زمن الميلاد
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2006 - 2007
 احد تقديس البيعة  الاحد 5 تشرين الثاني 2006
 عيد
الميلاد -
الاثنين 25 كانون الاول 2006
  1. تقديم
  2. احد تقديس البيعة - الحوار ثقافة السلام
  3. احد تجديد البيعة - يسوع المسيح المخلص الوحيد وامير السلام
  4. احد بشارة زكريا - الانسان معاون الله في تحقيق تصميم الخلاص والسلام
  5. احد بشارة العذراء مريم - البشارة بداية عهد المسيح والكنيسة للسلام في العالم
  6. احد زيارة مريم لاليصابات -  تجليات عظائم الله
  7. احد مولد يوحنا المعمدان - الرحمة والانصاف اساس السلام
  8. احد البيان ليوسف - الله في كشف دائم لمقاصده الخلاصية
  9. احد نسب يسوع - أنسنة الحياة البشرية والمجتمع
  10. ميلاد الرب يسوع - المسيح يقود التاريخ البشري نحو الانسنة والسلام
ميلاد الرب يسوع

 


 

تقديم

 

        في زمن الحروب المتنامية هنا وهناك، وبالرغم من ان العالم اصبح، بفضل وسائل الاعلام والعولمة، قرية صغيرة، ومع هذا كله تتباعد القلوب وتتنافر، تبرز الحاجة الملحة الى " اعلان انجيل السلام" ( افسس 5/16).

 

        مع بداية السنة الطقسية 2006 – 2007، يظهر العدد الثامن من سلسلة التنشئة المسيحية، وفيه شرح الانجيل، ووجوه من القديسين الذين تعيّد لهم الكنيسة في الاسبوع السابق لكل أحد، وخطة راعوية مأخوذة من النص الاول للمجمع البطريركي الماروني بعنوان: " كنيسة الرجاء"، وفقاً للخطة الخمسية لتطبيق تعليم المجمع وتوصياته.

 

        نأمل ان تسهم التنشئة المسيحية في تهيئة عظة الاحد، وتثقيف اعضاء المنظمات الرسولية وسائر المؤمنين، وتوجيه السهرات او اللقاءات الانجيلية. ان تثقيف الايمان لدى المؤمنين حاجة ماسّة في عالم اليوم، حيث الجهل الديني متفشٍ بسبب حالة العلمنة الروحية والخلقية والروح الاستهلاكية والمادّية.

 

        نرجو ان تدخل التنشئة المسيحية الى العائلة والمجتمع وتصل الى المسؤولين المدنيين لكي " يتنشّط الجميع لاعلان انجيل السلام" (افسس 5/16(.

+ بشاره الراعي   مطران جبيل

بشارة الملاك لزكريّا بشارة الملاك لمريم

زيارة مريم لاليصابات

ر    
مولد يوحنا المعمدان البيان ليوسف

نسب يسوع

 


الاحد 5 تشرين الثاني 2006

 احد تقديس البيعة

الحوار ثقافة السلام

من انجيل القديس متى 16/13-20

 

        قال متى الرسول: جاء يسوع الى نواحي قيصرية فيليبس، فسأل تلاميذه قائلاً: " من يقول الناس إتي انا ابن الانسان؟". فقالوا: " بعضهم يقولون: يوحنا المعمدان؛ وآخرون: إيليا؛ وغيرهم: إرميا او أحد الانبياء". قال لهم: " وأنتم من تقولون إني أنا؟". فأجاب سمعان بطرس وقال: " أنت هو المسيح ابن الله الحيّ". فأجاب يسوع وقال له: " طوبى لك يا سمعان بن يونا‍، لانه لا لَحَم ولا دَمَ أظهر لك ذلك، بل أبي الذي في السماوات . وأنا ايضاً اقول لك: انت هو بطرس، اي الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي، وابواب الجحيم لن تقوى عليها. سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الارض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحله على الارض يكون محلولاً في السماوات". حينئذ أوصى تلاميذه ألاّ يقولوا لأحد إنه هو المسيح.

                                                                                     

        تبدأ مع هذا الاحد الاول من تشرين الثاني السنة الطقسية المارونية مع عيد تقديس البيعة وتجديدها في الاحد الثاني. ثم تليهما البشارات وصولاً الى ميلاد الرب يسوع. يسمى هذا القسم الاول من السنة الطقسية زمن الميلاد المجيد او زمن المجيء.

في قيصرية فيليبس اعتلن سرّ الكنيسة، على انها كنيسة المسيح المبنية على صخرة الايمان به، " المسيح ابن الله الحي"، الصامدة بوجه قوى الشر، والحاملة سلطان الحلّ والربط، على المستوى اللاهوتي –التعليمي، كما وعلى مستوى الولاية التشريعية والاجرائية والقضائية والادارية.

