زمن القيامة
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2009 - 2010
 عيد الفصح -  المسيح قام! حقاً قام!
  1. السّر الفصحي - الثلاثية الفصحية

  2. الاحد الجديد وعيد الرحمة الالهية -  الكل بالمسيح خليقة جديدة

  3. الاحد الثالث من زمن القيامة - ثقافة القربان وروحانيته
  4. الاحد الرابع من زمن القيامة - حضور المسيح في الكنيسة وشمولية رسالتها
  5. الاحد الخامس من زمن القيامة - مقتضيات المسؤولية الراعوية
  6. الاحد السادس من زمن القيامة - لشهادة لقيامة المسيح بقيامة القلوب
  7. الاحد السابع من زمن القيامة، صعود يسوع - تمجيد بشرية يسوع ووصية المحبة الجديدة، اليوم العالمي لوسائل الاعلام: الوسائل الجديدة في خدمة الكلمة

 

السّر الفصحي

الثلاثية الفصحية

 

         نعيش السّر الفصحي من خلال الثلاثية التي يتألف منها: خميس الاسرار والجمعة العظيمة وسبت النور. ليس هذا السّر فقط تذكاراً  لحدث من الماضي، بل هو واقع حالي. فما جرى في الماضي بالشكل الحسّي والمنظور هو اياه حاضر فعلياً بالشكل الاسراري. انه حياة النعمة بالروح القدس. لم يعد الشر، بكل انواعه، صاحب الكلمة الاخيرة. بل للمسيح وللحقيقة وللحب النصر النهائي.

 

1.    خميس الاسرار

تأسيس سرّي القربان والكهنوت

هذا جسدي يبذل وهذا دمي يراق لمغفرة الخطايا والحياة الجديدة.

 

يُسمى " خميس الاسرار" لان الرب يسوع اسس فيه سرّي القربان والكهنوت، ولأن من القربان تولد كل اسرار الخلاص، وبواسطة الكهنوت تُصنع هذه الاسرار وتتوزع نعمها التقديسية، ولان الرب سلّم الكنيسة وصية المحبة الظاهرة في هذا التأسيس المزدوج.

هذا كله جرى في عشائه الفصحي الاخير الذي بدأ معه الفصح الجديد، وعهد الخلاص بالمسيح. حول المائدة الفصحية جلس يسوع مع الرسل، واقام قداسه التأسيسي: فاستبق موته على الصليب حيث سيقدّم ذاته بحرية تامة لموت الفداء عن البشرية جمعاء، ويقدمها هبة نهائية لحياة العالم، فحوّل خبز المائدة الى جسده، والخمر الى دمه، وقال: "خذوا كلوا منه كلكم: هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا! خذوا اشربوا منها كلكم: هذه هي كأس دمي الذي يٌراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا" (متى26: 26-28؛ مر 24: 22-24؛ لو22: 19-20). هكذا اسّس سرّ القربان.

 

ثم جعل تلاميذه كهنة العهد الجديد، مؤسساً الكهنوت بقوله: " اصنعوا هذا لذكري" ( 1 كور 11: 24). احياءً لعيد تأسيس سرّي القربان والكهنوت، يحتفل اسقف الابرشية مع كهنته بحضور مؤمنين بقداس عشاء الرب، ويجددون مواعيد الكهنوت والتزام الشركة بالمسيح ومع الاسقف والجسم الكهنوتي.

واحتفالاً بتأسيس هذين السّرين، ومن ضمنهما الاسرار الخلاصية الخمسة الآخرين، يبارك البطريرك، رئيس كنيستنا وابوها، الزيوت المقدسة: زيت المعمودية والميرون وزيت مسحة المرضى، لان بواسطتها تتم المسحة في منح المعمودية والتثبيت والكهنوت ومسحة المرضى، للدلالة على قوة الروح القدس التي تشفي وتقدس وتؤهل وترسل بسلطان الهي.

وفي العشاء الفصحي الاخير، الذي بدأ معه عشاء الفصح الجديد، عبّر يسوع مرة اخرى عن  "محبته لخاصته حتى النهاية" ( يو13: 1)، وعن جوهر القربان انه " سرّ المحبة العظمى"، وعن رسالة الكهنوت انها " خدمة المحبة بدون حدود"، فقام وغسل ارجل التلاميذ، قبل ان يغسل نفوسهم من خطاياها بدمه المراق للغفران، وقبل ان يغسل قلوبهم بجسده المبذول ليملأها محبة (انظر يوحنا 13: 3-11). وأوصاهم ان يصنعوا مثله، اوصاهم بالمحبة والتواضع والتفاني في الخدمة، لكي يكونوا حقاً كهنة ومعلمين (انظر يو13: 13-15).

          بعد الاحتفال بقداس خميس الاسرار ورتبة غسل ارجل التلاميذ، يُصمد القربان لعبادة المؤمنين طيلة الليل، بروح الشكر والاستغفار. في هذه السهرة الليلية مع القربان، يتذكر المؤمنون نزاع الرب في بستان الزيتون، حيث تركه التلاميذ واستسلموا للنوم من جراء الحزن والتعب والخوف. نسهر مع القربان لنعرب عن التزامنا بالسهر، في الصلاة والرجاء، لكي نقوى على التجارب وقوى الشر. وبذلك نواصل الصراع بين النور والظلمة. عندما ملأت ظلمة الحقد والحسد والاغراء قلب يهوذا الاسخريوطي، ارتكب جريمة الخيانة بثلاثين من الفضة، ثم شنق نفسه منتحراً. 

***
 

2.    الجمعة العظيمة

يسوع الذبيحة والكاهن

نسجد لك ايها المسيح، لانك بصليبك المقدس خلّصت العالم.

 

يسوع، ابن الله المتجسد، يقدّم ذاته ذبيحة فداء عن خطايا جميع البشر، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ويصبح الكاهن الابدي. هذا ما يؤكده في الانجيل: " ابن الانسان اتى ليبذل ذاته فدى عن كثيرين" (مز10: 45). في الابن المصلوب يكشف الآب السماوي سرّ محبته العظمى. في آلام المسيح نرى كل خطايا البشر" (1بطرس2: 24). فيما نخشع ونسجد لآلامه نردد مع ليتورجيا السماء: " مستحق انت، ايها الحمل الذبيح، كل عزّة ووقار وتسبيح، لانك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك، من كل قبيلة ولسان وشعب وامّة الى ابد الدهور" (رؤياه: 9 و12).

 

يسوع ذبيحة غفران للجميع وكاهن هذه الذبيحة و" يملك من على الخشبة"، من حيث يأتينا الغفران الذي يغسلنا من خطايانا ويعلمنا حضارة المغفرة والمصالحة. " لقد قرّب ذبيحة واحدة عن الخطايا، وبهذا القربان الواحد جعل الذين يتقدسون به كاملين الى الابد" (عبرانيين 4: 12 و14). ان قربان جسده مرة واحدة مستمر في ذبيحة القداس ليتقدّس به ابناء كل جيل. لقد قبل بحريّة كاملة تصميم محبة الله الفادية، فقدّم ذاته لابيه " ذبيحة تكفير عن خطايانا" ( 1 يو4: 10). هذا الانسان الالهي، الذي لم يعرف الخطيئة يحلّ محل الخطأة. فاستحق لكل شخص عبر التاريخ البشري بان يكون محرراً من الخطيئة ومفتدى ومنقّى. وكان وعد الرب الامين: " لن اتذكرّ ابداً خطاياهم ومعاصيهم" ( عبرانيين 10: 17). هذه دعوة الى كل انسان، من كل جيل ومكان، ليتوب الى الله فينعم بثمار الفداء والوعد الالهي.

         المسيح ابن الله المتجسّد الذي " يملك من على خشبة الصليب"  هو المعلم والكاهن والملك. هو معلم الرحمة والغفران: غفر للصالبين مبرراً خطيئتهم العظيمة بجهلهم: " يا ابتِ، اغفر لهم لانهم لا يدرون ما يفعلون" ( لو 23: 34)، وغفر للّص اليمين لانه تاب، فاشركه بقيامته: " اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 43). وهو الكاهن الذي يقدّم ذاته  ذبيحة فداء عن البشرية جمعاء، إتماماً لارادة الآب الخلاصية وتحقيقاً لسرّ محبته العظمى: " لقد تمَّ كل شيء. ويا ابتِ، بين يديك استودع روحي" (لو23: 46). وهو ملك المحبة التي تفوق كل كنوز الارض، فسلّم امه مريم الامومة الشاملة لجميع الناس ولكل واحد منهم، بشخص يوحنا الحبيب، هم الذين تركوه وخذلوه وصلبوه. ان مأساة الصليب متواصلة بسبب خطايا كل انسان، لكن ذبيحته دائمة في القداس، تكفيراً عن خطايا كل واحد منا. ونحن كلنا من آلام مخاضه الدائمة نولد ابناء لامه: " يا امرأة، هذا ابنك! ويا يوحنا، هذه امك" (يو19:26 -27). هذه هي محبة الله التي تغفر وتسامح.

كتب المفكر المسيحي الفرنسي بسكال: يوجد في العالم ثلاث مراتب من العظمة: مرتبة المادّيات، يعتبر الناس ان الذين يملكون ثروة من خيرات الدنيا او قوة رياضية عظيمة او جمالاً جسدياً فائقاً هم ارفع من الجميع. وفوقها مرتبة الفهم الخارق التي يتسامى فيها المفكرون الكبار والمكتشفون والمبدعون في العلوم والفن والشعر. وفوق الاثنتين، مرتبة الحب والجودة التي هي ميزة الاله المتجسّد، يسوع المسيح، وتسمى مرتبة القداسة. الى هذه الاخيرة ينتمي المسيحيون، بحكم دعوتهم. وقد تجلّت لنا بسموّها على خشبة الصليب. ومنها ولدت البشرية الجديدة المتمثلة بالكنيسة، " جسد المسيح السّري" بتعبير القديس بولس، او " المسيح الكلي" بتعبير القديس اغسطينوس. 

*** 

3.    سبت النور

نور المسيح يشع في ظلمات الحياة

 

انه آخر سبت من سبوت العهد القديم، عندما كان الشعب يتذكر استراحة الله من عمل الخلق، ويحفظ السبت يوماً للرب، فينقطع عن العمل ويتذكر بالصلاة اعمال الله العجيبة معه. وهو اول سبت من سبوت العهد الجديد، نتذكّر فيه استراحة الفادي الالهي من عمل الخلق الثاني الذي اعاد به الى الانسان بهاء صورة الله.

في هذا السبت، مكث الحي، ابن الله، في مثوى الاموات ونزل الى الجحيم فأضاء ظلمتها بنوره  و" بشر الانفس التي كانت في حوزة سجن الجحيم" ( 1 بطرس 3: 18-19). انها النفوس غير الهالكة ابدياً التي كانت تنتظر المخلص، فحمل اليها انجيل الخلاص.

سبت النور يشكل المرحلة الاخيرة من الرسالة المسيحانية، وهي ان المسيح أتمّ عمل الفداء لكل الناس الذين سبقوه في كل مكان وزمان، وهم من غير الهالكين هلاكاً ابدياً. لقد أسمعهم صوته، وأبطل بموته الموت والشيطان الذي كان له سلطان الموت وحررّهم من عبوديته (عبرانيين 2: 14-15). لقد رآه يوحنا في رؤياه وسمعه يخاطبه قائلاً: " انا هو الاول والاخير، الحيّ الذي كنت ميتاً، وها انا حيّ الى الدهور. ولي مفاتيح الموت والجحيم" ( رؤيا 1: 18). " نزل الى الجحيم" ليبحث عن آدم ابينا الاول، وكأنه الخروف الضال، ومعه كل بني البشر الاموات. فأشع نوره على الذين في ظلمة الموت وحرّرهم. انه في الوقت عينه الله وابن حواء. لقد ابلغهم بشرى الخلاص بالقيامة: " انا الهكم الذي من اجلكم صرت ابنكم. اني آمركم ايها النائمون، فاستيقظوا. لم اخلقكم لتكونوا سجناء الجحيم. قوموا من الموت، لاني انا حياة المائتين"[1].

في سبت النور نتذكّر ان المسيح نجم الصباح الذي قام من الموت، وظلّل بنور سلامه الجنس البشري، وهو ابن الله الذي يملك الى ابد الابدين[2].

انه يوم الصمت الكبير، الذي يُدعى فيه المسيحيون للتأمل والصلاة والخشوع الداخلي. نحتفل في كنائسنا برتبة التوبة والغفران، التي تقيمنا من موت الخطيئة الى قيامة النعمة والحياة الجديدة، وفي تمام الساعة الثانية عشرة تُقرع الاجراس اعلاناً لذكرى قيامة المسيح من الموت، وتمزيق رداء الحزن والموت بالهتاف: المسيح قام! حقاً قام! وتُقدم التهنئة لام يسوع وامنا مريم العذراء الكلية القداسة بالتبشير الفصحي: " افرحي يا ملكة السماء، هللويا! افرحي وتهللي يا مريم العذراء، لان الرب قد قام حقاً!"

ان صليب المسيح الذي تشع منه انوار القيامة يعلن للبشرية جمعاء:

" من موته أتتنا الحياة، ومن جراحه شفاؤنا، ومن سقطته قيامتنا، ومن نزوله صعودنا!"

هي الكنيسة في شباب دائم وجمال وقداسة، لان فيها المسيح الذي قام، ولن يموت ابداً. 

***

 

4.    أحد قيامة الرب من الموت

1 كورنتس 15: 12-26

لوقا 24: 1-12

 المسيح قام! حقاً قام!

 

قيامة المسيح من الموت تشكّل اساس الايمان المسيحي والرجاء بالمسيح. هذا الايمان بقيامة المسيح اعلنته الجماعة المسيحية الاولى وعاشته كحقيقة اساسية ومحورية اثبتتها كتب العهد الجديد، وتناقلها التقليد الرسولي، وكرزها الرسل وخلفاؤهم من بعدهم كجزء جوهري من السّر الفصحي مع الصليب. سرّ  قيامة يسوع حدث واقعي تاريخي شهد له العهد الجديد. حوالي سنة 56 كتب القديس بولس الى الكورنثيين: " سلّمت اليكم كما تسلّمت: ان المسيح مات من اجل خطايانا كما هو مكتوب. وانه قبر وقام في اليوم الثالث كا هو مكتوب. وتراى لبطرس، وبعده للاحد عشر..." (1كور 15: 3-5).

انجيل القديس لوقا 24: 1-12

وفي يَوْمِ الأَحَد، عِنْدَ بُزُوغِ الفَجْر، أَتَت النسوة إِلَى القَبْرِ يَحْمِلْنَ الطُّيُوبَ الَّتي هَيَّأْنَهَا. فَوَجَدْنَ الـحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ عَنِ القَبْر. وَدَخَلْنَ فَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوع. وفِيمَا هُنَّ مُتَحَيِّرَاتٌ مِنْ ذـلِكَ، إِذَا رَجُلانِ في ثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ وَقَفَا بِهِنَّ. فاعْتَرَاهُنَّ الـخَوْف، وَنَكَّسْنَ وُجُوهَهُنَّ إِلى الأَرْض، فَقَالا لَهُنَّ: "لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الـحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَات؟ هُوَ لَيْسَ هُنَا، بَلْ قَام. تَذَكَّرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ في الـجَلِيل، حَيْثُ قَال: يَجِبُ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يُسْلَمَ إِلَى أَيْدِي أُنَاسٍ خَطَأَة، وَيُصْلَب، وَفي اليَوْمِ الثَّالِثِ يَقُوم". فَتَذَكَّرْنَ كَلامَهُ. وَرَجَعْنَ مِنَ القَبْر، فَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَالبَاقِينَ جَمِيعًا بِهـذِهِ الأُمُورِ كُلِّها. هـؤُلاءِ  هُنَّ مَرْيَمُ الـمَجْدَلِيَّة، وَحَنَّة، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوب، وَالبَاقِيَاتُ اللَّوَاتِي مَعَهُنَّ. وَكُنَّ يُعْلِنَّ هـذَا لِلرُّسُل. فَبَدَا ذـلِكَ الكَلامُ في نَظَرِ الرُّسُلِ كَأَنَّهُ هَذَيَان، وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. أَمَّا بُطْرُسُ فَقَامَ ورَكَضَ إِلى القَبْر، وانْحَنَى فَرَأَى رِبَاطَاتِ الكَتَّانِ وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّبًا في نَفْسِهِ مِمَّا حَدَث.

