في المدارس الإكليريكيّة
والرهبانيّة
يتحقّق الإصلاح الليتورجيّ في الكنيسة
عندما يجمع بين أمرين: الأوّل يتناول التنشئة العلميّة والبحثيّة
لليتورجيّا من الناحية التاريخيّة واللاهوتيّة والرعويّة، وهذا
يعني دراسة الوثائق المخطوطة والمطبوعة ومقارنتها بسائر
الليتورجيّات، الشرقيّة منها والغربيّة؛ والثاني يهتمّ بالتنشئة
المستمرّة للكهنة والإكليريكيّين والرهبان والراهبات
والعلمانيّين بغية تعميق الفهم الليتورجيّ والمعرفة الطقسيّة
بأبعادها اللاهوتيّة والروحيّة والرعويّة كافّةً من جهة، وإحياء
وإنعاش الاحتفالات الطقسيّة في الجماعات الرعويّة المصلّيّة من
جهة أخرى.
لذا تدعو الكنيسة القائمين على
المدارس الإكليريكيّة والمؤسّسات الرهبانيّة إلى أن يولوا
التنشئة الليتورجيّة الأهميّة الواجبة خدمة للكنيسة، ودعمًا
للكهنة وللإكليريكيّين، كهنة الغد، وللرهبان والراهبات، شهود
محبّة يسوع وحضوره الفعّال في كنيسته. هذه هي الرسالة المطلوبة
منهم: أن ينسجم التعليم اللاهوتيّ والثقافة المسيحيّة العميقة
والشاملة الّتي يتلقّونها مع الأبعاد الليتورجيّة والرعويّة
الّتي عليهم أن يحافظوا عليها، لأنّها رمز وحدتهم وأمانتهم
لهويّتَهم المارونيّة الأصيلة[1].
يجب إدراج تعليم الليتورجيّا في
المدارس الإكليريكيّة والرهبانيّة وفي معاهد اللاهوت من ضمن
المواد الأساسيّة والضروريّة الهامّة. كما يجب أن تدرّس من
الوجهات اللاهوتيّة والتاريخيّة والروحيّة والرعويّة والقانونيّة
كافّة. وعلى الإكليريكيّين والرهبان والراهبات أن يتنشّأوا تنشئة
ليتورجيّة وروحيّة كاملة، إن من ناحية درسها وفهمها، أو من ناحية
الإشتراك فيها عبر الإحتفال بالأسرار المقدّسة أو بسائر الرتب
الطقسيّة المشبعة بالروحانيّة المسيحيّة الشرقيّة
الأصيلة[2].
التنشئة المستمرّة
للكهنة
تبغي الكنيسة المارونيّة، من خلال
إصلاحها الليتورجيّ، أن يصل المؤمنون إلى المشاركة الفعّالة
والواعية في الاحتفالات الطقسيّة، لأنّها الينبوع الأساس الّذي
تستقي منه الجماعات المؤمنة الروحَ المسيحيّة الحقّة والعقيدة
اللاهوتيّة الأكيدة. لذا تطلب الكنيسة إلى الرعاة أن يسعوا جهدهم
لتأمين تنشئة مستمرّة للكهنة في الأبرشيّات، تنشئة ليتورجيّة
ورعويّة، لاهوتيّة وروحيّة، خدمة للكنيسة الّتي تحتفل بسرّ يسوع
المسيح الخلاصيّ[3].
لبلوغ هذه الغاية، على الرعاة أن
يتشرّبوا بعمقٍ من الليتورجيّا ومن فعاليّتها وقوّتها ليتمكّنوا
من أن يعطوها ويعلّموها ويأمروا بمتابعتها عبر تنشئة مستمرّة
لكهنتهم، الأمر الّذي يجعل من هذه التنشئة واجبًا ملزمًا في
الأبرشيّات[4].
توعية المؤمنين على المفاهيم
الليتورجيّة
لم تكن الليتورجيّا المارونيّة بعيدة
عن واقع المؤمنين وحياتهم. لقد أظهرت اختباراتهم الحياتيّة في
صلواتهم، وخيارات حياتهم المسيحيّة، وحاجاتهم الروحيّة في ظلّ
الاضطهادات والآلام والأفراح. وكانت الليتورجيّا، في هذا الإطار،
مرآة تعكس إيمان هذه الكنيسة المؤمنة بالله الثالوث، وبتجسّد
الابن الوحيد، الإله الكامل والإنسان الكامل؛ ليتورجيّا توفّق
بين الاحتفال بالتدبير الإلهيّ وعيش الاختبار البشريّ الحرّ
والصادق.
لذا، يطلب إلى الرعاة أن يجتهدوا،
بغيرةٍ وصبرٍ وصدقٍ، في تأمين تنشئةٍ طقسيّة للمؤمنين وتوعيتهم
على مفاهيمها الضروريّة، ليتمكّنوا من المشاركة الفعّالة في
الاحتفالات، مشاركة روحيّة ترفع قلوبهم إلى الله وهم يحتفلون
حسّيًّا بسرّه الخلاصيّ[5].
دور المُحتفل والشمامسة
والمنشّطين
الليتورجيّا هي احتفال جماعيّ للكنيسة
بكلّ فئاتها؛ وتنـزع عنها الصفة الخاصّة الضيّقة. إنّها عمل
الشعب والخدمة الّتي تؤدّيها الكنيسة، جماعة المؤمنين الّتي هي
سرّ وحدة جسد المسيح. وعليه، فإنّ هذا الاحتفال يخصّ الكنيسة
بجميع مؤمنيها، كلٍّ باختلاف وضعه ودرجته
ووظيفته.