 

اولاً، السنة الطقسية والنص الانجيلي

 

1.     السنة الطقسية وتقديس البيعة

 

تشمل السنة الطقسية ستة أزمنة: الميلاد المجيد، الدنح او الغطاس، الصوم الكبير، الآلام والموت والقيامة، العنصرة، الصليب. تسمى سنة لانها تدوم 12 شهراً من اول احد من تشرين الثاني حتى آخر احد من تشرين الاول؛ وتسمى " طقسية" لانها ليتورجية اي تدور حول سرّ المسيح، شمس العالم، لتستمد منه النور والحرارة والحياة لنفوس المؤمنين كما تدور الارض حول الشمس، في السنة الشمسسية وتأخذ منها نورها وحرارتها باعثي الحياة في كائناتها.

السنة الطقسية مجموعة محطات مقسمة على الآحاد والاسابيع التالية، تتناول سرّ المسيح في مختلف اطوار حياته: التجسّد بدءاً من محطاته الاعدادية؛ حياته العلنية في الصوم وبشارة ملكوت الله؛ الفداء وسرّ الفصح بالموت على الصليب والقيامة؛ ارسال الروح القدس على الكنيسة الناشئة وانتشارها، وترقب عودة المسيح بالمجد في نهاية الازمنة

تقديس البيعة اعلان ودعوة.

هو الاعلان انها مقدسة بالحضور الالهي القدوس فيها، حضور الآب الذي ارادها، والابن الذي قدّم ذاته ذبيحة لتقديسها، والروح القدس الحال فيها ومحييها. في القديسين تتلألأ قداستها، وبخاصة في مريم، سكنى الثالوث التي هي ايقونة الكنيسة الكلية القداسة. ولئن تألفت الكنيسة من خطأة فهي "بدون خطيئة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،867)، وتحمل الى الخطأة وجميع الناس الخلاص بالمسيح. لقد شبهها الرب يسوع بالحقل المزروع فيه الزرع الجيّد، والنابت معه زؤان الخطيئة (متى13/24-30).

مع الليتورجيا المارونية ننشد اليوم: " طوبى لكِ، ايتها البيعة، لان صوت الابن فيك يدوّي، وهو يكون لك حارساً، فلا تتزعزع اساساتك. تبارك الذي ذُبح لاجلك، فوهبك جسده مأكلاً ودمه مشرباً، غفراناً لك ولاولادك".

وهو دعوة الى المسيحيين للدخول في سرّ الكنيسة الذي يقدسهم. فالكنيسة هي " الشركة التي تربط المؤمنين بالله، وفي ما بينهم". والشركة حركة دينامية ذات بعدين: بٌعد عامودي يستمد منه المؤمنون القداسة من الله، وبٌُعد أفقي يعكسون به القداسة في القول والعمل والمسلك.

يعلّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ان " الكنيسة هي في المسيح بمثابة السّر ( sacramentum)، اي العلامة والاداة للاتحاد الصميم بالله، ولوحدة الجنس البشري كله" ( الدستور العقائدي في الكنيسة، فقرة 1). ومعلوم ان مصير كل انسان يتقرر في الكنيسة التي فيها يتم سرّ اتحاده الشخصي بالثالوث الالهي وبسائر الناس. ويبدأ هذا الاتحاد في الايمان، ويتجّه الى اكتماله في كنيسة السماء، بينما هو واقع ناشىء في كنيسة الارض ( مجمع عقيدة الايمان: في مفهوم الشركة، فقرة 3).

ويلفت المجمع الفاتيكاني الثاني الى " ان كنيسة الارض وكنيسة السماء الغنية بالنعم، يجب ألاّ تُعدّا حقيقتين، بل حقيقة واحدة مؤلفة من عنصرين بشري والهي، مرتبطين احدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً" (الدستور العقائدي في الكنيسة،8).

 

2.    حوار المسيح والكنيسة وثقافة الحوار

 

" ولما اتى يسوع نواحي قيصرية فيليبس سأل تلاميذه" (متى16/13).

يسوع يتخذ المبادرة الاولى للحوار. فهو " الكلمة-الله الذي صار بشراً وسكن بيننا"(يو1/14)؛ وهو" الكلمة المتكلمة الى كل انسان" (القديس برنردوس)، بها مباشرة حاور الله البشرية: " بانواع كثيرة واشباه شتى، كلّم الله منذ القديم اباءنا بالانبياء. وفي هذه الايام الاخيرة كلمنا بابنه الذي به خلق العالمين.فهو ضياء مجده وصورة جوهره"(عبر1/1-3).

كنيسة المسيح، التي تواصل رسالته، هي كنيسة الحوار، تستمده من اساسه العميق الذي هو حوار الله مع البشرية. الديانة من طبعها علاقة حوارية بين الله والانسان. والصلاة تعبير حواري لهذه العلاقة. باشر الوحي الالهي  العلاقة مع البشرية، بشكل حوار، حيث كلمة الله الاقنوم الثاني من الثالوث الاقدس عبّر عن نفسه بالتجسد وبكلمة الانجيل. وعندما انقطع الحوار بين الله  والبشرية بسبب الخطيئة، استعاده ابن الله بالتجسد والفداء بالشكل الرائع. ان تاريخ الخلاص يسرد مراحل هذا الحوار الطويل والمتنوع، القائم على محبة الله لنا: " هو الله احبنا اولاً" ( 1يو4/10). هذا الحوار اقامه الله الآب بواسطة الابن في الروح القدس (البابا بولس السادس: " كنيسته" (1964)، 72-74).

