لا ليلا ولا نهارا، إلاّ وقت القدّاس، حسبما ينصّ الطقس الكنسيّ؛
وإسكيمه كان كبيرا يغطّي رأسه، وعينيه، وأذنيه، وبعض خدّيه وعنقه.
وكان حذاؤه عتيقا مرقّعا، المعروف بالمداس الرهبانيّ القديم؛ ومحارمه
اليدويّة كانت من خام غليظة، وهي المعروفة بالفوط.
ب- روايات وأحداث
1- بلا خطوط حمراء
لمّا
كان الأخ المتولّي أمر السكافة، يضع مداسا فرعته على دائرتها خط
أحمر، يعرف بالمقز حسب عادة الرهبان في تلك الأيّام، كان الأب شربل
متى أُمِر له بمداس، يوصي الإسكاف أن يكون المداس بلا خطوط حمراء.
2- حتّى يرقّعها
شهد
الأب فرنسيس السبريني: وُجِدتُ مدّة، مولجَّا بالخياطة لثياب
الرهبان، في دير مار مارون أيّام رئاسة القس أغناطيوس المشمشاني،
الذي أمرني بالذهاب إلى المحبسة، وفحص أثواب الحبساء، والنظر بلوازم
لباسهم. فدخلتُ صومعة الأب شربل، فلم أجد فيها قطعة تصلح للبس،
فأمرته بإخراج هذه الخرق منها، وبدأت بإتلافها أمامه. فأخذ يرغب
إليّ أن أُبقيها له حتّى يُرقِّعها، ويستعملها ضنّا بها أن تذهب ضدّ
الفقر. حضرتُ للدير وخيّطتُ له بدلتين بناء على أمر الرئيس.
ولمّا أعطيته إيّاهما، اعتذر عن لبس العباءة الجديدة، وقال لي
حتّى أترجّى الرئيس ليُرسِل له عباءة عتيقة تُسهِّل له الشغل. ولا
يُرسِل له قمصانا، حيث كان يستعيض عن القميص بالمسح الشعريّ،
وصدريّة من الثوب الرهبانيّ، تستر المسح الشعريّ.
3-
هذا أفرشه تحتي
شهد الأب حنانيّا الجاجي: ذهبتُ لزيارته يوما، فوجدتُه يغسل
أثوابه بيده ويعركها برجليه، فنظرتُ المسح بين الاثواب المغسولة.
فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا أفرشه تحتي. محاولا بذلك إخفاء
فضيلته عنّي.
4-
ألبسني مثل مشيتي
ومرّة جاء إلى الرئيس الأب روكس المشمشاني، وكانت عباءته رثّة
للغاية، وطلب إليه قائلا: مشّيني مثل عباءتي أو ألبسني مثل مشيتي.
وقصد بذلك: إمّا ضعني في المحبسة حيث تناسب هذا اللبس، وإما أكرم
عليّ بعباءة أحسن حالا، أظهر بها لمّا أرافقك. فدخل الرئيس في الحال
غرفته، وخلع عباءته عن جسمه، ثمّ ألبسه إيّاها. فجاءت واسعة عليه.
فقال له الرئيس: لا مانع من إستعمالها.
5-
لماذا مبهدل ذاتك؟!
شهد موسى موسى: رأيته لابسا حذاء ممزَّقا فقلت له مرّة: لماذا
مبهدل ذاتك هكذا؟! أُطلُب مداسا لائقا، فرجلاك مثل أرجل الجمال؟! فلم
يجِب.
سادسا: فرشته ونومه وأثاث غرفته
أ- تعريف
1-
غرفة شربل في الدير
وهي
واقفة في الجناح الغربيّ من الدير. طولها من الممشى الشرقيّ إلى
الحائط الغربيّ 325سم، وعرضها 225سم، وعلوّها 300سم، مسقوفة بخشب
بسيط والجذوع والتراب. لها نافذة للغرب، وأرضها حجريّة. بابها إلى
الشرق، يطلّ على باب ونافذة الكنيسة، قبالة المذبح الكبير.
2-
غرفة المحبسة
طولها
من الشرق إلى الغرب 3 أمتار، وعرضها من الشمال إلى الجنوب 210سم،
وعلوّها 240سم. ولها نافذة شرقيّة من خشب حقير ذات درفتين لها زجاج،
مقفولة دائما، ومغطّاة بستار أسود، حتّى لا يراه أحد منها.لا يرى
منها إلاّ جبل إهمج، وجبال وعرة. وفي الحائط الشرقيّ، طاقة بشبه
خزانة يضع فيها سراج الزيت. أرضها بلاط حجريّ جبليّ، حيطانها من تراب
مطيّن على الحائط الحجريّ. وهي مسقوفة بالأخشاب. والباب من خشب بسيط
حقير جدّا، له مقبض خشبيّ من الخارج. وهي خاوية خالية حقيرة، دائما
مفتوحة، مصبوغة بالدخّان؛ فيها تخت خشب وتحته طبق قصب يحفظ عليه كتبه
الروحيّة واللاهوتيّة. وإبريق ماء. وما كان يسمح لأحد بالدخول إلى
صومعته إلاّ نادرا واختلاسا.
3-
فرشته
فراشه كان مؤلّفا من ورق العفص والسنديان، يبسط عليه بلاسا، محاكا
من شعر الماعز، وقطعة عتيقة من اللبّاد. ووسادته قطعة من الحطب
ملفوفة بخرقة عباءة سوداء. فكان ينام على هذه الفرشة في الصيف
والشتاء؛ ومرقده على غاية من الخشونة، لا فراش ولا لحاف؛ ففرشته
رثّة، كان يرقد على جنفيصة، فوق لوحين خشبيّين، مرفوعين عن الأرض
بعلو شبرين، مع قطعة حرام موصولة بها. وكان يرقد على الأرض أحيانا
كثيرة.
4-
نومه
ما كان يسهر قطّ مع الرهبان، ورقاده كان بعد إنجاز صلاة الستّار،
وبقيّة الصلوات، أي نحو الثامنة والنصف. وكان ينهض عند نصف الليل
للصلاة، حسب قانون المحبسة؛ وبعدها ما كان ينام مطلقا أو يرتاح بعض
الأحيان نحو ساعة، ثم يعود إلى التأمّل والصلاة. وفي النهار لم يكن
ينام أبدا. وما عرف الألعاب
(لعب
الورق وغيره)
في حياته.
ب-
روايات وأحداث
1-
منهوك القوى من النعاس
(مر
4/38)
شهد الأب الياس إهمج: كنت ألاحظ أنّه منهوك القوى من النعاس لطول
السهر المتواصل، إذ بينما يكون راكعا نصبا، يغلب عليه النعاس بعض
الأحيان، فينحني رأسه، ويهوي بجسمه رويدا رويدا حتّى كاد يصل إلى
الأرض. حينئذ ينتبه فجأة، وينتصب منتصرا على ضعف الطبيعة، ويرفع بصره
إلى العلاء متنهّدا من أعماق قلبه. وما أحد رآه يوما مرتاحا في
النهار مغمضا جفنه في ظلّ شجرة.
2-
وسادة الصوف
(متّى
8/20)
كانت غرفته بدون غال ومفتاح. ومرّة بينما كان الأب شربل يشتغل في
الحقل إنتهز الفرصة الأخ بطرس الفراديس، ودخل غرفة الأب شربل وأخذ
الوسادة التي هي قطعة من حطب ورماها في الحوش، ووضع له بدلها وسادة
من صوف. ولمّا عاد الأب شربل إلى غرفته ورأى الوسادة مبدّلة،
ترجّى
الأخ
أن
يأخذ
وسادة الصوف، ويعيد إليه وسادته قطعة الحطب، وألحّ عليه
حتّى فعل.
سابعا: أكل شربل
أ- تعريف
1- في الدير
كان يأكل مع إخوته في الدير على المائدة مرّتين في النهار، وما كان
يتذمّر إذا تأخّر الطعام عن موعده، وما كان يطلب من العشّي أو
الكرارجي أكلة خصوصيّة أو يشمئزّ من بعض المآكل، بل بالعكس كان يطلب
فضلات الطعام، والفتات، مستأذنا اختصاصه بها لمزيد اتضاعه واقتناعه
بالكفاف؛ وكانت وجبات طعامه من الخبزات المحروقة والمطويّة والغير
المستوية، والرغيف المكسّر أو لزاقة الدست، فأكله كان قشفا. وكان
يأكل بهدوء وتأنٍّّ، ولا يتكلّم مع أحد، وعندما يحتاج شيئا، ما كان
يرفع صوته، بل ينظر بمؤخّر عينيه، ونظره منخفض كأنّه يتأمّل أو في
الكنيسة. ولا يقول هذا مالح أو هذا حلو. وما قال مرّة أنا مريض: لا
آكل من هذا الشكل. وما تحدّث عن الأكل وعن جودة الطبخ أو عدمها. وكان
غالبا يغسل الصحون وأواني المطبخ ويشرب غسالتها، ويتمّمها بسرور.
والطعام في أوعية فخّار وملاعق خشبيّة. ولا يتعاطى بهموم الأكل ولا
يعرف أين موجودة موادّه، وما أكل مرّة خارج الدير، إلاّ في الحقل في
زمن الشغل، فكان يقتات من فضلات طعام إخوته المشتغلين معه ومن فضلات
أطعمة الخدم الذين يشتغلون في حراثة الأرض مع الرهبان.
وما كان يأكل شيئا على الإطلاق خارجا عن المائدة العموميّة، ومستحيل
أن يتناول أكلا أو شرابا أو فاكهة خارج المائدة. ولم يكن يتعاطى
التدخين. ولا شيء من المُكيِّفات، ولا يأكل سكّرا ولا شيئا من الخضار
اللذيذة، ولم يشرب عرقا، ولا خمرا ولا مسكرا، ولا القهوة؛ وبالنتيجة
فقد كان يتقوّت تلبية لداعي الضرورة فقط لا طلبا للذّةٍ. ولم يكن
يحتفظ في غرفته بشيء يؤكل. وكان في هذه الدنيا كأنّه ليس منها،
فأشواقه متّجهة نحو الله.
2-
في المحبسة
كان يأكل مرّة واحدة في النهار، بعد صلاة العصر وكان أكله سلطة
وزيتون، وقشر البطاطا النيّئة، يغسله ويغليه قليلا، ويأكله. ولمّا
كان يأتي من المحبسة إلى الدير لأخذ الزاد، يبدأ في أن ينتقي الخبز
العفن حصّة له، الذي كثيرا ما يرمى للكلاب، ويقدّم لرفيقه الطعام
الجيّد والخبز الصحيح، وهو يأكل الفضلات الباقية من أمس.
ولم
يكن يذوق اللحم مطلقا، وكان طبخه بالزيت، إلاّ في الأعياد الكبيرة،
كعيد الميلاد، والقيامة، وعيد مار أنطونيوس، وعيد مار بطرس وبولس
شفيعي المحبسة، فبالسمن.
وكان للمحبسة كرم يشتغل فيه الحبساء، ويقطفون الفواكه والعنب والتين
والإجاص، وما أشبه، وينقلون هذه الأثمار للدير، ويقدّمون منها
للزوّار، وهو يشتغل أكثرها حارما نفسه منها،
فالفواكه لم يكن يذوق منها إلاّ القليل. ولا يأكل إلاّ إذا قال له
رفيقه: كل. فيأكل. وكان يأكل ما يقدّمه له الأب مكاريوس. وكان يملأ
الجرّة لرفقائه من ماء عين عنّايا، التي تبعد عن المحبسة نصف ساعة،
ويشرب
هو
من
البئر الموجودة في المحبسة، عند الوجبة الواحدة، التي كان يغذّي جسده
بها.
ب-
روايات وأحداث
1-
الخبزات في الشبّاك
(يو
4/31-34)
شهد الأب أفرام نكد: عندما كنّا نعود من الحقل متأخّرين، يأتي
الأخ فرنسيس ويعطيه أربع طلامي (خبز صغير
وسميك)
للعشاء ناشفين. فيحمل الخبزات تحت إبطه، ويدخل الكنيسة، ويضع الخبزات
في الشبّاك، ويركع مصلّيا. ويغيب طويلا وهو راكع، وأحيانا يبقى في
هذه الحالة ساعة ونصف، وأحيانا كنت أشاهده غافيا. وعندما كنّا نأتي
إلى صلاة الليل كان الأخ فرنسيس يدخل الكنيسة يقرع الجرس للصلاة،
ويأخذ الخبزات عن الشبّاك إلى الكرار. لأنّ الأب شربل كان ينسى بطنه
في سبيل الله. فهل الأب شربل كان يترك الخبز قصدا، أم ينساه لا أعلم.
وإنّما كان يترك الخبز مرارا، فيبقى على وجبة واحدة في النهار مع
مشقّة أشغاله. وما كان أحد يتركه دقيقة بلا شغل، بل لا يدعونه في
الكنيسة مجاريا رغبة قلبه للصلاة.
2-
لا يأكل عنبا ولا يشرب ماء
يضيف الأب أفرام: إنّي أذكر أنّنا في أيّام الحصاد أو بعد الحصاد،
وعند نضوج العنب كنّا نحن المبتدئين نأتي بالعنب من كرم الدير لنأكل
ونُبرِّد غليلنا، وكنّا ندعو الأب شربل لمشاركتنا ونُلحّ عليه فما
كان يشاركنا قطّ. بل يلوي ظهره. ويتابع الأب حنانيّا الجاجي: كنت معه
أحيانا في الفلاحة، وكان يساعدنا. ولا يشرب ماء مع شدّة الحرّ، بينما
كنّا نحن نكثر من الشرب بسبب التعب والحرّ، وما كان يأخذ مُبرِّدات
في الصيف.
3-
إلى زيارة القربان
شهد سمعان غاتا: كنت أشتغل في الدير بالمونة أيضا، وسمح لي الرئيس
بأن آكل مع الرهبان على المائدة. والأب شربل ما كان يأكل إلاّ مرّة
واحدة في النهار عند الظهر وكان أكله ثلاث طلامي يفتّها في صحن صغير
مخلوطة. وعندما ينتهي رفاقه من الأكل، يأخذ صحن جاره ويغسله ويصبّ
الغسالة في صحنه، ويشرب إماتة، وقهر ذات. وبعد الأكل كنّا نحن نرتاح،
ولكنّ الأب شربل كان يذهب، وقت راحتنا هذه، إلى زيارة القربان في
الكنيسة. وفي وقت الترويقة أيضا، كان يذهب إلى الكنيسة ويصلّي.
4-
البرغل بسمنة
شهد
شبلي شبلي: إذا صدف أن أكل مّرة يوم شتاء في الدير. كان يتخذ المكان
الأخير. وأذكر أنّهم، عندما كانوا في الدير يريدون أن يسوقوا اللائق
مع الرئيس، كانوا يطبخون له صحن برغل بسمنة. فكان الأب الرئيس عندما
يصدف أن يكون الأب شربل في الدير في يوم شتاء، يقول لي، بعد أن يحاول
عبثا أن يجلس الأب شربل في قربه: خذ له شيئا من هذا الصحن، أي البرغل
بسمنة. فكنت آخذه وأضعه قدّامه. ولكنّ هذا الطعام كان يبقى مكانه دون
أن يمسّه الأب شربل.
5- بلا زيت
شهد
جرجس ساسين: رأيته مرّة مسلِّقا بعض حشائش، وبقول بريّة من أنواع
عديدة، منها ما ألف أكله، ومنها حشيش للحيوانات فقط. فقلت له: يا
معلّمي! هذا العشب لا يؤكل! وأشرت إلى العشب الذي لا يؤكل. فأجاب:
لا بأس. وهرم الحشائش والبقول، ووضع عليها الملح رشّا، ومزجها
بالملح دون زيت. فجاء الأب مكاريوس الذي كان مشغولا، وكان من عادته
أن يجهّز هو الطعام وسأله: هل سكبت زيتا؟ فقال: لا (ما بيسايل)
ممكن أن نأكل بلا زيت. وكان الزمان زمن صوم. وهكذا أكلا من تلك
الحشائش التي كنّا نحن نلقيها للبقر.
6- يومين بدون أكل
(لو
4/4؛ ومر 8/2)
شهد مارون عبّود: لمّا كان في الدير، كان يتّفق لي أن أُساعد
الرهبان في شغل الحقل، ويكون الأب شربل معنا. فلا يأكل إلاّ عندما
يأمره رئيس الحقل، تطبيقا لقانون المبتدئ: لا يأكل كلّ يوم إلاّ بإذن
المتقدّم، وحينئذ يأخذ ما يعطيه إيّاه ويَنْزوي وحده ويأكله. ويضيف
الأب بولس السبريني: مرّات عديدة، كان الأب مكاريوس عندما يكون في
دير مار مارون، متمّما بعض الخدم التي تأمره بها الطاعة، يطلب عند
العصر الإذن بالرجوع إلى المحبسة. فنلحّ عليه بالبقاء معنا، فكان
يجيب: أريد أن أروح إلى المحبسة لكي أغدّي الأب شربل. فقلت له مرّة:
ألا يعرف أن يأكل هو بذاته؟ حتّى تطلب كلّ مرّة الإذن حتّى تروح
تغدّيه؟ فأجاب: مستحيل أن يأكل دون أن أدعوه أنا وأقدّم له. وكان لو
ترك يومين دون أن يدعى إلى الأكل، ما كان يطلب أن يأكل، ولا يأكل من
ذاته. ويؤكّد الأب اغناطيوس مشمش: هذا حادث مشهور عنه.
7- الخبز المحروق
كان الأب مكاريوس،
يَنْزل إلى الدير، للمساعدة في صنع الخبز، فيجمع كلّ رغيف محروق أو
معطّل ويأخذه قائلا: هذا لمعلمي! قاصدا بذلك الأب شربل. والأب شربل
نفسه، كان أحيانا يَنْزل للمساعدة في صنع الخبز، فيجمع الأرغفة
المعطّلة أو المحروقة ويأخذها ليأكلها. وذلك في سبيل الإماتة. وشهد
شبلي شبلي: كان يطلب منّي أن أجمعها له، لتكون له مؤونته الخاصّة.
8- ثلاث حبّات عنب
شهد الأخ فرنسيس قرطبا:
رأيته يأكل سلطة فرفحين، وليس أمامه من الفرفحين، إلاّ الأضلاع
الجافية، مع كثير من البذر، وقليل من الورق. فيغمس لقمته بهذا الصحن
الخشبي، ويلتقط كسر الخبز والفتات المحروقة، قبل أن يكسر رغيفا
جديدة. فمرّة رأيته يأكل وكلّ غذائه هذه السلطة، ومرّة أخرى يأكل
برغلا على بندورة. وعندما كان ينتهي من الأكل، يأمره رفيقه في أيّام
الصيف، أن يأكل عنبا فيتناول ثلاث حبّات أو أربع.
9- ضلوع الفرفحين
والبقدونس
شهد الأب علوان: كنت مع
إخوتي المبتدئين في الشغل بجوار المحبسة، فخطر ببالنا أن نحضِّر أكلة
تبّولة. فأخذنا نجمع ما يلزم من بقدونس وفرفحين وغيرها. فنقّينا
العروق ورمينا الضلوع. فأخذ الأب شربل يجمع الضلوع ثم هرمها وصنع
منها سلطة، إذ وضع عليها زيتا وملحا وأكلها. وهذا جرى على مرأى منّي.
10- بطيبة خاطر
قال له الأب مكاريوس:
يا أخي لم يبقَ لك طعام، إلاّ هذا القليل الذي كنت حفظته للبسينة -
لأنّي نسيتك - في صحنها المخصوص. فقال له: يا أبي لا مانع. وأكتفي
بالطعام المعدّ لأصغر الحيوانات، بطيبة خاطر.
11- تنكة يعلوها الصدأ
شهد الأب بولس
السبريني: كنت حاضرا وقت أكله في المحبسة، وعندما انتهى، نهض وغسّل
قصعة العود القديمة (صحن خشبي)
التي كان يأكل فيها، وصحن رفيقه، ووضع الغسالة في تنكة صغيرة يعلوها
الصدأ. وذهب بهذه التنكة إلى صومعته، فسألت رفيقه الأب مكاريوس
قائلا: ماذا يصنع الأب شربل بهذه الغسالة؟ فأجابني: ذهب ليشربها،
وهكذا يفعل في كلّ مرّة. وكنت أقول في ذاتي، كيف يمكن أن يعيش بهذا
الأكل وهذه الحالة؟
12- تأثّرٌ حتّى
الدموع
شهد الأب سمعان أبي
بشارة: جلس الأب شربل ورفيقه الحبيس الأب مكاريوس المشمشاني لتناول
وجبتهما من الطعام، وجلست أنا معهما، وكان الغداء يخنة بطاطا، فأخذ
الأب شربل يتناول الرغيف المحروق والمطويّ والكسر المتساقطة من الخبز
ويجعلها بكلّ تأنٍّ في قصعته. فرثيت له في قلبي وكادت الدموع تتساقط
من عيني تأثّرا، وقلت في نفسي: هذا الحبيس يصنع مثل هذه الإماتات
الشاقّة، ونحن الرهبان لا يطيب لنا إلاّ الطعام اللذيذ والفراش
الناعم.
13- ما ذاق حبة عنب
شهد الأب بولس
السبريني: وكان رئيس دير مار مارون يرسلني لأقطف للدير عنبا من كرم
المحبسة. فكان الأب مكاريوس يأمر الأب شربل، بأن يرافقني ويقطف لي
العنب. فلم أرَه قطّ مرّة ذاق حبّة واحدة. وعندما كنت أجده وحده في
المحبسة، وأطلب منه أن يقطف لي عنبا، فما كان يجيبني، وكان ينظر أمر
رفيقه حتّى يقطف لي عنبا.
14- لم يأمرني أحد
بينما كان الرهبان
يشتغلون في الكرم مع الأجراء، تغدّوا، ونسوا أن يدعوا الأب شربل.
وهكذا فعلوا في اليوم الثاني، والأب شربل يشتغل بلا أكل هكذا مدّة
يومين. فانتبه الأب الرئيس للأمر، فاستدعى الأب شربل وقال له: هل
أكلت اليوم؟ أجاب: كلاّ. قال له: وأمس؟ هل أكلت؟ أجاب: كلاّ.
فقال له: لماذا؟ أجاب: لأنّه لم يأمرني أحد. فأمر الأب الرئيس
بأن يحضر له الطعام في الحال. فسأل الرئيس رفاقه: لماذا لم تستدعوه
إلى الطعام؟ فأجابوه: نسيناه.
15- روح صلِّي
شهد الأب نعمةالله
مشمش: نظرته مرّة، وكان قد فات وقت الأكل، فدعوته ليأكل فأجاب:
موش تبع خاطري الأكل. أي أنتظر خاطر رفيقي. ويضيف الأب بولس
السبريني: وعندما انتهيا، تكتّف الأب شربل، وحنى رأسه أمام رفيقه
وسأله: ماذا تريد أن أعمل الآن يا أبتِ؟ فأجابه: روح صلِّي.
16- المؤن تفيض!