 

 اول اعلان لقيامة يسوع قاله الملاكان للنسوة: " لماذا تطلبن االحيَّ بين الأموات؟ ليس هو هنا. لقد قام" (لو24: 5-6). والنسوة نقلن الخبر الى التلاميذ، لكن هؤلاء لم يصدّقوا بسبب صدمة الصلب. واعتبروا كلامهم نوعاً من الهذيان. فكان القبر الفارغ، إلا من لفائف الكتان، اول علامة حسّية لحقيقة القيامة. يروي يوحنا الانجيلي كيف أسرع هو وبطرس الى القبر، فور سماع الخبر من النسوة، ورأيا  "اللفائف ملقاة، والكفن الذي كان على رأس يسوع مشدوداً، غير ملقى مع اللفائف، بل مطوياً على حدة في مكان آخر. ولما رأيا آمنا" (يو20:5-8).

هذه العلامة الحسيّة بيّنت ان فراغ القبر من جسد يسوع ليس عملاً بشرياً، كما طنّت مريم المجدلية للوهلة الاولى، اذ قالت للملاكين: " حملوا سيدي، ولا أعلم اين وضعوه" ( يو20: 13). ولا كما شيّع الشيوخ والحرس الخبر الكاذب بين اليهود: " ان التلاميذ جاؤوا ليلاً وسرقوه، ونحن نيام" ( متى28: 12-13). وبيّنت ايضاً ان قيامة يسوع ليست مجرد عودة الى الحياة مثل لعازر الذي " خرج من القبر مشدود اليدين والقدمين بلفائف، ومغطّى الوجه بكفن" ( يو11: 44)، والذي سيموت من جديد.

 

ثم كانت ظهورات يسوع للتلاميذ في اماكن متنوعة وانواع مختلفة: في البيت والابواب موصدة، على الطريق مع تلميذي عماوس، على شاطىء البحيرة. ولم يكن حدث قيامته كروح يظهر او مجرد خيال، كما كان يظن التلاميذ. انه جسده اياه الذي تألم وصُلب وما زال يحمل علامات الصلب. وجسده الاصيل الحقيقي، لكنه يمتلك خصائص الجسد الممجّد: فهو لا يخضع لحدود المكان والزمان، بل هو قادر على ان يكون حاضراً بالطريقة التي يشأ والوقت الذي يشاء. جسده القائم مملؤ من قدرة الروح القدس، وبحالته الممجدة يشارك في الحياة الالهية. يسميّه بولس الرسول " الانسان السماوي" (1 كور15: 48).

 

ان اهمية قيامة المسيح قالها بولس الرسول في رسالته الاولى الى اهل كورنتس: "لو لم يقم المسيح، لكان تبشيرنا باطلاً، وايمانكم باطلاً" ( 1كور15: 14). فالقيامة تثبّت كل اعمال المسيح وتعاليمه، وكل الحقائق التي قالها، ولو كانت صعبة على المنطق البشري؛ وتكمّل كل وعوده كما جاءت في الكتب المقدسة؛ وتؤكد الوهية يسوع، ابن الله الازلي: " متى رفعتم ابن الانسان تعرفون اني انا هو" (يو8: 28). هذا الاله الذي صار انساناً هو اياه الذي صُلب وقام من بين الاموات[3].

اما مفاعيل القيامة فانها تولينا ثمار السّر الفصحي: المسيح بموته حررنا من الخطيئة، ويقيامته فتح لنا الطريق الى الحياة الجديدة، فبررنا وأدخلنا من جديد في نعمة الله. هذا يحصل فينا بالمعمودية والتوبة والقربان، على ما يقول بولس الرسول: " بعمادنا بموته دُفنّا معه، حتى انه، كما قام المسيح من بين الاموات بمجد ابيه، هكذا نحن ايضاً نسير حياة جديدة" (روم6: 4).

هذا هو سرّ التبرير. يقول عنه بولس الرسول: " ان الله الغني بالمراحم والذي أحبنا حباً عميقاً، أحيانا مع المسيح. لقد كنا امواتاً بخطايانا، فخلّصنا بنعمته واقامنا معه" (افسس 2: 4-5). ويسميه بطرس الرسول الولادة الثانية: " تبارك الله ابو ربنا يسوع المسيح الذي بكثرة تحننه وبقيامة يسوع المسيح، ولدنا ثانية لرجاء الحياة وللميراث المعدّ في السماء" ( 1بطرس1: 3-4).

بهذا التبرير ننال نعمة التبني ونصبح اخوة المسيح لا بالطبيعة، بل بعطية النعمة. فالمسيح نفسه، بعد قيامته، سمّى تلاميذه والمؤمنين به " اخوة"، عندما قال لمريم المجدلية ومريم الاخرى فجر قيامته:  "اذهبا وقولا لأخوتي ليمضوا الى الجليل، وهناك يرونني" ( متى28: 10). بفضل هذه البنوّة بالتبني نصبح مشاركين في حياة ابن الله.

هذه القيامة الروحية بنعمتي التبرير والتنبني تكتمل بقيامتنا من الموت. " فكما الجميع يموتون بآدم، فالجميع يحيون بالمسيح" (1كور15: 20-22)، لانه " هو الاول والبكر القائم من بين الاموات، وهو رأس جسده، الكنيسة" (كول1: 18). من اجل هذه القيامة العتيدة، " لا نحيا بعد الآن لانفسنا بل للذي مات عنا وقام" (انظر 2 كور5: 15)[4].

 

فالمسيح قام! حقاً قام!


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،632-635.

[2] . المرجع نفسه، 631.

[3] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،651-653.

[4] . المرجع نفسه،654-655.

 

 

الاحد الثاني من زمن القيامة

2كورنتس 5: 11-21

يوحنا 20: 26-31

الاحد الجديد وعيد الرحمة الالهية

 الكل بالمسيح خليقة جديدة

 

         في هذا الاحد يسوع القائم من الموت يظهر للرسل مجتمعين للمرة الثانية، بعد ان تراءى لهم مرة اولى قبل ثمانية ايام، وهو الاحد، اي اليوم الاول من الاسبوع الذي قام فيه من بين الاموات. وبهذا كرّس الرب يوم الاحد يوماً تلتئم فيه الجماعة المسيحية للاحتفال بالسّر الفصحي، القداس، ذبيحة الفداء والغفران ووليمة جسد الرب ودمه للحياة الجديدة. انه يوم الرب الذي يجعل فيه الله الانسان " خلقاً جديداً " بالمسيح بفضل نعمة المصالحة والغفران، على ما نقرأ في رسالة بولس الرسول (2كور 5: 17-18).

 

اولاً، القراءات المقدسة

         انجيل القديس يوحنا 20: 26-31

         وبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّام، كَانَ تَلامِيذُ يَسُوعَ ثَانِيَةً في البَيْت، وتُومَا مَعَهُم. جَاءَ يَسُوع، والأَبْوَابُ مُغْلَقَة، فَوَقَفَ في الوَسَطِ وقَال: "أَلسَّلامُ لَكُم!". ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: "هَاتِ إِصْبَعَكَ إِلى هُنَا، وانْظُرْ يَدَيَّ. وهَاتِ يَدَكَ، وضَعْهَا في جَنْبِي. ولا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ كُنْ مُؤْمِنًا!". أَجَابَ تُومَا وقَالَ لَهُ: "رَبِّي وإِلـهِي!". قَالَ لَهُ يَسُوع: "لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي آمَنْت؟ طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَوا وآمَنُوا!". وصَنَعَ يَسُوعُ أَمَامَ تَلامِيذِهِ آيَاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةً لَمْ تُدَوَّنْ في هـذَا الكِتَاب. وإِنَّمَا دُوِّنَتْ هـذِهِ لِكَي تُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الـمَسِيحُ ابْنُ الله، ولِكَي تَكُونَ لَكُم، إِذَا آمَنْتُم، الـحَيَاةُ بِاسْمِهِ.

         يسوع يتراءى للتلاميذ مرة ثانية في ذات المكان وبالطريقة عينها: يعطيهم سلامه الفصحي، يبيّن لهم جراحاته وهي علامات الصلب البادية بشكل منظور وملموس على جسده الممجّد. هذه الجراح المقدسة في يديه ورجليه وصدره تمثل الينابيع التي لا تنضب، والتي تجري منها نعمة الغفران والحياة الجديدة، ومنها يستقي الانسان الايمان والرجاء والمحبة.

1.    الرحمة الالهية

من هذا المفهوم اراد خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني ان يُخصص هذا الاحد الذي يلي احد القيامة للاحتفال بعيد الرحمة الالهية. وقد شاءت العناية ان يموت البابا بين يدّي الرحمة الالهية ليلة هذا العيد، الذي وقع السبت 2 نيسان 2005.

ما نحتفل به كل يوم الاحد، في القداس، هو سرّ محبة الله الرحومة التي تشكّل جوهر الايمان المسيحي والصلاة. فالأحد هو " فصح الاسبوع"، فيه نلتقي الرب القائم من الموت، ونستقي من حبّه الرحوم الغفران والحياة الالهية، ونمتلىء من سلامه، ونصبح رسل هذا السلام.

يوم الاحد هو يوم الرب الذي تجب فيه الاستراحة من العمل وتأدية عبادة الشكر لله على نعمتي الخلق الاول بالوجود، والخلق الثاني بالخلاص بموت المسيح  وقيامته. لقد حلّ الاحد محلّ السبت الذي كان يوم الرب في العهد القديم، وقد امر الله شعبه بحفظه في الوصية الثالثة من الوصايا العشر، تذكاراً لاستراحته من عمل الخلق في اليوم السابع، ولتحرير شعبه من عبودية مصر والعبور به الى ارض الحرية. لقد اصبح الاحد، في العهد الجديد، يوم الرب، تذكاراً للخلق الجديد وتحرير الانسان من عبودية الخطيئة والعبور به الى حالة النعمة وحرية ابناء الله. انه يوم لقاء الانسان بالله خالقه وفاديه، يجدد فيه عهد البنوة لله والانفتاح لنعمة الخلاص.

في يوم الرب تحتفل الجماعة المؤمنة بالسرّ الفصحي: ذبيحة الفداء ووليمة جسد الرب ودمه للحياة الجديدة، وفقاً للتقليد الرسولي الذي بدأ مع الجماعة المسيحية الاولى. هذا الاحتفال القرباني قائم على ثلاثة: الكرازة والتعليم، الاحتفال بالذبيحة والوليمة، العيش في المحبة وتقاسم الخيرات مع الفقراء (اعمال 2: 42-46؛ 1كور 11: 17).

استناداً الى الشريعة الالهية، تامر الكنيسة ابناءها وبناتها بحفظ يوم الرب واعياد البطالة وبالمشاركة في سرّ القداس، تحت طائلة الخطيئة الجسيمة، ما لم يحل دون هذه المشاركة سبب خطير مثل المرض والعجز. يتعلق بهذا الواجب خلاص المؤمنين اذ يؤدون واجب العبادة لله شكراً وتسبيحاً واستغفاراً، وتستنير ضمائرهم بكلام الله، وتشفى نفوسهم من الخطيئة بنعمة الغفران والحياة الالهية التي تُعطى لهم بقوة الروح القدس[1]. هكذا يصبح كل مؤمن بالمسيح " خليقة جديدة"، اذ الاشياء القديمة مضت، وكل شيء صار جديداً (2كور 5: 17).

 

2.    جراحات المسيح مصدر رجائنا

 

كان توما الرسول في صدمة نفسية عظيمة من هول الصلب، افقدته ايمانه بيسوع ورسالته. ما جعله لا يصدق خبر قيامته، عندما قال له التلاميذ: " قد راينا ربنا. فأجاب: " ما لم أعاين في يديه موضع المسامير، وأجعل اصبعي فيها، وما لم أمدّ يدي في جنبه، لا أؤمن" (يو20: 25). ولكن عندما تراءى  الرب للتلاميذ مجدداً بعد ثمانية ايام، وتوما معهم، ودعا توما ليفعل ما قال، هتف التلميذ: " ربي والهي" (يو 20: 27-28).

في شخص توما يتمثل كل انسان يتألم من الشك والظلم والعنف والاستبداد والمرض والموت، ما يتهدد ايمانه بالله وبعنايته، وينسيه قوة آلآم المسيح وقيامته. ويتمثل ايضاً فيه كل شعب وجماعة وامّة يعيشون القهر، وكأن الله غائب وغير قادر على مكافحة الشر، بل وكأنه مغلوب. اجل، كثيرون مثل توما يعيشون في حالة الشّك وعدم الاستقرار والتردد وربما الجحود، وفي حالة اليأس والقنوط والاحباط.

لكننا نرجو لهم ان يختبروا الوجه الآخر لتوما، الذي مذ التقى الرب يسوع ورأى جراحات الصلب، شفي من صدمته واستعاد ايمانه بشكل أعظم وهتف: " ربي والهي". هو الايمان بيسوع الذي مات وقام. هذا الايمان ارتفع بتوما الى رؤية الوهية المسيح، الى رؤية وجه الله الذي بواسطة تجسّد الابن الالهي حمل جراحات البشرية جمعاء. لقد وُلد ايمان توما، الذي كان وكأنه ميت، من احتكاكه بجراحات يسوع، التي لم يخفيها بل اظهرها له، وما زال يُظهرها لنا من خلال آلام وجراحات كل كائن بشري. فاننا " بجراح يسوع، شُفينا كلنا" ( 1بطرس2: 24). هذه هي شهادتنا للمسيح القائم من الموت. بآلامه اعطى آلام كل انسان وشعب، حسّية كانت ام معنوية ونفسية، قيمة خلاصية، اذ يشركها بآلامه، آلام الفداء. وبقيامته أعطى آلامنا قوة الرجاء بالحياة الجديدة، التي نستحقها لنا وللعالم.

ان الجراح، التي كانت حاجزاً لايمان توما، اصبحت بعد لقائه بالمسيح القائم، براهين لحبّه المنتصر. فالله الذي حمل، بشخص المسيح، آلام البشرية وتضامن مع كل متألم بفيض من حبه، جدير بالايمان به، وهو ايمان بأننا، في آلامنا، نشهد لحبه ونشارك فيه، متحملين آلامنا من اجل تحقيق مقاصد الله الخلاصية في العالم[2]. بهذا المعنى يقول لنا القديس  بولس " ان كنا عرفنا المسيح بحسب الجسد، فمن الآن وصاعداً لن نعرفه هكذا. فكل من هو بالمسيح الآن، هو خليقة جديدة" ( 2 كور5: 16-17).

 

***

ثانياً، السنة الكهنوتية

الكاهن خادم سرّ المعمودية[3]

 

من منح سرّ المعمودية يستمد الكاهن لقب " ابونا". لان المعمودية تتم ولادة المؤمن الثانية من الماء والروح (يو3: 5)، فيتحرر من الخطيئة، ويصبح ابناً لله ممتلئاً من الحياة الجديدة، وعضواً في جسد المسيح، الكنيسة، ومشاركاً في رسالتها. وهكذا المعمودية هي باب الحياة الروحية، وتُسمى " سرّ الايمان".

بالمعمودية يتحقق فينا السّر الفصحي: فالنزول في الماء او رشّه على الرأس يرمز الى دفن المعمّد في موت المسيح، والخروج من الماء الى النهوض بالقيامة معه " كخليقة جديدة" (2كور 5: 17). هذه المعمودية تُعطى للمؤمن الذي استنار بكلمة الله. واذا كان المعمّد طفلاً صغيراً، فيستعاض بايمان والديه وعرّابيه المستنيرين. وهكذا يصبح المعمد " ابن النور"، بل هو نفسه نور.

المعمودية عطية من الله عظيمة لانها هبة من جودته، بدون اي استحقاق من احد؛ وهي نعمة مرموز اليها بالثوب الابيض، لانها تشفي وتقدس؛ ومسحة بزيت العماد، علامة حلول الروح القدس الذي يشرك المعمّد في كهنوت المسيح ونبوءته وملوكيته.

الكاهن مدعو ليعيش ابوته الروحية في منح سائر الاسرار، متحلياًُ بالطيبة والجودة والمحبة ومشاعر الحنان والتضحية تجاه كل المعمدين، ابنائه بالنعمة. اولى واجباته تثقيف الايمان بتعليم الانجيل والكنيسة لطالبي الاسرار، لكي تكون نعمة هذه الاسرار فاعلة في نفوسهم, فبالايمان المستنير يدرك المؤمن معنى السّر ومقتضياته ومفاعيله، وتأتي مشاركته واعية ومنفتحة لعمل الله الخلاصي.