جرى حوار يسوع مع التلاميذ في نواحي قيصرية فيليبس. قد يكون يسوع اختار هذا المكان عمداً لاهميته. فهو يحمل اسم " فيليبس" ابن الملك هيرودس الكبير، الذي انشأ القيصرية، واسم "القيصر" امبراطور روما، فكانت  " قيصرية فيليبس" التي تقع على المنحدر الجنوبي من جبل حرمون حيث ينبع نهر الاردن. كانت المحلة تدعى كما اليوم بانياس لقربها من معبد "بان" اله الجبال والرعاة. فيها اقيم هيكل من المرمر على اسم الامبراطور الروماني، فوق المكان الذي ينبع منه الاردن، وسكانها وثنيون. وكانت تمارس في حغارتها عبادة جنسية وتقدم ذبائح الماعز التي يمتزج دماؤها بالماء. وكانت المغارة ذات فوهة عظيمة  تعلوها سلسلة من الصخور الشاهقة.

هناك اعلن سمعان – بطرس ان يسوع هو " المسيح ابن الله الحي"، الملك السماوي، ملك الملوك، لا " القيصر". وانه هو الاله الوحيد الحي لا " بان" الصنم الميت. وهو الذي سبق وقدس مياه الاردن بنزوله اليها يوم اعتماده من يوحنا، لا دماء الماعز. وهناك اعلن يسوع سرّ الكنيسة الموكولة اليها رسالة خلاصية تشمل جميع شعوب الارض، بدءاً من الوثنيين، ولا مجال لقوى الشر ان تقوى عليها.

بدأ الحوار بسؤال يسوع للتلاميذ عما يقول عنه الناس: " من يقول الناس اني انا ؟، ثم عما يقولون هم: " وانتم من تقولون اني انا ؟ " الحوار يحترم كل الآراء، من اجل الوصول الى الحقيقة الكاملة. قالوا له ما يقول الناس: " البعض يقول انك يوحنا المعمدان، وآخرون ايليا، وآخرون ارميا، او احد الانبياء". هذا جواب البشر النابع من اعتقادهم، لكنه خاطىء موضوعياً. كانت عقيدتهم التقمص، التي تعتبر ان الرجال العظام لا ينتهون في التاريخ بموتهم، بل ينبغي ان يتقمصوا.

لم يلق هذا الجواب ردة فعل سلبية من يسوع: فلا تخوين، ولا رفض, ولا اتهام. بل وجّه السؤال اليهم، هم الذين اختارهم واقامهم معه. فكان الجواب على لسان سمعان بن يونا: " انت هو المسيح ابن الله الحي" ؟ هذا هو الجواب الصحيح: " طوبى لك يا سمعان". انه جواب الايمان  الموحى من الآب الذي في السماء، لا الآتي من لحم ودم، من البشر ومعتقداتهم. يسوع المسيح يُعرف اولاً بالايمان، هذه الفضيلة الالهية المعطاة لكل انسان. عندما نقول: " انا اؤمن" يعني: انا اعطي قلبي، ثقتي وحبي، لله الذي اؤمن به، للحقيقة التي تعلن. فاللفظة اللاتينية "  credo" مؤلفة من كلمتين : cor-do اي " اعطي قلبي".

الى هؤلاء الناس الذين يعرفونه معرفة ناقصة بالتقمص، والى الناس الذين لا يعرفون حتى الله، كالوثنيين الممثلين في ابناء منطقة قيصرية فيليبس، ارسل يسوع التلاميذ ليعلنوا البشارة. ولكن لا قبل آلامه وموته وقيامته: " ثم اوصاهم بالاّ يقولوا لاحد انه هو المسيح" (متى16/20). ويضيف متى في انجيله: " ومذ ذاك بدأ يسوع يبيّن لتلاميذه انه مزمع ان يذهب الى اورشليم، ويتألم كثيراً من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم" ( متى16/21).

فالمسيح يعرف فادياً للانسان ومخلصاً للعالم، لا الهاً جباراً يسود على الخلق، ولا ملكاً ظافراً يحطم الاعداء. ان جوهر الالوهة خلق وفداء، رحمة وخلاص. وهذا ما ينبغي ان تتصف به كل ابوة وامومة، بل كل سلطة وملوكية.