(مر
6/30-44)
شهد يوسف خليفة: فرغ
صندوق الغلّة في الدير. فجاء أحد الرهبان يخبر الرئيس بذلك، فاستدعى
الرئيس الأب شربل، وسأله أن يرشّ ماء مباركا، ويصلّي على الصندوق.
ففعل الأب شربل، وإذا بالصندوق يفيض قمحا.
وسنة ما كادت المؤن
تفرغ من الدير، فاستدعي الأب شربل الحبيس فصلّى وبارك فزادت الغلال.
وهذه الحادثة تكرّرت مرّات، وخوابي الزيت امتلأت! بصلاة شربل! وبطلب
من الرئيس، بعد أن عَلِم أنّها فارغة!
ثامنا: قناعة شربل
أ- تعريف
كان قنوعا بالحالة التي
وجد فيها ولا يتطلّب غيرها، وما كان يتطلّب غير رضى الله. وحيثما
ترسله السلطة، يجد راحته وسروره. لا يهمّه أن يكنّس أو يطبخ أو يشتغل
بالمعول أو غيره، إذ في كلّ ذلك رضى الله. و كان رفيقه يعتني به من
تلقاء ذاته، ويطلب له من الرئيس ما يلزم؛ وكان يحرم نفسه من الأشياء
العاديّة الضروريّة لحفظ الحياة، قنوعا بما هو أدنى الأشياء،
وأحطّها، وأصعبها. كان كالطفل، لا تصنُّع ولا تأنُّف ولا تزلُّف
لأحد. وكانت الاستقامة في معاملاته. ولم يكن يظلم أحدا إلاّ ذاته
بمزيد من التقشّف. ولا أحبّ أن يشتغل شغلا شاقّا، ليميت ذاته، أو
يصلّي أمام القربان ساعات طويلة، ولا يطلب ذلك، بل يفرح عندما يؤمر
بذلك، ويتمّه بسرور. وقد كان ثابتا في قناعته مستمرّا على تقشّفاته،
فرحا في ممارستها، حتّى آخر نسمة من حياته. ولم يكن ليتذمّر من شيء
في حياته أبدا. وكان في أكله وشربه ولباسه وكلّ أعماله بسيطا للغاية.
وما كان يتعاطى مع أحدٍ أبدا. ولا يفهم من المعاملات مع الناس
والرهبان إلاّ ما تأمره به الطاعة.
ب- روايات وأحداث
1- يا أب العام!
زار الأب مبارك سلامة
المتيني، إذ كان رئيسا عاما، دير عنّايا، وأحبّ أن يتناول طعام
الغداء مع تلامذة الرهبانيّة، فأعدّوا له غداء قرب المحبسة. فأتى
الحبيس الأب شربل للسلام عليه، فقال له الرئيس العام: يا أبونا شربل
أنت اليوم تكون معنا على الغدا. بدنا نغدّيك معنا غدا منيح. فأجاب:
نحن نذرنا في الأمور الصعبة، وهذه هيّنة. والطاعة بهالأمر
منيحة كتير. فظنّ الرئيس العام أنّ الأب شربل سيأكل ممّا يقدّم
على المائدة، ويشارك الرئيس العام. وعند الغداء، طلب الرئيس العام
الأب شربل، فحضر مكتّفا. فقال له الأب العام: بتحبّ تتغدّى معنا؟
فارتبك. وأخذ يفرك يديه، ويقول، بصوت متخشِّع خافت: يا أبّ العام!
يا أبّ العام!... فكأنّه من جهة، لا يريد أن يخالف أمر الرئيس
العام، أو بالأحرى رغبته، ومن جهة ثانية، لا يريد أن يأكل من الطعام
المعدّ للرئيس العام ولجمهوره. ففهم الرئيس العام، فأعطاه الحريّة
وأعفاه. فعاد إلى محبسته.
2- أنظر ماذا يعطيني
شمّاسك؟
شهد شبلي شبلي: كان
يُقدَّم للمحبسة نذور من المحارم. فحمل مرّة إلى رئيسه كمّية منها.
فقال له الرئيس: أعطهم إلى الشمّاس. فسلّمني إيّاها. وبعد ذلك التفت
إلى الرئيس وقال له: يا معلّمي إذا كنت تريد أن تسمح لي بمحرمة،
لأمسح بها يديّ. فأجابه: لقد كانت كلّها معك! فلماذا لم تأخذ
منها!؟ فأجاب: إنّي لا آخذ شيئا بدون إذنك. فقال لي الرئيس:
أعطه محرمة. فاخترت له محرمة جديدة فابتسم الأب شربل وقال للرئيس:
أنظر ماذا يعطيني شمّاسك؟ فأجابه إختر ما تشاء. فلم يأخذ إلاّ
أبشع المحارم.
تاسعا: ذكاء شربل
أ- تعريف
كانت تظهر عليه الغباوة
والسذاجة، إنّما في الحقيقة، كان ذكيّ الفؤاد، نقيّه، حادّ الذهن،
بسيط الحديث، لطيفه، صريح الكلام بدون لَبْس فيه، صادقا. ومتى سُئِل
أجاب بوضوح وإيجاز، مظهرا في الخارج أنّه غبيّ خامل. فلم يتلفّظ إلاّ
بالكلام الضروريّ، الذي يبني القريب، ويفيده لخلاص نفسه. وكانت
أحاديثه تدور دائما على المواضيع الدينيّة. وقد وجّه كلّ أعماله نحو
خلاصه الأبديّ وخلاص القريب. وكان ذا رأي أصيل في الأجوبة
اللاهوتيّة، وسريع الخاطر على شدّة صمته؛ وأمّا فطنته، فكانت ظاهرة
في إتقان أعماله، ووضعه كلّ شيء في محلّه. ومع جودة عقله وقوّة
مداركه، فقد عبّد نفسه للجميع. وبلغ من قهر النفس وضبط الهوى ما أثبت
فعلا قول داود النبي – في المزامير- صرت كالبهيمة عندك وأنا كلّ يوم
معك.
ساذج في قلبه، بسيط في
نواياه، نيّة واحدة: الله. فما كان غبيّا متغفّلا، بل كان عنده فطنة
القدّيسين: لم يصدر منه زلّة يقدر رؤساؤه أو إخوته أن يلوموه عليها،
بل كان يعمل كلّ شيء بدقّة وترتيب وإتقان؛ لم يَنْسَ يوما واجبه، بل
دائما ساهرا على رضى رؤسائه؛ ولم يدع سبيلا لرؤسائه أو لغيرهم أن
يجدوا خللا ما في تصرّفاته. ومحافظته على القوانين بدقّة غريبة تدلّ
على أنّه كان فاهما لها حقّ الفهم. وكلمته بالروح فقد كانت سامية،
لأنّه مشى إلى الكمال على الطريق المثلى لا يحيد عنها قيد شعرة. وكان
في سلوكه يضع كلّ شيء في محلّه، ولم يقل كلمة في غير موقعها. وفي
أجوبته اللاهوتيّة كان كلامه شديدا وفطنته هذه أيضا وقَّتْهُ من
السرساب والوسوسة والمغالاة الغير المأنوسة.
وقد كان متنوّرا في
العلم دارسا في دير كفيفان، ولكنّه كان يتظاهر دائما بالسذاجة
والمسكنة، وأمّا فيما يختصّ بالإماتات وقمع الجسد، فرغم شدّتها
وكثرتها واستمرارها، دون انقطاع، لم تسبِّب له مرضا، ممّا يدلّ على
أنّها كانت مقرونة بالفطنة. وكان رصينا عفّ اللسان. وكان سلوكه
المتّزن، يفرض احترامه، وتقديره على كلّ من عرفوه. ولم يسبّب شكّا
وعثارا لأحد، بل كان الجميع يعتبرونه قدّيسا، ويطلبون التبرّك منه.
وكان حكيما لا بحكمة هذا الدهر، بل بالحكمة الفائقة الطبيعة. وكثيرا
ما كان ينصح الرؤساء والرهبان للإقتداء به.
ب- روايات وأحداث
1- إسألوا تعطوا
(متّى
7/7)
شهد الأب يوسف إهمج:
إنّ الأب شربل كان يملك إرادة حديديّة ناريّة، تجعله يتسلّط على كلّ
ميوله وعواطفه. وكان يقول لي: يا أخي الدنيا خدّاعة، وإنّ الله
يعرف كلّ شيء فينا. ومن يلتمس منه النعمة بثقة لا يخيّبه، فاطلب منه
أن يمنحك ما تحتاج إليه. وفي المدّة التي قضيتها في مار مارون،
لم أعرف فيه أي نقص، لا أنا ولا غيري من الرهبان، من رؤساء ومرؤوسين.
ويتمنّى أن يطلب منه خدمة، ليس من الرؤساء وإخوته فحسب، بل من شغّيلة
الدير وخدمه. فكان مثلا إذا طلب منه خادم الدير أن ينقل آلة الحراثة،
يحملها حالا. وقد كنت أنا شاهدا عيانا لحوادث عديدة من هذا النوع.
ولم أعلم مطلقا، أنّ أحدا شكاه إلى الرؤساء أو تذمّر منه لأمر من
الأمور. وكان رؤساؤه وإخوته يحترمونه ويقدّرونه، ويطلبون صلاته عند
المرض والشدّة. وكان تأثير تقواه على الجميع كبيرا.
2- لا يوجد عنّا
حراميّة
جاء مرّة رجل إلى الدير
ليسمع القدّاس يوم الأحد، حيث يجتمع الشركاء وسواهم في كنيسة الدير،
كلّ أحد وعيد، فترك الرجل عصاه عند الباب ودخل الكنيسة، وكان الأب
شربل لم ينقطع بعد إلى المحبسة. وبعد نهاية القدّاس، خرج الرجل فما
وجد عصاه. فأخذ يرفع صوته ويسبّ، فخرج إليه من الكنيسة الأب شربل
وقال له بهدوء ولطف: يا أخي، يا أخي، في الدير لا يرفع أحد صوته.
فقال الرجل غاضبا: سرقوا لي عصاي. هل يوجد هنا في الدير حراميّه؟
فتبسّم الأب شربل وقال بكلّ سكينة: لا يا أخي لا يوجد عنّا
حراميّة. أنظر هذا الجرن الموضوع في الساحة أمامك، فهو هنا منذ أن
بني الدير، وما سرقه أحد. فخجل الرجل وسكت. وضحك هو ومن سمع،
لأنّ الجرن من صخر ضخم يزن أكثر من عشرة قناطير. فلا يستطيع عشرون
شخصا أن يحرّكوه.
3- معلّما ماهرا
من عادة الأخوة الرهبان
أو الفلاّحين أنّهم إذا كان معهم أحد من الرهبان الأخوة غشيما أو
غبيّا، يقول للرئيس: وحياتك يا بونا الرئيس، لا ترسل لنا الأخ فلان،
لأنّه في شغله يعطّل أكثر ممّا يفيد، أمّا شربل فما تذمّر منه أحد
لخلل ما في شغله، فكان ذكاؤه يظهر في دقّة شغله. وظهرت فطنته أيضا،
بأجلى مظاهرها، في أنّه مع تناهيه في أعمال التقى، وفي رقّة ضميره
البالغة آخر حدّ في سموّ فضائله، لم يدع أدنى سبيل لكي يقال: إنّه
عنده أدنى وسواس أو أدنى سرساب. بل كان كلّ أمر عنده جرى بمقتضى
الحكمة. ومع أنّه لم يدرس في مدارس عالية، كان معلّما ماهرا في
الأمور الروحيّة، قصَّر عنه فيها أشهر آباء الرهبانيّة علما
واختبارا.
عاشرا: مكتبة وثقافة شربل
أ- تعريف
1- كتبه
من الكتب التي كان
يتأمّل بها هي: رواشق الأفكار، والإستعداد للموت وأمجاد
مريم للقدّيس الفونس ليغوري، وإعترافات القدّيس
أغوسطينوس، والكمال المسيحيّ، واللاهوت الأدبيّ والإقتداء
بالمسيح الذي كان مغرما كثيرا بقراءته. وكان يطالع أيضا كتب
اللاهوت، وبستان الرهبان، وحياة مار أنطونيوس الكبير،
والمصباح الرهبانيّ. والفتاوى الروحيّة والكتب
المقدّسة؛ ولم يكن شيئا في غرفته سوى فرشته العاديّة، وكتب
صلواته وتأمّلاته. ومن الكتب التي طالعها وهي موجودة في مكتبات
الأديار: سلّم الفضائل، ليوحنّا السلّمي. ونسكيّات القدّيس
باسيليوس. وميامر مار افرام. ومقالات مار اسحق
السريانيّ النينويّ في السيرة الرهبانيّة. وميامر
الشيخ الروحانيّ في الحياة الرهبانيّة، ليوحناّ الدالياتي. وإحتقار
أباطيل العالم، للمعلّم ديدوكس ستاله من رهبان مار فرنسيس. وميزان
الزمان وقسطاس أبديّة الإنسان، للأب يوحنّا أوسابيوس نيرمبرك
اليسوعيّ. بالإضافة إلى السنكسار وقانون المبتدئ،
وقوانين ورسوم 1732. ومخطوطات أيضا موجودة في مكتبة
دير عنّايا وهي: الجزء الثامن من العلم اللاهوتي في الشرائع،
سير القدّيسين ويسوع ومريم والمجامع المسكونيّة، والرياضة
اليوميّة في الحقائق الابديّة، محاورات رهبانيّة
في مواضيع رهبانيّة بشكل سؤال وجواب، ومواعظ عن البتول مريم عليها
السلام، محاورات رهبانية وعن القانون الرهباني، تفسير
الشحيمة، بدون عنوان شروحات عن شرف إسم يسوع، وعن اللسان
والحذر من عشرة الاشرار، وذكر الموت والدينونة العامّة والمطهر،
ونشيد العذراء وجهنّم والاعتراف، وبدون عنوان تأمّل حول آلام
المسيح، وكتاب الحرب الروحيّة، وتاريخ الازمنة أو تاريخ المسلمين
مؤلّفه البطرك
إسطفان الدويهي،
وديوان المطران جرمانوس فرحات الحلبي الماروني.
2- ثقافته
كان الأب شربل رجل
قداسة محض، يخاله الناظر إليه رجلا ساذجا، وأمّا في الأمور الروحيّة،
فهو عالم علاّمة، ذكيّا، ضليعا بدرس اللاهوت الأدبيّ، وأصول اللغة
السريانيّة، لاسيّما الترجمة منها للعربيّة، وشيئا من أصول اللغة
العربيّة. وأجوبته مفرغة بقالب السداد والإقناع؛ لأنّه في اللاهوت
الأدبيّ والأمور الروحيّة كان من طبقة الأب الكفري المشهور؛ ففي
المحادثات اللاهوتيّة مع الكهنة، كان يتحدّث بطيبة خاطر، عن حوادث
ذمّة في اللاهوت الأدبيّ المتعلّقة بتدبير النفوس وبسرّ التوبة،
ويفيض لسانه من فيض ما في قلبه المضطرم بالأمور الروحيّة والإلهيّة.
ب- روايات وأحداث
1-
أحاديث تقويّة
شهد
الأب علوان: كان يَنْزل إلى الدير يُساعد بالخبز على الفرن طول
النهار. وكان يجري محادثات لاهوتيّة واستفدنا منه في أمور كثيرة. كان
بارعا في هذه الأجوبة أكثر من الجميع، وفيها ما عدا الدقّة في
المعرفة، رقّة تعبير ممزوجة بفضيلة التواضع. وفي هذا أيضا ما كان
يجاوب إلاّ إذا طلب منه الجواب. وكان يتحدَّث معنا أحاديث تقويّة
تدلّ على عمق إيمانه. فكان يورد آيات من الكتاب المقدّس، ومن الكتب
الروحيّة. ويقترح على أن يورد كلّ منّا آية أخرى تبتدئ بالحرف الذي
تنتهي به الأولى. وكان يفسّر معانيها.
2-
إقرأ هذا الفصل
شهد
الأبّاتي العنداري: عرفت مباشرة الأب شربل في أيلول 1897، في محبسة
مار بطرس وبولس، في عنّايا، بمناسبة زيارة قمت بها، بعد أن كنت أبرزت
نذوري المؤبّدة، منذ بضعة شهور، إلى دير مار مارون عنّايا. وكان
يرافقني بهذه الزيارة، الأب ابراهيم
الحاقلاني، رفيقي في المدرسة، وقد توفّي برائحة القداسة. فقصدنا
زيارة المحبسة وعند وصولنا، دخلنا الكنيسة، فوجدنا الأب شربل جاثيا
على ركبتيه، منتصبا على طبق صغير من عيدان الشجر، متخشّعا لا يتحرّك،
ثابتا في وضعه. زرنا القربان الأقدس، وصلّينا برهة وكنّا نحدّق به،
فلم يبدِ أيّ التفات. ثمّ خرجنا إلى رواق ضيّق فيه موقد من حجر غير
مدقوق فشاهدنا فيه الحبيس الآخر الأب مكاريوس صوما المشمشاني يطبخ في
قدر من فخّار، ولم يكن الحبساء يأكلون إلاّ مرّة واحدة في النهار عند
العصر في محبسة عنّايا. وكان هذا الطعام يتكوّن من عدس وحمّص
وفاصوليا وبرغل وغيرها من الحبوب، يدعى مخلوطة، وهو نوع من الشورباء،
فرحّب بنا بوجه باش وابتسامة نقيّة تشفّ عن قلبه الطاهر الشبيه بقلب
الطفل.
جلسنا
على حجرين مدقوقين عند ساعد القنطرة الحجريّة. وعندما فرم البصل،
الذي يوضع بعد قليه بالزيت مع الحبوب المذكورة، نادى الأب شربل فحضر
حالا، فسلّمنا عليه، فأجاب بصوت منخفض بالكاد سمعناه، ونظر مطرق إلى
الأرض، بكلمة واحدة: السلام. عندئذ أعطاه الأب مكاريوس مقلاة
من حديد قد وضع فيها قليلا من الزيت والبصل المفروم وقال له: خذ
حرقص هذا البصل على النار، فأخذه حالا دون أن يلتفت إلينا. وعندئذ
ذهب الأب مكاريوس، فأتى بطبق من قش عليه صحنان فارغان وقليل من الخبز
وشيء من الفرفحين والبقدونس وبضعة أرغفة –معروفة بطلامي الرهبان-
بعضها مكسور وبعضها محروق، وقال للأب شربل: نقِّ هذا الفرفحين.
وتناول منه المقلاة وصبّها في القدر. ثمّ صبّ من المخلوطة في صحنين
من الفخّار بينما الأب شربل ينقّي الفرفحين، فيضع أوراقه في صحن
وأضلاعه يجمعها على طرف الطبق.
دعانا
الأب مكاريوس إلى الأكل فاعتذرنا شاكرين. ثمّ قال لرفيقه الأب شربل:
كل. فصلّى وبدأ يتناول طعامه متأنّيا، متربّعا على الأرض، صامتا
وناظرا أمامه فقط. فأكل من أضلاع البقلة التي لا يأكلها الناس، ولم
يأكل من أوراقها المبتلّة بالزيت والملح. ونزل الأب مكاريوس إلى
الكرم قرب المحبسة، فأتانا بشيء من العنب الفاخر. وكان الأب شربل
انتهى من تناول وجبته. واستمرّ على جلسته مكتوف اليدين، منحني الرأس
صامتا، منتظرا الأمر. فقال له رفيقه: روح زور القربان الأقدس، ثمّ
تعال اغسل الصحون والقدر. وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب.
فودّعناهما والخشوع والتأثّر أخذ منّا مأخذه. ورجعنا إلى الدير
منذهلين ممّا شاهدنا.
وفي
صيف سنة 1898، كنت مدّة العطلة المدرسيّة في دير عنّايا برفقة الإخوة
الدارسين. ذهبنا ذات يوم، نحو الساعة التاسعة صباحا، لزيارة الحبساء،
فوجدنا الأب شربل في الكنيسة راكعا نصبا، على ذات الطبق، وفي نفس
المكان، كما شاهدناه المرّة الأولى السنة الماضية. وبينما أنا أصلّي
أمام القربان الأقدس كنت أحوّل نظري إليه، فأراه جامدا كتمثال،
ومسبحته الورديّة بيده، ونظره محدق بالمذبح، فيخيّل لي أنّه مخطوف
بالتواريّا، ولم يلتفت إلينا. وبعد أن صلّينا، وكنّا ننظر إليه
متأمّلين أن يلتفت نحونا، ولم يبدُ منه أيّة التفاتة، أو حركة. خرجنا
إلى فسحة أمام الكنيسة للجهة الغربيّة. وبينا نحن نتحدّث ونضجّ، فتح
الحبيس الأب شربل باب الكنيسة ووقف صامتا وناظرا إلينا مكتوف اليدين،
وعلى وجهه المشرق ابتسامة، وكأنّي به يقول لنا لا تضجّوا لئلاّ
تعكّروا عليّ صلاتي في وحدتي. فتهيّبنا وخجلنا وتقدّمنا للسلام عليه،
والتبرّك بلثم يده، وكلّما تقدّم أحدنا للسلام عليه، كان الحبيس يحني
ركبته اليمنى وجسمه قليلا ويمسّ كلّ واحد منّا بطرف أصابعه بسرعة،
ولا يمكّن أحدا من لثم يده. وكان يردّ: السلام بابتسام مشفوعا
بكلمة واحدة فقط بصوت جدّ منخفض كأنّه تمتمة، فوقفنا دقيقة أمامه
متخشّعين، وغلق الباب وعاد إلى صلاته، ونحن ابتعدنا إلى الحرش غربي
المحبسة، نمشي على أصابع أرجلنا ونتبادل الحديث همسا لئلاّ نعكّر
عليه صلاته في خلوته، وقد تولاّنا الخشوع والفرح برؤيته. تركت الإخوة
ورجعت وحدي إلى الكنيسة، قصد أن أراه أو أكلّمه، فلم أجده. وذهبت في
ممشى المحبسة، فلم أجده. جلت في المحبسة فلم أرَه. فصعدت إلى السطح،
فوجدته جالسا على المحدلة، حذاء جدار الكنيسة –كأنّه تهرّب منّّا،
وفي يده كتاب حياة مار أنطونيوس الكبير. فحال وصولي، دفع إليّ الكتاب
قائلا: إقرأ هذا الفصل. فقرأته على مسامعه وأنا واقف أمامه.
وحالما انتهيت من قراءة الفصل، أخذ الكتاب، دون أن يَنْبُث ببنت شفة،
وذهب متواريا إلى الكنيسة. فقلت في فكري: إنّه أشغلني بالقراءة
تخلّصا من محادثتي.
3- أستاذ لاهوت؟!
أسّس مدرسة عنّايا، على
الأرجح، وعلّم فيها الأب أنطونيوس المشمشاني. وكان الخوري يوسف بن
الخوري يوسف سعد الماروني من مشمش من مواليد 1876 جارا لدير مار
مارون عنّايا ودرس اللاهوت على يد الأب أنطونيوس المشمشاني في الدير
نفسه وارتقى إلى درجة الكهنوت في 31 ايار 1898. وشربل كان يعلّم
طلبة الكهنوت في دير مار مارون عنّايا نفسه.