بما ان السّر -  Sacrement هو اداة حسّية تحمل النعمة الالهية اي حضور الله الثالوث في قابل السّر بقوة الايمان، فان الاحتفال بالمعمودية يجري من خلال اعمال ورموز وكلمات هي بمثابة " اداة". دور الكاهن ان يشرحها من اجل توعية المؤمنين وهي: اشارة الصليب تعني طابع المسيح الذي ينتمي اليه المعمَّد، وتعني نعمة الفداء بالمسيح. اعلان كلمة الله  تنير المؤمنين بالحقيقة الموحاة وتولّد الايمان وتملي المسلك الايماني. التقسيم او صلاة طرد الارواح الشريرة تدل الى ان المعمودية تحرر من الخطيئة وسلطان الشيطان، ثم يُمسح طالب المعمودية بزيت العماد لهذه الغاية، ويعلن ايمانه بالله الثالوث وبالكنيسة. الماء المكرّس بنعمة المسيح وقوة الروح القدس، يشكل الحشى الجديد للولادة الثانية من الماء والروح،  بالموت عن الخطيئة والقيام للحياة الالهية بالثالوث القدوس، على صورة موت المسيح وقيامته. الثوب الابيض يرمز الى ان المعمّد قد لبس المسيح (غلا3: 27)، وقام معه ممتلئاً من نعمته. الشموع تدل على ان نور المسيح  أشع في المعمَّد وان هذا الاخير اصبح نور المسيح في العالم (متى 5: 14). الزياح هو اعلان انتماء المؤمن الجديد الى الجماعة المسيحية، والمرافقة بصورة العذراء هي للدلالة انه اصبح ابناً لمريم بالنعمة واخاً ليسوع ولجميع الناس. صلاة الابانا في ختام الاحتفال تدّل على ان المعمَّد اصبح ابناً لله ويلصي اليه بدالّة الابناء.

اما مفعولا المعمودية فاثنان: الاول، التنقية من الخطيئة الاصلية والخطايا الشخصية بالمغفرة التي استحقها يسوع بذبيحته على الصليب. بهذه التنقية والغفران يدخل المعمَّد ملكوت الله اي الشركة الكاملة مع الله ومع الكنيسة. لكن نتائج الخطيئة تبقى فيه وهي: الألم والمرض والموت والضعف والميل الى الخطيئة؛ فعليه ان يقاومها بنعمة المسيح وبالصلاة والسهر على الذات.

والثاني، الولادة بالروح القدس التي تجعل المعمَّد " خليقة جديدة"، ابناً بالنعمة، ومشاركاً في الحياة الالهية، وعضواً في المسيح الكلي بطابع لا يمحى مهما عظمت الخطيئة، ووريثاً معه، وهيكلاً للروح القدس. وهكذا ينال من الله الثالوث النعمة المبرّرة التي تؤهله للايمان بالله، والرجاء بعنايته، ومحبته.

***

 

ثالثاً، يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)

 

1.    المصدر الرئيسي والاساس لحياة القدس مارون[4]

 

         ان اول من كتب سيرة القديس مارون هو المطران تيودوريتُس الذي اختير اسقفاً على مدينة قورش سنة 423، وهو اصلاً من مواليد سنة 393 في مدينة انطاكية. دوّن سيرة مار مارون سنة 444 بعد 34 سنة من وفاته، وقد استقاها من بعض تلاميذه الذين عايشوه. ونجدها في كتابه بعنوان " اصفياء الله" الذي ترجمه من اليونانية الى العربية الارشمندريت ادريانوس شكور، الراهب الباسيلي الحلبي سنة 1987. وكان قد نُشر باللاتينية سنة 1553 بعنوان Historia religiosa اي " تاريخ الرهبان".

         يكتب المطران تيودوريتس في هذا الكتاب سيرة النسّاك الانطاكيين، هؤلاء الرجال والنساء الذين استغرقوا في حبّ الله. ويسميّهم " ابطال الفضيلة الذين عاشوا في ممارسة الفلسفة السامية". وقال ان الهدف من كتابة سيرتهم انما هو " لكي يجد فيها الشيوخ والشبان والنسّاك والنساء امثلة للفلسفة، فيختار كل واحد منهم نوع السيرة التي تروق له، فتكون قاعدة لتصرفه الشخصي".

         ونجد في الفصلين الاخيرين من هذا الكتاب اي 29 و30 حياة ثلاث نساء ناسكات من اللواتي تبعن نهج القديس مارون، وقد زارهن في مناسكهن وهنّ: مارانا وكيرا ودومنينا.

 


 

2.    روحانية القديس مارون[5]

         استقى القديس مارون روحانيته من روحانية النساك المتوحدين الانطاكيين القائمة على ان الحياة المسيحية التزام بمعركة المسيح ضد قوى الشر العاملة في البشرية. والقديسون هم ابطال هذه المعركة، ابطال الفضيلة الذين انتصروا مع المسيح في معركته الخلاصية ضد هذه القوى الظاهرة والخفية. فاذا بالناسك يحلّ مكان الشهيد، بعد ان زال الاضطهاد لانه يتابع المعركة ذاتها. لكنها انتقلت من حرب ضد اعداء خارجيين، كانوا في زمن الاضطهاد، الى حرب في داخل الانسان، ضد قوى تبعده عن عمل الخلاص في يسوع المسيح. هذا ما حمل القديس مارون، وعلى مثاله " ابطال الفضيلة"، على الابتعاد عن العالم ليعيش في مكان قفر، منصرفاً الى البحث عن مواطن الضعف في ذاته التي تمنعه من السير وراء المسيح وحمل صليبه. وبهذا لبّى دعوة القديس بولس: شدّ الحقوين بالحق، ولباس درع البّر، والسير في طريق انجيل المسيح، واتخاذ مجنّ الايمان لاطفاء سهام العدو الناريّة، وحمل خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله ( افسس6: 13-17).

         ان المطران تيودوريتس يسمّي القديس مارون في هذا السياق " المظفّر العظيم" الذي ربح المعركة في حياة قشفة " تحت قبة السماء" على رابية كانت هيكلاً وثنياً، فحوّلها الى مكان لعبادة الله. لقد انتصر اولاً على الشيطان في عقر داره، ثم راح يقتلع من ذاته جذور الشر باعمال تقشفية، وبالتأمل والصلاة اكتسب كل غنى " الفلسفة" اي محبة الله وحكمته. هذه " الفلسفة" او الحكمة بحث عنها الفلاسفة اليونان، فتركوا كل مباهج الحياة في سبيل التفتيش عنها، وادّوا بذلك خيوراً كبيراً للبشرية. لقد اكتسب القديس مارون الفلسفة الحقيقية اي معرفة الله، من خلال كلمته المتجسد، يسوع المسيح، وبهدي الروح القدس. وهكذا استطاع ان يجتذب الى الله تلاميذ كثراً في حياته، وتبعه بعد وفاته جمهور كبير، اصبح فيما بعد الكنيسة المارونية.

 

***

         صلاة

         ايها الرب يسوع القائم من الموت، جدد ايماننا الثابت بك، على مثال توما الرسول بفيضِ من رحمتك الالهية. انعش في النفوس روح العبادة وروحانية يوم الاحد، الذي هو يوم الرب والانسان، ويوم الاحتفال بالفصح الاسبوعي، ينبوع الغفران والمصالحة والحياة الالهية فينا. قدّس الكهنة في خدمة اسرارك وتنوير شعبك بالكلمة الانجيلية ومعاني رموز الاسرار. جدد فينا، في هذا الاحد الجديد، مفاعيل المعمودية لنشهد بالاعمال والمسلك والموقف لقيم الانجيل والحياة الجديدة، ونناضل ضد قوى الشر والخطيئة، على مثال ابينا القديس مارون وبشفاعته. فنرفع التمجيد والاكرام للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،2168-3184.

[2] . عظة البابا بندكتوس السادس عشر، في احد القيامة،8 نيسان 2007.

[3] . كتاب التعليم المسيحي، 1210-1274

[4] . راجع الاباتي الياس خليفه: تيودوريتس القورشي، في اوراق رهبانية عدد 99، تشرين الاول-كانون الاول 2009،ص5-9.

[5] المرجع نفسه، ص 9-12.

 

 

 الاحد الثالث من زمن القيامة

2 طيموتاوس 2: 8-13

لوقا 24: 13-35

ثقافة القربان وروحانيته

 

         فيما تتواصل ترائيات يسوع لتلاميذه، نتذكر اليوم ترائيه للتلميذين الذين كانا مسافرين من اورشليم الى بلدتهما عماوس، في ذاك الاحد الذي قام فيه الرب من بين الاموات، وهما لم يصدقّان الخبر، وكانا عائدين مكتئبين الى ارضهما، وكأن اسطورة يسوع الناصري قد انتهت. لكن المسيح قام حقاً، ليكون رفيق كل انسان، ويقطع معه دروب الحياة. غير انه لا يُعرف إلاّ في سرّ القربان.

 

اولاً، القراءات الكتابية

 

         من انجيل القديس لوقا 24: 13-35

وَفي اليَوْمِ عَينِهِ، كانَ اثْنَانِ مِنْهُم ذَاهِبَيْنِ إِلَى قَرْيَةٍ تُدْعَى عِمَّاوُس، تَبْعُدُ نَحْوَ سَبْعَةِ أَمْيَالٍ عَنْ أُورَشَلِيم. وَكانَا يَتَحَادَثَانِ بِكُلِّ تِلْكَ الأُمُورِ الَّتِي حَدَثَتْ. وفيمَا هُمَا يَتَحَادَثَانِ وَيَتَسَاءَلان، إِذَا يَسُوعُ نَفْسُهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمَا، وَرَاحَ يَسِيرُ مَعَهُمَا. ولـكِنَّ أَعْيُنَهُمَا أُمْسِكَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.

أَمَّا هُوَ فَقَالَ لَهُمَا: "مَا هـذَا الكَلامُ الَّذي تَتَحَادَثَانِ بِهِ، وَأَنْتُمَا تَسِيرَان؟". فَوَقَفَا عَابِسَين. وَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، واسْمُهُ كِلْيُوبَاس، فَقَالَ لَهُ: "هَلْ أَنْتَ وَحْدَكَ غَرِيبٌ عَنْ أُورَشَلِيم، فَلا تَعْلَمَ مَا حَدَثَ فِيهَا هـذِهِ الأَيَّام؟". فَقَالَ لَهُمَا: "ومَا هِيَ؟". فَقَالا لَهُ: "مَا يَتَعَلَّقُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيّ، الَّذي كَانَ رَجُلاً نَبِيًّا قَوِيًّا بِالقَوْلِ وَالفِعْل، قُدَّامَ اللهِ وَالشَّعْبِ كُلِّهِ. وكَيْفَ أَسْلَمَهُ أَحْبَارُنا وَرُؤَسَاؤُنَا لِيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالـمَوْت، وَكَيْفَ صَلَبُوه! وكُنَّا نَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذي سَيَفْدِي إِسْرَائِيل. وَلـكِنْ مَعَ هـذَا كُلِّهِ، فَهـذَا هُوَ اليَوْمُ الثَّالِثُ بَعْدَ تِلْكَ الأَحْدَاث. لـكِنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ مِنْ جَمَاعَتِنَا أَدْهَشْنَنَا، لأَنَّهُنَّ ذَهَبْنَ إِلَى القَبْرِ عِنْدَ الفَجْر، وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ يَسُوع، فَرَجَعْنَ وَقُلْنَ إِنَّهُنَّ شَاهَدْنَ مَلائِكَةً تَرَاءَوْا  لَهُنَّ وَقَالُوا إِنَّهُ حَيّ! ومَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلى القَبْر، فَوَجَدُوهُ هـكذَا كَمَا قَالَتِ النِّسَاء، وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يَرَوْه". فقَالَ لَهُمَا يَسُوع: "يَا عَدِيـمَيِ الفَهْم، وَبَطِيئَيِ القَلْبِ في الإِيْمَانِ بِكُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاء! أَمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى الـمَسِيحِ أَنْ يُعَانِيَ تِلْكَ الآلام، ثُمَّ يَدْخُلَ في مَجْدِهِ؟". وَفَسَّرَ لَهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ في كُلِّ الكُتُبِ الـمُقَدَّسَة، مُبْتَدِئًا بِمُوسَى وَجَمِيعِ الأَنْبِيَاء. واقْتَرَبَا مِنَ القَرْيَةِ الَّتي كَانَا ذَاهِبَيْنِ إِلَيْهَا، فتَظَاهَرَ يَسُوعُ بِأَنَّهُ ذَاهِبٌ إِلى مَكَانٍ أَبْعَد. فَتَمَسَّكَا بِهِ قَائِلَين: "أُمْكُثْ مَعَنَا، فَقَدْ حَانَ الـمَسَاء، وَمَالَ النَّهَار". فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. وفِيمَا كَانَ مُتَّكِئًا مَعَهُمَا، أَخَذَ الـخُبْزَ، وبَارَكَ، وَكَسَرَ، ونَاوَلَهُمَا. فانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَرَفَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَوَارَى عَنْهُمَا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَر: "أَمَا كَانَ قَلْبُنَا مُضْطَرِمًا فِينَا، حِينَ كَانَ يُكَلِّمُنَا في الطَّرِيق، وَيَشْرَحُ لَنَا الكُتُب؟". وقَامَا في تِلْكَ السَّاعَةِ عَيْنِهَا، وَرَجَعَا إِلَى أُورَشَلِيم، فَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ وَالَّذِينَ مَعَهُم مُجْتَمِعِين، وَهُم يَقُولُون: "حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ قَام، وتَرَاءَى لِسِمْعَان!". أَمَّا هُمَا فَكانَا يُخْبِرانِ بِمَا حَدَثَ في الطَّرِيق، وَكَيْفَ عَرَفَا يَسُوعَ عِنْدَ كَسْرِ الـخُبْز.

هذا الترائي للتلميذين قرباني، بمعنى ان الرب يسوع القائم من بين الاموات حاضر في الكنيسة بواسطة سرّ الافخارستيا، الذي هو استمرارية السّر الفصحي: ذبيحة يسوع على الصليب لتحريرنا من خطايانا بالغفران، ووليمة جسده ودمه لتبريرنا ونيل الحياة الجديدة؛ في هذا الاطار عرفاه. هذا هو القداس المعروف بالليتورجيا الالهية. لقد اضحى يسوع بجسده البشري الممجد محتجباً عن معرفتنا له بعيوننا، فلا نراه ولا نعرفه الاّ في سرّ القربان بعين الايمان.

 

1.    قداس يسوع

ان دعوة التلميذين ليسوع الممجد الذي لم يعرفاه في الطريق: " امكث معنا"، كانت في الحقيقة فعل ايمان صادر من اعماق القلب، فدخل معهما الى البيت، وأقام " قداسه" للدلالة انه " يمكث ابداً معهما" في سرّ القربان. عندئذ عرفاه بالعين المجرّدة، فغاب عنهما. لكنه " يمكث  معهما" في سرّ المحبة.

مذ تراءى يسوع للتلميذين كرفيق درب حتى كسر الخبز معهما واحتجابه عنهما، كان يسوع القائم من الموت والكاهن الازلي، يقيم قداسه معهما. في القسم الاول، ليتورجيا الكلمة، نقل الرب اليهما كلام الله في الكتب المقدسة بشأنه. في القسم الثاني الخاص بذبيحة الرب يسوع، أحيا التلميذان بالتذكار موته وصلبه وقيامته، لكن الذبيح الممجد كان حاضراً شخصياً معهما، من غير ان يعرفاه. اما القسم الثالث وهو تناول جسد الرب للحياة الجديدة فقد تمَّ عندما اخذ الخبز وباركه وكسره وناولهما.

2.    سرّ الفصح تبرير الانسان

قال بولس الرسول ان يسوع " مات من اجل خطايانا، وقام لتبريرنا (روم 4: 25). وفي مكان آخر قال: " لقد ظهر برّ الله لكل انسان بايمان يسوع المسيح. لان الجميع قد خطئوا، فحرموا مجد الله. ولكنهم يتبررون بالنعمة مجّاناً وبالخلاص الذي هو يسوع المسيح (روم 3: 22).

ان لفظة " برّ الله" تعني بالفرنسية “ JUSTICE”، فتجمع بين العدالة والبّر. اما اللفظة الكتابية بالعبرية فتعني " صدق الله"، التي تشتق منها لفظتا " الصدّيق"  و" الصدقة".