 كانت نتيجة هذا الحوار دعوة سمعان بن يونا الذي بدّل يسوع اسمه الى "بطرس" اي " الصخرة " Petros ، بالارامية Kifa وهو اسم غير مألوف؛ والاعلان عن تأسيس الكنيسة: انها جماعة المؤمنين، " رعية الله"، القائمة على     " صخرة الايمان بالمسيح ابن الله الحي". انها مثل بيت، هو هيكل الله الروحي، المبني على الصخر، فلا تزعزعه قوى الشر والموت، ولا تقوى عليه ولا تستطيع هدمه، لان الكنيسة هي " المسيح الكلي": المسيح ابن الله وفادي البشر وجماعة المؤمنين به، الذين تغمرهم محبة الآب وتحييهم قوة الروح القدس. لقد تسلّم بطرس، رأس رعاة الكنيسة والاول بينهم، "مفاتيح ملكوت السماء"، مفاتيح الكنيسة – الشركة ببعديها العامودي والافقي، " ليحل ويربط"،  بسلطان التعليم والتقديس والرعاية، تشريعاً وتنفيذاً وقضاءً وادارة. السلطان عينه تسلّمه الرسل من ربنا (متى18/18؛28/16-20)، وهم بدورهم سلموه الى خلفائهم، بابا روما خليفة بطرس والاساقفة، وهؤلأ يمارسونه بالتعاون مع الكهنة.

لكن الكنيسة، هذه الجماعة البشرية المنظمة، هي جماعة روحية، يسميها بطرس الرسول " بيت الله الروحي"، ويسمى المؤمنين " حجارته الحية" (1بطرس2/4-9). ويكمل بولس الرسول هذا التعليم بالقول ان الكنيسة هي: " بيت الله"، وان اعضاءها " مبنيون على اساس الرسل والانبياء، وان المسيح هو حجر الزاوية، به يشاد البناء كله، فيرتفع هيكلاً مقدساًُ بالرب والمؤمنون يشادون لسكنى الله بالروح" (افسس 2/20-22).

يذكّرنا الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" ان ميزة لبنان الحوار على مستويات ثلاثة: حوار الحياة الذي يوطد النسيج الاجتماعي من خلال التواصل والتضامن والتعاضد في العمل وفي احياء الحياة الاجتماعية والمدنية؛ والحوار الديني الذي يعزز القيم الروحية والخلقية والاحتماعية والثقافية لدى الافراد وفي حياة الجماعة الوطنية؛ وحوار العيش معاً المعروف بالحوار الوطني الذي يقوم على التربية على العيش معاً بالتنشئة في المدارس والمعاهد، وعلى التعارف بشكل افضل، وقبول التنوع والاختلاف، وعلى تكثيف التعاون في المجالات الممكنة من اجل الخير العام (فقرة 90-92). ويقوم الحوار الوطني خاصة على حسن المشاركة السياسية في بناء الدولة والوطن، على اساس من التوازن والانصاف والثقة المتبادلة.

 

3. الكنيسة وثقافة السلام

 

في قيصرية فيليبس اعلن سمعان بطرس ان يسوع هو " المسيح ابن الله الحي"، وبكلام آخر انه حضور الله  وسط العالم بكل خيراته وبركاته الروحية والمادية التي يغدقها على البشرية والعالم، وتختصر بكلمة " سلام"، كما تعني لفظة " شالوم" العبرية. ان اول مذبح لله في تاريخ الخلاص ابتناه جدعون وسماه " سلام الرب" ( قضاة 6/24)، ما يعني ان السلام لقب جوهري من القاب الله، وقد تجلّى ذلك في نظام الخلق الجميل والمنسجم الذي رآه الله الخالق " حسناً" يوماً بعد يوم ( تكوين  1/4 25،21،18،12،10،)، وعندما انتهى من كل الخلق، رأى الله جميع ما صنعه فاذا هو حسن جداً" ( تك 1/31).

السلام بمفهومه البيبلي مشروع بشري موكول من الله للبشر بغية انجازه وفقاً للتصميم الالهي، وبالتالي هو عطية الله للانسان. السلام من هذا المنطلق يقوم على العلاقة الاصلية بين الكائن البشري والله، وهي علاقة استقامة، كما اوحاها الله لابرام: " انا الله القدير، اسلك امامي وكن كاملاً" ( تك 17/1).

ان اول انتهاك لمشروع السلام كان في مخالفة نظام الخلق الالهي بخطيئة الانسان الاول: فكان الخلل بين الزوج والزوجة وامتدت بينهما اصابع الاتهام ( تك 3/12)، وكانت اللعنة على الارض ومشقة الانسان وطرده من الجنة ( تك 10/17-24). وكانت اول جريمة قتل بين اخ واخيه حسداً، فكانت اللعنة على القاتل وشرّدته على وجه الارض ( تك 4/1-14). وهكذا دخل العنف وشوه العلاقات الشخصية بدءاً من العائلة، وشوه العلاقات الاجتماعية كما جرى في برج بابل ( تك 11/1-9).

        لا يستطيع السلام والعنف ان يعيشا تحت سقف واحد، وحيث العنف لا يستطيع ان يكون هناك الله. ولذا لم يسمح الله لداود ببناء بيت للرب لان يده ملطخة بالدماء، بل يبنيه ابنه سليمان، رجل السلام ( اخبار 22/8-10).