4- لا يملّ من قراءة
الإنجيل
عام 1950، كتبت جريدة
La Croix:
إنّ شربل هو القدّيس حسب الإنجيل، فالمسيح كان مرشده الوحيد، كان
شربل يستشيره ويصغي إليه. وكان لا يملّ من قراءة الإنجيل والتأمّل في
حياة المسيح. فشربل شاهد صادق للإنجيل، فقد تشبّه بيسوع المسيح ومارس
الفضائل الواجبة على تلميذ المسيح: كالطاعة والإماتة والتواضع
والمحبّة والصلاة، التي نبتت على ماء الإنجيل النقي.
حادي عشر: إعتراف شربل
أ- تعريف
1-
كشف الأفكار
كان
شربل يكشف أفكاره يوميّا عملا بالقانون: "يكشف المبتدئ أفكاره لرئيسه
ولمعلّمه، خارج الإعتراف... كلّ ليلة إذا أمكن... يجثو على ركبتيه
أمام أبيه الروحيّ، بكلّ اتضاع وورع، كاشفا رأسه ومقبِّلا الأرض...
ويقول بكلّ احترام: يا أبي إنّ قلبي غريب من الله... وكلّي نقص
وخطأ أمام الله... ويبتدئ في كشف أفكاره من صالح وطالح... ويطلب
من رئيسه الإفادة والإرشاد، ويتمسّك بإرشاده ونصائحه".
2-
إعترافات أسبوعيّة
كان يكره الخطيئة، ويهرب من أسبابها، حتّى البعيدة، وكان ينفر من
ذكرها. وكلّ الذين عرفوه يشهدون له بأنّه لم يرتكب خطيئة عرضيّة
قصدا. وما عُرِف عنه في حياته أنّه خالف وصايا الله والكنيسة
والقوانين قطّ، بل كان يتألّم من مخالفة الغير لها. ومع ذلك كان
يحاسب نفسه كلّ مساء عن أعمال يومه كالتاجر الحكيم ليرى هل كان رابحا
في ذلك اليوم أم خاسرا. فإن كان رابحا يشكر الله ويسأل نعمة
الإستزادة من النشاط في العمل ليزيد ربحه وأجره. وإن كان خاسرا، ولو
قليلا، يأسف على الخسارة، ويأخذ المقاصد الفعّالة ليصلح الخلل.
وإعترافاته كانت متتالية في حياته العلمانيّة والرهبانيّة
والكهنوتيّة، فكان يعترف، كلّ أسبوع مرّة. وكان فطنا حكيما، لا أثر
عنده للوسواس لتعمّقه بعلم الروح الحقيقيّ، فما نبذ مشورة صالحة في
حياته كلّها.
وكان
له في دير كفيفان مرشدان: الأب نعمةالله الكفري، الذي أصبح رئيسا
عاما فيما بعد، والقدّيس نعمةالله الحرديني؛ وكان مرشده، في
بدء حياته النسكيّة، الأب أليشاع الحرديني. وبعد وفاة أليشاع، كان
الأب ليباوس الراماتي، الذي نقل فيما بعد إلى محبسة دير القطّارة،
وأخيرا الأب مكاريوس المشمشاني، الذي توفّي الأب شربل في حياته.
3-
خدمة المؤمنين
أخذ
الإذن لاستماع الاعترافات من البطرك بولس مسعد في 20 شباط سنة 1863.
وكان يسمع إعترافات المؤمنين عندما يأمره الرئيس بذلك، إذ لم يكن
مكلّفا بخدمة النفوس. ولكنّ الذين كانوا يأتون إليه قصد الإعتراف
والاسترشاد، كانوا يشيدون بغيرته على خيرهم، وبتأثير إرشاداته
بنفوسهم، إذ تنفذ إلى أعماق القلب، وتترك تأثيرا روحانيّا في النفس،
كما شهدوا وأشادوا بفطنته ونصائحه الحكيمة، لبناء الآخرين، وتقدُّمهم
في الحياة الروحيّة، فكان يرى بالروح أكثر من المعلِّمين، ولم يكن
يبخل بنصائحه لمعاشريه عند اللزوم.
كان
يحبّ كثيرا النفوس، ويتألّم كثيرا لابتعادها عن الله؛ لذا كان يصلّي
لأجل الخطأة، ويعظهم بإرشادات خلاصيّة عندما يسمع إعترافهم، ويوبّخ
توبيخا قاسيا عن الخطيئة، ويفرض تكفيرا عنها قصاصا صارما. وكان يسمع
إعترافات النساء، عندما يأمره الرئيس.
ب-
روايات وأحداث
1-
يسكب في قلبه الأمل
وكان تأثير مثله على الغير بليغ جدّا، فكان يجتهد أن يزرع الرجاء في
قلوب الآخرين، من الرهبان والعلمانيّين؛ وإذا مرض راهب في الدير مرضا
ثقيلا، كان يطلب من الرئيس، بإلحاح زائد، أن يستدعي له الأب شربل
ليُسلّحه بالأسرار الإلهيّة، من إعتراف وزاد أخير وما إليه، ليشجّعه،
ويسكب في قلبه الأمل والرجاء، ليستطيع أن يغادر هذه الدنيا على رجاء
القيامة؛ فكان يأتي ويمكث في جانب المريض الليل كلّه، جالسا على
كرسي، ولا يفارقه إلاّ ليصلّي فرضه في الكنيسة، إذا لم يكن ثمّة من
داع إلى مفارقته. وعندما كان يأمره الرئيس بالذهاب للصلاة على مريض
كان يذهب بطيبة خاطر وبفرح.
2- وحده من الرهبان
جاء في رزنامة عنّايا:
توفّي الأخ سركيس إهمج، في بيت أهله في إهمج،
بسبب قصر، مسلّحا بالأسرار كافة بحضور الخوري يوسف
عيسى والأب شربل بقاعكفرا في 14 أذار 1874.
3- مرشدا حكيما
شهد الأب يوسف إهمج:
كان في حديثه الروحيّ فطنا، ومرشدا حكيما. وأذكر أنّه قال لي مرّة:
الكلمة التي تُسبِّب خطيّة لا تقولها، فإذا كانت خيرا فقلها،
وإلاّ فلا.
4- تخشّعت بمواعظه
لي في الإعتراف
شهد الأب مبارك تابت:
عندما خرج الأب شربل من الكنيسة ليدخل إلى غرفته، تلقّيته أنا
وترجّيته أن يسمع إعترافي. فدخل الكنيسة وقال: إتبعني. وبعد
الإعتراف أجلت النظر إلى سقف الكنيسة وحيطانها، فرأيت شقوقا في
السقف، وفي الحيطان، ممّا يؤذن بسقوط السقف الحجريّ، فقلت له: يا
أبانا أنتم تقضون الليل كلّه في هذه الكنيسة، وهذه المحبسة معرّضة
للصواعق. ويكفي الرعد ليهزّها، ويسقطها عليكم. لماذا لا ترمّموها؟
قال: ما لنا ولها. قلت له: أنا سأقول لحضرة الأب الرئيس،
وأنبّهه إليها حتّى يرمّمها. قال: لا! لا تقل شيئا، وين يا إبني
بدّي لاقي موضع أقدس من ها المذبح أموت عليه؟ تخشّعت بهذا
الجواب، تخشّعي بمواعظه لي في الإعتراف. ثمّ خرج ودخل إلى الغرفة.
ونحن انصرفنا.
5- صفات المعرّف
مجتمعة فيه
شهد الخوري رميا: هو
فهيم وقدير جدّا، يفرِّح قلب من يعترف عنده بنصائحه وإرشاداته. وأنا
قد اعترفت عنده مرارا عديدة، وإنّي أشتهي الآن من صميم الفؤاد أن
أحظى بكاهن مثله لأعترف عنده كلّ أيّام حياتي، لأنّ ذاكرة الأب شربل
نادرة الذكاء، بحيث يخال للمعترف عنده أنّ له معرفة بالغيب لتذكّره
حالة المعترف مهما طال أمر رجوعه إليه في المرّة الثانية. وبالرغم من
أنّه كان عالما ودقيقا في إرشاد النفوس، يعطي الدواء بحسب الداء بدون
رحمة، فهو جاذب لقلب المعترف لأن يعترف عنده دائما بدون أن ينفر منه
لشدّة توبيخه على فعل الخطيئة وفرضه القانون الصارم؛ وكانت صفات
المعرّف مجتمعة فيه كلّها: كان حكيما جدّا في نصائحه وأسئلته
وتوبيخاته؛ وقاضيا عارفا لاهوته الأدبيّ، معرفة ممتازة؛ وطبيبا
روحيّا ماهرا يصف الدواء الشافي؛ وأبا حنونا يفتح للخاطئ
ذراعيه، فيجعله مشغفا بالتوبة والإعتراف.
6- مؤثّرة جدّا
شهد اسكندر بك الخوري:
كان يسمع إعترافات الرجال، الذين يطلبون ذلك منه، بصورة محدودة،
ويرسلهم عادة إلى رفيقه في المحبسة. وكانت إرشاداته، في منبر التوبة،
مؤثّرة جدّا على سامعيها، ومفيدة جدّا لخلاص النفوس، كما أخبرني بذلك
والدي، الذي اعترف عنده حوالي سبع أو ثماني مرّات، وهو بعمر الخمسة
والعشرين.
ثاني عشر: خادم الجميع
(متّى
20/28)
أ- تعريف
يأمر القانون: "لتكن حركات الراهب وأعماله الخارجيّة التي تخصّه
جميعها ذات دناءة وحقارة بالنسبة إلى إخوته". لذا عندما نفّذ شربل
هذه الفريضة، لم يفهمه محيطه العلمانيّ وخاصّة الرهبانيّ، فكان الناس
يزدرون به لحقارة ملبسه؛ والبعض من الرهبان كان يضحكون من سذاجته، لا
بل البعض منهم كان يهزأ به وبشدّة تقشّفه، ومنهم ذلك الذي وضع له ماء
في السراج؛ وكانوا يكلّموه بحدّة وينتهروه، لدرجة أنّ شربل، المعروف
عنه بصمته وصبره الغريبين العجيبين، قال للحبيس "القدّيس" مكاريوس:
إذا كنت أنا
حمارا، أطل بالك عليّ، احتملني لأجل المسيح.
فكان مثال المسيحيّ بتواضعه، عاملا كلّ جهده لتغطية فضيلته، واختفاء
أعماله الصالحة. وكان يتكدّر ويضطرب من مديح الناس له. وكان مرآة
التواضع، يهرب من الناس ومن الرهبان ذاتهم، ويحبّ الاختفاء والانزواء
والصمت. فكان بشرا بهيئته، لكنّه كان عائشا في السماء.
فإذا كان أحد ينبّهه
إلى أمر ما، ولو كان غير مذنب، يركع حالا، مكتوف اليدين، ويطلب
الصفح، ورأسه إلى الأرض، ولا ينهض حتّى يُؤمَر، عاملا بقانون
المبتدئ: "يلزمه أن يجثو سريعا صامتا مكتوف غير معتذر عن ذاته عندما
يُوَبَّخ، ولا يقوم حتّى يأمره الرئيس فيأخذ بركته، ويذهب إلى عمله".
امتاز بوداعة، بحيث كان
أودع من حمل، وألطف من الروح تجري في الأجسام، وكان هو التواضع
بالذات، لا يتكلّم عن ذاته أبدا، وبالنتيجة كان كأنّه ميّت عن
العالم؛ فقد تذلّل حتّى تلاشى، لو أمكنه تلاشيا تامّا، ظهر بلا
إرادة، وبنوع ما بلا عقل، وبلا حواس، حقير في لبسه، في أكله، في
نومه، في ركوعه، في فرشته، في غرفته، في شغله الشاقّ، وكان ناسيا
ذاته.
ويرضى بالاحتقار بل
يفرح إذا أحدا أهانه؛ ولم يكن يستحي بلبسه الزريّ، ولا بطعامه الفقير
ولا بغرفته الحقيرة، ولا يأتي شيئا ممّا تتحاشاه كبرياء الإنسان. وما
طلب وظيفة ممّا فيه ارتفاع على الغير. وكان دائما يطلب لنفسه النصيب
الأقلّ، والموضع الأدنى. ويُسمع عن لسانه: أنا لا أستحق أن أكون
بين إخوتي الرهبان، ولا أنال كرامتهم، لأنّي دون الجميع؛ ومن
كلامه يستدلّ على تواضع عميق. فكان يحسب نفسه أحقر الرهبان، قلبا
وقالبا، معتقدا كلّ حقارة وصغارة بنفسه ناسيا ذاته بالكلّية، ويعتبر
نفسه خادما لكلّ من يشتغل معه في الحقل. وكان يختار أحقر الخدمات
والأعمال، مثل الكناسة وغسل الصحون، ولم تكن هذه الخدم من خصائص
الرهبان الكهنة، فورا وعن طيبة خاطر، وعندما كان جمهور الرهبان
يتقدّم بتقبيل يديه تبرّكا منه، كان يبذل جهده كي لا يدعهم
يقبّلونها.
ب- روايات وأحداث
1-
"غْرِيبْ"
يوضح الأب مارون كرم:
نبّهت المقاطعة أكثر فأكثر إلى التفرقة، وأصبح راهب المنطقة موقوفا
على منطقته، لا ينقل إلاّ برضى رئيس المعاملة. فقلّ الإختلاط وزاد
الجفاء، وأصبح الراهب الساكن خارج المنطقة، أو الدير المهيمنة عليه
ضيعته، يعتبر نفسه غريبا. وكان بعض الرهبان يقول للأجنبي عن منطقته:
شو جايبك لهون؟ ما بقى في خبز ببلادك؟
وكان الأب شربل في
الدير غريبا عن المقاطعة. وحده من بلاد الجبّة، وكان طائعا طاعة
غريبة لكلّ من في الدير. فكان الجمهور، لا الرهبان فقط، بل
العلمانيّون أيضا يأمرونه على سبيل الإستهزاء، أو المزح أمورا عديدة،
وهو ما كان يخالف أمرهم قطّ. وما كان أحد يدافع عنه ويحترمه إلاّ
الرئيس، الذي كان يغضب على من يعذِّب الأب شربل أو يستهزئ به. وأمّا
الأب شربل
فكان
يشتغل
ويصلّي
ويطيع.
ولا
يصدر
منه
ما
يدلّ
على
أنّه استاء من
المستهزئين. وما كان تكلّم إلاّ
في
النادر
جوابا
على من يخاطبه.
وفي هذا الإطار تصرخ تريز: أي احتقار على الضفّة الغريبة، لم يصبك
لأجلي؟ أريد أن أحتجب على الأرض، وأن أكون الأخيرة في كلّ شيء لأجلك
يا يسوع.
2- الله يقدرني عا
الطاعة
شهد حنّا الحسيني: لمّا
كان عمّي القس عبدالأحد الحسيني رئيسا على دير قرطبا كنت معه شمّاسا،
أقوم بخدمته. وأتينا يوما ما إلى دير عنّايا، وكان الرهبان والفعلة
يحرقون أتونا وكان الأب شربل يشتغل معهم بتقديم الحطب. فالتفت الأب
روكس حنّا المشمشاني، إلى الأب شربل- ولم يكن بعد صعد إلى المحبسة-
وقال له مازحا على مسمع منّي ومن الحاضرين: لقد اتفق رأي الجمهور على
أن نشلحك لقمة للأتون، حيث قلّ الغوف، لأنّ جسم إبن آدم يضوي أكثر من
الحطب، ويقولون إنّ لحم البشر يضرم الأتون جيّدا، فيستوي الحجر جيّدا
وسريعا. فما سمع الأب شربل هذا الكلام، حتّى ركع وقال: الله
يقدرني عالطاعة. ومعنى ذلك: أنا مستعدّ للتضحية بالحياة في سبيل
واجب الطاعة. فتأثّر المدبِّر الأب الياس المشمشاني وانتهر الأب روكس
قائلا: عيب عليك أن تتلفّظ بهذا! لماذا تهزل مع الأب شربل، ألا تعلم
أنّ فيه روح الله، الله يرزقنا بركة دعاه. وطلب الأب روكس المغفرة من
الأب شربل- بعد أن سمع توبيخ الأب الياس - فقال له: الله يغفر
للجميع.
3- أنا أوّل الخطأة
لم يكن يشعر أحد بوجوده
لشدّة محبّته للاختفاء. وعندما كان الزوّار يطلبون بركته وصلاته، كان
يفعل ذلك دون أن ينظر إليهم، ويقول: أطلبوا من الربّ أن يعطيكم
حسب إيمانكم. وإذا قيل له: أنت قدّيس. كان يتكدّر ويقول: أنا
أوّل الخطأة. وكان في المحبسة يتعاطى كلّ الأشغال الزريّة، ويعمل
ما يوطّي مقامه. فمع أنّه كان رئيس المحبسة، كان مقيّدا نفسه بطاعة
رفيقه الأب مكاريوس، الأصغر منه سنّا. وكان هو بذاته يغسل الصحون،
ويكنّس المحبسة، وإذا حدث أن الرئيس وبّخ أحد الرهبان بحضوره، أو
نبّهه إلى أمر ما، وإن يكن غير مذنب، يبادر حالا فيركع على عادة
الرهبان، ويطلب الصفح كأنّه هو المذنب. ولا ينهض حتّى يأمره الرئيس.
4- فضلة البسين
شهد الأب برنردس إهمج:
أروي لكم حادثا رأيته بعيني، تأثّرت أعظم تأثّر، ولا أزال أذكره إلى
اليوم بتأثّر واحترام وإعجاب. كان الأب شربل يأكل مع رفيقه وكنت
حاضرا، وكان غذاؤهم، مدفونة بسليق. فلمّا انتهى الأب مكاريوس من
الأكل مسح المقلاة بلقمة خبز كبيرة، ورماها على الأرض للبسّي. وكان
البسين لم يكن جائعا، فلحس فضلات الطبخ عنها وتركها. وكان الأب شربل
يغسل المقلاة والصحون، فرجع فرأى على الأرض تلك اللقمة محلّ الدوس
فالتقطها ووضعها على رأسه، بعد أن نفض عنها الغبار، ورسم ذاته بإشارة
الصليب وأكلها. وكأنّه ما شعر بوجودي لأنّه ما كان يرفع بصره أبدا.
وتأكّدت أنّه ما كان ينظر إلى أحد في انخفاض بصره. لأنّه غالبا كان
يسألني:
من أين
أنت؟
ومع
أنّي
كنت
أجيبه،
كان يعود ثاني يوم
فيسألني. لأنّه ما كان يرفع بصره إليّ.
5- موطنه السماء!
(فل
3/20)
شهد الأب يوسف إهمج:
كان يحبّ أن يُحْتَقَر من الجميع. وكان نظره منخفضا في جميع أطوار
حياته، حتّى رفاقه وحتّى عن مشاهد العالم الطبيعيّة. ويوما كنتُ مع
الأب نعمةالله مشمش وبيدنا منظارا، ننظر فيه بيروت. فمرّ بنا حاملا
حبلا لنقل الحطب على ظهره. فقلتُ له: خذ هذه النظّارة ترى فيها
بيروت، كأنّها أمامك. فأجاب: لا، لا، ما لي ولهذه الأمور؟
وذهب إلى شغله. ويتابع الأب روكس مشمش: فعدتُ وقلتُ له: إتبعني إلى
سطح المحبسة، فأطاع. قدمتُ له النظّارة لكي يرى بها بيروت. فقال:
تفرّج وحدك! ورجع.
6- لا يضعوا تجارب
شهد حنا الحسيني: سمعت
الأب الياس المشمشاني ينبّه على جمهور الدير أن لا يضعوا تجارب -
سواء كان بالكلام أو بغيره- للأب شربل قائلا: هذا رجل الله، وفيه روح
الله، فاحترموه. وكان الأب الياس يحبّه ويعتبره كثيرا لفضيلته
النادرة. وقال أمامي مرّة أخرى: كثيرا ما حاولت أن أحوِّل الأب شربل
عن مزاولة الشغل الشاقّ في الحقل، إلى شغل خفيف في الدير، راحة
لجسمه. وكان ينهي الشغل الذي أكلِّفه فيه في الدير ويتوجَّه حالا إلى
الحقل.
7- إهانات
- هنيئا لكم إذا
سبّوكم واضطهدوكم
(متّى 5/11)
بينما كان يتلو صلاة
الفرض، دعاه الأب اغناطيوس المشمشاني وقال له بحدّة: أترك الصلاة
وتعال إلى هنا، فلبّى صاغرا. واحتمل إهانات الآخرين وسخرياتهم،
أحيانا، بكلّ تواضع وصبر وفرح. فمن يتّضع يرتفع والمتواضع القلب يجد
راحة لنفسه ومن عُيِّر فإن أجره عظيم في السماء فلذلك يسرّ شربل
ويفرح.
- إفرحوا وابتهجوا
إنّ أجركم في السماوات عظيم
(متّى
5/11)
شهد الأخ فرنسيس قرطبا: بينما كنّا نقطف عنب كرم المحبسة، أمرني
الرئيس أن أذهب إلى بئر المحبسة وأملّي الجرّة. فوصلت إلى البئر،
وربطت الحبل بإذن الجرّة بعجلة، ورميتها في البئر دون تأنٍّ. فالأب
شربل كان ورائي يلاحظني وما شعرت به، فقال لي:
يا أخي مار أنطونيوس
اختار الإفراز، وأنت ترمي الجرّة بعجلة تنكسر، وتروح خسارة ضدّ الفقر.
فأجبته بحدّة: رُح على كنيستك! قاعد في المحبسة وعامل حالك قدّيس!
فأجاب بكلّ لطف ووداعة ورأسه منحنٍ:
إغفر لي يا أخي منشان
المسيح.
وذهب كلّ منّا. هو إلى الكنيسة وأنا إلى الكرم.
- هكذا اضطهدوا
الأنبياء من قبلكم
(متّى
5/11)
شهد الأخ بطرس مشمش:
وإذ كنت أحرث يوما في كرم المحبسة مع بعض أجراء الدير، كان الأب شربل
ينهض العرايش من ممرّ الفدان، فاتفق أن مرّ على عريشة فكسرها، فقال
الأب مكاريوس للأب شربل: ولو! هيك بتخلّي الفدّان يكسرا، شو عم تعمل؟
فإنّها كسرت بسبب إهمالك، فللحال خرّ الأب شربل على ركبتيه، وضمّ
ذراعيه إلى صدره، وقال: اغفرلي منشان المسيح! مصلّيا مستغفرا
على فعلته.
ثالث عشر: لا يُسمع
صوته (متّى
12/19)
أ- تعريف
يفرض القانون: "يجب على
الراهب أن يلازم السكون". لذا كان قليل الكلام جدّا جدّا. لا نسمع
صوته إلاّ في قراءة الإنجيل وكلام التقديس وصلاة الخورس؛ لا يخاطب
أحدا لا رجالا ولا نساء ولا رهبانا، وكان القانون متجسِّما فيه. لا
تسمع صوته في الشغل، ولا تراه مثلا متلهّيا مع زائر أو مكاري. ولا
يلهو بشيء من أخبار الناس، ولا يسأل عن أحد، وإذا سُئِل أجاب بلطف
وهدوء واختصار. والسهرة أي الوقت القليل قبل النوم، كان يصرفها
بالسكوت، لأنّه كان قليل الكلام. وما كان يتحدّث، إلاّ إذا سُئِل
مسألة لاهوتيّة أو روحيّة، فعندها بفيض بالجواب، ويتحدّث بطيبة خاطر.
