أوّلاً: أساسها
وطبيعتها
الليتورجيّاالمارونيّة
أنطاكيّة، في نشأتها، تفاعلت مع الكنائس السريانيّة الشرقيّة
والغربيّة، وتطوّرت في هيكليّاتها وأشكالها الأخيرة في جبل
لبنان. والطقس المارونيّ ينتسب إلى العائلة الأنطاكيّة الغربيّة،
ما يعني ثلاثة أمور:
أ.
الطقس المارونيّ
واحد من عائلة التقليد السريانيّ الأنطاكيّ، الّذي يجسّد إلى
حدٍّ بعيد تقليد أورشليم "أمّ الكنائس"، ويؤلّف معهما، أي
الأورشليميّ والأنطاكيّ، وحدة ليتورجيّة
متكاملة.
ب. ينفتح الطقس
المارونيّ الأنطاكيّ على الطقس السريانيّ الشرقيّ، أي الكلدانيّ
- الأشوريّ، ما يجعلنا نجدُ فيهما نقاطًا كثيرة مشتركة، أبرز
مصادرها كتابات مار أفرام ومار يعقوب السروجيّ، الّتي كان لها
الأثر الكبير في تكوين الليتورجيّا
المارونيّة.
ج.
حافظ الطقس
المارونيّ، على الرغم من تأثّره اللاحق والهامشيّ بالطقس
اللاتينيّ، على شخصيّة ليتورجيّة فريدة. فنصوصه الليتورجيّة تحمل
لاهوتًا أنطاكيًّا وسريانيًّا عريقًا، كما أنّ هيكليّات صلواته
ورتبه هي ذات طابع أنطاكيّ – أورشليميّ لا يقبل
الجدل.
إنّ
هويّة الليتورجيّا المارونيّة هي، إذًا، أنطاكيّة سريانيّة. وعلى
الرغم من النقاط المشتركة مع السريان والكلدان والأقباط، فإنّ
المارونيّ يتمتّع بشخصيّته المميّزة، وله عناصره ومقوّماته
الخاصّة به، وهذا ما حفظه من الاندثار والذوبان في أيّ من الطقوس
الأخرى.
هناك
دراسات متعدّدة تُظهر التفاعل العضويّ بين الطقوس الآتية:
المارونيّ والسريانيّ والكلدانيّ؛ ولقد توصّلت بعض الأبحاث إلى
القول بأنّ لليتورجيّات السُريانيّة الثلاث أصل مشترك هو
ليتورجيا مدينة الرها. وقد عرفت هذه الليتورجيّات تطوّرًا في أطر
كنائسها، الّتي تنتمي إلى الحضارة الأنطاكيّة -
السُريانيّة[1].
إستنادًا
إلى هذه الأبحاث، نرى أنّ الليتورجيّا المارونيّة، ذات العمق
الأنطاكيّ، ما زالت تحمل آثارًا رهاويّة تتميّز ببنية خاصّة ونسق
معروف يشهد له نافور "شَرَر"، ورتب تقديس الميرون، وتقديس الماء،
وبعض الأناشيد الطقسيّة المنسوبة إلى مار أفرام السريانيّ ومار
يعقوب السروجيّ وغيرهم من الآباء السريان[2].
ثانيًا:
تطوّرها
الحقبات
التاريخيّة الأساسيّة الّتي مرّت بها الليتورجيّا المارونيّة هي
الآتية[3]:
المرحلة
الأولى تمتدّ من نشأة الموارنة إلى أواخر القرن السابع مرورًا
بالمجامع المسكونيّة الستّة الأولى، وما تبعها من انقسامات داخل
الكرسيّ الأنطاكيّ، لاسيّما الانفصال بين سريان غربيّين
وشرقيّين، وانفصال آخر بين سريان غربيّين وملكيّين، وثالث بين
الخلقيدونيّين أنفسهم. لم تؤثّر هذه الإنقسامات العقائديّة
والاجتماعيّة والسياسيّة في الليتورجيّا، بل حافظت على وحدتها
داخل الجماعة الكنسيّة الواحدة. ولقد تميّز الموارنة بقربهم من
أنطاكية ومن الرها، ومن تراثهما الروحيّ واللاهوتيّ. ومع تكوين
البطريركيّة المارونيّة بدأ الاستقلال الطقسيّ
المارونيّ.