كل هذه المعاني ظهرت في شخص يسوع المسيح، وتشكل جوهر حياتنا، نحن المخلوقين على صورة الله.

انه " برّ الله" ظهر في خلق السماء والارض في غاية الجمال، وفي خلق الانسان على صورته ومثاله، كما نقرأ في سفر التكوين. وعندما شوّه الانسان جمال الخلق، وصورة الله فيه بالخطيئة والشر، عاد الله فجدد "" برّه" في الخلق الجديد بالمسيح، ابنه المتجسّد، الذي تمّم الفداء وخلاص الانسان والطبيعة. وهكذا ظهر " صدق الله" او " برّه" في " التصدّق" على الكون والانسان بالوجود والجمال والخلاص.

 " الصدّيق" هو الذي يقبل ارادة الله عليه ويعمل بموجبها، وبنتيجة هذا القبول "يتصدّق" على الفقير واليتيم والغريب والارملة ( تثنية 10: 18-19). بهذا المعنى يسمّى الصدّيق باراً اي شريكاً في برّ الله وصدقه.

العدالة هي " ان تعطي كل واحد حقه او ما هو له". الله هو العدالة المطلقة الذي اعطى كل واحد نعمة الوجود والخلاص. هذه العدالة تقتضي ان يقبل الانسان نعمة الوجود ويحافظ عليها، ونعمة الخلاص ويعيش بموجبها. كما تقتضي ان يكون الانسان، على مثال الله، عادلاً.

من مفهوم العدالة نقول، على الانسان ان يبادل الله فيكون " صدّيقاً"، وان يتصدّق على الفقير واليتيم والغريب والارملة مبادلاً الله على الخير الذي سبق وصنعه له شخصياً.

في الكتاب المقدس، من بعد ان سمع الله صراخ شعبه في ارض مصر وحرّره من العبودية وعبر به الى ارض الحرية، اعطاه شريعة وصاياه، لكي هو بدوره يسمع صراخ البائسين والمحتاجين، ويسمع وصية الله التي تأمره بأن يتصدّق عليهم ويحررهم من بؤسهم.

ان يكون الانسان صدّيقاً، قابلاً ارادة الله، ومتصدّقاً على اخيه المحتاج، كما يأمره الله، فهذه عملية خروج من الاكتفاء الذاتي، من الانطواء على الذات الذي يولّد الظلم،  بمعنى اللاعدالة التي تمنع الانسان من ان يكون صدّيقاً ومتصدّقاً. وحده الصدّيق يتصدق من القلب وبفرح وسخاء.

في ترائي يسوع لتلميذي عماّوس " ظهر برّ الله" بالمسيح. انه وهو في ملء الاتحاد بالالوهية، إنعطف على التلميذين وحرّرهما من صدمة الصليب والحزن واليأس، وأعاد اليهما طمأنينة القلب والفرح والرجاء. كلامه جلى لهما الاحداث الاليمة. نقول يسوع البارّ، الصدّيق، تصدّق على التلميذين. وهذان عندما ملأ كلام يسوع قلبيهما وصادقاه متحدين به، وقد جعلهما بارين، صدّيقين، وجّها دعوة المحبة الى هذا الغريب ليمكث معهما ويقضي ليلته. نقول " تصدّقا عليه". فكانت ثمرة المحبة والتصدق قداس يسوع.

 

***

 


 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن وروحانية سرّ القربان[1]

 

         يستمد الكاهن روحانيته وامانته للمسيح وتفانيه الرسولي من سرّ القربان، في قداسه اليومي، ويكون مثالاً للمؤمنين وشاهداً لمفاعيل هذا السّر.

         اسس يسوع ليلة آلامه سرّ الافخارستيا بثلاثة أهداف: ان يكون استمرارية ذبيحة جسده ودمه لفداء العالم  ومغفرة الخطايا، وذكرى موته وقيامته: كسرّ الحب وعلامة الوحدة ورباط المحبة، ووليمة فصحية، هي المسيح، فتملأ النفس من النعمة الالهية، وتزرع فيها عربون المجد الآتي.

         هذا السّر القرباني هو ينبوع الحياة المسيحية وغايتها، لانه يشرك المؤمن في الحياة الالهية عامودياً، ويدخله في شركة مع شعب الله، الذي هو الكنيسة، افقياً. عندما نقول سرّ القربان نعني ينبوع الشركة والوحدة وغايتهما.

         تظهر شخصية الكاهن الروحية بانه خادم هذه الشركة والوحدة. فهو من خلال خدمته المثلثة للكلمة والنعمة والمحبة، ينشىء الشركة والوحدة. ويهدف عمله الكهنوتي الاسراري الى شدّ اواصر هذه الشركة والوحدة، وحمايتهما. هذه هي ثقافة القربان التي تكوّن الفكر المسيحي: الشركة والوحدة.

 

ان الروحانية الكهنوتية والمسيحية تتلون بمعاني سرّ القربان وتسمياته:

الافخارستيا من الاصل اليوناني ( eucharistein)، تعني فعل الشكر لله على تصميمه الخلاصي: الخلق والفداء والتقديس. هذه الروحانية تقتضي ان تكون حياتنا باعمالها فعل شكر دائم.

عشاء الرب او وليمة الرب، فضلاً عن تذكار عشائه الفصحي الاخير مع تلاميذه في ليلة آلامه، هو استباق لوليمة عرس الحمل في اورشليم السماوية. الروحانية هي التوق الدائم الى وليمة الملكوت.

كسر الخبز يذكّر بما فعله يسوع عندما اسس هذا السّر، ومارسه بعد قيامته، ومن بعده كهنة العهد الجديد، ويتضمن روحانية تقاسم خيرات الدنيا بروح المحبة والتضامن والتعاون، وروحانية التعبير عن وحدة الكنيسة، جسد المسيح الواحد، التي تلتئم وتتوحّد حول الافخارستيا.

الذبيحة المقدسة، لانها استمرارية ذبيحة يسوع الواحدة، الحاضرة الآن وهنا بقوة الروح القدس. منها تنبع روحانية الغفران والمصالحة، وروحانية التكفير عن الخطايا الشخصية والعامة، وجعل الاعمال اليومية، بافراحها وأحزانها، قرابين روحانية تضاف الى ذبيحة يسوع الخلاصية.

الليتورجيا الالهية، لانها عمل الله الثالوث، ومحور كل ليتورجيا الكنيسة، والتعبير الاسمى عن ليتورجيا الارض. منها روحانية الخشوع والتقوى واستحضار الله الثالوث في كل عمل ليتورجي.

الاسرار المقدسة، لانها تعني شكلي الخبز والخمر المحَّولين في جوهرهما الى جسد المسيح ودمه، وتحفظ في بيت القربان. من هنا روحانية تقديس الخلق وثمار العمل البشري بالحق والعدل والاستقامة.

القداس الالهي، باللاتينية Missa من لفظة Missio التي تعني الارسال. القداس ينتهي بارسال المؤمنين لاتمام ارادة الله في حياتهم اليومية. هي روحانية البحث عن ارادة الله في احداث الحياة، وقبولها والعمل بما توحيه.

المناولة المقدسة، لان المسيح يشرك المؤمنين في وليمة جسده ودمه، ليؤلفوا جسد المسيح الواحد. منها روحانية الشركة بالاتحاد بالله والشركة مع القديسين، فالشركة الافقية ببناء وحدة الجنس البشري.

الكاهن مدعو ليكون متحلياً باوصاف هذه الروحانية القربانية وملتزماً بتعزيزها في المؤمنين.

 

***


 

ثالثاً، يوبيل القديس مارون:1600 سنة على وفاته (+410-2010)

 

1.    نهجه الروحي[2]

         نستمد نهج القديس مارون، الذي اصبح نهج تلاميذه وابناء الكنيسة المارونية، من سيرة حياته التي كتبها المطران تيودوريتس، اسقف قورش في كتابه " اصفياء الله".

         يلقبّه الاسف تيودوريتس " بزينة خورس القديسين الالهيين"، لانه " زرع في حقل الله  الفلسفة، اي الحكمة ومحبة الله، فقام في جوار قورش فردوس مزهر". فكان مارون يرشد الى التعليم الحق مجموعة الزهّاد الذين عاشوا في فردوس قورش، راغبين مثله باعمال الفلسفة، وكان يأتي نفوسهم بالعلاج المفيد. مانحاً هذا التعليم المؤدي الى الحكمة، وواضعاً لذاك الارشادات الى الفضيلة. ولذلك أطلق عليه اسقف قورش كلمة المزمور: " الصدّيق كالنخل يزهر، وكالارز في لبنان ينمو" ( مز91: 13).

         ومن الالقاب الاخرى التي سمّاه بها الاسقف تيودوريتس: مارون الملهّم، مارون الشهير، ومارون العظيم (كتاب اصفياء الله، ص 76-167 و185).

         اما نهجه فهو اغناء الذات بالفضائل الروحية والمزايا الانسانية مثل: الوداعة والوعي الروحي والتفكير بالله، والاتزان وعذوبة الصوت والنعومة في المعاطاة مع الناس.

         وهو حياة التقشف والاماتة مثل: القيام وقوفاً والاعمال الشافية والسهر والفقر الانجيلي، المقرونة كلها بالمثابرة على الصلاة، والصمت مع القليل من الكلام مع الزوار لئلا ينصرف الذهن عن السماويات وضيافة الغرباء.

         وكانت ذروة نهجه النسكي العيش في الهراء اي في الهواء الطلق، بل كان مارون مؤسس الحياة النسكية في العراء، مجتذباً الكثيرين من الرجال والنساء الذين اعتمدوا هذا النهج، ومنهم يعقوب القورشي وحوشب القورشي ويوحنا الذي اختار ذروة وعرة معرّضة للرياح حيث قضى 25 سنة، وانطيوخوس العجوز الذي قاوم الحرّ والبرد ببطولة الشباب، ومن تلميذاته مارانا وكيرا ودومنينا في منطقة ببرية بجوار حلب. اما عدد المكرسات اللواتي اعتنقن حياة العزلة او عشن معاً فيناهز المئتين والخمسين.

         بفضل هذا النهج الذي تبعه الكثيرون من زمان القديس مارون وبعده حتى يومنا، اصبح مارون معروفاً " بابي الحياة الرهبانية الانطاكية السريانية المارونية". وعن هذا النهج انبثقت في منتصف القرن الخامس جماعة " بيت مارون" اتي تكونت في " دير مار مارون". هذا الدير الشهير بناه في جوار حمص الامبراطور مرقيانوس سنة 452، اثر مجمع خلقيدونية (سنة 456). وجماعته شكلّت دعامة رئيسية للشهادة على تعليم المجمع الخلقيدوني، ولدحض البدع. ثم اصبحت في اواخر القرن السابع كنيسة بطريركية قائمة بحدّ ذاتها، معروفة اليوم بالكنيسة المارونية المحافظة على الهدف المزدوج: روح النُسك مع التكامل بالفضيلة وخلاص النفس، والرسالة الملتزمة خلاص الآخرين، في لبنان والمشرق وبلدان الانتشار.

         اما عناصر النهج بالامانة للقديس مارون وعلى هديه لبلوغ هذا الهدف ببعديه، فهي:

-       الاخذ بالحب الالهي والاتحاد بالله في علاقة صلاة وتسبيح وتمجيد.

-       الاماتة ومجابهة قساوة الطبيعة والاهواء بروح التوبة.

-       الطاعة للكنيسة ولتراتبيتها المقدسة، سعياً الى تتميم ارادة الله.

-       اتباع المسيح بعزم وثبات من قبل الجميع، كلٍ حسب موهبته ودعوته.

-       التجذر في الارض والانشداد الى السماء. 

***
 

صلاة

ايها الرب يسوع الحاضر في سرّ القربان، أيقظ فينا الادراك بانك تسير معنا في دروب حياتنا اليومية بكلمتك الهادية التي تعطي معنى وابعاداً للظروف التي تمرّ بنا، مثلما فعلت مع تلميذي عماوس. وهكذا نصبح " صدّيقين" قابلين ارادة الله علينا، ونتصدّق بالمحبة وفعل الخير الى كل انسان. ولانك  "تمكث معنا" اجتذب اليك كل الذين جعلتهم بالمعمودية والميرون مسيحيين الى لقائك في قداس الاحد، لتجدد ايمانهم بانك حيُّ، قائم من الموت، وباعث فيهم الحياة الجديدة والقوة للانتصار على الخطيئة والشر. جمّل الكهنة، خادمي سرّ القربان، بالروحانية القربانية، فيتمكّنوا من تعزيزها في سائر المؤمنين. وفي سنة القديس مارون اليوبيلية، اعطنا لنعيش نهجه فنرتفع ونرفع عالمنا الى قمم الروح.ولك التسبيح والشكر ايها الآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1323، 1325، 1327، 1328- 1332.

[2] . الاب الياس الجمهوري: تلاميذ مار مارون، في اوراق رهبانية، العدد 99 تشرين الاول – كانون الاول 2009، ص -31-63

 

 

الاحد الرابع من زمن القيامة

عبرانيين 13: 18-25

يوحنا 21: 1-14

حضور المسيح في الكنيسة وشمولية رسالتها

 

         يسوع يتراءى للتلاميذ للمرة الثالثة، وهم في جهاد عملهم اليومي، منصرفين الى مهنة صيد السمك. أتاهم يسوع القائم من الموت، وتراءى لهم عند الصباح، وهم في طريق العودة الى شاطىء بحيرة طبرية، بعد ليلة صيد فاشلة. وكان عددهم سبعة وهويرمز الى الكنيسة الناشئة، والى اسرار الخلاص السبعة. في هذا الظهور اجترح آية الصيد العجيب كاشفاً سرّ حضوره الدائم، وشمولية رسالة الكنيسة.

 

اولاً، انجيل القديس يوحنا 21: 1-14[1]

ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَلى بُحَيْرَةِ طَبَرَيَّة، وهـكَذَا ظَهَر:  كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُس، وتُومَا الـمُلَقَّبُ بِالتَّوْأَم، ونَتَنَائِيلُ الَّذي مِنْ قَانَا الـجَلِيل، وابْنَا زَبَدَى، وتِلْمِيذَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلامِيذِ يَسُوع، مُجْتَمِعِينَ مَعًا.َ قالَ لَهُم سِمْعَانُ بُطْرُس: "أَنَا ذَاهِبٌ أَصْطَادُ سَمَكًا". قَالُوا لَهُ: "ونَحْنُ أَيْضًا نَأْتِي مَعَكَ". فَخَرَجُوا وَرَكِبُوا السَّفِينَة، فَمَا أَصَابُوا في تِلْكَ اللَّيْلَةِ شَيْئًا. ولَمَّا طَلَعَ الفَجْر، وَقَفَ يَسُوعُ عَلى الشَّاطِئ، ولـكِنَّ التَّلامِيذَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ يَسُوع. فَقَالَ لَهُم يَسُوع: "يَا فِتْيَان، أَمَا عِنْدَكُم قَلِيلٌ مِنَ السَّمَك؟". أَجَابُوه: "لا!". فَقَالَ لَهُم: "أَلْقُوا الشَّبَكةَ إِلى يَمِينِ السَّفِينَةِ تَجِدُوا". وأَلقَوْهَا، فَمَا قَدِرُوا عَلى اجْتِذَابِهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَك. فَقَالَ ذـلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُس: "إِنَّهُ الرَّبّ". فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبّ، إِتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في البُحَيْرَة. َأما التَّلامِيذُ الآخَرُونَ فَجَاؤُوا بِالسَّفِينَة، وهُمْ يَسْحَبُونَ الشَّبَكَةَ الـمَمْلُوءَةَ سَمَكًا، ومَا كَانُوا بَعِيدِينَ عَنِ البَرِّ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَي ذِرَاع. ولَمَّا نَزَلُوا إِلى البَرّ، رَأَوا جَمْرًا، وسَمَكًا عَلى الـجَمْر، وخُبْزًا. قَالَ لَهُم يَسُوع: "هَاتُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذي أَصَبْتُمُوهُ الآن". فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ إِلى السَّفِينَة، وجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلى البَرّ، وهِيَ مَمْلُوءَةٌ سَمَكًا كَبِيرًا، مِئَةً وثَلاثًا وخَمْسِين. ومَعَ هـذِهِ الكَثْرَةِ لَمْ تَتَمَزَّقِ الشَّبَكَة. قَالَ لَهُم يَسُوع: "هَلُمُّوا تَغَدَّوا". ولَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنَ التَّلامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: "مَنْ أَنْت؟"، لأَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُ الرَّبّ. وتَقَدَّمَ يَسُوعُ وأَخَذَ الـخُبْزَ ونَاوَلَهُم. ثُمَّ فَعَلَ كَذـلِكَ بِالسَّمَك. هـذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ فيهَا يَسُوعُ لِلتَّلامِيذِ بَعْدَ أَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات.