وفيما خلا ذلك، كانت معيشته أشبه براهب من رهبان السكوت. فلسانه
لمخاطبة الله والصمت والإعتزال والهذيذ بالله، فهو راهب شغل وصلاة
وسكوت، وتأمّل دائم في السماويّات، بحيث يَظنّ كلّ من رآه أنّه في
عالم من غير هذا العالم. وكان في الكنيسة، وفي المحبسة مثل الملاك لا
أحد يسمع صوته.
ب- روايات وأحداث
1- عند الضرورة
شهد الأب الياس إهمج:
إنّ الصمت إلزاميّ في قانوننا، بعد صلاة الستّار، وعلى المائدة، وفي
الكنيسة. فمن كان من الرهبان يخاطب الأب شربل في هذه الأوقات
والأمكنة، ما كان يجاوب إلاّ عند الضرورة. وكان الرهبان يتمثّلون به،
ويقدّمونه للمبتدئين مثلا وقدوة في حياته وبعد مماته. ولم يكن بين
أفضل الرهبان من يضارعه في المحافظة على القانون.
2- تهتُ عن الطريق
شهد الأب أفرام نكد:
ذهب مرّة إلى نعي في مشمش. ولمّا عاد تأخّر حتّى المساء. فسألته
لماذا تأخّرت؟ قال: تهتُ عن الطريق، وكان الضباب كثيفا فما شعرت
إلاّ وأنا في حجولا، فرجعت أهتدي قليلا قليلا حتّى وصلت إلى الدير.
فقلت له: ألم تجد بشرا على الطريق؟! فقال: وجدت كثيرين. فقلت:
لماذا لم تسألهم عن الطريق؟ فما أجاب جوابا. وبالحقيقة ما كان يسأل
أحدا، ولا يخاطب أحدا ولو أضلّ الطريق. وعجيب أمره، فالنسّاك
والحبساء ما عاشوا عيشته. ما رأيت مثله ولا أحد أخبرني، لا قبله ولا
بعده، لا رهبانا ولا عوام ولا كهنة ولا مطارين. عجيب أنت يا الله في
قدّيسيك، فأمر ذلك الأب عجيب غريب.
3- هل تمارس واجباتك
الروحيّة
ومرّة أتى شقيقه من
بقاعكفرا ليزوره فقرع بوّابة المحبسة، فذهب الأب شربل ليرى من
الطارق. أجاب من الخارج: أخو الحبيس شربل، قال له: إصبر حتّى
أشاور الحبيس إذا كان يريد أن يفتح لك. ورجع إلى رفيقه وقال له:
إنّ شقيقي على الباب أتريد أن أفتح له؟ أجابه: من كلّ بدّ
افتح له. وكان كلّ حديثه مع شقيقه مقتصرا على هذه العبارة وهي:
كيف حالك؟ هل أنت بخير؟ وهل تمارس جيّدا واجباتك الروحيّة مع عيلتك؟
ثمّ يصرفه في الحال.
4- كالقدّيس نستير
شهد الأب أفرام نكد:
كان كالقدّيس نستير الذي عندما دخل الدير وجد على البوّابة حمارا،
فقال مخاطبا نفسه أمام الحمار: نستير نستير، أنت وهذا الحمار سيّان،
إذا كان هو يتكلّم، فتكلّم أنت في الدير. والأب شربل كما اختبرت
بذاتي كان ذكيّا عارفا في اللاهوت الأدبي مدمنا على الدرس ومع ذلك
كان
كالقدّيس
نستير حمارا في صمته، فيلسوفا في صلاته وسيرته، حبيسا ناسكا وهو في الدير.
5- إصغاء للحبيب
(لو
10/39)
مع أنّ الأب شربل لم
يكن من الغُفَّل، ولا من أصحاب السويداء العبوسين، الذين يكرهون
مخالطة الناس. عاهد لسانه بأن لا ينطق بكلمة، إلاّ لتمجيد الله
بالصلاة الجهوريّة، أو تلبية القريب في أمر يعود لمنفعته الروحيّة.
ندر أن افتتح الكلام من ذاته، بل كان كلامه تقريبا دائما جوابا. لهذا
امتاز بين الحبساء، لا بالمحافظة فقط على قانون المحبسة، بل بصمته
الدائم وشغله المتواصل، وكان أشبه برهبان السكوت منه براهب لبناني.
وكلّ أحد من الرهبان والحبساء كان يستغرب ذلك الصمت العميق المتواصل
في الأب شربل.
6- لا يجاوبني
شهد موسى موسى: ولمّا
كنت أساعده في اقتلاع القندول وقرامي الحطب، ما كان يفتح فمه، ولا
يخاطبني بكلمة. وكنت لمّا أخاطبه في الحقل، إذا ضجرت من السكوت، لا
يجاوبني.
7- ولا يتسلّى بشيء
شهد بطرس موسى: أنا
عاشرت رهبانا وحبساء أفاضل، فلم أرَ شبيها للأب شربل. فبقيّة الحبساء
كانوا، ولا يزال الأحياء منهم يحادثوننا عندما نزورهم، ويتسلّون
بأخبار، وينظرون إلى وجوهنا. وإذا زارهم أهلهم يحسنون استقبالهم.
أمّا الأب شربل، فما كان يحادث أحدا، ولا يتسلّى بشيء، ولا ينظر إلى
وجه مخلوق.
8- يحسبه الإنسان
أخرس
إنّ الأب شربل ملاك
بجسم إنسان. وفيلسوف بلا تفلسف. وقدوة وقداسة وكمال. له لسان ويحسبه
الإنسان أخرس؛ لكأنّه طفل صغير بيد أمّه، ولا يختلف عنه إلاّ بكونه
لا يسمع له صوت.
9- يتكلّم في النادر
شهد الأب علوان: في
المدّة التي قضيتها في مار مارون، ما استطعت أن أرى في الأب شربل
الحبيس إلاّ الرجل الصامت المنفرد عن الرهبان، لا عن الناس فقط. فما
كان يتكلّم أمامي لأروي لكم أخباره، ولا كان يتعاطى بشيء لأصف لكم
معاملاته، فكان يشتغل مع المبتدئين أربع وخمس ساعات وهم يتكلّمون
حوله وهو صامت.
رابع عشر: أفرح في
آلامي (قول
1/24 )
أ- تعريف
هذا ما يفرضه القانون:
"يجب على الراهب أن يشكر الله في حال المرض أكثر من الصحّة موقنا
أنّه افتقاد الربّ لنفعه". وشربل كان مصابا بوجع شديد دائم في
أحشائه، الذي كان يشتدّ كثيرا في أيّام الثلوج، وهو لا يشتكي ولا طلب
علاجا. ومع أنّ المغص المعويّ ما كان يفارقه، خصوصا في الشتاء، ما
أطلع أحدا على حالته، ولا طلب طبيبا، وما أخذ مدفِّئات في الشتاء، مع
أنّ البرد، في محبسة مار مارون، قارس. وما قال مرّة أنا مريض. احتمل
مضض آلامه بصبر المسيح وتواضعه عاملا جهده أن لا يدع أحدا يشعر بشدّة
ألمه الشاقّ، فمهما يرد عليه من الله، أو من البشر يقبله بكلّ صبر
وسكينة. وما كان يَسْتَعمِل دواء، وعندما كان يشتدّ عليه الوجع، ما
كان يأخذ مسكِّنا، بل كان يقول دائما: لتكن مشيئة الله. وكان
يحتفظ مدّة الشتاء، بلبس الصيف، رغم البرد القارس والثلوج، دون أن
يصطلي كسائر الحبساء إخوته. إنّما يقضي وقته في الكنيسة يصلّي، وهو
أغلب الأحيان جاثٍ على الأرض. وحياته كلّها كانت مجبولة بالأماتة،
فألِفَها جسمه الطاهر، حتّى أصبح قهر الذات طبيعيّا فيه، بل ملاذا
يرتاح إليه بعد تمرّسه به سنوات طويلة؛
فكان يلبس المسح
الشعريّ، بصورة دائمة،
وعلى اللحم،
عوض القميص
- موضع الفلانلا عند أهل العصر. وتساءل بطرس موسى كيف يستطيع أن يطيق
هذا؟! لاسيما في فصل الصيف! وكان متمنطقا على حقويه بزنّار حديد
مشوّك على اللحم، وكان يجلد نفسه.
ب- روايات وأحداث
1- أخذ بمجامع فؤادي
شهد الأب الحصروني:
كنّا نفلح كرم المحبسة، أنا والأخ الياس المهريني، رئيس الحقل،
والأجير سليمان المنـزلي. وكان معنا أيضا الأب شربل، والأب مكاريوس
رفيق الأب شربل في المحبسة. ولاحظت، أثناء الفلاحة الأب شربل ينكمش
على نفسه، ويحني ظهره ويداه على خاصرتيه، ويئن أنينا يدلّ على شدّة
الوجع، فسألت الأب مكاريوس: ما بال الحبيس؟ إنّي أراه مُتألِّما!
فأجابني: حاكمو مغص كلويّ شديد. فقلت له: فليذهب إلى فرشته ونحن نطلب
شغّيلا بدلا عنه. فأجابني الأب مكاريوس: هو يريد أن يقهر نفسه بمثل
هذه الآلام والأتعاب. ولمّا قرب وقت الغداء ذهب الأب مكاريوس ليجلب
لنا طعاما. وبقي الأب شربل وحده يدير الجفاني وراء ثلاثة أزواج بقر
رغم المغص الذي كان يمزّق مصارينه تمزيقا. فشاهد مرّة أن الفلاّح
الذي قدّامي كاد يدوس العريشة فركض وردّ العريشة قبل أن يصلها
فدّاني، وقد ازداد أنينه ممّا يدل على ازدياد وجعه.
قلت
له:
شوي
شوي
يا
معلّمي،
على
مهلك، أنا بوقّف
الفدّان! أجابني بصوت نحيف متقطِّع أخذ بمجامع
فؤادي
قائلا:
يا
معلّمي
بيصير تعطيل على ذمّتي ضدّ
الفقر.
وتابع شغله طيلة النهار مع ألمه.
2- فاغرورقت عيناي
بالدموع
شهد الأب الحصروني: في
شهر أيّار سنة 1897 أخذنا في فلاحة كرم المحبسة. ولمّا باشرنا في
الفطور، بقي الأب شربل يشتغل في تعمير حيطان الكرم، فرجوت من رفيقه
الأب مكاريوس ليدعوه لمشاركتنا في الأكل فقال لي: إنّه يأكل بعد
الظهر. ولمّا أخذنا في الغداء بعد الظهر توجّه لعمار الحيطان كعادته.
فالتمست من الأب مكاريوس أن يأمره ليأكل إشفاقا على ضعفه. فأجابني:
بعدئذ يأكل وحده. وعند العصر أطلقنا البقر ليرعوا في الحرش. وبعد
هنيهة عدت إلى المحبسة لأشرب، فرأيت الأب الحبيس يأكل ضلوع البقول
التي تركناها على الأرض - فرفحين جوي- وتوازي أقلام الرصاص ثخانة،
فجمعها عن الأرض وفرمها وأكلها. فاغرورقت عيناي بالدموع من هذا
المنظر المؤثّر، وانحنيت باللائمة على الأب مكاريوس قائلا له: حرام
عليك تترك الحبيس يأكل ضلوع الفرفحين، بعد تعبه الشاقّ ومرضه الأليم.
فأجابني: هو يأكل مثل هذا المأكل مسرورا. فدعه وشأنه. فرجعت إلى نفسي
قائلا: آه! أين نحن من فضائل هذا الأب، فحقّا إنّها تجسّمت فيه فضائل
الآباء النسّاك في الإسقيط، وقد زاد على ما نقرأه في كتاب بستان
الرهبان وكتاب الكمال المسيحيّ.
3- فأخذتني هزّة
الإشفاق
شهد الأب الحصروني: وقد
نظرته مرّة ينقل الحطب على ظهره من أسفل الحرش إلى سلسال الكرم. وكان
يحمل حملة ثقيلة جدّا ويصعد بها إلى المحبسة، فأخذتني هزّة الإشفاق
على شيخ تجاوز الخمسة والستّين عاما، يحمل أحمالا كهذه. فأصببت
الملامة على رفيقه الأب مكاريوس الذي ما لبث أن تخلّص منها قائلا:
هكذا يريد أن يقهر نفسه.
4- أمحبسة وسمن ورز
ومرّة قال له رفيقه
الأب مكاريوس: أنت تشعر بوجع في الكلى، فدعني أعدّ لك شوربة رز بسمن.
فأجاب بصوت منخفض: أمحبسة وسمن ورزّ؟! لا.
5- مع آلام يسوع
شهد داود داود: لمّا
كنت أسأله لماذا ربط رأسه بجرزونة، ويده على المخلع بخيط شعر، كان
يجاوبني أحيانا: رأسي بيوجعني: مع آلام يسوع!
6- وما أحد يدري
بأوجاعه
طبخ الحبساء بعض البقول
البرّيّة، وكأنّه كان بينها بعض الحشائش السامّة، فأكل الأب شربل،
وتضرّر، وما فاه بكلمة تذمّر. وما كان أحد يدري بأوجاعه وأمراضه.
7- يدوس القندول
برجليه حافيا
شهد موسى موسى: لمّا
كان في المحبسة، كنت أراه بثيابه الممزّقة، حاملا حملة القندول
(شُجيرة مليئة بالأشواك القاسية)
ولمّا يحزمها بالحبل، يدوس القندول برجليه حافيا، فتسيل منها الدماء
من الشوك.
8- كلسات صوف
أمره الرئيس مرّة ليلبس
كلسات صوف خشن، حياكة بلادنا، ليرفع الرطوبة عن رجليه. لأنّه كان،
مريض في معدته، فلبسها مرّة لكمال أمر الطاعة، ولم يعد يلبسها، طول
حياته.
9- يصطلي قليلا
عندما كان يشتدّ البرد
في فصل الشتاء. كان الأب مكاريوس يدعوه إلى المطبخ ليتدفّأ، وكان
الأب شربل يطيع فيصطلي قليلا ويذهب. وعند الرقاد يذهب ويرقد في
صومعته، مع أنّ رفيقه كان يرقد قرب النار لاشتداد البرد القارس في
المحبسة.
10- لا يجوز لي أن
أتلذّذ بالحلويات!
طلب إليه الأب مكاريوس
رفيقه أن يغلي له بعض الحشائش المرّة، تسكينا لأوجاعه، فرضي معه
على شرط أن لا يضع في الركوة شيئا من السكّر. فقال له الأب
مكاريوس: إنّ الحشيشة مرّة لا يمكنك قبولها! أجابه الأب شربل: لا
يجوز لي أن أتلذّذ بالحلويات! وسيّدي يسوع، شرب الخلّ، على الصليب،
في أشدّ عطشه وأوجاعه!
خامس عشر: سلام دائم
(يو
14/27)
أ- تعريف
كان في جميع أوقاته
هادئا لطيفا، كأنّ كلّ شيء هنيء لديه، فشجاعته نادرة مصدرها السماء
لا الأرض؛ فما اعترض مرّة على أحد، أو ماحك أو تذمّر من شغل في الصيف
أو في الشتاء. وعندما كانت تسقط الصواعق على حربة المحبسة، ما كان
يتحرّك في الكنيسة، حيث كان يصلّي. واحتمل كلّ المصاعب واضعا أمام
عينيه غايته الفائقة الطبيعة. كان يتألّم من مغص، يظهر عليه أحيانا
أوقات الشغل، ولا يتململ، مردّدا: يا يسوع! يا عدرا!. فكان
رفيقه الأب مكاريوس يقول له: يا معلّمي روح ارتاح وصلّي أمام
القربان. فكان يمتثل له. كان من عادته متى مَثُل أو دُعِي، يُحَيِّي
بكلمة: المجد لله. ويقف مكتوف اليدين إلى أن يؤمر بالجلوس.
وإذا لم يُؤمَر بالجلوس، يبقى واقفا. كان هادئا،
رصينا،
دمث
الأخلاق،
وديعا
كالحمامة،
بل
كان
عين
الوداعة،
واللطف والرقّة. ومن ينظر إليه يحبّه حالا؛ وإذا كان، يُسبِّب له أحد
إزعاجا ما، كان يحتمل ذلك بكلّ صبر وبشاشة أيضا.
ب- روايات وأحداث
1- قلبه وعقله في
السماء (متّى
6/19-21)
لم يكن في حياته يسأل
عن كثرة النذورات أو قلّتها، ولا عن مدخول المحبسة من النذور. ولا
يتمنّى أن يكون الدير أغنى ممّا هو. ولا يفتخر بغنى الدير في أراضيه
أو غير ذلك. ولا يتحدّث بأهل أو بأقارب، ولا يسأل إذا افتقروا أو
اغتنوا، فما التفت إليهم. أو تعلّق بمال أو رزق أو أقارب. ولا يذكر
له عملا يستحقّ الشكر. وما كان يرجو من أحد مساعدة. ولا يبذل لرئيس
خدمة مخصوصة إكتسابا لرضاه والتفاته. ما تعاطى مع الناس قطّ،
ومعاطاته مع رؤسائه مختصرة: يأمرون فيطيع بدون أدنى تردّد. وما كان
يحزن، إذا نزلت مصيبة ما بالدير أو بإحد إخوانه، أو يفرح بترقّي أحد
الآباء من معارفه في الرهبانيّة، أو بالأشياء التي تفرحه، فلم يستسلم
لفرح أو لكآبة، بل دائما على حالة واحدة مهما انقلبت الأحوال، معتمدا
على الله. وكثيرا ما يردّد هذه العبارة: الله بدبّر الأمور، هكذا
إرادة الله. يصلّي لأجل خصب المواسم، لكنّه لم يكن يهتمّ لمِحْلٍ
أو إقبال قائلا: العناية الإلهيّة هي تدبِّر. وكان يقول
دائما: لتكن مشيئة الله، ماذا لنا في هذه الدنيا؟! نحن فيها
مسافرون إلى الأبديّة. وبكلمة قد كان قلبه وعقله في السماء.
2- صلّوا لأجله
كانت ثقته عظيمة بالله،
كان يأتيه أهل المريض ضارعين باكين طالبين منه الصلاة لشفاء مريضهم.
فيجيب بعض الأحيان: مريضكم طيّب، صلّوا لله. كأنّه استوحى
إرادة الله وبلّغهم إيّاها. وأحيانا: اطلبوا، صلّوا لأجله.
ويشاركهم في الصلاة. ويأمرهم بوجوب الاعتماد على الله،
وأحيانا يعزّيهم وينصحهم بوجوب الاعتصام بالصبر والتسليم لإرادته
القدّوسة. وكلّ مرّة يُؤتى إليه بذكر حالة مريض أو متضايق أو
محتاج، كان يقول: الله يدبِّر فلنتَّكِل عليه؛ وإذا أحد طلب
منه شيئا، يقنعه بالإلتجاء إلى الله والتماسه منه.
3- تناثر الجمر
كان كلّ حبيس يقدّس
وحده، وكان الأب شربل يخدم القدّاس لرفيقيه الأبوين مكاريوس
المشمشاني، والأب سمعان الإهمجي على التوالي، على أن يخدم له واحد
منهما كلّ يوم، وذلك ليوفّر عليهما البرد القارس في الشتاء. وحدث
مرّة، بعد أن خدم لكلّ منهما قدّاسه، وكان البرد قارسا جدّا، بسبب
تراكم الثلوج. ذهب كلاهما يصطليان قرب النار، بينما كان هو يستعدّ
للقدّاس، وبسبب الحرارة استولى عليهما النوم، وإذا بكانون النار
يلتطم بالحائط فجأة، وينتثر الجمر والرماد عليهما، فاستيقظا مذعورين،
وذهبا إلى الكنيسة، فوجدا الأب شربل متّشحا بملابس التقديس، وواقفا
منتصبا أمام المذبح، منتظرا من يخدم له القدّاس. وعند وصولهما لم
يُظهِر أدنى تكدّر، ولم يفه بكلمة. وقد قدّرا أنّ هذا كان تنبيها
لهما، ليذهبا لخدمة القدّاس.
4- يعمل كلّ ما يريح
الرهبان
كان يرغب في أن يعمل
كلّ ما يريح الرهبان، ويعود بالخير على مصلحة الدير، حبّا براحتهم
ونجاحه، معتقدا ومتصوّرا أنّه بذلك يمجّد الله ويخلّص نفسه. كان متى
شعر أنّ أحد الإخوة، المأمور بعمل ما خدميّ كالعجن والخبز بالفرن،
يستأذن رفيقه بالمحبسة، عند شعوره أنّ هذا الأخ متعب بذاك العمل، أو
مضطر لبعض الراحة، أو ملتزم لإتمام غير واجب، ويعمل عمل هذا الأخ
بكلّ سرور، حتّى لو بقي من الصبح حتّى نصف الليل، لا يترك إخوانه
إلاّ بعد إنجاز العمل، وهو صائم لا يذوق شيئا. وكلّ من كان يطلب منه
شيء يقول له: بأمرك يا خيّي.
سادس عشر: فرح شربل: لم يَنْزعه أحد
(يو
16/22)
أ- تعريف
كان دائما وديعا متهلّل
الوجه فرحا بالله بشوشا، مسرورا بحالته، لا يتضجّر ولا يشكو من شيء،
قانعا، صبورا ومسرورا؛ ولا ملل يعتريه ولا سأم، ولا حزن ولا اضطراب
ولا خوف؛ ومارس التقشّفات بسرعة وسهولة وفرح واستمرار إلى آخر أيّام
حياته وبثبات وبهجة نفس، فرحا في كلّ أعماله، ودائما مسرورا، بسرعة
وارتياح، لا يتردّد ولا يتذمّر وثابتا في ممارستها.
وكان يعتبر نفسه خادما
للجميع، فيقوم بفرح وسرور، ليس فقط بكلّ ما يأمره به الرؤساء بل بكلّ
ما يُطلَب منه، حتّى المبتدئون والخدم، يطيع الخادم، وأجير الدير،
طاعة صادرة عن فرح ونشاط، ويعتبر نفسه سعيدا، لكلّ خدمة يستطيع أن
يقدمّها لأقلّ الناس، ويخدم، بفرح، العمّال الذين، كانوا أحيانا،
يعملون في حقول الدير، أو في كرم المحبسة؛ ويقوم بأحقر الأعمال وأصغر
الخدم بسرور وابتهاج؛ وكلّ ما يُكلّف به، من خدمات، أو أعمال، يقوم
بها على أكمل وجه، وبفرح وسرور. ويفرح عندما يؤمر بعمل شاقّ، عوض عن
بقيّة الرهبان، لا بل كان يسرّ سرورا عظيما بمثل هذه الأعمال التي
تسهّل له اقتباس التواضع ويربح بها أجر الراهب؛ ولا تفارق البشاشة
وجهه.