المرحلة
الثانية، الّتي تمتدّ من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر،
تميّزت بالطابع الأنطاكيّ السريانيّ ذي العناصر المشتركة ما بين
الليتورجيّات السريانيّة والملكيّة، والّتي تؤكّدها مقارنة
مخطوطات تلك الحقبة (لندن - متحف بريطانيّ 17129) أو بعض السدرات
والأناشيد. تقتضي هذه الحقبة التاريخيّة دراسات نقديّة وتحليليّة
ترتكز على منهجيّة "الدراسة المقارنة"، لأنّها تشكّل حقبة
المصادر. وتجدر الإشارة هنا إلى ظهور مجموعة "البيت غازو"
للمخطوطات الليتورجيّة المارونيّة الّتي تلقي الضوء على أبعاد من
الهويّة الليتورجيّة المارونيّة إلى جانب عناصر لاهوتيّة ثابتة
تستخرج من هذه المجموعات الثمينة.
مرحلة
ما بعد القرن الثاني عشر، حيث بَدت الليتورجيّا المارونيّة ذات
طابع أنطاكيّ وسريانيّ مع علامات تأثير رومانيّة، وذلك من جرّاء
العلاقات المباشرة بين الموارنة وكرسيّ روما. ظهر التقارب على
مستوى الملابس الحبريّة والفنون الكنسيّة والآنية، وبعض طرق
الاحتفال بالرتب والأسرار، كتقديس الميرون ومنح سرّ التثبيت.
أمّا النصوص والهيكليّات، فحافظت بشكل عامّ على طبيعتها. ومع
التطوّر التاريخيّ ما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، قويت
التأثيرات الخارجيّة في الطقس المارونيّ. فبرزت آثار غير
خلقيدونيّة من خلال نشر مخطوطات طقسيّة بين الموارنة في شمال
لبنان، وتدخّلات رومانيّة لاهوتيّة، وكان من أهمّ روّاد هذه
المرحلة المطران جبرائيل ابن القلاعيّ الراهب
الفرنسيسكانيّ.
مرحلة
مدرسة روما المارونيّة، الّتي شهدت طباعة الكتب الطقسيّة. وإثر
زيارة الأب إليانو سنة 1578 للموارنة، تمّ تقديم اقتراح لإعادة
تنشئة الطلاّب، فكانت مدرسة روما. ثمّ تمّت طباعة الكتب الطقسيّة
وتشذيبها، مثل طباعة الجنّازات سنة 1585، والقدّاس 1594، وخدمة
القدّاس 1596، والشحيمة 1624، والمتعيّدات والفنقيط الشتويّ
1656، والفنقيط الصيفيّ 1666. وكانت هذه الكتب تنشر بتصدير من
المراجع الرومانيّة، مثبّتة مطابقتها لكلّ مبادئ العقيدة
الكاثوليكيّة. في هذه المرحلة، قويت العادات الغربيّة داخل
العبادات التقويّة والشعبيّة. أسهم تلامذة المدرسة المارونيّة في
روما في إدخال بعض هذه العادات، الّتي زادت وتأصّلت مع وصول
الإرساليّات إلى الشرق. وفي هذه الحقبة، بدأ الموارنة يصلّون في
قدّاسهم نافور "الكنيسة الرومانيّة"، ويستعملون بعض الصيغ
الخاصّة بتوزيع الأسرار والمأخوذة عن الصيغ اللاتينيّة.
مرحلة
البطريرك إسطفان الدويهيّ (1670-1704): تعتبر هذه المرحلة
مفصليّة في تاريخ الليتورجيّا المارونيّة، وذلك بفضل هذا
البطريرك المؤرّخ واللاهوتيّ والمفكّر والمصلح الكنسيّ
والليتورجيّ. فلقد أفنى البطريرك الدويهي حياته في إصلاح الكتب
الطقسيّة وتنقيتها من العناصر اللاتينيّة وغير الخلقيدونيّة.