 

1.    صيدان عجيبان

ثمة ترابط بين الصيد العجيب في بداية حياة يسوع الرسولية الذي يرويه لوقا في انجيله (5: 4-11)، وهذا الصيد المماثل بعد قيامته.

في الصيد الاول في بحيرة جنّاشر، كان حاضراً بطرس وابنا زبدى يوحنا ويعقوب. وفيه اعلن يسوع لسمعان بطرس انه بعد الآن سيكون صياداً للبشر. السفينة تكون الكنيسة، والشباك كلمة الانجيل التي بسببها كان الصيد العجيب، ويكون البحر هذا العالم، والسمك جميع الشعوب، ويكون يسوع سيّد الصيد الروحي. والصيادون الثلاثة تركوا كل شيء وتبعوا يسوع.

في الصيد الثاني في بحيرة طبريّه، كان حاضراً من جديد الصيادون الثلاثة انفسهم بالاضافة الى اربعة آخرين. كان الصيد العجيب في اجواء القيامة. ليلة عقيمة بسبب الصيد الفاشل، وفجر يطلّ فيه يسوع على التلاميذ ويوجههم الى الصيد الذي جاء عجيباً. ما يذكّر بليلة الصلب ومظاهر فشل يسوع، وبفجر القيامة والانتصار. يسوع القائم من الموت حاضر ابداً بسرّه الفصحي، الموت والقيامة، في حياة المؤمنين والكنيسة، يحوّل الموت الى حياة والفشل الى نجاح، والضعف الى قوة، والظلمة الى نور. لن نعرفه بالنظر الخارجي، كما لم يعرفه التلاميذ، بل بعين الايمان، ولو التبس علينا حضوره بسبب مرارة الموت، وكبر الفشل، وكثرة الضعف، وكثافة الظلمة.

القاسم المشترك بين الصيد الاول والصيد الثاني وجود كلمة يسوع الموجهّة بعد فشلهما: " توجهوا الى العمق وألقوا شباككم للصيد" (لو5: 4) و ألقوا الشبكة الى يمين السفينة تجدوا" ( يو 21:6)؛ وطاعة التلاميذ،  فلما فعلوا، ضبطوا سمكاً كثيراً، حتى كادت الشباك تتمزق؛ وفرة العطاء الالهي الذي لا يعرف الحدود، بوجه العمل الصغير الذي يؤدّيه المؤمن. هكذا جرى في آية خمر عرس قانا (يو2: 1-11)، وفي آية تكثير الخبزات الخمس والسمكتين (يو6: 6-13)؛ قيادة بطرس بايمان وحب ليسوع، فالمبادرة له: في الصيد الاول، الى سفينته صعد يسوع، وله قال ان يتقدموا الى العمق ويلقوا الشبكة، وسمعان- بطرس خرَّ على قدمي يسوع واعترف بقلة ايمانه، وله قال الرب: " لا تخف فمن الآن تكون صياد البشر للحياة". وفي الصيد الثاني، سمعان أخذ المبادرة للصيد والستة تبعوه، ولما قال له يوحنا الحبيب ان هذا هو الرب، رمى بنفسه في البحر واتى الى يسوع، هذا الكنز الاكبر الذي تبوخ امامه كل الكنوز، وكأن كثرة السمك لا تعنيه، بل الذي يعنيه هو المعطي؛ وهو صعد الى السفينة وجذب الشبكة الى البّر، وهو الذي سأله يسوع ثلاث مرات بعد الغداء عن حبّه الكبير له، وبثلاث مرات سلّمه رعاية الكنيسة.

 

2.    جامعية الكنيسة

عندما اقام يسوع لعازر من الموت، وآمن به كثير من اليهود، اعتبر عظماء الكهنة والفريسيون ان يسوع ليس المسيح المنتظر الذي سينقذ اليهود سياسياً من الرومان الوثنيين المحتلّين لارضهم. واعربوا عن خوفهم من انه " اذا تركوه وشأنه، سيؤمن به الجميع، فيأتي الرومان ويتولون على هيكلهم وشعبهم". فقال قيافا عظيم كهنتهم: " خير لنا ان يموت رجل واحد عن الشعب، من ان يهلك الشعب كله" (يو11: 45-50). فكان الحكم السياسي عليه بالموت.

لكن يسوع مات عن كل الشعوب فداء عنهم ليجمعهم بشخصه. هكذا قرأ يوحنا الانجيلي كلمة قيافا، اذ كتب: "لقد تنبأ عظيم الكهنة ان يسوع كان مزمعاً ان يموت عن الشعب، وليس عن الشعب وحسب، بل ليجمع ايضاً في واحد ابناء الله المشتتين" (يو11: 51).

ويسوع نفسه سبق وقال: " ولي خراف اخرى ليست من هذه الحظيرة، عليّ ان آتي بها هي ايضاً، وستسمع صوتي، فتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يو10: 16).

الصيد العجيب الاول اكّد شمولية الكنيسة المنفتحة على جميع شعوب الارض، عندما قال يسوع لسمعان بطرس: " ستكون تصطاد البشر للحياة" (لو5: 10). واكّدها الصيد العجيب الثاني بعدد 153 سمكة كبيرة الذي يرمز الى شمولية الشعوب في رسالة الكنيسة.

 

3.    حضور الرب عبر سرّ القربان

انتهى الصيد العجيب بالعلامة القربانية، اذ " اخذ الخبز والسمك وناولهم". من خلالها نعرف ان يسوع حاضر في الكنيسة وسط العالم؛ وانه " هو الذي هنا". هكذا عرفه التلاميذ، "ولم يجرؤ احد منهم ان يسأله: من انت" ( يو21: 12).

لقد فعل يسوع الافعال نفسها التي فعلها في آية تكثير الخبزات الخمس والسمكتين (يو6: 5-13)، وفي اطار كلامه عن سرّ القربان الذي هو خبز الحياة (الفصل السادس من انجيل يوحنا). هناك " أخذ يسوع الخبز، وبعد ان شكر، أعطاه للجالسين، وكذلك فعل بالسمك بقدر ما شاؤوا (يو6: 11). وهنا " تقدّم يسوع وأخذ الخبز وأعطاهم اياه، وكذلك فعل بالسمك" ( يو 21: 13).

اننا نعتبر هذا الترائي الثالث ليسوع ظهوراً افخارستياً، للدلالة انه مع كنيسته الى الابد. وهذه حقيقة ابدية.

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن وخدمة حضور المسيح والرسالة الشاملة عبر سرّ القربان[2]

1.    الكاهن خادم حضور المسيح

الكاهن، الحاضر وسط الجماعة ويمارس خدمته الكهنوتية باسم المسيح وبشخصه، انما يخدم حضور الرب يسوع وسط الجماعة. فالمسيح حاضر بأنواع شتى: في كلام الانجيل، في صلاة الكنيسة، في الفقراء والضعفاء والمرضى والمساجين، في الاسرار، في ذبيحة القداس، في شخص الكاهن، وبشكل دائم في بيت القربان تحت شكلي الخبز والخمر، حيث هو حاضر بجسده ودمه وروحه والوهيته، بل المسيح بكليته حاضر حقاً وفعلياً وجوهرياً.

الكاهن شاهد لهذا الحضور بخشوعه وتقواه وسجوده وعلاقته بسرّ القربان. وعليه ان يعلّم الشعب الداخل الى الكنيسة انهم في حضرة المسيح، ما يقتضي احياء علاقة معه بالسجود والانحناءة والصلاة والاستحضار الدائم.

         على يد الكاهن، وبحضور الشعب الخاشع، يتحوّل في القداس جوهر الخبز والخمر الى جسد المسيح ودمه، ويصبح هو حاضراً في هذا السّر، بقوة كلمة المسيح " هذا هو جسدي، وهذا هو دمي"، وبفعل الروح القدس الذي " يجعل هذا الخبز جسد المسيح، وهذه الخمرة دم المسيح". دور الكاهن ان يتلفّظ بكلمات المسيح، اما القدرة على التحويل والنعمة المعطاة فهما من الله. ودور الشعب الحاضر ان يشهد بايمانه لتحويل جوهر الخبز الى جوهر جسد المسيح، وجوهر الخمر الى جوهر دمه، بكلمة " آمين"، ويعبّر عن ايمانه بحضور الرب بالانحناءة العميقة او السجود.

         ان حضور الرب يسوع في الكنيسة، من خلال ذبيحة القداس، هو حضور مثلث الابعاد: تذكار موته وقيامته فداء عنا، وحضور محبته الى اللانهاية، ووليمة جسده ودمه لحياة العالم. الكاهن يخدم هذه الابعاد، تعليماً وممارسة وشهادة حياة.

 

2.    الكاهن خادم الرسالة الشاملة

آية تكثير الخبزات الخمس والسمكتين واطعام الجموع الغفيرة كانت استباقاً لوليمة جسد المسيح ودمه لاطعام جميع البشر. وكما افتدى الرب يسوع بذبيحة موته على الصليب الجنس البشري، واحياه بقيامته، هكذا يريد، بتأسيس سرّ القربان وسرّ الكهنوت ان يقتات من جسده ودمه جميع شعوب الارض، ويغتذوا من ثمار خبزه السماوي هذا. الكاهن هو وكيل هذه الاسرار المهيأة لجميع الناس. هذه هي شمولية رسالة الكنيسة التي يخدمها بتفانٍ وغيرة رسولية.

سرّ الافخارستيا يصنع الكنيسة، فيكوّنها من المؤمنين الذين يتناولون جسده الواحد وكأس دمه الواحدة، ويؤلفون جسده السرّي. الكاهن هو خادم تكوين هذا الجسد السرّي، من مؤمنين ومؤمنات مخلصين في ايمانهم وافعالهم ومسلكهم، كأغصان يانعة في كرمة المسيح، منقّاة بكلمة الانجيل، ومطهّرة من كل خطيئة بنعمة التوبة، ومنتعشة بماوية الروح القدس. هذه هي رسالة الكاهن السامية في خدمة سرّ الافخارستيا: ان يسهر ويعمل على تكوين جسد المسيح، وحماية وحدته برباط المحبة وروح الشركة.

 

***

 

ثالثا، يوبيل القديس مارون 1600 سنة على وفاته ( +410-2010)

 

         نشأة الكنيسة المارونية[3]

 

         تكوكب  حول مارون الكاهن الناسك عدد كبير من النسّاك والمؤمنين، الذين نهجوا مثله الايمان وشهادة الحياة، فاستناروا بهديه، واقتدوا بمثل حياته. نذكر منهم يعقوب القورشي، زعيم نسّاك القورشية الذي عايش القديس مارون، وتتلمذ له وتفوق عليه بالتقشف، وليمناوس الناسك الذي جاور مارون، ودومنينا العجيبة التي عاشت على طريقة مارون في كوخ من قصب. وكان من بعدهم علماء اقتفوا سيرة القديس مارون مثل تيوفيلوس الرهاوي (+785) الذي ترجم من اليونانية الى السريانية ملحمتي هوميروس الالياذة والاوذيسَّة، والمطران توما الكفرطابي. هؤلاء وسواهم شكلّوا نواة ما سيُعرف بالكنيسة المارونية السريانية الانطاكية في اواخر القرن السابع.

          لكن الدير الاساس في نشأة الكنيسة المارونية، فكان دير القديس مارون في حمص بجوار افاميا الذي بناه لرهبانه الامبراطور مرقيانوس سنة 452 لدعم تعليم مجمع خلقيدونية (سنة 451). عظم شأن هذا الدير حتى صار رأساً لكل اديرة اقليم سوريا الثانية، والقلعة الوحيدة للعقيدة الكاثوليكية حسب التعليم الخلقيدوني، ضد رهبان اوطيخا الرافضين لهذا التعليم. تعرّض رهبانه الى مذبحة حصلت سنة 517 قرب بلدة شيزر، وذهب ضحيتها 350 راهباً. فكتب رئيس الدير الارشمندريت اسكندر والجماعة الرهبانية الى البابا هرمسداس بهذا الشأن. وشارك رئيسه في مجمع القسطنطينية سنة 536. تهدم الدير والصوامع الثلاثماية التي كانت بجواره بسبب تواتر الفتن من الاعراب وظلم السلطان في القرن العاشر، كما كتب المؤرخ المسعودي (+956). فانتقل الكرسي البطريركي الى دير سيدة يانوح (بلاد جبيل). واتخذ من جبل لبنان مركز استقطاب ماروني، شعباً ونسّاكاً.

         كانت الرسالة المارونية قد وصلت الى لبنان مع تلاميذ مار مارون الاوائل، ولاسيما الناسك ابراهيم القورشي، في منطقة افقا- العاقوره الخاضعة للوثنية. ولشدة تأثيره على سكان تلك الناحية، جعلهم يعتنقون المسيحية، ويتخلون طوعاً عن الوثنية ورموزها. فغدا نهر ادونيس مثلاً يحمل اسم نهر ابراهيم تيمّناً به واقراراً بجميله. كما وصلت الى جبّة بشري مع الناسك سمعان الذي أُطلق اسمه على احد الينابيع في ذاك الجبل.

         تواصلت المسيرة المارونية من شخص فرد هو القديس مارون الى جماعة " بيت مارون" فالى تنظيم بطريركي في اواخر القرن السابع، تكوّنت معه الكنيسة البطريركية المارونية. وكانت احداث ادّت الى هذا التنظيم هي: بناء اديار رهبانية  متنوعة  تحمل اسم مارون، والتمايز العقائدي الذي خلّفته مقررات مجمع خلقيدونيه، وفشل محاولات الوحدة بين المسيحيين التي قامت بها الامبراطورية البيزنطية، وتغلّب الفتح العربي عليها في منطقة الشرق الاوسط، ودخول ثلاث كنائس رسولية، اورشليم وانطاكية والاسكندرية، تحت الحكم الجديد. قام الموارنة بمبادرة جريئة فانتخبوا بطريركاً على انطاكية هو الاسقف يوحنا مارون، موطّدين هكذا اركان كيانهم الديني والثقافي والاجتماعي والمصيري في الجبل اللبناني. فكانت هذه المبادرة تحدياً كبيراً لكل من حولهم، وتجسيداً لشعور عميق بالذاتية المميّزة. وهكذا وُلد الشعب الماروني بفضل سلطة بطريركه وتقاليده وحضارته، واطلق عليه فيما بعد اسم " الامّة المارونية"، في رسائل البابوات والملوك. انهم خلقيدونيّو المعتقد، وانطاكيّو الانتماء، وعلى دين الملك البيزنطي والبابا. وعاشوا في بيئة مغايرة مؤلفة من السريان اللاخلقيدونيين المختلفين معهم مجمعياً، والاسلام المغاير لمعتقدهم، محافظين على ايمانهم وتمايزهم في بطريركية مستقلة.

 

***

         صلاة

         ايها الرب يسوع، القائم من الموت انت حاضر في الكنيسة، في فجر كل يوم لتوجّه نشاطها ونشاط ابنائها وبناتها ومؤسساتها، لتأتي بالثمار الوافرة، مثل ذاك الصيد العجيب. اعطنا ان نعرف صوتك، مثل يوحنا الحبيب، ونراك من خلال نجاح كل عمل نقوم به. شدّنا اليك مثل بطرس لنلتقيك في سرّ الافخارستيا، في ذبيحة القداس وفي بيت القربان، لنعرب لك عن حبّنا الكبير، ولترسلنا بقوته الى خدمة محبتك لجميع الناس. قدّس الكهنة واملأهم من سرّ حضورك ليخدموه وسط الجماعة. ضع في قلوبهم الغيرة الرسولية ليكرزوا بانجيلك ويحملوا نعمة اسرارك الى جميع الناس. وفي سنة القديس مارون اليوبيلية، اعطنا ان نجعلها موسم ايمان وشهادة حياة. فنرفع التمجيد والاكرام للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . انظر شرحاً مستفيضاً لدى الاب هادي محفوظ: " زمن القيامة"، جامعة الروح القدس الكسليك (2005)، 85-107

[2] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1373، 1375، 1378، 1380، 1396، 1398.