وعندما كان الرئيس
يأمره بالذهاب للصلاة على المرضى، كان يذهب بطواعيّة وفرح ويصلّي
لهم، ليمنّ الله عليهم بالشفاء والصحّة. وكان يستقبل المعترفين بسرور
ولطف، ممّا كان يسهّل لهم الرجوع إلى الله.
وإذا حُدِّث عن أمر
معجب أو مضحك، فإن جوابه مختصرا بإبتسامة لطيفة، وعندما كان يتحدّث
في أمور لاهوتيّة: كان بشوشا في كلامه، عملا بالقانون: "لتكن مخاطبته
مع كلّ أحد ببشاشة".
وفرح شربل كان ينتقل
إلى محيطه، فيشهد الأخ بطرس مشمش: كنت أجد لذّة عظيمة في خدمتي
لقدّاسه؛ ويؤكّد الأخ الياس المهريني: كنت أشاركه في صلاة الورديّة،
وهو راكع يتلوها بكلّ لذّة وحرارة، تسري منه إليّ. ويضيف الأب
الحصروني: في تلاوة المسبحة الورديّة معه، كنت أشعر بقربه بحرارة غير
اعتياديّة تدبّ في نفسي، وبلذّة لم أكن أعهدها فيَّ من قبل؛ ويشرح
الأب نعمةالله مشمش: كان الجميع، مع أنّه كان صموتا، يلزمهم مثله
بالصمت والحشمة في الحديث، كانوا يسرّون بالشغل معه. ولم يكن ليلهو
بمحبّة تلهيه أو تعيقه عن محبّة الله، بل كلّه عواطف محبّة نحو الله،
متمّما واجباته بكلّ سرور. وما كان يجد لذّة ولا راحة ولا سرورا إلاّ
في القدّاس والصلاة.
ب- روايات وأحداث
1- ألذّ من اللذّة
شهد التنّوري: رجوتُ
الأب شربل على أثر وصولي إلى المحبسة، وبعد أن أطلعته على مأذونيّة
قدس الرئيس العام أن يلقي عليّ مواضيع رياضة الكهنوت فقال لي: أنت
معلّم إسرائيل
(يو 3\9)
وتحتاج واحدا مثل الأب شربل يلقي عليك رياضة؟! ومع ذلك
فأنا تحت أمرك بالذي تريد. وألقى عليّ الرياضة. فتمنّيت لو طالت
أكثر من أسبوع. وكنت بسماعي كلماته كأنّي أتناول طعاما لذيذا
وعسلا، لأنّ كلامه يخرق بالصخر. ويليِّن الحديد. وهو عند سامعه ألذّ
من اللذّة عينها! ولذلك أخذت عهدا على نفسي أن أقضي أيّام العطلة
المدرسيّة كلّ سنة معه في المحبسة، طالما هو حيّ يُرزق. وقضيت أربع
سنوات متوالية معه بحسب قصدي. وكان يتلقّاني كلّ مرّة ببشاشة
ملائكيّة.
2- وقال مبتسما
شهد الأب علوان: كان
الأب شربل يساعدنا يوميّا في الحراثة بزراعة القمح، بطلب من رئيس
الحقلة وأمر رئيس الدير. ففي أحد الأيّام، كنّا، نحن المبتدئين
ورفاقي الفلاّحين، نفلح حقلا فوق العين، وقد انتهينا منه، ونقلنا إلى
حقل آخر، فأخذنا نحن الفدادين والمحارث، وبقي البذار والمعادير وسائر
لوازم الفلاحة، على أن ينقلها الإخوة المبتدئون، والأب شربل وسائر
العملة. ونظرا لما كنّا نعرفه من طاعة الأب شربل ونسمع عنه، أحببنا
أن نمتحن فضيلته. فجمعنا كلّ أواني الحقلة، الموجودة معنا، أي
المعادير وجرّة الماء، وإبريق الشرب، وقفّة البدار، وسطل الأكل،
فطلبتُ من الأب شربل، على سبيل النكتة، أن يحمل الأغراض. فأجاب الأب
شربل: أمرك. وكنت أحمّله هذه الأدوات، قطعة بعد أخرى، منتظرا
أن يقول لي كفى: فلم يبدِ الأب شربل أدنى ممانعة ولا تذمّر قطّ، وهو
يقبل ذلك بطيبة خاطر. فحمل المعاول على كتفه، وعلّق القفّة في الكتف
الآخر، وحمل الجّرة في يده، والسطل في كوعه، بقي الإبريق فقلت له:
إحمله. فقال: كيف أحمله؟ فقلت: أدخل عروته بخنصرك واحمله،
ففعل. وبقي على الأرض بعض أغراض ما كان يقدر أن يحملها، ولا يعرف أين
يضعها. وقال لي: "اشقع على هالجسم اشقع على جسده" فضحك
المبتدئون. ورآنا نضحك، فالتفت إلينا، وقال مبتسما: الويل للذين
يحمّلون الناس أحمالا ثقيلة، ولا يحرّكونها بإحدى أصابعهم! قال
ذلك وذهب بحمله راضيا مسرورا، ثم أخذنا الأوعية الباقية.
3-
بفرح وسرور
تخلّى
الأب شربل عن إرادته بالكلّيّة، حتّى تركها ترك مبغض لها، عملا بقول
السيّد المسيح: "من لم يبغض كلّ شيء له حتّى نفسه، أي مشيئة نفسه، لا
يقدر أن يكون لي تلميذا" أي مطيعا حقيقيّا. ولذلك كانت طاعته أشبه
بطاعة الطفل الصغير لوالديه. فكان يسرع لتلبية الأمر دون سؤال، بل
بفرح وسرور. وعندما ينتهي من العمل، يقف مكتوف اليدين أمام الآمر
ويقول له: قد انتهيت يا أبتِ أو يا أخي من هذا العمل،
فماذا تريد أن أعمل الآن؟
4- كان يقول مازحا
كتبت جريدة
La Croix: كان
شربل يطلب من رئيسه أعمالا متعبة. فكان ينقل الحجارة ويقلب الأرض
البور دون مساعدة حيوان. فما كانت ساعات عمله تقلّ عن العشر في
النهار، متحمّلا حرّ الصيف وبرد الشتاء. تشقّق جلد يديه، ومزّق الشوك
كواحله وإبطيه، وكان يقول مازحا: يجب أن أصبح خشنا...
سابع عشر: حُبٌّ عجيب
(يو
13/1)
أ-
تعريف
كان
يقول كلمة تبيّن داخل قلبه وهي: إلهي لك قلبي. فقد أعطاه هذا
القلب بكلّيته. ولم يمسّه حبّ الأرضيّات يوما. وكانت
نفسه ملتهبة بنار محبّة الله. وأعزّ الأوقات لديه كان ذاك الوقت الذي
يصرفه أمام القربان الأقدس. ولا عجب فإنّ المحبّ يولع بملازمة حبيبه
ويستعذب معاشرته. وقلب المرء لا يكون إلاّ حيث يكون كَنْزه؛ وجاء في
الأمثال: الرجل تدبّ حيث القلب يحبّ. فضَّل محبّة الله على جسده الذي
أماته حبّا لله. وبلغت محبّة الله فيه مبلغا جعله يحبّ أن يُحتقَر
ويُحسَب كلا شيء. فلم يحفل كلّ حياته، باكتساب رضى رئيس أو صداقة أخ؛
لذا لم يكن لنفسه بشيء، بل كان بكلّيته لله. كان يخدم القريب بصلاته،
لا لربح ثنائه، فلا أثر لمحبّة بشريّة بقلبه. وما كان يشكو أحدا من
إخوته إلى الرؤساء، ولا أحد من الأجراء، بل وكان لطيفا مع الجميع.
ومع إخوته في الشغل، كان يأخذ عنهم الشغل الشاقّ ليريحهم، كالخدمات
الوضيعة، ونقل الحطب بدون أن يكون مكلّفا من الرئيس، بل لمجرّد
محبّته لهم، عملا بقانون المبتدئ: "جاء ليُحِبّ الله والقريب، لا
ليُبغضهم. جاء لِيَشقى ويُهان، لا لَيُمدَح ويَستريح. جاء ليَخدم
غيره، لا ليُخدَم من الغير". وكان يصلّي لإرتداد الخطأة، وإهتداء
الضالين، ولم يكن له أعداء. وأحيانا كان يؤخّر وقت قدّاسه، لكي
يستطيع الرعاة البعيدين أن يحضروا الذبيحة الإلهيّة. وخصوصا في أيّام
الأحاد والأعياد.
ب-
روايات وأحداث
1- أسرة شربل
(متّى
12/46-50)
جاء مرّة أخوه وأخته لزيارته بالمحبسة، فجاء إليه رفيقه فيها الأب
مكاريوس يخبره بقدومهما والاهتمام باستقبالهما، فكان جوابه: أنت
أخي وأختي فاعمل لهما اللازم من حيث الأكل والشرب واصرفهما ليعودا
إلى القرية، وقل لهما إنّي أصلّي لأجلهما لكي يخلصا من أشراك هذا
العالم، ولم يقابلهما.
2-
أتريد أن تتغدّى؟
قدم
الأب مبارك مسعد إلى المحبسة في وقت أكل الحبساء؛ فسأله الأب شربل
ورفيقه: أتريد أن تتغدّى؟ فأجاب بالإيجاب. وإذ كان الطعام فقط
لاثنين، أي للأب شربل وللأب مكاريوس، فقد ترك الأب شربل غداءه للأب
المذكور، واكتفى بما كان عالقا من الطعام، في كعب القدر. مع العلم أن
الحبساء لا يأكلون، إلاّ مرّة واحدة في النهار.
3-
إعملوا للقوت الباقي
(يو
6/ 27)
إنّ
الأب شربل، كان يصلّي كثيرا لأجل ارتداد الخطأة، ولأجل المرضى، ويسدي
النصائح الخلاصيّة المعيّنة في الظروف المناسبة. وإنّي لا أزال أذكر
كلمة قالها لي: لا تهتمّ بهذه الدنيا أبدا، بل اهتمّ بالأخرة
والدينونة، لأنّ الذي سيديننا عارف بكلّ شيء، ولا يحتاج أن يخبره أحد.
وكان شفوقا على الأنفس المطهريّة، لاسيما من ليس لهم من يذكرهم في
هذه الحياة. فكان يذكرهم ويصلّي ويدعو الآخرين للصلاة من أجلهم.
4- شفقة عليها
شهد الأب الياس إهمج:
أتيتُ، وكنت لا أزال صغيرا، يوما مع والدتي في تشرين الثاني إلى
المحبسة لسماع القدّاس في المحبسة. وفي الطريق سقط علينا مطر غزير
جدّا جعل الماء يتصبّب منا. فوصلت إلى المحبسة وثيابي وحذائي يقطر
منها الماء. وعند وصولنا إلى المحبسة، دخلت إليها، وهيأت لوازم
القدّاس، لأخدم للأب شربل. فنظر إليّ، ورأى الماء يتصبّب منّي فقال
لي أن أذهب إلى المطبخ لأنشّف ثيابي. فقلت لا لزوم لذلك.
فأشفق عليّ وذهب وأتاني بحذاء له لألبسه بدلا من حذائي المبلّل،
ولكنّي لم أستعمله لأنّه كان كبيرا جدّا. وعندما ابتدأ القدّاس،
وبخّر التبخيرة الأولى، رأى والدتي خارج الكنيسة، تسمع القدّاس، وهي
مبلّلة كثيرا بالماء. فأشفق عليها، وأشار إليّ أن أقول لها أن
تدخل الكنيسة، وتسمع القدّاس من آخر الكنيسة. فقلت لها ودخلت.
وقد كان هذا أمرا غريبا، لأنّه لم يكن يسمح لامرأة بدخولها الكنيسة،
ولكن الشفقة عليها، من شدّة البرد والرياح القارسة، دفعته إلى أن
يسمح لها بذلك.
5- محبّته للرهبان
من أغرب فضائله
النادرة، محبّته لإخوانه الرهبان. فإنّه لم يكن يندّد بحقّ أحد بل
يتمّم واجباته بكلّ ورع. فكان صارما على ذاته رحوما على غيره. فقد
قضى معظم أيّام رهبانيّته في دير مار مارون عنّايا محبوبا من كلّ
الجماهير، على اختلاف المآرب والمشارب، بعدم تدخّله وتحيّزه مع هذا
أو ذاك. وكان يسرع على كلّ عمل متعطّل في الدير. وقال عنه الأب
أنطونيوس المشمشاني وهو رئيس الدير يومئذ: عندي في ديري راهبان
ممتازان ليس فقط في رهبانيّتنا، بل في كلّ رهبانيّات الكنيسة، وهما
الأب شربل والأخ الياس المهريني.
6- كما تخدم الأمّ
طفلها
شهد الأب أفرام نكد: من
عادة الرهبان في الماضي، أنّ الراهب الذي يكون له رهبان من قريته، أو
من أهله يقيمون معه في الدير، يُخدَم في مرضه وشيخوخته. وكان في دير
مار مارون رهبان عديدون. وكان إذا مرض أحد منهم أو شاخ وله رهبان
يعتنون به، يكتفي الأب شربل بافتقاده كباقي الرهبان. وأمّا إذا كان
راهب من الشيوخ أو المرضى الذين لا أحد لهم في الدير من أهلهم وأبناء
بلادهم، فما كان يعود يفارقهم لا ليلا ولا نهارا، بل يخدمهم كما تخدم
الأمّ طفلها. وأذكر أنّه كان في دير مار مارون قسّ من إهمج: الأب
موسى الإهمجي، وكان عاجزا ومريضا. ولا يوجد من إهمج إلاّ القس أليشاع
وكان عجوزا خرفانا. فمنذ مرض الأب موسى لازمه الأب شربل، وكان في
الليل يرقد عنده على الأرض. وخرج صباح ذات يوم من عنده وجاء إلى
الكنيسة ليصلّي ويقدّس، فرأيت عباءته على ظهره ملطّخة بالبصاق.
فناديته قائلا: لا يليق أن تقدّس بهذه العباءة. فانتبه وغيّرها. وقد
كان الأب المريض يبصق طول الليل ولا ينتبه أنَّ الأب شربل راقد عنده
لحراسته.
7- شربل
"المغروم"
كان قلبه مغرما بحبّه،
ولا يطيب له العيش بدونه. ولسان حاله يقول دائما: الله محبّتي
وكفى. وما كان يجد لذّة ولا راحة ولا سرورا إلاّ في الكنيسة أمام
القربان الأقدس. وفي أيام الثلوج والبرد، عندما كان يستحيل عليه
الشغل في الخارج، ولا يكون له شغل داخل الدير، يصرف وقته يحادث الله
في زياراته الطويلة للقربان الأقدس. والذي يحبّ يفتكر دائما
بمحبوبه، ويطيل الإقامة معه. والأب شربل كان يحبّ أن يطيل
الإقامة مع القربان، بل كانت حياته كلّها مفعمة بالله، لأنّه كان
دائما يفكّر فيه. وعندما يحادثه أحد، كان كمن استيقظ من سبات عميق،
لأنّه في شغله اليدويّ الشاقّ كان دائما غائصا في التأمّل بالله.
8- محبّة بلا حدود
شهد الأب أفرام نكد: ما
كان يظهر لي أو للأخوة المبتدئين معي من بقاعكفرا أقلّ ميل أو عطف،
ولا يتكلّم معنا أبدا. ومرّة قال له رئيس الدير القس الياس
المشمشاني: ألا تميل ميلا خصوصيّا يا بونا شربل وتعطف على المبتدئين
الذين من قريتك أكثر من ميلك وعطفك إلى سائر الأخوة، فإنّ هذا ميل
طبيعيّ في الإنسان. فأجابه بصوت منخفض كعادته: كلاّ فإنّي لا أميل
إليهم لا باطنا ولا ظاهرا، فإنّ كلّ الأخوة عندي سواء.
9- لا يلتفت إلينا
شهد الأب روفايل نكد:
ذهبتُ والأب افرام ابن قريتي بقاعكفرا للترهّب في دير عنّايا
لاعتقادنا أنّنا نكون هناك مسرورين محظوظين لأنّ الأب شربل كان وقتئذ
في هذا الدير، فيعطف علينا، ونأنس به. فكان الأمر بالعكس، فما كان
يلتفت إلينا، ولا يتعاطى معنا. ولا نرى منه أدنى ميل أو عطف علينا،
مع أنّنا من أبناء قريته.
10- شيعيٌّ يُبكيه
(لو
19/41)
دخل الأب يوسف بيروتي
على الأب شربل، أثناء وجوده في المحبسة، فوجده يبكي بكاء مرّا، ويلطم
رأسه بيديه بتحسِّر عظيم. فسأله عن السبب؟ فلم يجبه. فألحّ عليه
ثانيا، وثالثا فقال له: أُخبرك تحت السرّ على أن لا تبوح به إلاّ
بعد وفاتي: إنّ سبب بكائي، هو أنّ رجلا توفّي اليوم في علمات
(شيعيّ)،
وقد ذهبت نفسه إلى جهنّم. وبعد قليل سُمِع إطلاق النار من علمات.
وعُلِم أنّ رجلا غنيّا فيها، وكان مهاجرا في أميركا، قد توفّي.
11- حتّى الحيوانات
- يمسكون الحيّات
بأيديهم
(مر
16/18)
شهد الأب أنطونيوس
نعمة: في أوان حراثة الكروم وتقليمها، ذهبت وجمهور ديري عنّايا، من
رهبان وأجراء، إلى كرم المحبسة للشغل فيه. وحدث في أثناء ذلك أن
رأينا حيّة رقطاء، ذات منظر مرعب، فأسرعنا إلى قتلها، وما استطعنا.
فكانت تجول ميدانا في تلك الجلالي، وهي تصفر صفيرا كريها مفزعا،
رافعة رأسها حينا، وحينا ذنبها. ولمّا أعيتنا الحيلة، واعترانا الخوف
الشديد، إنتبهتُ وصرختُ: أين بونا شربل؟ نادوا عليه. وقد كان يشتغل
وحده في منعطف من الكرم محجوبا عنّا، فأتى في الحال. ولمّا صار مقابل
الحيّة، جمدت في مكانها، ووقف هو وقال: لا تمدّوا إليها يدا.
وكان في يد كلّ منّا: هذا حجر، وذاك معول، وآخر مسّاس. فالتفت إليها
قائلا، ومادّا يده: روحي من هنا. فانسلّت أمامه وما زال يومئ
إليها بإشارة يده حتّى توارت، ثمّ عاد إلى عمله. فحمدنا الله على
نجاتنا. وكان من عادته، ألاّ يقتل حيوانا، أو حشرة سامّة، ولو حقيرة،
كالنملة أو العقرب، وذلك لرقّة شعوره، ولإفتكاره بأنّ الله هو الذي
أوجدها، وهو يتدبّر بأمرها.
- يلهو الطفل
والثعبان (اش
11/8)
شهد جرجس ساسين: وكنّا
مرّة نفلح في كرم المروج المجاورة كرم المحبسة، وكان وقت أكل
الحبساء. ودعي للأكل مع الحبساء، فظهرت أفعى كبيرة ودخلت في الحائط،
فرمنا هدم الحائط وقتلها، فمنعنا عن ذلك. ووقف قرب الحائط، وقال:
لا أسمح لكم بقتلها، إنّ كلّ المخلوقات، سواء أكانت مسمّة أو
لا. فالله لم يخلقها إلاّ لفائدة. فلا ينبغي قتلها! وناداها
بقوله: إذهبي يا مباركة. فخرجت الحيّة أمامنا وجاءت بيننا،
وخرجت من باب الكرم، وكنّا نحو ثمانية فعلة، يعاوننا الحبساء بشغل
الكرم.
-
يسكن الذئب مع الحمل
(اش
11/6)
شهد
الأب سمعان أبي بشارة: لمّا كنت أخا تلميذا اصطفت في إحدى السنين في
دير سيّدة ميفوق، ورقدت في غرفة الأخ برتلماوس أيطو، فرأيت فيها وفي
الفراش والسرير بقّا كثيرا، لكنّه ضعيف ودقيق، ولم تلذعني منه بقّة
واحدة، مع أنّه كان يسرح على وجهي ويديّ. فتعجّبت من هذا الأمر أشدّ
العجب وسألت الأخ برتلماوس مستفهما مستغربا، فأجابني: ألا ترى قنّينة
الماء المصلّي عليه الأب شربل على الطاولة في الغرفة؟ إنّي من حين ما
رششت من هذا الماء في غرفتي هزل البقّ ولم يعد يلذع.
- يا حرام
شهد
جرجس ساسين: كان في المحبسة قفير نحل، فسقط بعض نحلات في جرن الماء
المعدّ لشربها، فجاء الأب شربل، وأخذ يرفع نحلة فنحلة، على رأس
إصبعه، ويضعها في الشمس مشفقا عليها. فلسعته نحلة وغرزت حمّتها
بإصبعه. فنَزع الحمّة، ورفع النحلة إلى الشمس لكي تنشّف جناحيها،
وتطير. فقلت له: نزع الإبرة يا معلّمي من النحلة، يميتها. فقال:
صحيح، يا حرام. ودخل الكنيسة.
ثامن عشر: حرّية شربل وجرأته
أ-
تعريف
لم يكن يهمّه في الدنيا شيء، ولم يكن يهتمّ للخصوصيّات، فدأبه لإتمام
الواجب، ولم يكن يهتمّ لاكتساب رضى أحد، بنوع خاصّ مطلقا؛ له جرأة في
المحافظة على حقّ الله، لا يهاب بالحقّ وجه إنسان، ولا يحابي أحدا.
ولم يكن عنده قيمة للكرامات، بل كان يفرح بالإهانة. لا يهمّه إن مدحه
الناس أو ذمّوه. ومشهور عنه هذا الكلام:
ليس
من مدح نفسه ومن مدحه الناس هو المزكّى، بل من مدحه الربّ.
وإذا زار الدير أحد الأساقفة أو الوجهاء، لا يأتي إلى مقابلته.
وبالجملة قد كان عائشا على الأرض، وأفكاره وقلبه في السماء، لا يبالي
بما حوله، كأنّه موجود وحده على الأرض في منفى، وهو عالم أنّ موطنه
السماء.
ب-
روايات وأحداث
1-
غير متعلّق بشيء
وكان قلبه غير متعلّق بشيء حتّى ولا في عباداته الخصوصيّة، ولا في
واجباته الروحيّة. فكان إذا دعته الطاعة، يترك صلاة الفرض، أو أيّ
عمل روحيّ وربّما كان مسرورا به. وأذكر لذلك مثلا: بينما كان في إحدى
الليالي يصلّي صلاة الليل في كنيسة المحبسة مع رفيقه بشكل علنيّ،
جاءه رسول يقول له : الرئيس يطلبك. فلم يتردّد دقيقة واحدة. فترك
صلاة الخورس، وذهب مع الرسول فورا إلى الدير ليلا. وتمّم في الدير
أمر الرئيس، بأن صلّى على ماء ورشّه على قطيع ماعز للدير، كان يفتك
به مرض المرارة، فارتفع عنه الوباء، وسلم من أذاه. وعاد إلى المحبسة،
بعد أن إستأذن الرئيس بالعودة، إذ إنّ هذا كان ألحّ عليه أن يرقد في
الدير.