        المسيح " امير السلام" ( اشعيا 9/5)، بتأسيسه الكنيسة التي لن تقوِ عليها قوى الشر، فيما تعلن ايمانها " بالمسيح ابن الله الحي"، وتتولى سلطان الحل والربط، انما اسند اليها مهمة تعزيز السلام في العالم. وقد جعل هذه المهمة جزءاً اساسياً من رسالتها التي تواصل بها عمل فداء المسيح على الارض.

        لقد اعلن خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني ان " الكنيسة في المسيح  سرّ (sacramantum) اي علامة واداة السلام في العالم ومن اجل العالم" ( النداء بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2000، فقرة 20).

        وهكذا راحت الكنيسة تعمل على نشر ثقافة السلام وعلى تعزيزه بين الامم والشعوب، وما زالت تغني المجتمع بتعليمها حول السلام في رسائل البابوات العامة بشأن العقيدة الاجتماعية، وفي نداءاتهم السنوية بمناسبة اليوم العالمي للسلام في اليوم الاول من كل سنة.

**

 

ثانياً، وجوه عاشت انجيل الحوار والسلام

 

        تعيّد الكنيسة في الاسبوع السابق لاحد تقديس البيعة تذكار قديسين عاشوا انجيل الحوار والسلام.

        عيد جميع القديسين (اول تشرين الثاني)

        استعداداً للاحتفال بتقديس البيعة، تستشفع كنيسة الارض المجاهدة القديسين في كنيسة السماء الممجدة. هؤلاء هم الرسل والشهداء والمعترفون والعذارى والابرار الذين عاشوا شريعة انجيل الحوار والسلام مع الله والخلق اجمع. وقد جاهدوا الجهاد الحسن وانتصروا على التجارب وفازوا باكليل المجد الابدي. انهم شفعاؤنا لدى الله، وعون لنا في الشدائد والمحن، ومثال لنقتدي بفضائلهم ونسير على خطاهم في اعلان انجيل الحوار والسلام. اننا بتكريمنا اياهم نقدّم المجد والشكر لله الذي قوّاهم بنعمته، واهلّهم الى السعادة الخالدة ورفعهم منارة للشعوب.

        يلي في اليوم التالي تذكار الموتى المؤمنين الذين يشكلّون كنيسة المطهر، من أجل هذه تصلي كنيسة الارض مستشفعة كنيسة السماء. هذا ما يسمى بشركة القديسين الذين يؤلفون كلهم جسد يسوع المسيح الواحد، كنيسته الواحدة في مراحلها الثلاث: الارض والمطهر والسماء. ان اتحاد كنيسة الارض بكنيسة السماء يتمّ بأوثق وجه في الليتورجيا عندما نحتفل مع جميع الملائكة والقديسين بتسبيح مجد الله وعمله الخلاصي (الدستور المجمعي في الليتورجيا، 104؛ والدستور العقائدي في الكنيسة، 50-51).

 

        عيد القديس جرجس الشهيد ( 3 تشرين الثاني)

        جرت العادة ان تحتفل بعض الرعايا بعيد القديس جرجس الشهيد في 3 تشرين الثاني وفي 23 نيسان. انه من مواليد اللّد بفلسطين سنة 280 من اسرة مسيحية شريفة. مات شهيد انجيل الحقيقة وسلامها، اذ حارب تنين الوثنية وخلص الكنيسة من اضاليله. انه شفيع الكنيسة المجاهدة في سبيل احلال ملكوت الحقيقة والسلام.

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

        الكنيسة علامة واداة الحوار والسلام. فالحوار بدأه الله مع البشرية بانواع شتى منذ القديم، واكمله بابنه الوحيد يسوع المسيح ( انظر عبرانيين 1/1-2). والسلام هو الله الذي منه كل عطية صالحة، فقطعه عهداً مع البشرية، واضحى واقعاً في حياتنا هو " المسيح امير السلام". ولان الكنيسة  خادمة السلام، فهي كنيسة الرجاء.

        تعتمد الخطة الراعوية في زمن الميلاد النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، بعنوان: " كنيسة الرجاء"، وفقاً للخطة الخمسية التي وضعتها لجنة المتابعة.

        تتدارس الجماعات الرعائية هذا النص، اسبوعاً بعد اسبوع، في محطاته الثلاث: مفهوم الرجاء في النصوص الليتورجية وبخاصة في صلاة الفرض الالهي، وهواجسه في الواقع الراهن، وآفاقه المستقبلية. وهي محطات تختص بالجذور (الماضي)، والواقع الراهن (الحاضر)، والانطلاقة الجديدة (المستقبل)، وتشكّل مسار جميع النصوص المجمعية في الملفات الثلاثة. فكان عنوان الملف الاول: " هوية الكنيسة المارونية ودعوتها ورسالتها" (الماضي)، وعنوان الثاني:   " التجدد الراعوي والروحي في هيكليات الكنيسة المارونية" (الحاضر)، وعنوان الثالث: " الكنيسة المارونية وعالم اليوم" (المستقبل).