[3] . الخوري ناصر الجميّل: الكنيسة المارونية مسيرة ايمان وشهادة، في مجلة " رابطتنا" عدد 14( ممتاز) مار مارون 2010، ص 24-29؛ الاباتي بولس نعمان دير مار مارون دير البلور- مغارة الراهب، في اوراق رهبانية، العدد 99، تشرين الاول- كانون الاول 2009، ص 65-77).

 

 

الاحد الخامس من زمن القيامة

افسس 2: 1-10

يوحنا 21: 15-19

مقتضيات المسؤولية الراعوية

 

         نواصل في هذا الاحد ما جرى في ظهور الرب يسوع الثالث للتلاميذ على بحيرة طبرية، وفي اعقاب الصيد العجيب، والوليمة القربانية. فبعد الغداء وجّه يسوع لسمعان-بطرس السؤال المثلث: أتحبني؟ وعلى جوابه بالتأكيد في كل مرة، راح الرب يسلّمه رعاية الكنيسة. ثم دعاه لاتباعه على خطى الفداء. تحيي الكنيسة في هذا الاحد يوم الصلاة من اجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية. ويتزامن كل هذا مع الاحد الاول من شهر ايار، عيد سيدة لبنان وافتتاح الشهر المريمي.

 

اولاً، انجيل القديس يوحنا 21: 15-19[1]

 

وبَعْدَ الغَدَاء، قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُس: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّنِي هـؤُلاء؟". قَالَ لَهُ: "نَعَم، يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ حُمْلانِي". قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". قَالَ لَهُ: "نَعَمْ يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ نِعَاجِي!". قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَالِثَة: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". فَحَزِنَ بُطْرُس، لأَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ ثَلاثَ مَرَّات: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: "يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيء، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ خِرَافِي! أَلـحَقَّ الـحَقَّ أَقُولُ لَكَ: حِينَ كُنْتَ شَابًّا، كُنْتَ تَشُدُّ حِزَامَكَ بِيَدَيْكَ وتَسِيرُ إِلى حَيْثُ تُرِيد. ولـكِنْ حِينَ تَشِيخ، سَتَبْسُطُ يَدَيْكَ وآخَرُ يَشُدُّ لَكَ حِزامَكَ، ويَذْهَبُ بِكَ إِلى حَيْثُ لا تُرِيد". قَالَ يَسُوعُ ذلِكَ مُشيرًا إِلى الـمِيتَةِ الَّتِي سَيُمَجِّدُ بِهَا بُطْرُسُ الله. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "إِتْبَعْنِي!".

 

هذا السؤال والجواب والمهمة الراعوية، ومحورها كلها المحبة، قد جرى في اطار الوليمة القربانية، حيث يسوع " تقدّم واخذ خبزاً وسمكاً وناولهم" (يو21: 13). فالمهمة الراعوية المعطاة لبطرس ولرعاة الكنيسة، اساقفة وكهنة، تنطلق من محبتهم للمسيح، وتجسيد محبة المسيح لجميع البشر الذين احبّهم وافتداهم بموته على الصليب. فبطرس ورعاة الكنيسة يمتلأون من هذه المحبة الراعوية التي تجري من سرّ الافخارستيا.

ثلاث مرات سمّى يسوع بطرس باسمه البشري الاصلي: سمعان بن يونا. كانت المرة الاولى عندما نظر اليه يسوع وقرأ رغبته الداخلية، ودعاه لاتباعه بدعوة نبوية: " انت سمعان بن يونا، ستدعى الصخرة اي بطرس" (يو1: 42). وكانت الثانية في قيصرية فيليبس عندما امتدح يسوع ايمان بطرس لجوابه " انت هو المسيح ابن الله الحي!" على سؤال يسوع: " وانتم من تقولون اني هو؟" فحقق له الدعوة النبوية: " طوبى لك يا سمعان بن يونا... واقول لك انك انت هو الصخرة، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي، وابواب الجحيم ان تقوّى عليها" ( متى16: 13-18).

ان مرتكزات المسؤولية الراعوية في الكنيسة ثلاث: انسانية الانسان، ايمانه بالمسيح، ومحبته له فوق كل الاشخاص والاشياء. هذه الثلاث تميّز بها سمعان بن يونا، فكانت الاولى مرتكز الاختبار والثانية مرتكز الثبات في الدعوة، والثالثة مرتكز الخدمة الراعوية. بهذه الثلاث يكون الاسقف والكاهن في الكنيسة راعياً صالحاً، على مثال المسيح راعي الرعاة العظيم، كما يصفه انجيل يوحنا (10: 11-16). ينبغي ان يتصف بالانسانية لكي يتحسس مع الخراف الضعيفة، ويتألم للضائعة؛ وبالايمان لكي يثبت في الامانة للراعي الاعظم الذي ائتمنه على رعاية خرافه، وللخراف الموكولة الى عنايته، مهما قصت الظروف وعظمت الصعوبات؛ وبالمحبة للمسيح لكي يقود الخراف الى المراعي الخصبة، التي هي الانجيل وتعليم الكنيسة وينابيع الاسرار، ولكي يحميها ويدافع عنها بوجه الذئاب، فلا يساوم عليها ولا يخذلها، بل يبذل نفسه في سبيلها.

بهذه الصفات الثلاث، يستطيع الاسقف والكاهن ان يعمل بوصية بولس: " اسهروا على نفوسكم وعلى القطيع الذي أقامكم عليه الروح القدس رعاة، لترعوا كنيسة المسيح التي اقتناها بدمه" (اعمال 20: 28)؛ وان يدرك مسؤوليته امام الله الذي " جعله راعياً ومعلماً لكمال المؤمنين، ولعمل الخدمة، ولبنيان جسد المسيح" (افسس 4: 11-12)؛ وان يكون رجل الالتزام المخلص، وفقاً لارشاد بطرس الرسول: " ارعوا رعية الله التي عهد بها اليكم، واسهروا روحياً، لا بالكُره بل بالرضى، لا بالربح الخسيس بل بكل قلوبكم. لا كأرباب للرعية بل كقدوة حسنة تكونون لهم، حتى اذا ظهر راعي الرعاة، تنالوا منه اكليل المجد الذي لا يذبل" ( 1بطرس 5: 2-4).

وبما انه " لا يوجد حبٌ أعظم من ان يبذل الانسان نفسه عن احبائه" (يو 15: 13)، تنبأ يسوع عن ان محبة بطرس ستبلغ به الى الاستشهاد على مثال الرب، فيتمجّد الله بتميم ارادته الخلاصية: " حين تشيخ ستبسط يديك، وآخر يشدّ لك حزامك، ويذهب بك الى حيث لا تريد" ( يو 21/18).

ثم قال له كخلاصة لهذا اللقاء: " اتبعني!" لانه لا مجال للاسقف او للكاهن بأن يقوم بواجب الرعاية بمحبة المسيح، وبأن يقبل الاستشهاد، معنوياً كان ام حسّياً، إلاّ اذا مشى على خطى يسوع، الذي ستكون له منه القوة والهداية والعزاء.

 

***

 

ثانياً، يوم الصلاة من اجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية

 

         يُخصص هذا الاحد للصلاة من اجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية. وفي المناسبة، وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالة بعنوان:  شهادة الحياة توقظ الدعوات[2].

         الدعوة هي اولاً فعل مجاني من الله، ولكن تعززها نوعية الشهادة الشخصية والجماعية وغناها، التي يقدمها اؤلئك الذين اجابوا على النداء الالهي في الخدمة الكهنوتية وفي الحياة المكرسة. فشهادتهم تستطيع ان تحرّك عند الآخرين الرغبة في الاجابة بدورهم، وبسخاء على النداء الالهي.

         ان الله يستخدم شهادة الكهنة الامناء لرسالتهم لكي يحرّك دعوات جديدة، كهنوتية ورهبانية، لخدمة شعب الله. ثمة ثلاث مزايا من حياة الكاهن والراهب والراهبة تجعل شهادتهم ذات فعالية.

 

1. صداقة الكاهن للمسيح هي عنصر اساسي وعلامة لكل دعوة الى الكهنوت والى الحياة المكرّسة. كان المسيح  يعيش في حالة اتحاد دائم بالآب، فايقظ عند التلاميذ الرغبة في عيش خبرته، وقد تعلّموا منه الشركة والحوار المتواصل مع الله. والكاهن بحكم كونه رجل الله وخاصته، ويساعد الناس على معرفته ومحبته، لا يستطيع إلاّ ان يحيي في نفسه حياة حميمة عميقة مع الله، ويمكث في محبته، ويصغي لكلامه. صلاة الكاهن والمكرسين هي اول شهادة لتحريك الدعوات. الشهادة الفاعلة هي التي تصدر عن كاهن او مكرّس او مكرّسة " رأى" الرب بعين الايمان وعرفه وتعلّم كيف يحبه ويمكث معه. هكذا ادّى اندراوس شهادته لاخيه سمعان – بطرس، فانطلق برغبة شديدة الى يسوع.

 

2. هبة الذات الكاملة لله هي عنصر ثانٍ اساسي لتكريس الذات لله وللكنيسة في الحياة الكهنوتية وفي الحياة الرهبانية، على مثال الرب يسوع الذي " وهب ذاته من اجلنا"، اذ " علينا نحن ايضاً ان نهب ذواتنا من اجل اخوتاا" (1يو3: 16). والرب يسوع اعطى علامة لمحبته ولهبة ذاته، عندما قام عن عشائه الاخير وغسل ارجل التلاميذ تعبيراً عن الالتزام الخدمة بتواضع، كفعل طاعة لارادة الآب (راجع يو13: 3-15). هبة الذات هذه الكاملة لله تمكّن كل مكرس، سواء في الكهنوت ام في الحياة الرهبانية، من الخدمة باندفاع وفرح وامانة دائمة. ان تاريخ كل دعوة مرتبط دائماَ بشهادة كاهن عاش بفرح هبة ذاته للاخوة من اجل ملكوت الله.

 

3. عيش الشركة هو الميزة الثالثة للكاهن ولكل شخص مكرّس. انها الشركة في المحبة التي تميّز تلاميذ المسيح (يو13: 35). على الكاهن ان يكون رجل شركة، منفتحاً على الجميع، قادراً على قيادة شعبه في الوحدة، متجاوزاً الانقسامات، مداوياً الجراح، مزيلاً الخلافات وسوء الفهم، وغافراً الاساءات. اذا رأى الشباب كهنة  ومكرسين يعيشون في عزلة وحزن، فلا يشعرون بالشجاعة، دونما شك، لاتباع مَثَلهم؛ ويرتابون بشأن مستقبل الكاهن والمكرس. ان شركة الحياة بين الكهنة والرهبان والراهبات تكشف جمال الكهنوت والحياة الرهبانية.

 

اما الشهادة المنتظرة من الكاهن والراهب والراهبة لكي تجتذب الدعوات الكهنوتية والرهبانية فهي مثله في عيش المحبة لله وللكنيسة، والاندفاع المطلق في خدمة شعب الله والغيرة على نشر كلمة الانجيل،  متحليا بالصبر والثبات، وروح التجرد بوجه النزعة المادية والانانية والفردية التي تميّز مجتمع اليوم.

 

***

 

ثالثا، عيد سيدة لبنان- حريصا[3]

 

         يرقى الاحتفال بعيد سيدة لبنان الى الاحد 3 ايار 1908، وقد اعلن المثلث الرحمة البطريرك الياس الحويك، بمناسبة تدشين معبد سيدة لبنان على تلة حريصا، ان يكون الاحد الاول من ايار كل سنة عيد سيدة لبنان.

         يجدر التذكير بان معبد سيدة لبنان كان قد شُيّد بمناسبة اليوبيل الذهبي لاعلان عقيدة الحبل بلا دنس (1854-1904). فيما كانت الكنيسة الجامعة تحتفل بمرور خمسين سنة على اعلان هذه العقيدة (8 كانون الاول 1854)، في سنة 1904، قام البطريرك الياس الحويك والقاصد الرسولي كارلوس دوفال (Carlos Duval) بفكرة تأسيس اثر ديني مريمي على احدى قمم لبنان يخلّد ذكرى هذه العقيدة، ونفخا في اللبنانيين روح الايمان والحماس لتكريم امنا العذراء مريم.

         بعد البحث والمشاورات وقع الاختيار على قمة تلة حريصا ليشيد هناك المزار المريمي على اسم " سيدة لبنان". كانت المحلة ملكاً للسيد فرنسيس يعقوب يونس، فاشتراها البطريرك الحويّك ودفع ثمنها خمسين ليرة عثمانية. وهو المكان الاليق في لبنان لمن هي سلطانة السماء والارض. فالتلة تطل على مدينة جونيه والبحر المتوسط والعاصمة بيروت والجبل، وهي محاطة بالسفارة البابوية والبطريركيات: المارونية (بكركي)، والسريانية الكاثوليكية (الشرفة)، والارمنية الكاثوليكية ( بزمار)، والعديد من الاديار للرهبان والراهبات. في كل ذلك تحققت نبؤة العذراء لنسيبتها اليصابات بان جميع الاجيال تطوّبها.

         وضع الحجر الاساس في شهر تشرين الاول 1904، وفي اوائل سنة 1907 بدأ المعلم ابراهيم مخلوف بتشييد قاعدة المعبد والتمثال.

         اما تمثال العذراء ام الله سلطانة الحبل بلا دنس فقد صنع في فرنسا، وهو من البرونز المسكوب. طوله ثمانية أمتار ونصف، قطره خمسة امتار، وزنه خمسة عشر طناً، وقد طُلي باللون الابيض الذي يرمز الى قداسة مريم العذراء ويجعله مرئياً من بعيد. تبسط العذراء ذراعيها نحو العاصمة بيروت، ولسان حالها يقول: " تعالوا اليَّ ايها الراغبون فيَّ، واشبعوا من ثماري". سُكب التمثال في احد معامل مدينة ليون تحت اشراف الفنان الفرنس Durenne الذي اوصله الى مرفأ بيروت في اواخر تموز 1906.

         ان رسم المزار والمعبد الداخلي هما من تصميم المهندس الفرنسي Giot. المعبد الداخلي كنيسة صغيرة طولها كما عرضها ثمانية امطار، وعلوها تسعة امتار، وتتسع لحوالي مئة وخمسين شخصاً. يتألف الدرج اللولبي الخارجي الذي يصل الى التمثال من مئة واربع درجات. اما قاعدة التمثال المبنية من صخر فتعلو عشرين متراً ومحيطها الاسفل اربعة وستون متراً، والاعلى اثنا عشر متراً.

 

***

صلاة 

في مناسبة عيد سيدة لبنان، نتلو اليوم الصلاة التي وضعها المثلث الرحمة البطريرك الياس الحويك، وقد تلاها مع الشعب في الاحتفال بعيدها وبتدشين معبد سيدة لبنان- حريصا، في الاحد الاول من ايار سنة 1908:

 

يا مريم سلطانة الجبال والبحار ومليكة لبناننا العزيز الذي أوتيت مجده وشئت ان يكون لك رمزاً. يا عذراء ضارعت نقاوتها ثلج لبنان، وفاح عطر طهرها كعرف زهور لبنان، \وتسامت مرتفعة كالارز في لبنان. نسألك، يا من انعطفتِ حنواً إلينا فاتخذت زنبق حقولنا إكليلاً لرأسك وقمة جبالنا موطناً لقدميك، أن ترمقي بنظرك الوالدي مملكتك الممتدة حواليك، وتبسطي يديك الطاهرتين، وتباركي هذه الناحية التي امتازت منذ الاجيال الأولى بإكرامك والدفاع عنك. تعطفي أيتها الام الحنون واحفظي الوئام والسلام في هذه البلاد، وعززي في قلوب بنيها إيمان الاجداد. إحرسيهم من الضلال والنفاق كما فعلت الى الآن، ولا تسمحي بأن يفقد لبناننا مصدر قوته ومنشأ جماله، اي حبه أياك حباً صادقاً. 

واخيراً نتوسل اليك، ايتها الملكة القادرة، بان تمنّي على كل الشرق المسيحي المترامي على قدميك والمتفق على اكرامك ومحبتك ان يتحد بالايمان والخضوع البنوي لكرسي بطرس لكيما ندعوك بملء المسّرة سلطانة لبنان وسائر المشرق, آمين.


[1] . راجع تفسيراً مفصلاً لدى الاب هادي محفوظ: زمن القيامة (2005) ص 109-128.

[2] . صدرت الرسالة بتاريخ 13 تشرين الثاني 2009.

[3] . راجع الاب اميل اده المرسل اللبناني، مزار سيدة لبنان، مطابع الكريم 2003، صفة 13-22.