2- من أين تدخل إلى نفسك الخطيئة!؟
كان يشتغل بالفرن ولم يكن يتكلّم، دائما صامتا، بينما الباقون
يمزحون أحيانا. ولكن مع شدّة محافظته على الصمت بنوع دائم، ما كان
يترك بعض الفرص الثمينة تذهب دون إعطاء أمثولة روحيّة للقريب، بشكل
يدلّ على حكمة ممتازة ولا يجرح القريب؛ وله أجوبة قليلة نادرة لكنّها
تنبئ عن معرفة تامّة لا فقط بأحوال الرهبانيّة بل بأحوال غيرها.
فبينما كان يساعد الرهبان في الفرن في أيّام الشتاء، جاء الدير
الخوري يوحنّا شحاده من قرية مشمش. وكان وكيلا بطريركيّا في بلاد
جبيل، وجيها بمقامه، وجيها بعائلته، غنيّا له مداخلات مشهورة مع
الحكّام وكبار البلاد، معتزّا بنفسه، جسيما مترفّها بمعيشته ترفّها
لا ينطبق تمام الإنطباق مع بساطة تلك الأيّام، والحالة الكهنوتيّة.
وكان ينظر إليه بعين الإعتبار، في كلّ نواحي كسروان وجبيل والبترون.
فحينما جاء إلى الدير، كان مرتديا فوق أثوابه الكهنوتيّة فروا، ما
كان يلبسه إلاّ الأمراء والممتازون. وكان الفرو سميكا. فدخل الخوري
المذكور إلى الفرن لكي يتفرّج، ووقف يحدث الرهبان. فاتصل بهم الكلام
إلى الخطيئة وأسبابها. وكان الخوري يقول هنيئا للرهبان فهم بعيدون عن
أسبابها. وكان الأب شربل صامتا كعادته مصغيا، تتكلّم يداه بالشغل،
وينطق بصمته بأبلغ النصائح والوعظ. فالتفت الجميع إليه إذ سمعوه
يتكلّم دون أن يؤمر، على غير عادته ويقول، رافعا نظره قليلا إلى
الخوري حنّا، وعلى شفتيه ابتسامة صغيرة: وأنت! من أين تدخل
إلى نفسك الخطيئة!؟ فإنّها لا تصل إليك: فروك سميك! فضحك
الجميع وتغامزوا، لأنّهم رأوا في تلك العبارة، مغزى عميقا، وتنبيها
حكيما للخوري المذكور. وبرهانا على أنّ الأب شربل كان في اعتزاله عن
العالم، وصمته، وعدم مشاركته في الأحاديث المتعلّقة بالأمور الخارجة
عن الرهبنة يفهم، بالإشارة، أو بكلمة صغيرة يسمعها، أهل عصره
وأعمالهم. وكأنّه لم يكن راضيا عن ترفّه الكاهن الظاهرة علاماته في
لبس الفرو، فغمزه تلك الغمزة.
3-
"مطرح
ما بيبطّلو بيوصّوا!"
تراكمت
الديون على دير عنّايا في رئاسة الأب روكس مشمش
(1865- 1871)، فكان يُشغل المبتدئين والشركاء أيّام الأحاد والأعياد لدعم
اقتصاد الدير المنهار، فيوما ما قال الرئيس للأب شربل في الكنيسة:
قدّس القدّاس الكبير. فأطاع حالا. وهو مشهور بطاعته في كلّ شيء ما
عدا الخطيئة. وكان من الواجب أن ينبّه في هذا القدّاس، على عيد بطالة
سيقع في الأسبوع الذي سيليه، على أنّه أنهى القدّاس دون أن يجري
التنبيه اللازم. وعند نهاية القدّاس ومنح البركة، تقدّم الرئيس وقال
له: ما وصّيت على عيد الصعود يوم الخميس! أما تعلم أنّه بطالة!؟ وصِّ
على الجمهور. إذ كان شركاء الدير يأتون لحضور القدّاس. فأجاب فورا
بكلّ لطف واتضاع: "يا معلّمي بطالة بمقامه: فالذين
لا يبطّلون الأحد والعيد لا يوصّى عليهم. مطرح ما بيبطّلو بيوصّوا".
قال هذه العبارة لداع، وهو أنّ الرئيس كان يشغل المبتدئين أيّام
الآحاد والأعياد أحيانا، وذلك لحاجتهم إلى قضاء أشغال الدير الكثيرة،
وبسبب الضيق وغلاء المعيشة تلك السنة. ولم يكن الأب شربل يشاركهم في
الشغل، ولم يكونوا يتجرّأون أن يدعوه إلى الشغل، في هذه الأيّام
المقدَّسة هيبة من قداسته، واحتراما لفضيلته. لذلك أجاب الأب شربل
بهذا الكلام في الكنيسة منتصرا لحقّ الله وشريعته الواجب حفظها غير
خائف من أحد. ففهم الرئيس مُراد الأب شربل وانتبه إلى غلطه فكان كلام
الأب شربل بهذا الأسلوب اللطيف، عظة بالغة للرئيس الذي فهم معناها
جيّدا، وامتنع فيما بعد عن تشغيل المبتدئين والأجراء. وقد اعتبر
الجمهور هذا التنبيه من صوت الله وفرحوا به.
تاسع عشر: عابد عادل
أ-
تعريف
-
نحو ربّه:
كان
يؤدّي له أفعال العبادة المتوجّبة من المخلوق نحو الخالق، على أكمل
وجه. ويحافظ على ووصاياه. وكان دائما رافعا قلبه، وباسطا يديه نحوه،
ليؤدّي له الإكرام الواجب، بثبات متواصل حتّى الموت.
- نحو القريب:
لم يُسِئ إلى أحد، ولم يعتدِ على حقّ أحد، ولا يسبّب لأحد
إزعاجا، بل كان يعتبر نفسه خادم الجميع وخادم ربّه الأمين. وكان شديد
المحافظة على نذوره الرهبانيّة، ممّا فرض احترامه على جميع إخوته
الرهبان، وكان عندما يَنْزل من المحبسة إلى الدير، ويجتمعون للسلام
عليه، ويلثمون يده، وكان يعاملهم أحسن معاملة، ويكرّمهم بكلّ لطف
وتهذيب؛ ولم يكن ليزعج أحدا من الناس، لا في حضورهم ولا في غيابهم،
ولا بمالهم ولا بصيتهم، ولا بنوع آخر.
ب- روايات وأحداث
1- حتّى يخرج منها
الجميع
كان يذهب إلى غرفته بعد
صلاة الستّار. ويرقد في الظاهر، وقت رقاد الرهبان، ولكن في الحقيقة
كان رقاده قليلا جدّا، فغرفته مضاءة –بشهادة الكثيرين- وهو جالس أو
راكع يصلّي في كتبه. وكان يصرف أكثر ليله في الصلاة، كثيرا ما كان
يرى في الكنيسة أثناء الليل حينما يكون جميع الرهبان نياما. وكان في
الغالب موكلا في قرع جرس نصف الليل للصلاة، فكان يسبق الرهبان إلى
الكنيسة. وبعد انتهائها، يعودون إلى الرقاد حتّى طلوع الفجر، وقرع
جرس صلاة الصبح. فالأب شربل يأبى أن ينام، بعد الفراغ من صلاة الليل،
مثل باقي إخوانه الرهبان، بل يستمرّ ساهرا مع ضوء القربان في
الكنيسة، مختطفا بالتأمّلات العقليّة حتّى يبزغ نور الصباح ويجتمع
الرهبان لتلاوة صلاة الصبح، فيستمرّ في الكنيسة حتّى يخرج منها
الجميع.
2- صلاة للمبتدئين
إنّ رئيس دير الابتداء
في الناعمة سنة 1888، زار الحبساء في محبسة مار مارون، وكان من
جملتهم الأب شربل، فوجده مع رفيقه جالسا للأكل. ولمّا عاد إلى الدير،
قال: إنّه طلب من الحبساء في مار مارون ليصلّوا لأجل المبتدئين،
فوعدوه بذلك.
3- متّ عن العالم يوم
ترهّبت
(متّى
6/24)
شهد أليشاع نكد: لمّا
توفّي جدّي، حنّا زعرور، شقيق الحبيس الأب شربل، وكانت وفاته في 25ك2
1898. وحيث لم يترك بنين إلاّ والدتي، والبنت لا تقدر أن ترث من
والدها إلاّ نصف تركته. فزاحمها أنسباء والدها وادعوا أنّ النصف
الثاني هو لهم، بما أنّ شقيق المتوفّي راهب وحبيس، وبموجب قانون
الرهبانيّة لا يرث ولا يورّث. وقالت والدتي: بل إنّ عمّي الأب شربل
يرث لها. وجاءت إلى دير مار مارون عنّايا، لتخبره بوفاة والدها
شقيقه، وتطلب منه ورقة تنازل منه لها عن نصيبه لتركة شقيقه والدها،
فرافقتها. وكان ذلك في أيّام الربيع. ولمّا وصلنا إلى محبسة مار بطرس
وبولس، أُخبِر الأب شربل بقدوم والدتي، فلم يقبل أن يراها، بل دخل
الكنيسة وأقفل الباب. فوقفت والدتي عند باب الكنيسة من الخارج، وهو
وقف في داخل الكنيسة قرب الباب المقفل، وسألها: ماذا تريد منه؟
فأخبرته بوفاة والدها، وطلبت منه ورقة تنازل منه لها عن حصّته.
وأخبرته بأن أقارب والدها يداعونها بنصف التركة. فأجابها على مسمع
منّي: يا ابنة أخي! أنا ما بقي لي معاطاة في العالم!
أخي مات من بضعة أشهر، أمّا أنا فقد متّ عن العالم يوم ترهَّبت،
ونذرت نذوري الإحتفاليّة في دير مار مارون عنّايا منذ 45 سنة.
والميّت لا يرث ولا يورِّث! وهكذا كل راهب. لهذا مالك
شغل معي. وأنا لا أستطيع أن أتنازل عن شيء لا يخصُّني. فرجعنا
بدون فائدة. ويعلّق اسكندر بك الخوري على هذه الحادثة: أصبحت هذه
العبارة آية، في تلك الناحية، يتناقلها الناس، دلالة على تجرُّد الأب
شربل، وعدله وروحه الرهبانيّة الحقّة.
4- ويصلّي للأنفس
المطهريّة
شهد الأخ الياس
المهريني: إنّ الأب شربل كان يكثر من رسم إشارة الصليب المقدّس على
وجهه.... فسألته: يا معلمي بونا شربل، لماذا تكثر اليوم من إشارة
الصليب على خلاف عادتك؟ وهل من فائدة كبرى من الإكثار منها لأمارسها
أنا ولا أحرم فائدتها؟ أجابه الأب شربل والبشر يطفح على وجهه:
إنّنا اليوم في جمعة الموتى. وإنّ في إشارة الصليب لكَنْزا عظيما من
الغفارين. ويمكن لرابحها أن يحوّلها مساعدات لتلك النفوس المسكينة
المعذّبة في المطهر وليس لها من يذكرها. فإنّك كلّما رسمت إشارة
الصليب على وجهك بإيمان، وأنت في حال النعمة ربحت غفرانا. وإذا دخلت
الكنيسة، أو خرجت منها. ودهنت رأسك بالماء المبارك. ورسمت إشارة
الصليب،
وكنت بحال
النعمة،
ربحت
غفرانا كلّ مرّة. وإذا قلت يا
مريم. ربحت غفرانا أيضا كلّ مرّة.
وإذا رسمت إشارة
الصليب، مثلا، عشرين مرّة في النهار، ربحت غفرانات. وإذا قدّمت هذه
الغفارين لراحة نفس أو نفوس معذّبة في المطهر، فكم تخفّ عذاباتها!
وكم تربح من الأجور المضاعفة عن عملك هذا! وهل يسومك هذا تعبا أو
شيئا من التعب؟ -كلاّ.
والإنسان يشتغل في
أرضه ويسقيها من أعراق جبينه، وينتظر سنة أو معظم السنة، ليستغلّ
فيها بعض الغلّة. وإذا أقبلت مواسمه يطير من الفرح. فأولى أن يكرّر
استدعاء العذراء باسمها. ويناديها باحترام: يا مريم، مئة مرّة في
النهار، فيربح غفرانات. فلا يتعب، ولا يَنْزعج، بل يبقى في شغله
العادي، فلا يتعطّل عليه شيء، فيستفيد أجرا، ويفيد الأنفس المطهريّة
راحة، وتقصير زمان في عذابها. ويتحصّن بهذا الإسم العظيم ضدّ كلّ
تجربة شيطانيّة. وإذا اعتاد الإنسان على إشارة الصليب، وعلى استدعاء
العذراء، خفّت عنه التجارب بكلّ أنواعها. لأنّ إشارة الصليب وسيلة
لطرد الشياطين. واسم العذراء لقهرهم ودحرهم في لجّة هلاكهم. وإذا
سمعت منّي، إمسك عبادة دائمة لمساعدة النفوس المطهريّة، فتكون بذلك
كأنّك تديّن الله. والكتاب المقدّس يقول: من يعطي
الفقير يقرض الله. والله لا
يضيّع أجر كأس ماء بارد يُسقى بإسمه. فكيف يضيِّع أجر محسن كبير
إلى أعزّ
نفس لديه
متألّمة. وخلاصها مكفول. وهي بحاجة إلى تقصير أيّام في حمّام تكفيرها!
عشرون: وفاء للحبيب
أ-
تعريف
كانت طهارته ملائكيّة، وذلك ظاهر من تقشّفاته، وعدم إهتمامه
بالمأكل أو الملبس أو المشرب. أمّا أثوابه الرثّة الفقريّة، فإنّها
وحدها شهادة ناطقة بطهره؛ وكان يكره كلّ عيشة مرفّهة. وصار الأب شربل
بتقشّفاته وإماتاته كخيال من الضعف والهزول. ليس فيه إلاّ الجلد
والعظم. وقال الكثيرون: ما هذه عيشة إنسان، بل عيشة ملاك أرضيّ ماتت
فيه الطبيعة البشريّة.
لا
يرفع نظره بمخلوق، كائناً من كان، بل كان مطرقاً دائماً إلى الأرض،
متجنّبا كلّ التجنّب، معاشرة الناس ومخالطتهم، لينصرف بجملته إلى
الخالق؛ وإذا حدّث رجلا لا يرفع نظره إليه بل يلقي نظره إلى الأرض،
ولو كان محدّثه راهبا. وكلامه مع الرجال لا يزيد عن بضع دقائق؛ وما
رفع نظره إلى شيء، بل كان مطرقا ببصره إطراق المتأمّل في الكنيسة
وخارجا عنها؛ ولا نظر إلى امرأة مطلقا، عملا بالقانون: "يجب على
الراهب قمع الحواس مطلقا".
وما كان، لا في المحبسة ولا قبالها يوجد نساء، على الإطلاق. وكان
يهرب منهنّ، مع ما هي عليه نساء هذه الجهات من الحشمة والبساطة في
الأزياء، لاسيما في عصره؛ وكثيرا ما كان يصادف مرور بعض النساء
بالطريق العام، إذ يكون متوجّها للحقل أو الكرم، أو لنقل الماء من
العين للدير. فكان يغيّر طريقه حالا. وهذا اشتهر بالجوار، حتّى
النساء عندما يرونه من بعيد يغيّرن طريقهنّ، ويحدن عن طريقه إحتراما
له.
ب-
روايات وأحداث
1-
قدّاس الأحد
وما كان يسمح للنساء أن يدخلن كنيسة المحبسة أبدا. بل يأذن لهنّ
بدخول الدهليز، أمام الكنيسة، عندما يعرف أنهنّ ما قدرن أن يسمعن
قدّاسا، في غير محلّ، يوم الأحد. وعندما كان يأتي زوّار إلى كنيسة
المحبسة، ومعهم نساء، كان يغادر الكنيسة ويَنْزوي في صومعته، إلى أن
يعرف، أن الزوّار جميعهم، رجعوا إلى بيوتهم.
2-
صيغة المُذَكَّر
شهد مارون عبود: أعرف أنّه عندما كانت تحضر بعض النساء، لطلب
الماء المبارك أو غيره، ينادي، بصيغة المذكَّر، القادمة: ماذا
تريد؟ من نافذته داخل المحبسة. وبعدما يعلم الحاجة، يذهب إلى
رفيقه فيخبره فيمضي لقضائها. ويتابع جرجس ساسين: صعدتُ مرّة إلى
المحبسة، فوجدتُ امرأة خارج التصوينة، فسألتُها: من أنت؟ أجابت:
إمرأة من بقاعكفرا، شقيقة الأب شربل، جئت لأزور شقيقي، فقل له أن
يواجهني. فدخلت وأخبرته. فقال: قلّ للأب مكاريوس. فأمره الأب
مكاريوس أن يقابلها. فوقف خلف الباب من الداخل، وهو مغلق، وأدار نحو
الباب ظهره، وهي خارجا، فقال لها: كيف حالَك؟ خاطبها بصفة
المُذَكَّر مع أنّها امرأة! ولم أعرف السبب! قال هذه الكلمة، وذهب
إلى الكنيسة ولم يقابلها.
3-
أين بنت البك؟
وقد
أخبرتني والدتي، التي كان أبوها رشيد بك الخوري، مديرا لتلك المنطقة،
أنّها ذهبت مرّة لزيارة المحبسة، مع رفيقات لها، من أقاربنا. فعرف
بهنّ الأب شربل من رفيقه. فبعد زيارة الكنيسة، خرجن أمام المحبسة
للاستراحة، وتناول الغداء. وإذا بالأب شربل، يطرق على الباب من
الداخل، ويقول: أين بنت البك؟ فأجابت والدتي: ماذا تأمر.
عندئذ، فتح الطاقة الموجودة في نصف الباب، ومدّ يده، دون أن يرى
والدتي أو تراه هي، وناولها صحنا من العسل. وهذه هي المرّة الوحيدة
التي سمعت بها صوت الحبيس الأب شربل. مع أنّها كانت كثيرة التردّد
على المحبسة.
4- وباركهنّ
وقد
كنت مرّة في المحبسة، وكان جمهور من الرجال والنساء في الكنيسة، فجاء
الأب مكاريوس وطلب من النساء أن يخرجن، لأنّ الأب شربل يريد أن يقيم
الذبيحة الإلهيّة. فخرجن، ولكنهنّ طلبن أن يصلّي الأب شربل على
رؤوسهنّ، فوقفن خارج الكنيسة، منخفضات الرؤوس وعليهنّ غطاء، ومدّ
الأب شربل يده من نافذة الكنيسة وباركهنّ، ثم أقام الذبيحة.
5- الجسد كالحمار
كان
يردّد دائما على مسامع الرهبان: هذا الجسد كالحمار إن أشبعته بطر
وإن جوَّعته ذلّ.
6-
ضعوا
القنّينة وروحوا
عندما كانت النساء يأتين إلى المحبسة لطلب الماء المبارك، ويصدف
أن يكون الأب شربل وحده في المحبسة، يجاوبهنّ من الداخل: ضعوا
القنّينة على الباب وروحوا. ثم يتناول القنّينة عن الأرض بعد
ذهابهنّ ويملأها ماء مباركا، ويردّها إلى محلّها ويتوارى. ولمّا كان
يلتقي في الطريق بغتة بإمرأة ما، كان يجفل، ويغيّر طريقه حالا. ذاهبا
على غير هدى بين الأشواك.
7- إلى أن يمرّ
شهد
الأب الحصروني: كان اعتباره في نفوس النساء عظيما، حتّى أنّهن من
تلقاء نفوسهنّ، عندما كنّ يعرفن أنّ الأب شربل سيمرّ في مكان هنّ
فيه، يختفين من أمامه إلى أن يمرّ، وقد شهدت هذا بأمّ عيني.
وأذكر هنا أنّي كنت مرّة أفلح في الحقل مع رئيس الحقل، الأخ الياس
المهريني، الأجير سليمان المنـزلي، غربي الدير لجهة الجنوب، وإذا
ببعض النسوة من الشركاء راجعات من سماع القدّاس إلى بيوتهنّ. ولمّا
نظرن الأب شربل آتيا إلى الدير من بعيد أسرعن إلى خارج الطريق. فسألت
رئيس الحقلة المذكور عن السبب؟ فأجاب: ربّما يكون الأب شربل آتيا من
المحبسة إلى الدير. قلت: وأيّ خوف عليهنّ منه، أجابني: هنّ يعرفن
أنّه لا يريد أن ينظر النساء فيهربن من طريقه إحتراما له. وفعلا، بعد
هنيهة، رأينا الأب شربل مقبلا من المحبسة إلى الدير. ولمّا غاب عنّا
إلى الدير، عادت النساء إلى متابعة طريقهنّ إلى بيوتهنّ.
8- أتتني تجربة
فضايقتني
ومرّة كان الأب شربل
مقيما في حمي دير عنّايا –اللقلوق- لأجل تلاوة القدّاس الإلهيّ لرئيس
حقل الدير هناك المدعو الأخ بولس مشمش رفيق الأب شربل في حراثة
الحقل. فبينا كان هذا الأخ يحرث الأرض سمع الأب شربل، وكان بعيدا عنه
قليلا، يصرخ ويستغيث كطفل صغير، فترك محراثه وأسرع ليرى ما عرض له
فوجده سالما هادئا، فسأله: ما بك؟ فأجابه: لا شيء. فعاد الأخ
إلى الحراثة، وما عتّم أن سمعه يصرخ أيضا، فتقدّم إليه وقال له: أأنت
مجنون؟! لمَ هذا الصراخ؟ قل لي شو صايرلك؟! بقدر ساعدك بشيء؟ أجاب،
بكلّ هدوء وبصوت خفي: أتتني تجربة فضايقتني، اعذرني وصلّي
لأجلي.
9- لماذا هذه الفتلة؟!
شهد الأب الياس إهمج:
أذابت محبّة الله في قلبه كل محبّة أرضيّة، حتّى محبّة الأهل. فإنّه
لأجله تعالى، ولكي يتفرّغ لمحبّته، نقّى من قلبه حُبّ ذويه. فقد كنت
مرّة ذاهبا لزيارة الحبساء في المحبسة. لأنّي كنت أقضي الصيف في دير
مار مارون عنّايا، مع معلّمي الأب نعمةالله الكفري. وعند وصولي إلى
قرب المحبسة، وجدت عددا من النساء منتظرات قدّام المحبسة. فحين
وصولي ألقين عليّ السلام وقلن لي: نحن هنا من زمن طويل، وقد أتينا من
محلّ بعيد من قرية بقاعكفرا، التي تبعد نحو يوم من هنا، لكي نرى الأب
شربل، وهو لا يريد أن يقابلنا. فقلت: ومن أنتنّ؟ قلن: هذه أخته، ونحن
برفقتها، فنرجوك أن تقنعه لكي يدع أخته المشتاقة إليه من زمن طويل أن
تُقَبِّل يده على القليل. فتأثّرتُ جدّا، ودخلت مسرعا على الأب شربل،
وهو في الكنيسة، ورجوتُه أن يشفق على أخته المسكينة الآتية من محلّ
بعيد، حتىّ تروي غليلها بلمحة واحدة لشخصه. فقال: لا أخرج.
