البطريرك جبرايل من حجولا الذي قتله المماليك حرقا وهو حي
       

"الشيخ مسعود"... بطريرك المسيحيين والمسلمين

 

 

 
 
   
البطريرك الشهيد جبرايل من حجولا، 1357-1367 مقر البطريركية المارونية، دير سيدة ايليح
"ما من بطريرك في الكنيسة المارونية يحمل إسم "مسعود". لكنّه ليس بأسطورة، قصّته حقيقة وشخصيته ليست من نسج الخيال. لقد عاش في القرن الرابع عشر وحبريته دامت عشر سنوات كانت كافية لتكون مفصلية في التاريخ الماروني، بعدما طبعته باستشهادٍ أمسى ديناً على الأجيال المتعاقبة"
جبرائيل من قرية حجولا في بلاد جبيل كان راهباً من رهبان وادي قاديشا،
وقد انتخب بطريركا على الموارنة سنة
1375، هو البطريرك التاسع والثلاثون وقد حكم 10 سنوات.  في زمنه كان  الموارنة مهددين بخطرين مهمين: الانقسام والاضطهاد من جانب المماليك.
نجح هذا البطريرك في إعادة توحيد طائفته وترسيخ الاستقلالية المارونية الأمر الذي أزعج المماليك، فكان أن أرغموه على أن يسلّم نفسه فداءً عن أهله وكنيسته وأحرق حيّاً في طرابلس سنة 1367 .
 أكثر من 1200 سنة من النضال والمقاومة والتضحيات، يختصرها البطريرك جبرائيل بشهادته.
من هنا لزم تذكير الموارنة بالثمن الذي دفعه الأجداد لكي يبقوا أحراراً في أرضهم وكنيستهم.
 إنه بطريرك قديس ضحّى بنفسه لإنقاذ شعبه وكنيسته
، أنه قتل أو أعدم ظلماً على أيدي المماليك خلافاً لما روجته ولا تزال المراجع التاريخية الإسلامية التي تتهم البطريرك حجولا بالتآمر مع الصليبيين في قبرص على دولة المماليك.  وكان ذلك قبل 63 سنة من شهادة جاندارك الفرنسية.
 فالبطريرك حجولا دفن في مقبرة المسلمين في طرابلس وكان المسلمون يتضرعون إليه أكثر من المسيحيين وقد سمّوه الشيخ مسعود.
 انه اسم اطلقه المماليك تمويهاً على مقبرة البطريرك الشهيد جبرائيل حجولا، والذي قتلوه حرقاً في طرابلس العام 1367 ودفنوه في المقبرة الاسلامية عند السفح الشمالي من تل الرمل العالي سراً، قرب جامع طينال في طرابلس

ويقول العلّامة البطريرك اسطفان الدويهي في سلسلته المجدّدة: "وفي سنة 1367، جرى الاضطهاد على رؤساء الكهنة واستشهد في النار بخارج مدينة طرابلس البطريرك جبرايل من قرية حجولا، وكان ذلك في شهر نيسان. وإلى اليوم قبره يهب الأشفية لكلّ من طلبه، وقد اتّخذه المسلمون مزاراً ويسمّونه الشيخ مسعود".
وورد في المخطوط العينطوريني: " والي طرابلس قبض على البطريرك جبرايل حجولا من أعمال جبيل في أول نيسان وأمر بحرقه عند جامع طينال في طرابلس، لأنه إتهم بتهمة باطلة وهو بريء منها... كان رجلا قديسا... وإلى اليوم قبره تخرج منه الأشفية إلى كلّ من طلب شفاعته وقد اتخذه المسلمون لهم مزارا وأقاموا له هيكلا ويسمّونه الشيخ مسعود".
 
إنه "سيّدٌ في إيليج"...

لم يخطر ببال الراهب الذي يعشق التنسّك أن يصبح بطريركاً للكنيسة المارونية التي كانت تمرّ بظروف عصيبة ومفصلية، فالمماليك على الأبواب والإستقلال الذاتي "النسبي" بخطر، والإنشقاق الداخلي وانقسام شعب "مارونيا"، بلاد الموارنة، بسبب الهرطقة كاد أن يتحوّل إلى فتنة بين الموارنة.

وهكذا بعد عزل البطريرك يوحنا العاقوري، "ذهب الرهبان إلى الوادي المقدّس في قنوّبين واجتمعوا بالنسّاك على مدى أسبوع كامل، أمضوا أيامه داخل الصومعة في التأمّل والصلاة. وفي صباح اليوم السابع، اقترح رئيس وفد الرهبان أن يكتب كلّ واحدٍ من المجتمعين على حدة، وعلى ورقة من أوراق الشجر البرّي، اسم البطريرك المختار بمشيئة الرب ووحي روح القديس مارون. وبعد خلط الأوراق أجريت القرعة وتبيّن أن المختار هو راهب من قرية حجولا يدعى جبرائيل، الذي لم يكن بين الرهبان في صومعة قاديشا وهو ما زاد في قناعة المجتمعين بأن خيارهم جاء من الوحي الإلهي".