        جاء النص الاول " كنيسة الرجاء" بمثابة الروح لكل النصوص وللمسيرة المجمعية باكملها، ذلك ان الكنيسة بطبيعتها مشدودة الى الامام، الى اكتمال الملكوت الذي دشّنه السيد المسيح ودعا الى بنائه في العالم بثبات وثقة بالرب وبمواعيده، فالمسيح هو رجاؤنا (الفقرة 1 و2).

        بقوة هذا الرجاء نلتزم معاً في نشر ثقافة السلام وفي بنائه على قاعدة الحقيقة والعدالة، بوجه " ثقافة" الحرب، المتنكرة لكل ما هو حق وعدل.

***

صلاة

        في المسيرة المجمعية نصلي لكي نتشارك جميعاً فيها:

        " ايها الرب يسوع، يا من ترافقنا في مسيرتنا المجمعية. بارك كنيستنا المارونية. وأرسل إلينا روحك القدوس، ليحّل في القلب وينير العقول، فنصغي الى إلهاماته ونعمل بإرشاداته، ونتقبل تعاليم المجمع البطريركي، ونجتهد في تطبيقها، ونعمل على عيشها ونشرها شهادة لإنجيلك وخدمة لملكوتك، لك المجد الى الابد، آمين. (الصلاة المجمعية).


الاحد 12 تشرين الثاني 2006

 احد تجديد البيعة

يسوع المسيح المخلص الوحيد وامير السلام

 

من انجيل القديس يوحنا 10/22-42

 

        قال يوحنا الرسول: حان عيد التجديد في اورشليم، وكان فصل الشتاء. وكان يسوع يتمشى في الهيكل، في رواق سليمان. فأحاط به اليهود وأخذوا يقولون له: " الى متى تبقى نفوسنا حائرة؟ ان كنت أنت المسيح، فقله لنا صراحة". أجابهم يسوع: " قلته لكم، لكنكم لا تؤمنون. ألاعمال التي أعملها أنا باسم ابي هي تشهد لي. لكنكم لا تؤمنون، لانكم لستم من خرافي. خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، وهي تتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية، فلن تهلك أبداً، ولن يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد ان يخطفها من يد الآب. أنا والآب واحد". فأخذ اليهود من جديد حجارة ليرجموه. قال لهم يسوع:  "أعمالاً حسنة كثيرة اريتكم من عند الآب، فلأي عمل منها ترجموني؟". أجابه اليهود: " لا لعمل حسن نرجمك، بل لتجديف. لانك، وانت إنسان، تجعل نفسك إلهاً". أجابهم يسوع: " أما كتب في توراتكم: انا قلت إنكم آلهة؟ فاذا كانت التوراة تدعو آلهة اولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن ان ينقض الكتاب، فكيف تقولون لي، انا الذي قدسه الآب وارسله الى العالم: انت تجدف؛ لاني قلت: انا ابن الله؟  أن كنت لا اعمل اعمال ابي، فلا تصدقوني، أما إذا كنت اعملها، وإن كنتم لا تصدقوني، فصدقوا هذه الاعمال، لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ واني في الآب". فحاولوا من جديد أن يقبضوا عليه، فأفلت من يدهم. وعاد يسوع الى عبر الاردن، الى حيث كان يوحنا يُعمد من قبل، فأقام هناك. واتى اليه كثيرون وكانوا يقولون: " لم يصنع يوحنا اي آية، ولكن، كل ما قاله في هذا الرجل كان حقاً". فآمن به هناك كثيرون.

 

        يسوع المسيح موضوع ايمان لا جدال. في هذا الاحد الثاني من بداية السنة الطقسية الجديدة، الكنيسة تجدد ايمانها بيسوع المسيح وتعلنه للعالم فادياً وحيداً، ومخلصاً وحيداً للجنس البشري. وفيما اليهود يجادلونه ويماحكونه ويحاولون بشتى الطرق الغاءه، يعلن عن حقيقة نفسه انه المسيح: راعي الخراف، وابن الله المرسل من الآب الى العالم، ليقود الناس الى الله.

 

اولاً، مضامين النص الانجيلي

 

1.    الكنيسة تجدد ايمانها بالمسيح الاله-الانسان

 

        في بداية السنة الطقسية تجدد الكنيسة، بابنائها ومؤسساتها، ايمانها بالمسيح "شمس" العالم الذي يدور حوله العالم مثل الارض حول الشمس، أحداً بعد احد واسبوعاً بعد اسبوع، ليستمد منه نور الكلمة وحياة النعمة وحرارة المحبة.

        تجديد البيعة يعني اعلان جديد لسرّ المسيح، معروف في اليونانية واللاتينية بلفظة Kerygma، الذي ينكشف فيه سرّ الله الواحد في الطبيعة والمثلث الاقانيم: الاب الخالق مصدر المحبة الشاملة لجميع البشر، والابن الفادي مصدر النعمة التي تفتدي وتخلص كل انسان، والروح القدس المحيي مصدر الحياة الالهية في الانسان. في ضوء سرّ المسيح تعلن الكنيسة سرّ الانسان المخلوق على صورة الله، والمفتدى بدم المسيح، والصائر هيكل الروح القدس، والمدعو ليكون شريك الله في صنع التاريخ، وبالتالي صاحب كرامة وقدسية ومصير نهيوي خالد.