وساعدته سعة ثقافته الكنسيّة على إجراء مقارنة عميقة ودقيقة بين
الطقس المارونيّ وسائر الطقوس الشرقيّة والغربيّة. وكان يبرّر
كلّ عمل إصلاحيّ بشروح لاهوتيّة يظهر من خلالها ما هو مشترك بين
الكنائس وما هو متفرِّد مارونيًّا.
المرحلة
الممتدّة من المجمع اللبنانيّ (1736) إلى المجمع الفاتيكانيّ
الثاني (1965)، الّتي شكّلت الحقبة التاريخيّة ما قبل الأخيرة في
تاريخ الطقس المارونيّ، وتميّزت بالإصلاحات المتواصلة وبطبع
الكتب. لا بدّ لنا ههنا من التنويه بما نشأ من إصلاح طقسيّ مهمّ
عقب المجمع اللبنانيّ (1736). كما لا بدّ من التنويه بدور عائلة
السمعانيّ في القرن الثامن عشر، ونسخهم للمخطوطات وجمعها في
مجموعات كبيرة في اللغات السريانيّة والعربيّة واللاتينيّة،
وكذلك بدور أبرشيّة حلب ومدرستها والتجديد الطقسيّ الّذي قامت
به. وبدلاً من أن ينقص العنصر اللاتينيّ في الطقس المارونيّ على
أثر إصلاحات الدويهيّ، لوحظ تزايده، لاسيّما في كتب الأسرار
والرتب، وبنوع خاصّ في الزيّاحات الشعبية وعلى الرغم من كلّ
أنواع الإدخالات اللاتينيّة، حافظت الليتورجيّا على روحانيّتها
المارونيّة. كما عرفت هذه الحقبة رعاية المشاريع الإصلاحيّة من
قبل لجان متخصّصة، يشرف عليها أصحاب الغبطة
البطاركة.
من
المجمع الفاتيكانيّ الثاني إلى اليوم: تابعت الكنيسة المارونيّة
المشاريع الإصلاحيّة لطقوسها عبر اللجنة البطريركيّة، الّتي تعمل
استنادًا إلى القواعد الثابتة في "دستور في الليتورجيّا
المقدّسة"، وانطلاقًا من التقليد الخاصّ، مع الأخذ بعين الاعتبار
الواقع الرعويّ للكنيسة في النطاق البطريركيّ وفي عالم الانتشار.
ولا بدّ من أن نشير إلى الدور الّذي تؤدّيه اللجنة البطريركيّة
للشؤون الطقسيّة[4]، ويمثّله معهد
الليتورجيّا في جامعة الروح القدس – الكسليك[5]، وهو الفريد في الشرق
الأوسط في مجال الأبحاث الليتورجيّة المشرقيّة، والتنشئة
الطقسيّة للكهنة والعلمانيّين، ونشير بحقٍّ وقدر إلى العمل
الإصلاحيّ الليتورجيّ الّذي قامت به الأبرشيّة المارونيّة في
الولايات المتّحدة الأميركيّة، وتابعته باهتمامٍ كبير ولفترة
طويلة الرابطة الكهنوتيّة في لبنان، إلى جانب أساقفة وكهنة أفاضل
كثيرين[6]. لا يسعنا هنا إلاّ أن
ننوّه بالدور الرائد الّذي أدّته الرابطة الكهنوتيّة في لبنان في
مجال التثقيف الليتورجيّ من خلال ندوات ومحاضرات تتناول الكهنة
وبعض الشرائح الرعويّة إلى جانب وسائل تثقيف أخرى كالمنشورات على
أنواعها، إضافة إلى التنشئة المستديمة. وقد نشرت الرابطة بعض
الرتب الليتورجيّة في حالتها المصلحة والّتي من خلالها كانت
تهيّئ وتواكب الإصدارات الليتورجيّة الرسميّة.