حمل حجولا الصليب في قلبه تاركاً مغارته إلى بيته الجديد في دير سيّدة إيليج، المقرّ البطريركي، ليرعى شعبه ويعيد الضالين إلى حظيرة الربّ، وقد نجح البطريرك بسرعة هائلة في إعادة اللحمة والمحبة بين أبنائه، الأمر الذي أذهل الاعداء خصوصا المماليك الذين لم يتوانوا عن خلق الانشقاق والفتن بين الموارنة لضرب رمز وحدتهم المتجسدة بالبطريرك والقضاء على استقلالهم وحرّيتهم التي تميّزوا بها عن سائر المجموعات في الشرق.

في تلك الحقبة، شنّ "الصليبيون" حملة عسكرية على الإسكندرية تحت قيادة ملك قبرص، بيار دي لوزينان الفرنسيّ، بهدف الوصول إلى القدس، وأحكم المهاجمون "سيطرتهم على جميع أحياء الإسكندرية واحتفلوا بهذا الانتصار بوحشية، فكثرة الغنائم هزّت عقول المعتدين وحوّلتهم إلى مجرمين مجانين عاجزين عن التمييز بين العسكر المملوكي والمدنيين العزّل، بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وأعمال السلب والنهب طالت حتى أرزاق التجار الأوروبيين المقيمين في المدينة"، فاستغل المماليك هذه الواقعة ليحققوا حلمهم بالنيل من خادم الكنيسة المارونية الذي اتُهم بالخيانة والتعامل مع الصليبيين، "فمستشارو السلطان ومعاونوه اغتنموا الفرصة للإدعاء بأنه بين غزاة الإسكندرية شوهد فرسان من الموارنة الذين يسكنون قبرص منذ زمن بعيد. وقد اقتنع السلطان أشرف بوجود خطر التلاحم من جديد بين الموارنة القبارصة وموارنة الجبل"، فصدر الحكم المملوكي بإلقاء القبض على البطريرك حجولا وتنفيذ حكم الإعدام.

هاجم المماليك دير إيليج واعتدوا على رهبانه بالتعذيب والذبح، لكنّهم فوجئوا باختفاء البطريرك جبرائيل الذي لجأ قبل أيام إلى إحدى المغاور القريبة من مسقط رأسه. ومن أجل الضغط على حجولا، "بدأت عساكر المماليك بتنفيذ أمر السلطان، فهاجمت ضيعاً في جبيل والبترون ممعنة فيها قتلاً وتخريباً"

"الدنيا مقلوبة، عسكر المماليك دخل بيوتنا وأحرقها، اعتقل الكهنة والرهبان، هدّ حيطان كنائسنا وانتهى بهم المطاف إلى حجولا"، وقع كلام مقدّم لحفد نقولا كالصاعقة على البطريرك حجولا الذي زاره في مغارته.

"عد إلى الضيعة وحرّر اولادنا وبشّر الجميع بقرب الخلاص"... قال البطريرك

 

وبدأ "زيّاح الفداء"

سلّم البطريرك نفسه مكبّلا بالجنزير، محاطاً بالعساكر، متنقلا من قرية إلى أخرى لتسلّم الرهبان والأساقفة الموقوفين في حملة الفداء. بكت النسوة، وانعقدت ألسنة الرجال وتصبّرت أجسادهم الذين تحوّلوا إلى قافلة من المؤمنين "يمشون وراء بطريركهم ورفاقه كما لو أنهم في زياح مهيب" إلى أن وصل الموكب إلى قلعة طرابلس.

"يا أبتاه... لك روحي، فليفعلوا بجسدي ما شاءوا"

صرخ البطريرك المسكين و"لسعات السوط تمزّق جسمه. عاش آخر ساعات حياته وكأنها دهرٌ من الإرتياع والأوجاع والدموع. ضاقت به الزنزانة وكاد يصرخ من صميم أحشائه ولكن همس الرهبان الأسرى في سراديب القلعة ذكّره بأنّه حارس سيّدة إيليج الساهرة على شعب مارون، وعليه أن يظلّ القدوة الصافية والصابرة حتى لو كان على عتبات الموت".

 

نهاية وبداية وعبرة

"أشار القاضي إلى كبير الجلادين أمراً بإشعال النار تحت البرميل"، واستشهد البطريرك جبرائيل حجولا بالحرق حيّاً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة:

"ربّي امنحني رحمتك واجعل رقادي الأبدي في جنائن ملكوتك".

ولكي لا يكتشف أحد في يومٍ من الأيام الموقع الذي يرقد فيه سيّد إيليج الشهيد، أوصى النائب الملوكي بأن يكتب على القبر للتمويه اسم "الشيخ مسعود".
 