        يعني تجديد البيعة ايضاً التعمق اللاهوتي في ايماننا المسيحي، لكي نتمكن من تقديمه  للانسان المعاصر، في اي حالة كان، أفي المدينة التي تبهره بتكنوليوجيتها، او تحجّمه في ضخامتها، او تحجبه في ضاحيتها، ام في الريف الذي يقدم له البساطة والقناعة او يحدّ من تطلعاته وآماله او يزيده شوقاً الى الهجرة نحو آفاق جديدة. تتعمق الكنيسة في ايمانها لتعلنه للفقير والغني، لصاحب السلطة وللمواطنين، للمريض والمعاق والعجوز، كما وللطفل والشاب، للسجين والمعتقل. انها ترفق اعلان الايمان بالحوار الصادق وشهادة المحبة. وتجسّده في الواقع بتعزيز ثقافة السلام من خلال التضامن الفعال تجاه الفقراء والمتألمين، والتعاون في تأمين حياة لائقة لجميع الناس والشعوب.

 

        " الى متى تريب نفوسنا؟ فأن كنت انت المسيح، فقله لنا علانية" (يو10/24).

        هذا السؤال الذي طرحه اليهود على يسوع، يُطرح كل يوم. فالانسان يبحث عن خلاصه الروحي والمادي، الثقافي والاجتماعي، السياسي والاقتصادي. اما المخلص الوحيد فهو يسوع المسيح "ابن الله الذي تجسّد من اجلنا ومن اجل خلاصنا وافتدانا بآلامه وموته وقيامته وصعوده الى السماء"، كما نعلن في قانون الايمان، وهو " الذي قدسه الله وارسله الى العالم" (يو10/36).

        بدأ المسيح  خلاص العالم، ويواصل هذا الخلاص بكل ابعاده من خلال الكنيسة " اداة الخلاص الشامل" ( القرار في نشاط الكنيسة الارسالي،1)، ومن خلال الارادات الطيبة التي تنفتح للكلمة الالهية ولعمل الروح القدس.

        الانسان لا يصنع الخلاص، بل يساهم ويعاون فيه. الخلاص هو من الله وحده، بنعمة المسيح وقوة الروح القدس. كل انسان مدعو، بحكم موقعه وحالته ومسؤوليته، ليشارك في عمل الخلاص النابع من سرّ المسيح، مهما حاول الاعداء صدّه، كما فعل اليهود مع يسوع: " اخذوا حجارة ليرجموه"، واتهموه بالتجديف: " نرجمك بسبب التجديف، لانك ، وانت انسان، تجعل نفسك الهاً"، و" حاولوا مرة ثانية ان يعتقلوه" (يو10/30و33و39).

 

        بالحقيقة يسوع هو انسان حقيقي مثلنا. انسان بجسد ونفس، شبيه بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، بخلاف سائر الناس جميعاً، كما نقول في نافور القداس: " واحد ظهر على الارض بدون خطيئة هو ربنا والهنا يسوع المسيح". لم يكن تحت ناموس الخطيئة، بل كان منفتحاً في كل كيانه على ارادة الآب وعلى خدمة الناس. وقد قال عن نفسه انه " لم يأت ليُخدم بل ليَخدم" ( مر 10/45). انه الانسان من اجل سائر الناس الذي، بطاعته للآب، بذل حياته عن الكثيرين.

        لكن يسوع هو اله حق، ابن الله الذي تجسّد، آخذاً لحماً ودماً بشريين، ليفتدينا ببشريته، ويفتدي بشريتنا. فالله، في يسوع المسيح، اتخذ كل ما هو بشري وقدّسه. ليس الخلاص خلاصاً روحياً للنفس وحسب، بل يهدف الى خلاص الانسان في كل كيانه. هذا ما نعلنه في نافور القداس: " وحّدت يا رب لاهوتك بناسوتنا، وناسوتنا بلاهوتك، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك، اخذت ما لنا واعطيتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا، لك المجد الى الابد". وبذلك تتم الكلمة المكتوبة: " انا قلت انكم آلهة" ( يو10/34).

        كما انكر اليهود الوهة يسوع، كذلك انكر آخرون بشريته بالمقابل. فقامت اضاليل، وما زالت الى اليوم، تعلن ان يسوع لم يكن له سوى جسد في الظاهر، وأنه لم يتألم إلاّ في الظاهر. اذأك تتحول كل الحقائق في المسيحية الى امور ظاهرية (المسيحية في عقائدها، سنة 1988،ص 178-179).

        اذا كان باستطاعة يسوع المسيح ان يفتدينا، فما ذلك إلاّ لانه ليس الهاً حقاً وحسب، بل لانه ايضاً انسان حقيقي (المرجع نفسه، صفحة 180).