 

 

الاحد السادس من زمن القيامة

روم 10: 1-13

لوقا 24: 36-48

الشهادة لقيامة المسيح بقيامة القلوب

 

         نتذكّر في هذا الاحد ظهور الرب يسوع للاحد عشر ومعهم نلميذا عمّاوس، وهم يتكلمون عن حدث قيامته، للدلالة ان حيث الجماعة تلتئم باسم المسيح وعلى ذكراه، يكون هو  حاضراً " في ألوسط" اي كرأس للجماعة ومحورها، ويعطيها " سلامه" اي كل خيور الله.

 

اولاً، انجيل القديس لوقا: 36-48[1]

 

         وفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهـذَا، وَقَفَ يَسُوعُ في وَسَطِهِم، وقَالَ لَهُم: "أَلسَّلامُ لَكُم!". فارْتَاعُوا، واسْتَوْلى عَلَيْهِمِ الـخَوْف، وكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُم يُشَاهِدُونَ رُوحًا. فقَالَ لَهُم يَسُوع: "مَا بَالُكُم مُضْطَرِبِين؟ وَلِمَاذَا تُخَالِجُ هـذِهِ الأَفْكَارُ قُلُوبَكُم؟ أُنْظُرُوا إِلى يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ، فَإِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي، وانْظُرُوا، فإِنَّ الرُّوحَ لا لَحْمَ لَهُ وَلا عِظَامَ كَمَا تَرَوْنَ لِي!". قالَ هـذَا وَأَرَاهُم يَدَيْهِ وَرِجْلَيْه. وَإِذْ كَانُوا بَعْدُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ مِنَ الفَرَح، وَمُتَعَجِّبِين، قَالَ لَهُم: "هَلْ عِنْدَكُم هُنَا طَعَام؟". فَقَدَّمُوا لَهُ قِطْعَةً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيّ، وَمِنْ شَهْدِ عَسَل. فَأَخَذَهَا وَأَكَلَهَا بِمَرْأًى مِنْهُم، وقَالَ لَهُم: "هـذَا هُوَ كَلامِي الَّذي كَلَّمْتُكُم بِهِ، وَأَنا بَعْدُ مَعَكُم. كانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ كُلُّ مَا كُتِبَ عَنِّي في تَوْرَاةِ مُوسَى، وَالأَنْبِيَاءِ وَالـمَزَامِير". حِينَئِذٍ فَتَحَ أَذْهَانَهُم لِيَفْهَمُوا الكُتُب. ثُمَّ قالَ لَهُم: "هـكذَا مَكْتُوبٌ أَنَّ الـمَسِيحَ يَتَأَلَّم، وَيَقُومُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ في اليَوْمِ الثَّالِث. وبِاسْمِهِ يُكْرَزُ بِالتَّوْبَةِ لِمَغْفِرةِ الخَطَايَا، في جَمِيعِ الأُمَم، إِبْتِدَاءً مِنْ أُورَشَلِيم. وأَنْتُم شُهُودٌ عَلى ذلِكَ.

 

         يكشف الرب يسوع في ظهوره للتلاميذ ومن معهم، وكلهم نواة الكنيسة الناشئة حقائق اساسية في الحياة المسيحية.

 

1. حضور  المسيح القائم من الموت حضوراً دائماً في الكنيسة، وفي الوسط، للدلالة انه هو محط انظارها وصاحب السلطان المطلق فيها. اما الذين دعاهم ليكونوا رعاة الكنيسة وفي وسطها، انما هم كذلك باسمه وبشخصه، ما يقتضي منهم ان يعكسوا وجهه وتعليمه ومحبته. ووقوف الرب في الوسط يعني ايضاً موقع المنتصر الذي يعبّر عنه بتحية " السلام لكم". هذه ليست مجرد تحية اجتماعية، بل هي حضور يسوع الذي يلقي السلام في القلوب، نافياً منها الخوف والقنوط، وزارعاً فيها الطمأنينة والشجاعة.

 

2. حقيقة القيامة من الموت بجسدٍ ممجّد هي اساس الايمان بحضور الرب يسوع فعلياً في الكنيسة. ليس هو روحاً ولا خيالاً. بل هو يسوع اياه، الذي عاش مع التلاميذ ورأوه بعيونهم ولمسوه بايديهم، قد قام من الموت. ولذلك اراهم يديه ورجليه، ودعاهم ليجسّوها، مؤكداً " انا هو"، وهو الاسم الذي قاله الله لموسى من العليقة: " انا هو الذي هنا" (خروج 3: 14). يسوع هو الاله حقاً والانسان حقاً الحاضر في عالمي الله والانسان.

ومع هذا لم يصدّقوا من شدّه الفرح والاندهاش. ذلك ان المسيح القائم من الموت اصبح مسيح الايمان. لا يُعرف بالعين البشرية، ولا بالمنطق البشري، بل بالايمان والحب. ان موقعه " في الوسط":   في قلب المجاعة وفي قلب الانسان. من هنا صلاة القديس أنسلموس: "ربِّ، اعطني ان اؤمن لكي أفهم’ لا أن أفهم لكي اؤمن!".

ولكي يبيّن ان قيامته حسّية وحضوره فعلي وحقيقي، اكل امامهم خبزاً وقطعة من السمك.

 

3. الجمع الدائم بين المسيح وكلمة الله، بحيث لا  يمكن فصل الكلمة المكتوبة في الكتب المقدسة عن شخص المسيح الذي هو كلمة الله، كما جاء في بداية انجيل يوحنا: " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله... والكلمة صار بشراً وحلّ فينا" (يو 1: 1 و14). فبعد ان تيقّن التلاميذ من حقيقة حضور يسوع الذي عاش معهم ومات وقام، وانه الاله والانسان، قال لهم " ينبغي ان يتمّ كل ما كتب عني في توراة موسى والانبياء والمزامير".

ان ما كُتب في اسفار العهد القديم انما كان عن المسيح " الكلمة الذي كان لدى الله"، وقد تحقق فيه عندما " الكلمة صار بشراً". انه تصميم الله الخلاصي الذي يتحقق، كما كتب عنه، ولا أحد ولا شيء يستطيع التصدّي له او منعه عن متابعة سيره.

من هذه الحقيقة يأخذ تاريخ البشر معناه، وهو انه المسرح الذي يعاون فيه الانسان على تحقيق تصميم الله الخلاصي من اجل الانسان. الله هو سيّد التاريخ، والانسان شريك معاون بامانة للتصميم الالهي.

"حينئذ فتح اذهانهم ليفهموا الكتب". هذا هو عمل الروح القدس الذي وعد به الرب يسوع: " انه يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما اقوله لكم" (يو14: 26). ان كل ما يتعلّق بالله يأتي من عند الله ذاته. لا نستطيع فهم الكتب، وفهم احداث حياتنا اليومية، الحلوة والمرّة، الواضحة والخفية، في ضؤ الكتب المقدسة، ما لم يفتح الروح اذهاننا: " هلمَّ ايها الروح القدس واملأ باطن قلوب مؤمنيك".

 

4.    من آلام المسيح وموته وقيامته كانت الحياة الجديدة التي تعطى بالتوبة ومغفرة الخطايا.

ربط الرب يسوع في كلامه بين آلامه وموته وقيامته وبين الكرازة باسمه بالتوبة لمغفرة الخطايا (لو24: 46-47)، للدلالة ان من موته وقيامته جرى ينبوع الغفران الالهي للتائبين، الذي يغسلهم من خطاياهم، اذا تابوا، ويملأهم حياة الهية، ان السّر الفصحي يتحقق فيهم، اذ " يموتون" عن خطاياهم، و"يقومون" لحياة النعمة. وهكذا "يصبحون بالمسيح خليقة جديدة" ( 2كور 5: 11).

         ان الكرازة باسم المسيح تبلغ مبتغاها عندما يتوب المؤمن عن خطاياه، وينال الغفران الذي يجري من ذبيحة المسيح، ويختبر قيامة القلب لحياة جديدة. هذا ما يعبّر عنه بولس الرسول في رسالته اليوم: إن "اعترفت بفمك بربنا يسوع المسيح، وآمنت في قلبك ان الله اقامه من بين الاموات، تحيا. لان القلب الذي يؤمن به يتبرر، والفم الذي يعترف به يحيا" (روم10: 9-10).

         الكنيسة، باينائها وبناتها ومؤسساتها مدعوة لتشهد للمسيح بالكرازة بسرّ آلامه وموته وقيامته، وباسمه الذي منه مغفرة الخطايا للتأئبين، وبشهادة التوبة وقيامة القلوب لحياة جديدة: " انتم شهود على ذلك" (لو 24: 48).

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم الذبيحة الاسرارية في سرّ القربان

 

         في معظم ظهورات الرب يسوع بعد قيامته، كان يدعوهم للنظر الى يديه ورجليه الحاملة آثار الصلب. ولذلك كانت تحمل طابعاً قربانياً هو الذبيحة الاسرارية التي مارستها الكنيسة في ليتورجيات مختلفة بامر من الرب: " اصنعوا هذا لذكري" ( 1كور 11: 24-25). الكاهن يؤدي هذا الامر الذي ينطوي على تأسيس سرّ الكهنوت، انه خادم الذبيحة الاسرارية بابعادها الثلاثة: الشكر والتذكار والحضور.[2]

 

1.    الشكر للآب

عندما يقيم الكاهن ذبيحة القداس، فانه يقدّم باسم الكنيسة ومع الجماعة المشاركة صلاة الشكر والتمجيد لله على عمل الخلق والخلاص. فالخلق متمثّل بالخبز والخمر، وهما من عمل الانسان، والخلاص بتحويل جوهر الخبز الى جوهر جسد المسيح، وجوهر الخمر الى جوهر دم المسيح، بكلمة الرب وقوة الروح القدس. انه بذلك يقدّم مع الكنيسة اسمى فعل عبادة لله، عرفاناً بالجميل لكل احساناته الظاهرة في الخلق والفداء والتقديس. لفظة " افخارستيا" تعني اولاً صلاة الشكر، وتعني ثانياً نشيد التسبيح والتمجيد لله ترفعه الكنيسة باسم الخليقة كلها بواسطة يسوع المسيح. ان اعمال الكاهن وصلاته مدعوة لتكون نشيد شكر وتمجيد، ولتجتذب المؤمنين الى عيشها من خلال المشاركة في ذبيحة القداس.

2.    التذكار والحضور

وعندما يقيم الكاهن ذبيحة القداس، فانه يحيي تذكار آلام يسوع وموته من خلال جسده ودمه الاسراريين. فبعد الكلام الجوهري التأسيسي لهذا السّر، يأتي في ليتورجيا القداس قسم التذكار. تتذكر الجماعة كل اعمال الله الخلاصية التي بلغت ذروتها في ابن الله المتجسد وموته، وفي الوقت عينه  يكون هذا التذكار حضوراً، بمعنى ان ذبيحة يسوع التي جرت مرة واحدة على الصليب بالشكل الدموي، هي اياها مستمرة على المذبح، الآن وهنا، بالشكل الاسراري، وفيها كل مفاعيل الفداء. الافخارستيا هي ذبيحة تذكار وحضور. نتذكر ان الرب يسوع بذل جسده على الصليب واراق دمه من اجل خلاصنا ومغفرة خطايانا والحياة الجديدة، لكنه حاضر في ذبيحة القداس حيث يعطينا تحت شكلي الخبز والخمر جسده الحقيقي ودمه الحقيقي مأكلاً ومشرباً ومعهما كل نعم الفداء.  في كل هذا، الكنيسة تشارك في تقدمة رأسها. روحانية الكاهن تتصف بهبة الذات لله وللكنيسة وخدمة المؤمنين، على مثال الرب يسوع. ويستمد روحانيته هذه من ذبيحة القداس، ويسعى الى انعاشها في المؤمنين.

عندما يحمل المؤمنون القرابين الى المذبح، فانهم يضّمون حياتهم واعمالهم وآلامهم وصلاتهم الى تقدمة المسيح، فتكسب قيمة جديدة. وهكذا تصبح ذبيحة المسيح الاسرارية ذبيحة الكنيسة التي تصلي وتتشفع بالمسيح من اجل الجميع. فتذكر اسم الرؤساء الروحيين، البابا والبطريرك والاسقف المحلي، كعلامة وخادم لوحدتها وتعليمها. تشمل صلاة التشفع كنيسة السماء الممجدة بالعذراء والرسل والقديسين، وكنيسة المطهر المتألمة: الموتى بالمسيح الذين ينتظرون خلاصهم الابدي. عندما يصلي الكاهن فرض الساعات، فانه يواصل صلاة التشفع التي ترفعها الكنيسة في ذبيحة القداس، ويعلّم الشعب ان يرفع هذه الصلاة عينها.

 

***

 

ثالثاً، يوبيل القديس مارون (410-2010) - مصادر اللاهوت المريمي الماروني

 

         بمناسبة شهر ايار المخصص لتكريم امنا وسيدتنا مريم العذراء، وفيما اليوبيل يدعونا الى معرفة نهج القديس مارون وتلاميذه والالتزام به، نتأمل اليوم في مصادر اللاهوت المريمي الذي يطبع الليتورجيا المارونية والتقليد.[3]

 

         اللاهوت المريمي الماروني مأخوذ من القراءات المختارة من الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، وهي منسّقه حسب اعياد العذراء بطقوس ثلاثة: بشارة والدة الاله مريم، زيارتها للاليشباع (اليصابات)، ومدائح والدة الله. ونجدها في مصدرين اساسيين من القرن الثاني عشر او الثالث عشر، هما: مجموعة  بكتاب: " ريش قريان" اي كتاب " اختيار القراءات"، وانجيل رابولا وهو مخطوطة سريانية لقراءات كتابية مختارة، ومعاصر لريش قريان.

         ترسم كل هذه القراءات خطأ متناسقاً للاهوت المريمي في تقليد الكنيسة المارونية:

1. انطلاقاً من احداث العهد الجديد، البشارة والزيارة وسواها من ذكريات العذراء مريم، تتوضّح صور ورموز العهد القديم. فتظهر العذراء مريم لا كشخص منفرد، بل كخط لمسيرة الخلاص الشاملة منذ سفر التكوين حتى سفر رؤيا يوحنا. فانها تدخل في خطة التدبير الالهي لخلاص البشرية، متحقق مع المسيح ابنها وعود الله الخلاصية.

         2. مريم العذراء هي " تابوت وصايا موسى" و" مسكن الله" و" هيكل الله" من صور العهد القديم. لقد حلّ فيها المسيح الاله فأصبحت " كنيسة الله" في العهد الجديد، و" صورة الكنيسة" التي يحلّ فيها الله، والمعروفة بتعبير بولس الرسول " بجسد المسيح السّري".

         وهي المرأة، حواء الجديدة، التي سحق زرعها ابن الله المتجسّد، وهي معه رأس الحيّة اي الشيطان والخطيئة (تكوين 3: 15-16). هذا النص النبوي، المسيحاني والمريمي، شكّل  الاساس الكتابي لعقيدة الحبل بلا دنس التي اعلنها البابا الطوباوي بيوس التاسع عقيدة ايمانية في 8 كانون الاول 1854.

         وهي المرأة، التي تنبأ عنها اشعيا "العذراء التي ستحمل وتلد ابناً يُسمى عمانوئيل اي الله معنا" (7: 14)، والتي ستبقى بتولاً، لانها العذراء التي " ستحمل" لا التي " تحبل". عمانوئيل هو يسوع ابن الله المتجسّد، والعذراء هي مريم. هذا ما اكّده انجيل متى في الحلم ليوسف (متى1: 22-23).

         وهي الام التي تنبأ عنها ميخا، فتلد في بيت لحم " الملك الذي يرعى شعب الله، واصوله منذ القديم، منذ ايام الازل" ( ميخا 5: 1-2). هذا الملك الذي يرعى شعبه هو يسوع. هذا ما اكده عظماء الكهنة وكتبه الشعب لهيرودس بمناسبة مجيء المجوس ( متى2: 4-7).