فعدتُ إليه ثانية، وقلت له: ترجوك أختك أن تمدّ يدك من النافذة لكي
تقبّلها وتذهب كما وعدتني، دون أن تراك، مكتفية بقُبلة يدك. فقال:
لا أمدّ يدي من النافذة. ثم عدت ثالثة، وقد أعطتني محرمة، لكي
يمسحها الأب شربل على صورة القدّيسين بطرس وبولس شفيعي المحبسة،
لتكون لها بركة وتذكار. وقلت له: ترجوك أختك أن تمسك هذه المحرمة
بيدك، وتمسحها على صورة القدّيسين بطرس وبولس وتردّها إليها. فقال:
أنت امسح الصورة بالفوطة، وأعطها إيّاها. وقلت للأب شربل:
لماذا هذه الفتلة؟! فلم يردّ عليّ بكلمة. وعدتُ أنا، ووضعتُ المحرمة
على عصا طويلة، ومسحتُ بها الصورة، التي كانت في محلّ مرتفع،
وسلَّمتُها لأخته التي رجعتْ إلى بلدتها بقاعكفرا حزينة باكية. وأنا
قد ذهلتُ جدّا من هذه المعاملة القاسية، ولم أدرك لها معنى. وبعد
خروجه من الكنيسة أخذتُ أحاججه قائلا: ما كان يحسن بك أن تردّ هذه
الأخت المسكينة خائبة؟ أين عواطف الحنان؟! أين الشفقة؟! فلم يجبني
بشيء. ففهمتُ من سكوته أنّه لم يعد في قلبه محلّ لمحبّة أرضيّة. بل
لم يكن يختلج قلبه إلاّ بمحبّة الله.
10- وابنة أخيه أيضا
شهد عيد نكد: مرّة ذهبت
أمّي وردة، بنت شقيق شربل، لزيارته في المحبسة، وكنت مريضا وفي سنّ
العاشرة فذهبت برفقتها. فلم يقابلنا بل أخذني بيده وأدخلني إلى
المحبسة. أمّا والدتي ورفيقتها المرأة المريضة التي أتت معها
للإستشفاء، فلم يواجههما بل كلّمهما من وراء البوّابة. وذهبت والدتي
مرّة أخرى لزيارة عمّها الحبيس في محبسة مار مارون. فكلّمها كلاما
موجزا من داخل المحبسة، ولم يرَها، ولكنّها أصرّت على سماع قدّاسه.
فسمح لها بأن تحضر قدّاسه من طاقة باب الكنيسة.
وعند
دورة
الكأس،
تقول
وردة:
إنّه
رفع عينيه إلى العلاء حذرا من أن يقع بصره عليها.
واحد وعشرون: أسير
الحبيب
أ- تعريف
ما كان يعمل شيئا إلاّ بأمر الطاعة للسلطة التي تمثِّل: الله، ولأجل
ربح الأجر المعدّ للمطيع، عملا بالقانون: "يجب على الراهب أن يتّخذ
رئيسه بمنْزلة المسيح". لذا طاعته عجيبة غريبة، ومن عادته أن لا
يباشر عملا ما إلاّ إذا أُمِر به؛ فكانت عمياء، كطاعة العصا للأعمى،
يُضرَب بها المثل؛ فكان إذا دعاه الرئيس، إلى أَمر ما مهما كان، يترك
عمله ويطيع فورا،
فما تأخَّر عن إتمامه لحظة. ولا أذكر أبدا أن الأب شربل، عندما كان
يؤمَر بشيء يخالف الطبع، ظهرت عليه علامات النفور أو الغمّ، بل كان
دائما في حالة متساوية.
وما اعتذر يوما بعذر ما لا صحّي ولا غيره، حتّى في الأمور التي كان
بيِّنا للجميع أنّه يجب الإعتذار عنها.
ولم تكن طاعته عن
غباوة، أو عن عادة، بل عن تقوى وفضيلة، كما يطلب روح القانون. وكان
نذر الطاعة مجسّما أمام عينيه، في كلّ حياته يمارسه كنذر وكفضيلة؛
ولو قدر أن يحبس نبضات دمه في عروقه، ويُخضعها لأمر الطاعة، لكان في
ذلك أقصى مناه. وامتاز باحترامه الله. فمهما حدث في الكنيسة، لا
يلتفت يمنة ولا يسرة. أمّا احترامه للسلطة فكان عنده في أقصى غاياته.
وكان دقيقا في الحفاظ على طقوس الكنيسة، ورتبها المقدّسة. وكان يحتفل
مع رفيقه في المحبسة بكلّ الزيّاحات في مواقيتها كلّ يوم.
ب- روايات وحوادث
1- تفعل حسنا
شهد الأب اغناطيوس
مشمش: مرّة لبس ثياب التقديس، وابتدأ برتبة القدّاس -وكان آباء الدير
قد تلوا قداديسهم ولم يبقَ سواه- فقال له الرئيس: إنتظر فإن أناسا
آتون لحضور الذبيحة. فامتثل وظلّ على المذبح نحو ساعة. ثم دعاني
لأخدم له القدّاس، وسألني ما إذا كان وصل القادمون لحضور الذبيحة؟
فقلت له: إسمح لي حتّى أشعر الرئيس وأستأذنه. فأجابني: تفعل حسنا.
وهكذا ظلّ منتظرا حتّى عاد الرئيس وقال له: قدّس.
2- عند الأب مكاريوس
شهد الأب نعمةالله
مشمش: كنّا نطلب منه أكلا، فيقول: لا أعرف، إذهب وكُلْ عند الأب
مكاريوس. ولمّا كنّا نطلب منه عنبا في الكرم، كان يرسلنا أيضا
إلى الأب رفيقه. وكان إذا طلب عامل منه عنقود عنب في الكرم يقول:
لا أعرف، أطلب من الأب مكاريوس. وما كان يعطي من رزق الدير ورقة
عريش من ذاته، ولا استأذن رئيسه أبدا بشيء ليعطيه لأحد.
3- بقي رافعا المعول
شهد التنوري: بينما
كُنت شمّاسا إنجيليّا أستعدّ لقبول درجة الكهنوت في رياضة بدير مار
مارون عنّايا، كنت واقفا على أطراف المحبسة، والأب شربل يعمل في نكش
الكرم قبالتي، فشفقت عليه وقلت للأب مكاريوس، الذي كان يحضّر الغداء
قربي، أن يدعوه ليستريح، ويتناول بعض الطعام. فلمّا أصبح الطعام
جاهزا ناداه الأب مكاريوس صارخا: أبونا شربل مرّة أولى فلم ينتبه. ثم
أعاد النداء بصوت أقوى، وكان الأب شربل رافعا المعول فبقي رافعه بيده
بانتظار ما يأمره به. ولمّا قال له تعال تغدّى، رمى المعول من يده
حالا، وجاء.
4- طاعة مبتدئين
بينما كان المبتدئون
مرّة في العمل، وقرع الجرس للصلاة، توقّف الإخوة عن العمل، وصلّوا
دون أن يستدعوا الأب شربل للصلاة معهم، فبقي مثابرا على عمله. ولمّا
سألوه لماذا لم يصلِّ معهم؟ أجابهم: ما أمرتموني. فظنّوا أنّه
يهزأ بهم فاستاؤوا. وفي اليوم الثاني، لم يدعوه تعمّدا إلى الصلاة،
فظلّ متابعا العمل. ففهموا حيئذ أنّه لا يعمل شيئا إلاّ بأمر الطاعة.
وفي الواقع حالما أمروه في اليوم الثالث أن يشاركهم في الصلاة، ترك
كلّ شيء، وأطاع.
5- على سبيل الفكاهة
قال الأب شربل يوما
لرفيقه، الأب مكاريوس: يلزمهم حطب في الدير، وليس هنا من حطب،
من أين تريد أن أحتطب؟ فأجابه بحدّة، على سبيل الفكاهة: إذهب
إلى الميحال وهو حرش، يبعد حوالي 3 ساعات مشي من المحبسة، فذهب الأب
شربل إلى الجبل المذكور، واحتطب الحملة، وحملها إلى المحبسة. فدخل
عند المساء تعبا، والعرق يتصبّب منه، وحملة الحطب على ظهره. فسأله
الأب مكاريوس: من أين أتيت بالحطب؟ ولماذا تأخّرت؟ وأنت تعب هكذا؟!
فأجابه: من جبل الميحال،
كما قلت
لي.
فقال
له:
لماذا
ذهبت
إلى
هناك والمحبسة
محاطة بالأحراش؟ فاجابه:
ألم تقل لي أنت:
إذهب
إلى
الميحال؟
أنت
قلت
وأنا أطعت! فاستغرب الأب مكاريوس
كيف أنّه تحمّل هذه المشقّة!
6- دون أن يسأل عن
الغاية
طُلب مرّة إلى إهمج،
بدعوة من رشيد بك الخوري، مدير الناحية، ليذهب ويصلّي على ماء منعا
للجراد الكثير المنتشر في تلك الساعة. إذ كان مشهورا أنّه بصلاته،
ينهزم الجراد. فأمره الرئيس بالذهاب. فمشى، دون أن يسأل عن الغاية،
ولا اعترض بشكل من الأشكال، ولمّا وصل طلب إليه رشيد بك أن يصلّي على
ماء، فصلّى بحضور جميع أهل القرية، وقفل راجعا. وحين آنَ وقت الحصاد،
قَدِم نحو مئة شخص من قرية إهمج وحصدوا زرع الدير مجّانا، عرفانا
للجميل.
ثانٍ وعشرون: رجاؤه توق للحبيب
أ- تعريف
كان رجاؤه بالله وطيدا
جدّا، ويحسب الدنيا وما فيها كالنفاية ليربح المسيح. ولم تظهر عليه
علامة من علامات الفرح أو الكدر، عندما كان يحدث تغييرات في
الرهبانيّة، ولا يسأل إذا كان تَقَدَّم، في الرهبانيّة، أحد معارفه،
ليتكِّل عليه. ولا يغتمّ لتغيير الرؤساء والموظّفين، واعتزال من كان
منهم له التفاتة إليه؛ فكان كلّ شيء يحدث في الرهبانيّة، لا يؤثِّر
بنوع من الأنواع، في حياته الروحيّة أو في أعماله الخدماتيّة؛ وما
كان يكترث لأمور الدير إلاّ على قدر ما تأمره الطاعة، بالمحافظة
عليها. فإذا رأى خللا في أمر لم تكلِّفه السلطة به، لا يتدخَّل فيه.
فهو في الدير أو المحبسة موجود كأنّه غير موجود؛ أفكاره كلّها كانت
متّجهة نحو الله. فما كان يسأل عن شيء، خربت
الدنيا أم عمرت،
وكلّ اهتمامه، كان منصرفا إلى خلاص نفسه، والصلاة لخلاص الآخرين.
وهمّه
الوحيد كان مرضاة الله.
وفي هذا السبيل تَحَمَّل الصعاب والمشقّات، وشدّة القساوة على نفسه.
ب- روايات وأحداث
1- أكفأ منّي
ما اعتمد قطّ على لحم ودمّ. وأذكر أنّه قيل له مرّة إنّ المدبّر يريد
أن يسند إليك رئاسة. فأجاب السائل
مستهجنا:
بالرهبنة
كثيرون
أكفأ
منّي
وأكثر أهليّة،
ومن فضل الرهبنة التي تقبل خاملا مثلي.
2- إعملوا لمجد الله
شهد الأب علوان: كان يعمل أعماله تمجيدا لله وللحصول على السعادة
الأبديّة. وكان يردّد علينا:
إعملوا لمجد الله
تعالى، فتكافأوا بالسعادة الأبديّة.
ورجاؤه هذا، كان يدفعه لإحتقار أمور الدنيا هذه الزائلة، وللقيام
بالإماتات والتقشّفات؛ وكان دائما يردّد عليّ هذه الكلمة:
الدنيا زايلة شو بدّو
يطلع منها.
3- أنوار السماء أجمل
قال له أحد الرهبان
مساء يوم: أنظر إلى مدينة بيروت، كيف تشعُّ بالأنوار. فلم يلتفت. بل
قال: إنّ أنوار السماء أفضل وأجمل. ودخل إلى غرفته.
4- شغل لا أعرفه
زاره مرّة أخوه، وأراد
أن يخبره عن أحوال بيتهم وأرزاقهم. فقال لأخيه: هذا شغل لا أعرفه،
ولا أريد سماعه. وحمل معوله، وتوجَّه إلى الكرم. كان رجلا غير
موجود في الدنيا إلاّ بجسمه. وحيث إنّ قلبه مثل عقله في السماء، ما
كان يتأثَّر، لا لفرح ولا لحزن.
ثالث وعشرون: ملجأ المؤمنين والمحتاجين
(لو
3/18)
أ- تعريف
كان الناس يتوافدون
إليه جماهير، يحملون صغارهم وبيدهم قناني الماء، ليصلّي على الصغار
ويبارك الماء لأخذه لشفاء مرضاهم، ورفع البلايا عنهم، وعن مواشيهم
وأملاكهم، محافظة عليها من الأمراض والأوبئة، ولزيادة خصبها
وإنتاجها، ورشّه في البيوت. وكان يقابلهم بعاطفة المحبّة، ويرقّ
لحالهم ويصلّي لأجلهم؛ وكان يصلّي على ماء، أو يسكُب من الماء
المبارك قبلا، فتظهر من الماء قوّة غريبة. ولم يكن يأخذ مقابل ذلك
أيّ مكافأة، ولم يقبل أيّ تقدمة، بل كان يقوم بكلّ ذلك حبّا بالله.
وكان يقصده من كلّ النواحي أهل الأمراض، وأصحاب العاهات، والحزانى
وكلّ من آلمته مصيبة ما، طلبا لنعم الله على يده، لاعتقادهم بصلاحه،
وبأنّ الله يستجيب. ونساء مسلمات كثيرات، من جوار الدير، كنّ يضعن
أطفالهنّ عند باب محبسة شربل طالبات لهم الشفاء والبركة. وما كان
يردّ أحدا من الذين يطلبون مساعدته الروحيّة. وإذا زاره أحد في
المحبسة كان يخرج منها لاهجا بقداسته مُتعَزِّيا برؤيته فرحا
بزيارته، ومتأثّرا جدّا بتقواه.
ب-
روايات وأحداث
1- على السكت
شهد يوسف سليمان: هو في
اعتقاد الجميع عندنا قدّيس ونحن نلتجئ إليه، في أمراضنا ومصائبنا.
وقد سَمّينا بإسمه تيمّنا، كما نسمّي بأسماء القدّيسين. وأنا أعتقد
أنّ القدّيس شربل، قدّيس عظيم في السماء، يشفع بنا على السكت دون أن
نشعر بإحسانه، كما كان يفعل على الأرض.
2- الكلّ: صورة
المسيح
إنّ الأب شربل لم
يتعاطَ مع بشر، إنّما محبّته لهم عرفت من صلواته لأجل المرضى، وذوي
الأسقام وللمسافرين والمعوزين، وممّن طلبوا صلاته لمريض أو محتاج.
كان قلبه يتأثّر شفقةً، ويتوسّل إلى الله بكلّ حرارة لكي يعطف على
عبيده المصابين. أمّا من حيث علاقاته مع إخوته الرهبان في الدير، ومع
الذين كانوا معه في المحبسة أو ربطته بهم علاقات ما، فلا أحد يجهل
أنّ قلبه كان يضمّ الجميع على السواء، لا تمييز عنده بمحبّته لهم،
الكلّ إخوته، الكلّ صورة المسيح يكرّمهم على السواء.
3- يُقدِّم له ما
يأكل
وكان شفوقا عطوفا على
الفقراء وشديد الشفقة على المرضى والمتألّمين، وعندما كانوا يأتون
إلى المحبسة، أيّام البرد والشتاء، كان يقرّبهم من النار ليتنشّفوا
من الماء الذي يكون بلّل ثيابهم. وكان محبّا للجميع، فقراء وأغنياء.
ومع أنّ الأب شربل لم يكن يتعاطى مع الزوّار إلاّ الأمور الروحيّة
لأنّ استقبالهم وإطعامهم كانا منوطين برفاقه. وإذا اتّفق أن زاره أحد
في غيابهم، فقير أو جوعان، كان يطعمه ما أعدّوا له من القوت أي طعامه
الخاص، الذي كان قليلا جدّا ويبقى هو بلا أكل. كان يشفق على الفقراء،
ضمن حدود إمكانيّته. فإذا جاء فقير إلى المحبسة، كان يطلب إلى رفيقه
أن يُقدِّم له ما يأكل. وفي أيّام الشتاء والبرد، كان يُدخِل
الرجال إلى المحبسة، ليتدفّأوا قرب النار.
4- أنا خاطي
كان يجيب الناس، الذين
يطلبون صلاته: أنا خاطئ، صلاة القدّيسين تنيلكم مطلبكم؛
وعندما يطلب
أحد
نعمة
روحيّة على يده
كان يجيب: أنا أحقر الناس، خاطي. وعندما كان يقول له أحد: أنت
قدّيس. ما كان يجاوب، بل ينتفض، ويهزّ برأسه ويعبس؛ فيحسب ذاته آخر
الناس، وأكبر الخطأة.
5- اتكلوا على الله
ولمّا كان يطلب منه صلاة. كان يقول بهدوء:
صلاة القدّيسين،
واتكلوا على الله هو بدبّركم،
ويبتعد عنهم. وعندما كان الزوّار يطلبون بركته وصلاته، كان يفعل ذلك
دون أن ينظر إليهم، ويقول:
أطلبوا من الربّ أن
يعطيكم حسب إيمانكم.
6-
"فيك تكون قدّيس"
لمّا كان أحد يطلب
صلاته يقول له: صلِّ أنت أيضا، أي فرق بيني وبينك، الله يسمع لك
كما يسمع لي. وللذي يقول له أنت قدّيس يقول: متلي متلك، أي
شيء يعيقك عن القداسة.
7- يشفي بصلاته
كلّ ما مرض رشيد بك
الخوري، مدير إهمج، يستدعي الأب شربل للصلاة عليه، لاعتقاده بقداسته.
وهكذا كان يفعل أهل الجوار يطلبون صلاته عند المرض والشدّة. وكان
تأثير تقواه على الجميع كبيرا؛ ويشفي الأمراض بصلاته. وكان من عادة
أهالي إهمج أنّه عندما يمرض أحد في قريتهم، يهرعون إلى الأب شربل
طالبين منه ماء مباركا؛ وكثيرون كانوا يسألونه الصلاة، وبصلواته تزول
الأمراض والبلايا. ومن لم يستطيعوا الذهاب إلى المحبسة يستحضرون ماء
مباركا منه وينالوا بواسطته الشفاء ممّا ألمّ بهم، وكلّ مريض يَدهَن
أو يَشرَب من هذا الماء، يُشفى من مرضه.
رابع وعشرون: حُبُّ الصلاة
أ- تعريف
1- مناجاة الحبيب
يأمر القانون: "يجب أن
يسبق الإخوة إلى الكنيسة، ويخرج منها بعد الجميع"؛ لذا حين نهوضه من
الرقاد يذهب توّا إلى الكنيسة فيمكث فيها نحو خمس ساعات،
ويبقى راكعا في
الكنيسة حتّى تيبس ركبتاه،
منتصبا لا يتعب ولا
يتوكّأ، دون أن يلتفت يمنة أو يسرة؛
وكان
يصلّي على القرّاية مع
الجمهور، يشارك في جميع الصلوات اللفظيّة
بأوقاتها في
الشحيم الكامل، فيتلوها بكلّ تأنٍّ، كأنّه يُخاطِب بها ملكا رفيع
الشأن، ماثلا في حضرته، منظورا بالأعين الحسّية، وهو غائب عن الحواس،
ومطانيّاته متواصلة،
وطورا بالصلاة
العقليّة، وصلواته اللفظيّة كان لها عادات خصوصيّة، يصرف في تلاوتها
نحو ثلاث ساعات في اليوم، يتمِّم قسما منها في النهار وقسما في
الليل؛ وكان
يلفظ صلواته في الفرض وبقيّة الصلوات كلمة كلمة، وكان في النهار يتلو
فروضه راكعا، متأنٍّ في تلاوتها. وإذا لم يكن في الكنيسة غيره، وقت
صلاة الخورس، يصلّي على القرّاية وحده بصوت عال.
وكان دائما يصلّي صلاة
نصف الليل، ولا يتأخَّر عنها أبدا. ولقد تناهى في التقوى والقداسة،
فكان نديم الله وسمير الملائكة. ولم تكن عبادته تقوم ببعض صلوات
وممارسات تقويّة يتركها متى لم تعد تسمح له الظروف، بل بمحبّة شديدة
لله تلصقه به فكرا وقلبا حتّى لا يبرح ذكر الله ذهنه مُصلّيّا كان أو
عاملا أو آكلا أو نائما. وقصارى القول إنّه لم يكن يحيا لذاته بل
لله؛ وما كان يأتي على لسانه ذكر شيء أرضيّ.
2- حبيب سرّ المحبّة
الذي يحبّ شيئا أو
شخصا يفتكر فيه، ويكثر ذكره، وذكر أعماله. وإذا تيسّر له الإكثار من
زيارته والإجتماع به، لا يتأخّر أبدا. كذلك الأب شربل كان دائما
صموتا لأنّه كان دائما يفتكر بالله محبوبه، ولم يكن في قلبه موضع
لغير الله؛ ففاق الحبساء بكثرة زياراته للقربان ليلا. وكان أينما ضاع
الأب شربل في الدير، يوجد في الكنيسة؛ وكان يرى أحيانا أمام القربان،
في انخطاف غائب عن الحواس، وكان يصعد من قلبه تنهّدات عميقة تشعر
بمحبّته الشديدة للإله المحتجب في سرّ القربان. وكان يسمع تنهّده
وحنينه؛ وهذيذه الروحي كان متواصلا، وهيئته تُليِّن الصخر، وتُلقي في
الناظرين الخشوع والإهابة، والنور السماويّ يطفح دائما من وجهه.
3- حبيب المسبحة
الورديّة
كان يصلّي الورديّة
راكعا منتصبا بلا حراك، ويداه ممدودتان على صدره، على طبق كان حاكه
هو بيده من قضبان الحيلان، قاسية محبوكة على شبه دائرة يسترها بقطعة
عباءة سوداء، وكان يبقى على هذه الحال، كلّ مدّة تلاوة الورديّة
المقدّسة.
ب- روايات وأحداث
1- ثوب السيدة
أوعز إليّ مرّة الأب
شربل الحبيس أن أرسل إليه ثوبا مثلَّثا مؤلَّفا من ثوب السيّدة،
والحبل بلا دنس، والآلام، ليلبسه. فصنعت هذا الثوب وأرسلته له مع رجل
من قرية عربة قزحيّا وكان ذاهبا إلى دير مار مارون عنّايا، وقد
أفهمته أن يأتيني بعلامة من الأب شربل وهي أن يذكر له بعض أسماء
أقربائه في بقاعكفرا وينهيها إليّ، لأتأكَّد وصول الثوب ليده. وقد
رغبت إلى هذا الرجل أن يستحصل لي من الحبيس على بركة أو ذخيرة. فعاد
الرجل ودفع إليّ ورقة صغيرة مطوية بدون ظرف وقال: إنّ الحبيس لم يرسل
لك شيئا غير هذه الورقة. ففتحتها فرأيت فيها هذه الكلمات التالية
بخطّه وهي: الأب شربل حبيس مار مارون عنّايا راهب قزحيّا، طالبة
بركة أو ذخيرة، بركة مار بطرس وبولس تحلّ عليكِ. هذا كلّ ما بعث
به إليّ. وقد فرحت فرحا عظيما بهذه الورقة التي هي بخطّ الحبيس بيده.