إذًا،
هيّأت هذه المرحلة الأخيرة من تاريخ الليتورجيّا في الكنيسة
المارونيّة النفوس لقبول الرتب المصلحة من خلال مناخ إيجابيّ
بالتثقيف الليتورجيّ، وهو تثقيف يشكّل ركيزة جوهريّة لقبول
النصوص الطقسيّة والاحتفال بها بفعاليّة روحيّة
مميّزة.
نستنتج من الحقبات
التاريخيّة ما يأتي:
أ.
إنتماء الليتورجيّا
المارونيّة إلى الكنيسة الأنطاكيّة وارتباطها العضويّ بالثقافة
السريانيّة في قسمَيها الغربيّ والشرقيّ في آنٍ، وهذا ما جعلها
تستقي مصادرها من ليتورجيّات أساسيّة هي أنطاكية وأورشليم
والرها.
ب. العناصر
الليتورجيّة المشتركة بين الطقس المارونيّ والطقوس السريانيّة
والملكيّة والكلدانيّة، والّتي تثبّتها "الليتورجيّا المقارنة"
وبعض مخطوطات القرنين السابع والثامن، وهذه تشكّل ثابتة تاريخيّة
من شأنها أن توجّه العمل الإصلاحيّ نحو إبراز ما هو مشترك،
وتطوّره وتجعله أساسًا في مشاريع الإصلاح الطقسيّة، حتّى يُسْهِم
في توطيد روابط المحبّة والوحدة بين هذه
الكنائس ذات الأصل المشترك. فالعمل المسكونيّ ينمو ويقوى
إنطلاقًا من اختبار الكنيسة المصلّي.
ج.
يؤكّد تاريخ
الليتورجيّا المارونيّة تفاعلها المتبادل مع سائر الكنائس؛ وما
أُخذ عن الطقس الرومانيّ بقي محدودًا بعض الشيء في مجال الفنون
الكنسيّة والثياب البيعيّة وبعض أشكال الممارسة الليتورجيّة
والأعمال الطقسيّة والصِيغ الّتي تتعلّق بمفهوم لاهوتيّ محدّد.
أمّا بُنية الرتب ونصوصها الأساسيّة فحافظت على الطابعَ
المارونيّ – السريانيّ. وأمّا التأثير السريانيّ غير الخلقيدونيّ
فقد تناول بعض النصوص، ولاسيّما في مرحلة الانتقال من حقبة
المخطوطات إلى حقبة الكتب المطبوعة في بعض قرى جبل
لبنان.
د.
تُظهر هذه الناحية
حرص الموارنة على أن تحافظ رتبهم، في مضمونها وجوهرها، على
الأصالة المارونيّة. لذلك سعوا، خلال حقبات طبع الكتب، إلى تشذيب
العناصر الخارجيّة الّتي تتنافى وعقيدتهم، وتحدّ من تطوير طقسهم
ولاهوتهم.
ه.
أسهم طلاّب مدرسة
روما، بانفتاحهم على الثقافة الغربيّة وعلومها، في تنقية الطقوس
المارونيّة من كلّ ما هو دخيل. وما كثافة الطبعات الطقسيّة، خلال
فترات زمنيّة قصيرة، إلاّ تعبير عن رغبتهم في إصلاح الطقوس
وتجديدها والحفاظ على تفرّدها. الليتورجيّا، بالنسبة إلى
الموارنة، هي ثابتة مكوّنة لكنيستهم، سكبوا فيها روحانيّتهم
ولاهوتهم وعبّروا عن إيمانهم وعقيدتهم. لذلك عرفت الكنيسة
المارونيّة حركة إصلاحيّة ليتورجيّة شبه
متواصلة.
و.
عمل البطريرك إسطفان
الدويهيّ على تجديد الطقوس وإعادتها إلى أصالتها المارونيّة،
فوضع القواعد الثابتة الّتي منها ينطلق الإصلاح الليتورجيّ
الحديث.
ز.