 ان العبرة من القديس جبرائيل حجولا، مع اقتراب الذكرى الستماية والخمسين على استشهاده، "فتبقى في تذكّر التضحيات التي قدّمها أجدادنا والتي تفرض علينا واجب تصحيح التاريخ والتعلّم من دروسه، فنحيي التضامن فيما بيننا، ونعزّز وحدتنا، ونقدّس كنيستنا، وننفتح على أهلنا من حولنا في الوطن، لكي لا تتكرّر مآسي الماضي، البعيد والقريب، ولكي نبقى ندقّ أجراس كنائسنا في لبنان وسائر... المشرق".
فهلما كموارنة نبني لبنان، وطن اراده البطريرك يوسف الحويك
ولتكن ذكرى ورسالة هذا البطريرك برموزها: المحبة والتضامن والتعايش والفداء من أجل البقاء أحراراً فوق أرض لبنان. فالمسيحي المشرقي حالياً بحاجة إلى إحياء مثل هذه المناسبات لكي يتذكر… لازم نتذكر حتى ما ننتسى.
 
ما الاب بطرس ضو قد كتب:  "يبدو أن كلّ الفتن في تاريخ الموارنة تسبّب بها اليعاقبة الذين كانوا يندسّون فيما بينهم، ويبثّون الفتنة ممّا أدّى إلى انقسام الموارنة، ومن ثمّ إلى تنكيل المسلمين بهم. هذا الترابط بين تسرّب اليعاقبة وبدعتهم في داخل المارونيّة، وانقسام الموارنة بين راذل للبدعة أو قابل بها، واكتساح المسلمين للوطن الماروني، هذا الترابط بين الحلقات الثلات يوحي بالاعتقاد أنّ اليعاقبة كانوا جواسيس وعملاء يقذف بهم وقابلا لمسلمون في البيئة المارونية لتفسيخها تمهيداً لاجتياحها.

فالموارنة تجمعهم مع اليعاقبة رابط اللغة والعامل الديني، وإن كانوا على خلاف حول بعض الطقوس والعقائد. هذه الروابط كانت تسهّل تغلغل السريان اليعاقبة بين الموارنة. وكانوا هؤلاء اليعاقبة يستعملون أسلوب الرشوة والبرطيل والمال والهدايا ممّا مكّنهم من استحالة بعض رهبان وادي قنّوبين والمقدّم سالم في القرن الثالث عشر، والبطرك يوحنا في القرن الرابع عشر، وبعض المقدّمين فيما بعد. وليس من المستبعد أن يكون المسلمون زوّدوا هؤلاء الجواسيس اليعاقبة بالمال للتقرّب من الموارنة وزعمائهم، بقصد تفتينهم والتنكيل بهم وباستقلالهم".

وعلاوة  يذكر التاريخ في زمانه احداث سبيهة :
"الفتنة التي انشبت أظافرها في الموارنة، في أواسط القرن الثاني عشر أيّام البطريرك لوقا البهراني، والتي أدّت إلى فصل كسروان، معقل المردة عن الجسم الماروني وخرابه، كان سببها كما رأينا، راهبان مالا إلى بدعة اليعاقبة. وجرّا البطريرك وكسروان معهما.

والفتنة التي وقعت في القرن الثالث عشر، وأحدثت تخلخلاً في الكيان الماروني، كان سببها رهبان يعاقبة، وكانوا جواسيس مصريين تلبّسوا بهيئة رهبان، وملك مصري بزيّ درويش. وتسلّل هؤلاء إلى وادي قنوبين وبشرّي وزرعوا الفتنة فيها واستحالوا المقدّم سالم إليهم ممّا أحدث ثغرةً في التماسك الماروني وانحراف بشرّي عن المجموعة المارونيّة، وأدّى في النهاية إلى سقوط طرابلس بيد المسلمين.

وكذلك الفتنة التي حصلت في القرن الرابع عشر وأدّت إلى تحطيم الاستقلال الماروني، كان سببها راهب حبيس مال إلى بدعة اليعاقبة ورشا البطريرك وقسم الموارنة فئتين متناحرتين"

 
 البطريرك الشهيد جبرائيل حجولا، والذي قتله المماليك حرقاً في طرابلس العام 1367، قد دفن سرا في المقبرة الاسلامية  في باب الرمل - طرابلس (المدخل الجنوبي)  قرب جامع طينالً، و تحت اسم الشيخ مسعود للتمويه.  انه الاسم الذي اطلقه المماليك على مقبرة البطريرك.
"لكنّ القبر تحوّل مع الأيام إلى مزارٍ للمؤمنين من المسيحيين والمسلمين وعلى مدى سنوات كانت الأشفية تخرج من المكان الذي احتضن رفاته هبة لمن آمن بقداسته".
بالصورة والخريطة، مسجد طينال، لبنان - مدخل طرابلس الجنوبي - باب الرمل، في الخلف تقع الكقيرة.
الجامع، أسسه الأمير سيف الدين طينال الحاجب الأشرفي على عهد المماليك عام 1335
 
 
 
 

www.puresoftwarecode.com