وخطّ الورقة بالعربيّة وهو غير حسن. وقد أشارت عليّ رئيستي وقتئذ
الأم زيارة الغوسطاويّة، أن أحتفظ بهذه الورقة قائلة لي: هذه الورقة
بخط يد الحبيس هي ذخيرة أبقيها معك. فوضعت هذه الورقة ضمن رقعة من
الجوخ، وعلّقتها في عنقي. ولمّا أرادت شقيقتي أن تسافر إلى أميركا،
أعطيتها هذه الورقة نجاة لها من خطر البحر.
2-
أنا هو
(مر
6/50)
شهد الأب اغناطيوس مشمش: لمّا كنت في هذا الدير شمّاسا أوّلا ثمّ
راهبا، كنت موكّلا بالسكرستيّا. وأحيانا أدخل إلى الكنيسة لأرى إذا
كان الضوء موقدا أمام القربان، وإذ أفقت من نومي، في إحدى الليالي،
قرب منتصف الليل، دخلت الكنيسة لأرى كبّاية الزيت الموقدة أمام
القربان، فوجدتها منطفئة. فتلمّست في الظلام لأنيرها، فعثرت ببشر،
فاضطربت. فقال لي ذاك البشر: لا تخف! أنا!
فعرفته من صوته أنّه الأب شربل. كان راكعا نصف الليل في الكنيسة
يتأمَّل.
3-
ماذا يجري حوله؟!
شهد الأخ بطرس مشمش: كان مختطفا دائما بالتأمُّلات العقليّة
مفكِّرا مستغرقا في السماويّات، ولاسيّما في تلاوة القدّاس الإلهيّ،
وكلّ من رآه يتحقَّق بأنّ جميع عواطفه وجوارحه وتصوُّراته فيه تعالى،
غير ميّال إلى شيء ممّا يتعلَّق بالأرض. ولشدّة تعمُّقه في تفكيره
بالمولى سبحانه يذهل عن نفسه أحيانا كأنّه غير موجود في العالم.
وتراه دائما صامتا هادئا هدوءا زائدا حتّى إنّه لا يعرف ماذا يجري
حوله، يشهد بذلك سؤاله لي لمّا كان يشتغل معي في الكرم فقال: كم
زوج من البقر تفلح في الكرم؟ أجبته: ثلاثة. وإنّك كلّ النهار
تشتغل معنا ألا تعلم كم زوجا من البقر في الكرم؟ فسكت، ولم ينطق
بكلمة.
4-
يخاطب الله مع الملائكة
شهد
التنّوري: كنت أراه، في صلاته، كأنّه مخطوف عن حواسه. مستغرق بالله.
وكأنّ لا يشعر بما ولا بمن حوله! وكنت أتوقّف أحيانا بدوري أقوله
بصوت خفيف، فيبقى ماشيا بدوره ودوري على السواء، كأنّه لا شريك له
ولا مساعد له في إقامة الصلاة... فكنت أتصوّره كأنّه في سماء الله
يخاطب الله وجها لوجه وفما لأذن، وقلبا لقلب. كأنّ جسده غير لاصق
بالأرض. وأمّا روحه فكنت أتصوَّرها ممتزجة بالملائكة تؤدّي لله معهم
التسابيح والتمجيد!
5- أسبوع الآلام
إذا
استدعاه
الرئيس
وكرارجي
الدير
لمساعدته
في
الخبز، أو لمساعدة الجمهور في قيام الخورس في أسبوع الآلام لحسن لفظه
ومهارته في القراءة، يهرول حالا ويقضي شغله في الدير صامتا.
6-
سلّم إلى الله
شهد يوسف عبود: ذات يوم بينما كان إبني جرجس مريضا ومتضايقا جدّا،
ذهبت إلى المحبسة، وطلبت من الأب شربل ماء مباركا، فقال لي: أقعد
الآن، الله يدبّر. فكرّرت عليه الطلب، فقال: عا مهل، سلّم إلى
الله، والله يعوّض. قال ولم يعطني ماء مباركا، فرجعت حزينا
متعجِّبا من رفضه الصلاة على الماء بخلاف عادته معي. ولمّا اقتربت من
القرية، سمعت صراخا وعويلا في بيتي، فتحقَّقت عندئذ من موت ابني هذا
وتذكّرت كلام الأب شربل لي: أقعد الآن الله يعوّض. ورفضه
الصلاة على الماء. فكأنّه عرف بالروح أن ابني مات وما أحبّ أن يخبرني
بموته.
7-
سفينة نوح!
(يو17/15)
جاء
الجراد في إحدى السنين بكثرة هائلة، فلم يبقِ على شيء. فأرسل الأب
الياس مشمشاني رئيس الدير وأمر الأب شربل أن يأخذ ماء يصلّي عليه،
ويرشّ على حدود أرزاق الدير لئلاّ يدخل إليها الجراد، فأطاع. ولكنّه
نسي قطعة صغيرة داخلة ضمن أرزاق الشيعيّين. فجاء الجراد وأكل الأخضر
واليابس، في كلّ تلك الجهات إلاّ أرزاق الدير. فما دخل إليها جرادة
واحدة، بل بالأحرى ما مسّها الجراد، كأنّه ما دخل إليها قطّ، إلاّ
تلك القطعة الصغيرة فقد حلقها حلاقة. ولم يبقِ منها عرقا أخضر بل
قشّر شجر السنديان أسوة بباقي الأرزاق. ولا يزال الشيعيّون يردّدون
ذلك. وتعجّب الناس في كلّ نواحي البلاد، لمّا رأوا كلّ سهول لبنان
وتلاله وروابيه قد جردت من العشب والزرع وكلّ أخضر، وبقيت أرزاق
الدير خضراء، ناجية من كلّ ضرر كأنّها سفينة نوح في وسط طوفان الخراب
الشامل.
8- كرم وقف إهمج
(يو
15/5)
شهد
العويني: أرسل والدي، أخي بطرس راجيا الأب شربل، أن يحضر فيصلّي على
الماء، ويرشّ على كرم وقف القرية، الذي كان باستلامه، والكرمة والزرع
اللذين رشّ عليهما الماء المبارك منه، لم يلحقه ضرر من الجراد. ومع
أنّ الجراد لم يبقِ على شيء في تلك السنة، وكان الإهمجيّون يأتون
لزيارة هذا الكرم، ومن جملة الذين زاروه القس الياس المشمشاني رئيس
الدير.
خامس وعشرون: إيمان شربل
أ-
تعريف
كان إيمانه ظاهرا:
- في قدّاسه، يقدّس كأنّه يرى المسيح وراء الأشكال، ويخاطبه قلبا
لقلب، متأنّيا، متخشّعا، شديد الاحترام، كأنّ الله تعالى هو أمامه.
-
بإتقانه صلواته، بتروّيه في تأمّلاته. كان يتلو فروضه كلمة كلمة،
بصوت خافت حنون. عندما كان يريد أحد الناس أن يحدّثه، كان يقتضي له
بعض الوقت ليعود عن تأمّله ويفكّر بما يخاطبه به المحدّث، كأنّه
مستغرق بالله. وعندما يتحدّث بأمور روحيّة تراه مضطرما غيرة، من فيض
ما في قلبه من حرارة الإيمان، وما ظهر في حياته كلّها، ضجر في الأمور
الروحيّة، أو عجلة أو كسل، بل كان النشاط رفيقه كأنّه يتلذّذ بأمور
يشتهيها قلبه.
- في
طاعته العمياء لرئيسه أو لمن يمثّله، وهذا برهان واضح أنّه يرى الله
في شخص رئيسه، دون أن ينظر في استحقاق هذا الرئيس أو عدمه.
- في
شغله، فلا يعمل شيئا من تلقائه، حتّى الأكل، حتّى النوم، لإيمانه
الراسخ بأنّ صوت السلطة هو وحده صوت الله. وكلّ عمل من أعماله
المزدان بالتروّي والنشاط، لسان ناطق بصدق إيمانه الحار. وآتاه الله
موهبة علم الغيب، جراء إيمانه الحيّ، الخلاصة كان شعلة مضطرمة
بإيمانه.
ب-
روايات وأحداث
1- صاعقة
شهد شبلي شبلي: كان الأب شربل، عام 1885، راكعا منتصبا في كنيسة
المحبسة غارقا في صلاته أمام القربان المقدّس، فانقضّت عليه صاعقة
قويّة، أحرقت بدلة جديدة للقدّاس مقصّبة بالفضّة موضوعة على المذبح،
ومرّت الصاعقة في نصف الكنيسة بالقرب منه، فمسّت طرف عباءته وأحرقته
قليلا، ولم يُصَب بأذى وأذكر هنا، أنها سقطت حوالي الظهر. فقصد رهبان
الدير، ليروا نتيجتها على المحبسة. وكنت أنا برفقتهم. فلمّا وصلنا
إلى المحبسة، رأينا أنّ هذه الصاعقة قد حلّت بالمحبسة من الجهة
الجنوبيّة، وقد سحبت حجارة عديدة من ناحية حفافي الكرم، مرَّت بها،
ودخلت كنيسة المحبسة، فأحرقت وجوه المذبح، وبدلات كانت عليه. ونقلت
الكأس من محلِّه إلى مكان آخر. وكذلك أُصيبت بعض الصور بضرر. وفتحت
الأبواب، ودوَّخَت من رائحتها، رفيقي الأب شربل الآخرين. وكانا شبه
فاقدي الوعي في المطبخ، حيث يصطليان من شدّة البرد. ولمّا أفاقا ظنّا
أنّ الأب شربل قُتِل، وذهبا بسرعة إلى المعبد، فوجداه يصلّي كما كان
في وضعه الأوّل، كأنّ شيئا لم يحدث، قبل نزول الصاعقة، إلى أن وصلنا.
فقال له الرئيس، الأب عمانوئيل الجاجي: ولو يا أب شربل؟! ما فيكش
طفّيت الشراشف والبدلات؟! فأجابه: يا خيِّ أيش بدي طفّي؟! هب طف
ما في شي. أي أنّ الحريق حدث بسرعة البرق. ولم يستطع المقاومة.
وقد بقي في صلاته.
2-
ظلّت مواسم قزّ الدير سليمة
شهد
الأب نعمةالله نعمة: لمّا كنت رئيسا على دير مار سركيس قرطبا، كان
المحل يصيب مواسم قزّه من مدّة ثماني سنوات، وإذ تكون فاطرة في الدور
الرابع بعد مرور تسعة ايّام عليها، يسري إليها الموت. فأرسلت أحد
الرهبان إلى الأب شربل الحبيس، في محبسة عنّايا، فأتاني بماء مبارك
رششناه على القزّ فطابت وبعد عنها الموت، وظلّت مواسم قزّ الدير
سليمة من الفناء مدّة ثلاث سني رئاستي عليه وصاعدا.
3-
أقبل موسمي في تلك السنة
شهد
يوسف عبود: وفي إحدى السنين، حلّ الوباء في موسم الحرير في بيتي بسبب
رداءة ورق شجر التوت، واصفرّ الدود وطفر على حافة الأطباق، وبدأ يسقط
على الأرض. فأسرعت عندئذ إلى المحبسة، وأتيت بماء مبارك من الأب
شربل، ونضحت به الدود، وفي الحال رجع إلى مكانه على الأطباق، وشرع
يأكل ويهدر كعادته. وقد أقبل موسمي في تلك السنة إقبالا عظيما بفضل
الأب شربل.
4-
لا تحكِ عن ذلك أبدا
(مر
1/44)
شهد
سابا عبيد: كثرت الفئران في بيتي، في إحدى السنين، وأخذت تلتهم دود
الحرير، وكادت تفنيه. فأتيتُ بماء مبارك من الأب شربل، ونضحتُ به
الدود. وفي اليوم الثاني، تفقّدتُ الأطباق، فوجدتُ الفئران مرتمية
عليها وهي ميّتة. فمضى واحد وأخبر الأب شربل بهذا الحادث. فقال له:
لا تحكِ عن ذلك أبدا.
5-
بغلة الدير
ومرّة عرض لبغلة الدير مغص، فارتمت على الأرض، وجحظت عيناها،
وأشرفت على الموت. فعمل لها الرهبان والمكاري جملة وسائط بقيت على
حالها. أخيرا استدعوا الأب شربل، فوقف فوق رأسها يصلّي. وما أتمّ
صلاته حتّى قفزت البغلة واستوت واقفة.
6-
أأنا إله لأمنع الموت
(مر
10/18)
كان
رجل من عائلة شموتي، البترون، يملك قطيعا من الغنم، أُصيب بمرض فتّاك
بداء الروجة (كذا) فمات القسم الأكبر من قطيعه. فسمع بشهرة الأب شربل فأتى يطلب منه ماء مباركا
يرشّه على قطيعه. وعندما وصل إلى الأب شربل، وعرض عليه طلبه، أجابه
الأب شربل في بادء الأمر: أأنا إله لأمنع الموت. فهمّ عندئذ
الرجل بالرجوع، لكنّ الأب شربل عاد فسأله: هل معك وعاء للماء؟
وبارك على الماء وأعطاه إيّاه. فرشّه على قطيع الغنم. ولم يعد يموت
منه ولا رأس. ثمّ فيما بعد، كان يربّي هذا الرجل دود القزّ في
البترون. أخذ يلاحظ كلّ يوم نقصا كبيرا في الدود، كأنّ حشرات تأكله.
فحمل ماء ورجع إلى شربل طالبا أن يباركه له، فباركه. ورشّ به الدود
فوجدوا كثيرا من الحشرات التي كانت تأكله مائتة، أي فئران وأكباب شوك
وحيّة كبيرة.
7-
إمكانيّة القدّيسين
شهد الأب الحصروني: طالعت في زمن إبتدائي سير القدّيسين، وخصوصا
كتاب الكمال المسيحيّ للأب رودريكوس اليسوعيّ، وكنت أرتاب في
إمكانيّة بعض حوادث وفضائل تنسب إلى حبساء أو قدّيسين، وكنت أعتقد في
ذلك غلوّا. وأنّ مثل تلك الأمور تفوق المقدرة البشريّة. ولكن لمّا
عاشرت الأب شربل، وخبرت فضائله بذاتي عن قرب، تيقّنت أنّ نعمة الله
تصنع العجائب في النفوس. وأنّ كلّ ما قيل وكتب في القدّيسين هو دون
ما شاهدته بعيني في ذلك الجبّار، الأب شربل.
سادس وعشرون:
قدّاسه ذروة حبّه
أ- تعريف
1- في الدير
يشرح قانون المبتدئ:
"الكاهن، في القدّاس، هو نائب المسيح، والتقدمة هي جسد ودمّ سيّدنا
يسوع المسيح حقّا... وفي القدّاس 3 عبادات: - التأمّل بآلام المسيح -
تقدمة الذبيحة لله الآب - التناول الروحيّ... وللمناولة يلزم 6
أشياء: الإعتراف النقيّ، تلاوة فعل الإيمان. أرجو أنّ تمحى كلّ خطايا
البشر بنقطة من دمك، أحبّك، فعل الندامة، غير مستحقّ، والشكر بعد
التناول الروحيّ أو السريّ".
ونظرا لأهميّة القدّاس:
كان يسمع كلّ قداديس إخوانه الكهنة، ولدى نهايتها يبتدئ هو بقدّاسه؛
وكان يقدّس أحيانا على مذبح مار جرجس الذي في الحائط الجنوبيّ،
وأحيانا على مذبح السيّدة في الحائط الشماليّ، وأحيانا على المذبح
الكبير، إذا أمره الرئيس. وكان في قدّاسه متأنّيا متخشّعا. كان يستمر
في تلاوة قدّاسه نحو ساعة، وأحيانا أكثر مناجيا العزّة الإلهيّة. ولم
يكن يضجر أحد من سماعه ولو طالت مدّته. وكان متأنّيا في تلاوته، يفهم
الإنجيل كلمة فكلمة، لا يرفع صوته كثيرا؛ لكنّ البعض كانوا يهربون من
خدمة قداسه لأنّه كان يطيل التأنّي به؛ وبعد القدّاس يعود إلى محلّه
خلف الباب، ويركع نصبا قدر ساعتين، على الأرض صيفا وشتاء.
2- في المحبسة
كان يركع نصبا قبل
القدّاس قرب الباب، في الشتاء على طبق قصب منعا للرطوبة، وفي الصيف
على الأرض؛ كان يقدِّس عند الصباح في أيّام الشغل، وقبل الظهر
بساعتين يقدِّس يوم الأحد أو الأعياد؛ وكان جمهور غفير يأتي لسماع
قدّاسه والفوز ببركته، وكان يدهش الحاضرون لما يرون في شخصه من
التأنّي ودلائل الخشوع، متمّما حركات الذبيحة بصوت منخفض وتهيّب.
وبعد القدّاس يركع في الكنيسة نصبا مستغرقا في الشكران. وينصرف بعدها
إلى الشغل في الكرم. وحياته كلّها، كانت استعدادا للقدّاس وشكرانا.
3- وجها لوجه
كان دائما كالمختطف عند
دعوة الروح القدس، فبعد التقديس، ينظر إلى القربان الأقدس أمامه
مُتهيِّبا، كأنّه يشاهد عيانا الإله المتأنّس المحتجب؛ ويخاطب شخصا
عظيما أمامه يراه بأمّ العين، وعندما يرفع بيده القربان الأقدس
تاليا: "أبو دقوشتو" يظهر بمظهر المتهلِّل بالروح، كأنّه يشاهد الله
وجها لوجه.
4- النظافة
كان نظيفا، وخاصة عند
القدّاس، إذ كان محتفظا بعباءة وحذاء لائقين، يلبسهما أثناء الذبيحة
الإلهيّة، ثم يخلعهما عند نهاية الذبيحة. وكان ما يستعمله من منشفة
وصابونة وحذاء أثناء التقديس، لا يستعملها بغير أعمال إحتراما
للذبيحة. وأمّا يديه فكان قبل القدّاس، يعتني بتنظيفها، وغسلها بشكل
غريب؛ ويعتني بنظافة أواني الكنيسة أشدّ العناية.
ب-
روايات وأحداث
1- كالمغناطيس
شهدت مريم شمعون: لمّا
كنت فتاة كنت أجيء من إهمج مع أهلي، فنسمع القدّاس في المحبسة كلّ
أحد وعيد. وكنّا نسمع قدّاس الأب شربل غالبا، وما كنت أراه إلاّ في
القدّاس. فعائلتنا تقول إنّ أصل تأسيس المحبسة من أخ من عائلتنا.
وإنّ لنا ميلا خصوصيّا، بل ولعا في محبسة تذكّرنا بعمّنا. كذلك في
الصيف، كنّا نصطاف في العويني قرب المحبسة حيث لا يوجد كنيسة. فضلا
عن أنّ قداسة الأب شربل، كانت تجذب النفوس إليها كالمغناطيس. فكانت
كنيسة المحبسة لا تخلو من زوّار عديدين كلّ أحد وعيد. والذي كان
يحضر منّا قدّاس الأب شربل، كان يتأثّر جدّا، وما يعود له قلب يخرج
من الكنيسة، خصوصا عند تلاوته الكلام الجوهريّ فكان يُليّن القلب
بخشوعه وصوته الحزين (المتقطِّع بسبب
البكاء).
2- هل أنت تأكل
مخلوطة؟!
كان أحد الكهنة يقدّس
في المحبسة بعجلة، تقدّم الأب شربل بعد القدّاس وقال له: لماذا
تعجّل هكذا؟! هل أنت تأكل مخلوطة؟!
3- تناولي القربان
(مر
14/22)
شهد اليشاع نكد: ذهبتُ
مع والدتي وردة، فوجدنا الأب شربل في المحبسة. فلم يشأ الحبيس أن
يقابل والدتي، فطلبَتْ أن تُقَبِّل يده. فأجابها من داخل الكنيسة،
والباب مقفل: تناولي القربان المقدّس، في القدّاس، فيكون في فمك
وقلبك إبن الله بالذات، وهو يكفيك. وماذا ينفعك تقبيل يدي متى ما كان
إبن الله في قلبك؟!
4- تسقط الدمعة من
عينيه
كان بمحبّته نارا
ملتهبة. وكثيرا ما كان يبدو على المذبح، وكأنّ في صدره موقد نار
حامية. فتبرق عيناه وتَنْزل دمعتاه، وتحمرّ وجنتاه، وتصعد التنهّدات
من صدره كأنّها بخار حام، كأنّه يرى المسيح بعينيه. فلذلك كان يذرف
الدمع بغزارة. ويضيف العويني: عندما كان يلفظ هذا جسدي! أو
هذه كأس دمّي! كانت أحيانا، تسقط الدمعة من عينيه. فقد انتبهت
إلى ذلك مرّتين. وفي إحداها سقطت الدمعة على الصمدة. وبعد أن تناول
الجسد، وشرب الدمّ، وغسل أصابعه، رأى أثر الدمعة على الصمدة. فظنَّ
ذلك نقطة دمّ من الكأس فاضطرب. فقلت له أنا، عندما رأيته ينظر إلى
ذلك الأثر مضطربا، أي شيء بك؟ هذه دمعتك سقطت من عينيك بعد كلام
التقديس. فظلّ مضطربا وبعد القدّاس، حمل الصمدة وذهب إلى الدير عارضا
الأمر لرئيسه لراحة فكره.
5- يعضّ الكأس
كان يبادر إلى الصلاة،
ومناجاة الله في الكنيسة كإنسان مولع ولعا شديدا. وكانت هذه المحبّة
تظهر في قدّاسه بدموعه، وخصوصا عندما كان يشرب الدمّ، ويتناول الجسد،
كان يُرى كمن يأخذ ألذّ شيء في الدنيا، ويشرب شرابا سماويّا؛ لذا كان
في آخر مدّة حياته عندما يشرب الدمّ، يعضّ الكأس ولا يعود يتركه من
فمه، إلى حدّ أن يبقى أثر لأسنانه فيه.
ويشرب غسالة الصحون، وراء ممثّل حبيبه يسوع! كما تأكل الأم وراء
طفلها!!! والحبيبين من فميهما!!! إنّ عصر شربل، عصر الفقر، عصر
الجهل، بالنسبة لعصرنا المتطوّر. فكانت البيوت من تراب، بدون
حمّامات، بدون مياه، بدون كهرباء، بدون غاز... أواعي المطبخ من
الفخّار، من صحون وطناجر، والملاعق من خشب... لا دواء للغسيل...
فصابون الأمس ...هي مياه الرماد. والجلي عادة يكون بالماء
العادي، فمعظم الأكل من الحبوب والبقول المطبوخة بالزيت. الطبخ
يكون عادة بالدست (طنجرة كبيرة من النحاس) والطبخ والغسيل على
نار الحطب...
|