عرف تاريخ
الليتورجيّا المارونيّة تجاذبًا بين العودة إلى الجذور وإدخال
عناصر غريبة على الطقس، إلى أن أتى المجمع الفاتيكانيّ الثاني
ودعا بصراحة إلى العودة إلى الجذور وإبراز الهويّة اللاهوتيّة
والليتورجيّة الخاصّة بكلّ كنيسة، ولاسيّما روحانيّات الكنائس
الشرقيّة وآبائها، حتّى تُسهم في إغناء الروحانيّة على مستوى
الكنيسة الجامعة. فكلّ توجيهات الكنيسة الجامعة والدوائر
الرومانيّة والبطريركيّة المارونيّة تصبّ في هذا الاتّجاه،
يُحتّم وبجِدّيّة عالية، تنشئة ليتورجيّة باتّجاه أنطاكيّة
والحضارة السريانيّة المارونيّة، دون إغفال الواقع الرعويّ وكلّ
التحدّيات والتغييرات الّتي تواجه الكنيسة في الشرق وفي بلدان
الانتشار. وانطلاقًا من هذه المنهجيّة، عمدت الكنيسة المارونيّة،
عبر اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة، إلى إنعاش الحياة
الطقسيّة وإظهار ثوابتها اللاهوتيّة
والروحانيّة[7].
ثالثًا: وضعها الحاضر وآفاق
مستقبليّة: دور الليتورجيّا في توحيد الموارنة في النطاق
البطريركيّ وفي عالم الانتشار
ينتج
الواقع الطقسيّ الراهن في الكنيسة المارونيّة من تشعّبات
وتراكمات تاريخيّة مختلفة، يضاف إليها تيّارات فكريّة وثقافيّة
واجتماعيّة متعدّدة أثّرت في الليتورجيّا طقوساً
ونصوصاً.
تجاه
هذا الواقع، قامت حركة طقسيّة ناشطة في مختلف الحقول، ولاسيّما
في تأليف الصلوات والتراتيل، فكثر المصلحون، كلٌّ بحسب إلهامه،
حتّى بتنا نجد كتبًا مختلفة، ورتبًا متعدّدة، منها القديم
والحديث والمستحدث. وسرعان ما تحوّلت هذه الحركة الطقسيّة من
عملٍ إيجابيٍّ إلى تضعضع وفوضى في بعض الأماكن والأحيان ومع بعض
الكهنة والرعايا. علاوةً على ذلك، راح دعاة كُثر للإصلاح الطقسيّ
يسمحون لأنفسهم باستنباط رتبٍ طقسيّة جديدة غير متطورة عن أصل
مارونيّ خاصّ[8].
أمام
هذا الواقع أصبح الإصلاح الطقسيّ ضرورة ملحّة من أجل ترتيب
النصوص وتوحيد الرؤية داخل الكنيسة المارونيّة، فيجتمع الموارنة
في النطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار كي يحتفلوا أينما حلّوا في
ليتورجيا واحدة تعبّر عن أصالتهم وتفرّدهم.
الإصلاح
الليتورجيّ يعني بشكل مباشر الانتشار المارونيّ في بلدان متعدّدة
من العالم، فالليتورجيّا هي من أهمّ العوامل الّتي تربط الموارنة
بالكنيسة الأمّ وتسهم في وحدتهم في بلدان انتشارهم. ففي عالمنا
المعاصر، وفي هذه الحقبة التاريخيّة بالذات، حيث نرى صحوة
الإتنيّات من جهة، وإعلان النظام العالميّ الجديد من جهة أخرى،
يشعر الموارنة بالحاجة القصوى إلى أن ينهجوا نهج الكنيسة
المارونيّة الليتورجيّ والكنسيّ والفكريّ المتمثّل بالكرسيّ
البطريركيّ في بكركي. وهكذا، فإن الليتورجيّة في بلدان الانتشار
تنطلق من الإصلاح المركزيّ وتطوّره، وتتكيَّف مع واقع أبنائها
ضمن المجتمعات الجديدة الّتي توجد فيها، مع المحافظة على
الشخصيّة المارونيّة وإبراز معالم الهويّة. وهنا، لا بدّ من
الثناء على الجهود الكبيرة الّتي تبذلها أبرشيات الانتشار
للتواصل الدائم مع الكنيسة الأمّ، منسجمة مع توجيهاتها. كما تجدر
الإشارة، في هذا المجال، إلى ضرورة أن يحافظ الطقس على بعض
العناصر المشتركة في اللغة السريانيّة مثل "القاديشات آلوهو"،
و"كلام التأسيس"، وغيرها من الصيغ الطقسيّة. فوحدة القالب تُسهم
في وحدة القلب، وانطلاقًا من الإرث الليتورجيّ يكون الموارنة
سفراء كنيستهم وثقافتهم في العالم، ومن خلالها يتفاعلون مع
ثقافات الكنيسة الجامعة، ويكون لهم فيها مكانتهم
ودورهم.