 

***

         صلاة 

         ايها الرب يسوع، نحن نؤمن انك حاضر دائماً في الكنيسة، وفي الوسط، لانك الاول والآخر، الالف والياء. اعطنا ان نعود اليك لنفصل كل قرار، ونبدأ كل مبادرة ونشاط. ساعدنا لنقرأ احداث الحياة في ضوء كلمتك الانجيلية وشخصك، وندخلها في اطار تحقيق مقاصد الله الخلاصية. افتح قلوبنا الى التوبة لننال من ذبيحتك غفران الخطايا والحياة الجديدة. في السنة الكهنوتية، اجمعنا بالهامات روحك القدوس لنتحلق حول كهنتك في احياء ذبيحة القداس، كل احد، فنرفع صلاة الشكر لله، ونتذكر سرّ موتك وقيامتك، وننعم من ثمار الفداء بحضورك الاسراري. في يوبيل القديس ما رون، عد بنا ايها المسيح الى الروحانية المريمية والى تكريس الذات لمريم الكلية القداسة، امك وامنا، التي شاركتك في خط تصميم الله الخلاصي، وتدعونا للالتزام به. للاب والابن والروح القدس كل مجد واكرام الآن والى الابد، آمين.


[1] . راجع شرح النص لدى الاب هادي محفوظ: زمن القيامة،ص 129-148.

[2] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1356.

[3] . المطران بطرس الجميل: مريم العذراء في الكنيسة المارونية 2007، صفحة 27-33.

 

 

خميس صعود الرب يسوع الى السماء: تمجيد بشرية يسوع

مرقس 16: 15-20

الاحد السابع من زمن القيامة   -    وصية المحبة الجديدة

يوحنا 13: 31-35

اليوم العالمي لوسائل الاعلام: الوسائل الجديدة في خدمة الكلمة

 

         تحتفل الكنيسة في الخميس المقبل 13 ايار بعيد صعود الرب يسوع الى السماء، وهو اليوم الاربعون بعد لقيامة. انه عيد دخول بشريته مجد الالوهة بالشكل الدائم  والمحجوب عن انظار البشر، لكن بشريته القائمة من الموت تتمجد منذ ساعة القيامة.

 

         اما الاحد السابع فيختم زمن القيامة بالوصية الجديدة التي تشكّل روح الكنيسة، جسد المسيح السري، وهي المحبة على مثال محبة المسيح. وتخصص الكنيسة هذا الاحد لليوم العالمي الرابع والاربعين لوسائل الاعلام. وفي المناسبة يوجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالة، ككل سنة بعنوان: " الكاهن والعمل الراعوي في العالم العددي: الوسائل الاعلامية الجديدة في خدمة الكلمة"[1].

 

اولاً، عيد صعود الرب يسوع الى السماء

 

         انجيل القديس مرقس 16: 15-20[2]

 

   قالَ لَهُم يسوع: "إِذْهَبُوا إِلى العَالَمِ كُلِّهِ، وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّها. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ يَخْلُص، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَسَوْفَ يُدَان. وهـذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنين: بِاسْمِي يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِين، ويَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ جَدِيدَة، ويُمْسِكُونَ الْحَيَّات، وَإِنْ شَرِبُوا سُمًّا مُمِيتًا فَلا يُؤْذِيهِم، ويَضَعُونَ أَيْدِيَهُم عَلى الـمَرْضَى فَيَتَعَافَوْن". وبَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ الرَّبُّ يَسُوع، رُفِعَ إِلى السَّمَاء، وجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الله. َامَّا هُم فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا في كُلِّ مَكَان، والرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُم وَيُؤَيِّدُ الكَلِمَةَ بِمَا يَصْحَبُها مِنَ الآيَات.

 

1. بعد ان ثبّت الرب يسوع ايمان التلاميذ الاحد عشر بقيامته وبحضوره الدائم معهم، عبر سرّ القربان بنوع أخص، أرسلهم بأمر " الى العالم كله ليكرزوا بانجيل الخلاص للخليقة كلها". بحكم هذا الارسال، يُسمَّون رسلاً ينطلقون من مكان الى مكان، و تُلقَّب الكنيسة بحكم طبيعتها " برسولية". ان العمل الرسالي الزامي في الكنيسة بحيث تنطبع الخدمة الكهنوتية والرسالة المسيحية بواجب ان تعمّ  بشرى الخلاص كل الخليقة اي كل انسان، اياً كان لونه وعرقه ودينه وثقافته.

2. ان الطابع الالزامي لعمل الكنيسة الرسالي هو من واجب الضمير، اذ يقرن الكرازة الانجيلية بالايمان والمعمودية من اجل الخلاص " فمن يؤمن ويعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يدان" ( مر16: 16). هذا الواجب حمل بولس الرسول على القول الوجداني: " الويل لي ان لم اكرز بالانجيل" (1كور9: 16). ذلك انه عاش هذا الاختبار في ارتداده الى الايمان بالمسيح، من بعد ان كان مضطهداً للكنيسة. فكلمة الانجيل تولّد الايمان بحقيقة الله والانسان والتاريخ التي تجلّت في شخص المسيح. وعدم الايمان يرفض هذه الحقيقة ويؤدي الى الدينونة، اي الى اقصاء الذات عن الخلاص، وبالتالي الى الموت الروحي المعروف بالهلاك الابدي.

   3. بفضل الارسال الالهي، يمارس الرب يسوع سلطانه على الارواح الشريرة والشياطين والحيات والسمّ المميت والمرض، بواسطة الخدمة الكهنوتية في الكنيسة، بقوله: " هذه الايات تتبع المؤمنين..." ثم: " وكان الرب يعمل معهم ويؤيّد الكلمة بما يصحبها من آيات" ( مر 16: 17-18 و20). ونفهم النص بمعنييه الحسّي والروحي.

ان آيات الشفاء الجسدية وطرد الارواح الشريرة والشياطين التي اجراها يسوع في حياته التاريخية كانت علامات للشفاءات الروحية من الخطيئة وروح الشر، ولسطانه الالهي المطلق على الخليقة كلها، مثل آيات سيطرته على الرياح وامواج البحر التي هدّأها بكلمة، وعلى التينة التي يبست بلعنة منه.

وتواصلت هذه الآيات على ايدي الرسل: بطرس يشفي المقعد امام باب الهيكل في اورشليم (اعمال 3: 1-9)؛ وبطرس يعاقب حننيا وامرأته شفيرة بالموت لانهما كذبا على الله (اعمال 5: 1-10)؛ وبطرس شفى العديد من المرضى والمعذبين بالارواح النجسة عندما كان يقع ظله عليهم (اعمال 5: 15-16)؛ وبولس سيطر على سمّ الافعى فلم تؤذه (اعمال 28: 3-6).

وتواصلت آيات مماثلة على ايدي القديسين في حياتهم التاريخية، وبعد انتقالهم الى مجد السماء.

اما الشفاءات الروحية فلا تحصى ولا تُعدّ.

4. بعد هذا الارسال، " صعد يسوع الى السماء وجلس عن يمين الله"[3]. الصعود الى السماء يعني تمجيد بشرية يسوع القائمة من الموت بمجد الالوهة. لكن هذا التمجيد قد حصل ساعة قيامته كما يتبين من الميزات الجديدة والفائقة الطبيعة، مثلاً: عندما ارتفع عن تلميذي عماوس لما عرفاه عند كسر الخبز (لو24: 30-31)، وعندما دخل على التلاميذ والابواب موصدة (يو20: 19 و26). لكن مجده ظل محتجباً  تحت بشريته العادية طيلة الاربعين يوماً، حيث كان يتراءى للتلاميذ ويأكل معهم ويعلّمهم ويكلمهم عن ملكوت الله ( اعمال 1: 3؛ 10: 41). وقد انتهت ظهوراته بدخوله النهائي المنظور في المجد الالهي المرموز اليه بالغمامة وبالسماء: " وعلى مرأى من التلاميذ ارتفع وضمّته غمامة واحتجب عنهم، وكانت عيونهم شاخصة الى السماء، فيما هو يرتفع" ( اعمال1: 9-10). انه احتجاب نهائي الى ان يعود بالمجد في نهاية الازمنة، كما انبأهم الرجلان باللباس الابيض (اعمال1: 10-11).

اما" جلوسه عن يمين الآب" فيعني مجد الالوهة والكرامة التي تنعم بهما بشريته، وابن الله ينعم بهما منذ الازل. ويعني تالياً تدشين ملك المسيح كما رآه دانيال: " وأوتي سلطاناً ومجداً ومُلكاً، فيجمع الشعوب والامم والألسنة يعبدونه. وسلطانه سلطان ابدي لا يزول، وملكه لا ينقرض ( دانيال 7: 14). 

***

 

ثانياً، انجيل الاحد من القديس يوحنا 13/31-35[4]

 

         فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوع: "أَلآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ اللهُ فِيه. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَاللهُ سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ. يَا أَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونِي، ولـكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ الآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا. وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم. بِهـذَا يَعْرِفُ الـجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض".

 

         في هذا الاحد الاخير من زمن القيامة، يكلمنا الرب يسوع عن مجد الله ومجده، وبالتالي عن مجد الله ومجد الانسان، عبر سرّ الفصح. ويدعونا لنعيش ثمرة هذا المجد: المحبة على مثاله، التي تجعلنا تلامذة المسيح، الشاهدين له.

         لقد تمّ مجد الله في المسيح الذي مات فداء عن الجنس البشري باسره، وهكذا تحقق تصميم الله الخلاصي. نحن ايضاً نمجّد الله، عندما نعرف ارادته ونطيعها ونعمل بموجبها. المسيح بطاعته للآب حتى موت الصليب تمّم مجده. بهذا المعنى قال القديس ايريناوس: "مجدُ الله الانسان الحي".

         ومجدّد الله مسيحه بقيامته من بين الاموات: " اذا كان الله قد مُجّد فيه- اي بموته- فالله سيمجّده في ذاته وحالاً يمجده – بقيامته" (يو 13: 17). هذا يعني ان آلام يسوع وموته وقيامته هي تمجيد الله، وبالفعل ذاته تمجيد ليسوع الظاهر في حاله الالهية. هكذا تنكشف لنا كرامة الانسان التي تأتيه من كونه يمجّد الله باعماله وحياته ومواقفه، ويمجّده الله باشراكه في بهاء حياته الالهية. نفكّر بالقديسين الذين رفعتّهم الكنيسة فوق المذابح وهم " يتلألؤن كالشمس في ملكوت ابيهم" ( متى13: 43).

         لكن طريق المجد والكرامة تمرّ عبر المحبة على مثال يسوع: " وصية جديدة اعطيكم، ان تُحبوا بعضكم بعضاً، كما أنا احببتكم" ( يو 13: 34). هي وصية تحمل صفة الالزام، لانها ارادة الرب يسوع الاخيرة التي عبَّر عنها قبيل آلامه وموته ولانها افيضت في قلوبنا بالروح القدس. وهي جديدة بالنسبة الى القديمة، لان قاعدتها محبة المسيح للبشرية جمعاء، ومحبته حتى بذل الذات من اجل فدائنا وحياتنا. وقد قال: " ليس لأحد حب اعظم من هذا، وهو ان يبذل الانسان نفسه في سبيل احبائه. انتم احبائي إن تعملوا بما اوصيكم به" (يو15: 13-14).

         والمحبة الجديدة ثبات في الرسالة حتى النهاية، وانتصار الحياة على الموت. وينبوعها الله، ونستمدها منه، كما استمدها يسوع من الآب اذ قال: " كما أحبني الآب، كذلك انا احببتكم. اثبتوا في محبتي" ( يو15: 9). وهي تشبّه بمحبة المسيح وتأسيس عليها.

         هذه "المحبة الجديدة" هي مقياس الانتماء الى المسيحية وشهادة لها: " بهذا يعرف الجميع انكم تلاميذي، ان كان فيكم حبّ بعضكم لبعض" (يو13: 35). هي الروح التي تحيي الجماعة المسيحية، وتشدّ رباطها، وتقوّي لحمتها. بدونها تتفكك الجماعة وتفقد مبرر وجودها وفاعلية شهادتها. 

***

 

ثالثاً، اليوم العالمي الرابع والاربعون لوسائل الاعلام

 

         بمناسبة السنة الكهنوتية، اختار قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لهذا اليوم العالمي لوسائل الاعلام موضوع: " الكاهن والعمل الراعوي في العالم العددي: الوسائل الاعلامية الجديدة في خدمة الكلمة".

         تنفتح امام الكاهن، عبر وسائل الاتصال والعالم الرقمي، مجالات واسعة وحسّاسة للعمل الراعوي، بفضل ما تقدّم له من امكانيات جديدة لممارسة خدمة الكلمة، واشكال واسعة للتبادل، فضلاً عن التأثير الكبير بسبب انتشارها اللامحدود، الذي يجعل استعمالها في العمل الكهنوتي كثير الاهمية.

         ان الواجب الاولي في حياة الكاهن ورسالته اعلان المسيح، كلمة الله الذي صار بشراً، ونقل النعمة الالهية المتنوعة حاملة الخلاص بواسطة الاسرار. هذه أسمى كرامة الرسالة الكهنوتية وبهاء جمالها، " لان من يؤمن بالمسيح لا يُخزى، ومن يدعو باسمه يخلص" ( روم10: 11 و13).

         بسبب العالم الرقمي والفتوحات التقنية على مستوى وسائل الاتصال والقدرة اللامحدودة على التعبير، باتت مسؤولية اعلان المسيح وكلمة الله اكثر الحاحاً، وتقتضي التزاماً اكثر فاعلية، بروح بولس الرسول: " الويل لي ان لم أعلن الانجيل" ( 1كور9: 16). فكأن الكاهن امام تاريخ جديد يلزمه بوضع تقنيات وسائل الاتصال في خدمة الكلمة، وبالحوار مع شبيبة اليوم بنوع خاص، وهي المعروفة " بالاجيال الرقمية".

         ماذا ينقل الكاهن الى عالم اليوم في عمله الراعوي من خلال تقنيات الاتصال؟

         يكشف حياة الكنيسة، ويساعد الناس على اكتشاف وجه المسيح؛

يطلّ بقلبه المكرّس، ليعطي روحاً ليس فقط لالتزامه الراعوي، بل ايضاً لشاشة الاتصال؛

يُظهر اهتمام الله المحب لنا بالمسيح، فلا يكون شيئاً من الماضي، بل حقيقة واقعية فاعلة. ويبيّن للبشرية ان الله قريب، وانّا بالمسيح ننتمي كلنا بعضنا الى بعض؛

يبيّن ان الله حي وفاعل في واقع الحياة اليومية، وان الحكمة الدينية ثروة نستقي منها العيش بكرامة، وبنيان المستقبل بما هو حق وعدل؛

يفتح الطريق الى لقاءات جديدة، بالاتصال الاكثر انسانية، والانتباه الى الاشخاص والى حاجاتهم الروحية الحقة، ويعطي عالمنا العددي علامات ضرورية لمعرفة الله؛

يوفر المناسبة لانتظار والتقاط كلمة الله التي تخلص وتعزز النمو الانساني الشامل، جاعلاً الله حاضراً في كل مكان وزمان، " يقرع على باب قلب كل انسان وعائلة ومجتمع (راجع رؤيا 3: 20)؛

يفتح مساحات للذين ما زالوا يجهلون الله، او لا يؤمنون، او يضعون قلوبهم في مطلق آخر غير الله من رغبات وحقائق عابرة. كما يشق دروباً تقود الى كلمة الله. انها خدمة الثقافة ( diacanie de la culture).

ان تقنيات الاتصال الجديدة والعالم العددي تشكّل ثروة ثمينة للبشرية جمعاء وللانسان بحد ذاته وفي فرادته، ودافعاً للقاء والحوار، ومناسبة كبيرة لتقريب المسيح القائم من كل انسان. وتفتح امام الكهنة آفاقاً عظيمة لعملهم الراعوي، ولبسط شمولية الكنيسة، ولاتساع نسيج الشركة، ولاداء الشهادة للحياة الجديدة التي تولد من سماع انجيل المسيح، لكن خصوبة الخدمة الكهنوتية تنبع من لقائهم الشخصي بالمسيح وسماعه في الصلاة، ومن اعلانه بالكرازة وشهادة الحياة، ومن معرفته ومحبته والاحتفال به في الاسرار، ولاسيما في سرّي القربان والمصالحة.

 

اننا نصلي من اجل الكهنة لكي يكونوا معلنين غيورين للبشارة الجديدة في  "الاريوباغس" الجديد الذي تخلقه وسائل الاتصال الراهنة.


[1] . صدرت الرسالة البابوية في 25 كانون الثاني 2010.

[2] . راجع شرحاً مسهباً لدى الاب هادي محفوظ: زمن القيامة، ص 151-168.

[3] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 659-664.

[4] . راجع شرحاً مستفيضاً لدى الاب هادي محفوظ: زمن القيامة، ص 169-192.

 

 

     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code