وعلى خادم السرّ، والكهنة المشاركين،
و الشمّاس، والمنشّط، أن يقوم كلٌّ بخدمته خلال الاحتفال
الطقسيّ، بحسب ما تمليه درجته الكنسيّة وخدمته الرعويّة وتفرض
عليه طبيعة الاحتفال وقواعده الطقسيّة. كما أنّ على كلّ منهم
ألاّ يتعدّى حدود دوره، فيتعلّم كيف يساعد بحكمة دون اعتبار نفسه
مستقلاًّ وقائمًا بذاته. هذه المشاركة تتطلّب من هؤلاء جميعًا
ثقافة ليتورجيّة واسعة وعميقة، وروحانيّة مؤسّسة على الإنجيل
ليتمكّنوا من تأدية واجبهم بطريقة صحيحة
ومنظّمة[6]. يُسمّى هذا النهج
"المشاركة الليتورجيّة"، وهي ممارسة نشأت وتطوّرت بمفهومها
الطقسيّ في الكنائس الليتورجيّة الشرقيّة، ثمّ وتوسّعت لتشمل
الطقوس المسيحيّة الأخرى[7].
دور
الجوقة
للترنيم مكانة محوريّة في الاحتفال
الطقسيّ، لا سيّما في الليتورجيّات الشرقيّة. إنّه التعبير عن
إتّحاد كنيسة الأرض بكنيسة السماء في أداء نشيد الشكر والتمجيد
الّذي ترفعه الكنيسة بلا انقطاع إلى الآب السماويّ على محبّته
الّتي تجلّت بالخلاص الّذي حقّقه الابن ويتمّمه الروح في العالم.
والألحان الكنسيّة هي انعكاس لتسبيح الملائكة في ليتورجيا الحمل،
ومن هنا امتازت الليتورجيّات بإتقان الألحان، وكان لا بدّ من
جوقات مدرّبة للقيام بهذه الخدمة. والطقس المارونيّ، الّذي
يتميّز بألحان جميلة ذات طابع شعبيّ، لم يحصر الخدمة اللحنيّة
بالجوقة، بل تميّزت جوقة المرتّلين بمساعدة الشعب على تأدية
الألحان، وهذه من أبرز ميزات هذا الطقس. من هنا لا بدّ أن تعي
الجوقات المارونيّة اليوم هذه الثوابت الطقسيّة الّتي تطبع
ليتورجيّتها المارونيّة، فتقوم بخدمة الاحتفال بإتقان وروحانيّة،
وتتناغم الأصوات العذبة بالقلوب المصلّيّة، فتشكِّل الجوقة
العنصر المساعد للجماعة المصلّيّة على المشاركة في الألحان وفق
الأصول الموسيقيّة وبروحانيّة وخشوع مميّزين. لذلك فإنّ على
الجوقة كما على المرتّلين الإفراديّين أن يلتزموا بما تمليه
عليهم طبيعة الاحتفال الطقسيّ وقواعده، دون تعدٍّ على حقّ
المؤمنين بالمشاركة. فالليتورجيّا هي للشعب، ولا يحقّ للجوقة أن
تأخذ مكان الشعب. دور الجوقة مساعد لا مستقلّ، واختيارها للألحان
يجب أن يتطابق مع الأصول الطقسيّة. من هنا وجب التنسيق بين
المحتفل والجوقة وفريق العمل الطقسيّ في تحضير الاحتفالات في
الرعيّة، فلا يسمح بعد ذلك بالارتجال والمزاجيّة في هذا
الشأن.
وفي هذا السياق وجب التمييز والفصل
بين الجوقة الطقسيّة، الّتي تؤدّي مهامها خلال الإحتفالات،
والكورس الدينيّ، الّذي يعنى بإحياء ترانيم كنسيّة خارج نطاق
الاحتفال الطقسيّ.
وعلى الجوقة والمرتّلين الإفراديّين
أن يمارسوا مهمّاتهم بتقوى خالصة وترتيب يليق بخدمة بيت الله
وسرّه الخلاصيّ، وهم مجلَّلين بروح طقسيّة مشبعة بثقافة
ليتورجيّة وروحانيّة وأداء خشوعيّ مصلٍّ.
ضرورة إشراك الشعب بشكل
فعّال
الطقوس احتفال، والاحتفال وهو للشعب.
والطقوس المارونيّة معروفة بلونها الشعبيّ. وعليه، لا يمكن أن
تبقى جماعة المؤمنين غريبة ومشاهدة ومستمعة وصامتة. إنّ دور
الكاهن المحتفل والشمّاس والمنشّط الليتورجيّ والجوقة والمرتّلين
الإفراديّين هو مساعدة الشعب على المشاركة الواعية، والتقويّة
والفعّالة في الترتيل والصلوات والزيّاحات. عندئذ، تصبح
الليتورجيّا تعبيرًا صادقًا عن صلاة الشعب وتضرّعاته وتمجيده لله
الخالق وحمده على كلّ إنعاماته وهباته، فيتجدّد المؤمنون
ويتقدّسوا بالمسيح، وفي الأخير يصيروا كلّهم في الله، وهو يصير
كُلاّ في الكلّ.