رابعًا:
ميزاتها
الليتورجيّا
المارونيّة غنيّة بأبعادها اللاهوتيّة والإنسانيّة. إنّها حقًّا
مدرسة إيمان تتجسّد في العالم لتُنير طريقه بأنوار الملكوت. ومن
أهمّ أبعادها:
1. البعد التدبيريّ
- الثالوثيّ
تبرز
معالم هذا التدبير في صلوات الإفخارستيّا المارونيّة. فصلاة
النافور لها طبيعة تدبيريّة، والكنيسة تلخّص من خلالها مراحل
التدبير الإلهيّ، إذ تشكر الآب لأنّه الخالق المحبّ الّذي أراد
أن يخلّص آدم والجنس البشريّ بعد السقطة الأولى. وقد توّج تدخّل
الآب هذا في ملء الزمن بأن أرسل ابنه الوحيد – الكلمة، فتجسّد من
الروح القدس ومن مريم العذراء، ليدبّر كلّ شيء محقّقًا إرادة
الآب الخلاصيّة بتقدمة ذاته على الصليب، وتقدمة جسده ودمه لحياة
العالم. وأكمل الآب تدبيره، فأرسل روحه القدّوس ليحلّ على
التلاميذ في العلّيّة. والكنيسة تطلب إليه أن يحلّ روحه عليها
وعلى القرابين الّتي ترفعها، ليحوّلها ويكمّلها كلّها بختمه
الإلهيّ. يتمثّل هذا البعد التدبيريّ في مجمل الرتب والصلوات
الطقسيّة، لاسيّما في بواعيث الفرض الإلهيّ من خلال صيغ لافتة
نذكر منها: "الآب أرسل ابنه إلى العالم، الابن حقّق الخلاص بموته
وقيامته، والروح القدس كمّل ويكمّل جميع الأسرار ويختمها بوسمه
الإلهيّ"[9].
2. البعد
الكريستولوجيّ
تظهر
المعاني اللاهوتيّة والكتابيّة لهذا البعد الكريستولوجيّ –
المسيحانيّ عبر حدثين أساسيّين في رسالة يسوع المسيح العلنيّة:
حدث عماده على يدّ يوحنّا في نهر الأردن، الّذي شكّل بدء رسالته
التبشيريّة، وحدث موته على الصليب في الجلجلة وقيامته المجيدة من
بين الأموات. لقد جمع العماد في الطقس المارونيّ هذين الحدثين
وعكس من خلالهما المفهوم اللاهوتيّ في الطقس الأنطاكيّ
السريانيّ، الّذي ركّز على تدبير الابن – الكلمة وتجسّده وعماده
ورسالته الخلاصيّة، ومن ثمّ آلامه وموته على الصليب وقيامته من
بين الأموات. فعماد الربّ يسوع أصبح أنموذجًا لعماد كلّ مؤمن، إذ
يُعمَّد فيحيا في المسيح ويحمل رسالته إلى العالم، ملكًا يشهد
لمحبّة الآب، ونبيًّا يعلن بشرى القيامة وكاهنًا يشترك بكهنوته.
وعماد المؤمن يغدو ميلادًا جديدًا، فضلاً عن أنّه موت عن الإنسان
العتيق آدم الأوّل، على مثال موت الربّ، ليحيا الإنسان كخليقة
جديدة على مثال آدم الثاني، يسوع المسيح القائم من بين
الأموات[10].
3. البعد
الإسكاتولوجيّ
يتميّز
لاهوت الليتورجيّا المارونيّة بنفحة نهيويّة ومعاديّة، تظهر في
مجمل الاحتفالات والنصوص الليتورجيّة، وبخاصّة منها النصوص
المتعلّقة بالقربان، جسد الربّ والقيامة – الحياة الجديدة. ونصوص
الجنّاز المارونيّ الغنيّة تحمل أبعاد الرجاء وعيشه واعتباره
قاعدة ثابتة ومتينة للإيمان المسيحيّ. من هذا المنطلق، نفهم
روحانيّة يوم سبت النور في الليتورجيّا المارونيّة، ولاهوت
النـزول إلى الجحيم وانتظار فجر القيامة، وترقّب مجيء العروس
السماويّ "ماران أتا"، الّذي سيُشرق في مجيئه الثاني على
"مستقيمي القلوب". والكنيسة، إذ تحتفل، هنا على الأرض،
بالليتورجيّا بكلّ رمزيّتها، تعكس بذلك احتفال السماء بليتورجيا
الحمل الإلهيّ. وعليه، فإنّ ليتورجيا الأرض تشكّل تذوّقًا مسبقًا
لطعم ليتورجيّا السماء؛ فالليتورجيّا هي احتفال بقيامة الربّ،
وفرح بعرس الكنيسة المولودة من حشا جرن المعموديّة، ومن ثَمّ،
عيد السماء والأرض في آن[11].
4. البُعد
المريميّ
تعتبر
الليتورجيّا المارونيّة مريميّة بامتياز. ويبدو اللاهوت المريميّ
واضحًا في أقدم النصوص، إذ يركّز على العذراء مريم "أمّ الله" في
فهم التدبير الإلهيّ لخلاص الإنسان. هذا التدبير، الّذي يخصّص
مقامًا كبيرًا، متعدّد الوجوه ومتكامل التنسيق، للعذراء مريم،
ولعيش مراحل الخلاص تلك في مختلف الصور والرموز، يُظهر العذراء –
حوّاء الجديدة، الّتي على يدها يتمّ الخلاص، وهي "الأمّ البتول"
الّتي بشّر بها الأنبياء والّتي منها سيولد "عمّانوئيل"،
"المخلّص" الّذي سيفدي الإنسان، وهي تشاركه في عمل
الفداء[12].
5. اللاهوت
الكتابيّ
تتأصَّل
الليتورجيّا المارونيّة في الكتاب المقدّس، ويحتلّ هذا الأخير،
في عهديه القديم والجديد، المركز الأساسيّ فيها، حتّى يبان من
الصعب أحيانًا فصل النصّ الليتورجيّ عن النصّ الكتابيّ، فلا
ليتورجيا بدون كتاب مقدّس. ويشكّل الاحتفال الطقسيّ الواحة
الكنسيّة الفُضلى لقراءة "كلمة الله" وإعلان "البشرى".
والليتورجيّا المارونيّة، في عمق لاهوتها، بيبليّة، وللكتاب
المقدّس مكانة محوريّة فيها. فهي تصلّي الكتاب المقدّس، وتفكّر
فيه، وتتأمّله، وتفسّره، وتوزّعه زادًا على المؤمنين، وتجعله
ينبوعها ومصدر وحيها ورمزيّتها ونثرها وشعرها، وغايتها
الأخيرة.
وعليه،
فالجماعة المارونيّة المصلّيّة تُعتبر جماعة كتابيّة في محوريّة
اللقاء مع "كلمة الله"؛ فيها تفسّر الكلمة وتعلن البشارة الّتي
تحملها الكنيسة رسالة حيّة إلى العالم كلّه[13].
6. البعد
الرهبانيّ
تجمَّع
تلاميذ مار مارون حول أبيهم الناسك مارون واتّخذوه شفيعًا لهم،
وانطلقوا من دير مار مارون وأدياره في سورية، حيث اختبرو الحياة
الليتورجيّة المؤسّسة على طقس الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة.
طبع هذا الاطار الديريّ الطقس المارونيّ بالطابع الرهبانيّ،
الّذي يتميّز بصلوات الساعات الخاصّة[14]، وبذكر البيَع والكنائس
والأديار في معظم الصلوات والطلبات والأناشيد، وبقراءات متواصلة
للكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد، وبمسحة خاصّة من
التوبة الدائمة والزهد في العيش والنسك والتقشّف، حتّى قيل بأنّ
جماعة الموارنة يُشبهون الجماعات الرهبانيّة بحيث يُصلّون صلوات
الرهبان ويحتفلون، شأن الرهبان، بسائر الرتب الطقسيّة. وبذلك،
كانوا يعبّرون عن هذا البعد الرهبانيّ بعيش جذريّة الإنجيل
واتّباع المسيح بحمل صليبه الظافر.
7. البعد
الإنسانيّ
عكست
الليتورجيّا المارونيّة روحانيّة خاصّة بالإنسان وباختباراته في
مختلف حالاته الّتي يعيشها في مسيرته الإيمانيّة، وجسّدتها في
ديناميّة صلاة تصاعديّة نحو الآب الّذي يرضى ويقبل ذبيحة الابن
الّتي يرفعها الإنسان المؤمن بقوّة الروح القدس.
تتميّز
الليتورجيّا المارونيّة ببعدها الإنسانيّ – الأنتروبولوجيّ من
خلال نصوصها ورموزها وحتّى هندستها. فلقاء الجماعة المصليّة،
وانسجام المؤمنين الخارجيّ مع بعضهم، يعبّر عن وحدة فكريّة
وروحيّة تتفاعل فيها القيم الإنسانيّة والاجتماعيّة في كلّ
أبعادها وحالاتها وواقعها. وتعكس النصوص الليتورجيّة الإختبارات
المتعدّدة الّتي مرّت بها الكنيسة المارونيّة، من آلام واضطهاد
وحروب وتهجير، إلى أفراح الشراكة والتضامن والوحدة والمغفرة
والمسامحة، إلى أمجاد الانتصار بقيامة الربّ وتحرير الشعب وظفر
القدّيسين الطالعين من هذهالكنيسة[15]. والطابع الشعبيّ هو من
أهم الخصائص لهذه الليتورجيّا الّتي تتجلّى بالبساطة والعمق في
آنٍ. سهولة في اللحن السُريانيّ، بساطة في بُنية الرتب وصيغها،
عمق في المعنى اللاهوتيّ وفسحة لمشاركة الشعب في الصلوات
والتراتيل داخل الاحتفال القربانيّ وخارجه. يحرص الإصلاح
الليتورجيّ المعاصر على صون هذه الخاصّة الّتي تطبع بامتيازٍ
الليتورجيّا المارونيّة.
8. لاهوت
التوبة
يبرز لاهوت التوبة
في كثير من النصوص الليتورجيّة، إذ تعبّر بغالبيّتها عن ارتباطها
بحقيقة الصليب وآلام الربّ الفادي وموته، ولا يغيب عنها بُعد
الصوم ومعناه التقشّفيّ وارتباطه بالتوبة. وقد يكون ذلك بتأثير
مباشر من الاختبار الرهبانيّ والطابَع الزهديّ الّذي ميّز الآباء
السريان والشعب المارونيّ. يعبّر حسّيًّا عن لاهوت التوبة في رتب
وضع البخور، ويرمز إليه بالسجود و"المطانيّة" تعبيرًا عن إنحناء
الخاطئ، وندمه على الخطايا الّتي اقترفها، وخضوعه التامّ للعظمة
الإلهيّة.
تشكِّل
حالة التوبة الّتي يعيشها المؤمن الطريق الّذي يوصل إلى فرح
القيامة ورجاء الحياة الجديدة وإلى أداء الشكر لمحبّة الربّ
ومواهبه الفيّاضة للبشر[16].