 

2.    يسوع راعي النفوس

 

        " خرافي تعرفني وتسمع صوتي وتتبعني، وانا اعطيها الحياة الابدية، فلا تهلك ابداُ" (يو10/27-28).

        بهذه الصورة يكشف يسوع عن جوهر " مسيحانيته". فالمسيح هو " راعي شعب الله"، بالمفهوم الذي سبق ووصفه في انجيل يوحنا (10/1-16): انه يبذل نفسه من اجل جميع الناس، خلافاً عن الاجير الذي يترك الخراف عندما يرى الذئب مقبلاً؛ انه يعرف الخراف، والخراف تعرفه، فهو في علاقة شخصية مع كل انسان، علاقة معرفة وحب وبذل ذات؛ انه يعطي الخراف الحياة، ويعطيها وافرة، فيما السارق، الذي يدخل الحظيرة، لا من بابها بل يتسلق من مكان آخر، انما يأتي ليسرق ويقتل ويبدد. انه "الراعي الصالح" المرسل من الآب الى خرافه، كما وعد على لسان حزقيال النبي: " واقيم على خرافي راعياً، فيسكنون آمنين" ( حز34/23و25).

        يسوع الراعي الصالح قدوة لكل مسؤول في الكنيسة والمجتمع. فالشعب، هو " شعب الله"، ولا يحق لأي مسؤول روحي او زمني، ان يتعاطى مع الشعب، الذي أقيم من اجله للخير العام، بمعزل عن ارادة الله ومقاصده. الله هو الراعي لشعبه، على ما يقول اشعيا النبي: : هوذا السيد الرب يرعى قطيعه كالراعي، يجمع الخراف بذراعه، ويحملها في حضنه، ويسوق المرضعات رويداً " (اش40/11). والله يكل رعاية شعبه الى المسؤولين، في الكنيسة والمجتمع، كما نبّه يسوع بيلاطس. فلما قال له هذا الاخير: " أفلست تعلم ان لي سلطاناً على ان اخلي سبيلك، وسلطاناً على ان اصلبك؟ "، اجاب يسوع: " لو لم تعطَ السلطان من علُ، لما كان لك عليّ من سلطان" (يو19/10-11). لكن كثيرين من المسؤولين اساؤوا الامانة، فندّد الله بهم على لسان ارميا: " لقد فقد الرعاة حسّهم، ولم يلتمسوا الرب، فتشتتت رعيتهم" (10/12)، وعلى لسان حزقيال: "انهم " يرعون نفوسهم لا الخراف، ويتسلطون عليها بقسوة وقهر، فاصبحت مشتتة من غير راعٍ، وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقول، وتاهت في الجبال وعلى التلال" (حز34/2-5).

 

 

        3. ثقافة السلام

        " حاولوا ان يمسكوا يسوع، فخرج من بينهم ومضى" (يو10/39)

        يسوع ملك السلام علّم تلاميذه، ويعلمنا: " اي بيت دخلتموه، فقولوا اولاً السلام لهذا البيت. ان كان هناك ابن سلام يستقر سلامكم عليه، وإلا يرتد اليكم" ( لو10/5-6). هذا ما فعله مع اليهود عندما رفضوا سلامه، وحاولوا ان يلقوا عليه الايدي، فتوارى من بينهم، من دون مواجهة ومماحكة وسجالات. لقد رفضوا حقيقة الله الظاهرة في شخص المسيح واعماله.

        ندرك من هذا الحديث ان سلام المسيح هو قبل كل شيء مصالحة مع الآب، ثم مصالحة مع الاخوة. فقد علّمنا في صلاة الابانا، ان جمع الغفران المطلوب من الله الى غفراننا لاخوتنا: " إغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ الينا" ( متى 16/12). بهذه المصالحة المزدةجة، يصبح الانسان فاعل سلام وشريكاً في ملكوت الله، حسب وعد المسيح في انجيل التطويبات، دستور الحياة المسيحية: " طوبى لفاعلي السلام، فانهم ابناء الله يدعون" ( متى5/9).

        المسيح الفادي والراعي الصالح هو " سلامنا" ( افسس2/14) الذي يجمع الابعدين والاقربين. الى " ثقافة السلام" هذه التي تجمع ولا تبدد دعانا لننتمي: " من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق" ( متى12/30). بهذا يُعرف المسؤول اذا طان يعمل لخير العام الذي منه خير الجميع، ام يعمل بروح التفرقة والفئوية والعدائية لمصالحه الخاصة ونزواته. يسألون: " الكنيسة مع من؟" بينما يجب طرح السؤال: " من هو مع الكنيسة؟"

        ولئن فشل حوار يسوع مع اليهود، بسبب رفض هؤلاء، للحقيقة، فاننا نؤمن دائماً بجدوى الحوار، والكنيسة تدعو اليه بالحاح وبدون تردد، فلا بدّ " للرحمة والحق ان يتلاقيا، وللعدالة والسلام ان يتعانقا" (مز85/11)، " فالرب يتكلم بالاسلام لشعبه" ( مز85/9).

       

***

 
ثانياً، وجوه آمنت بحقيقة الله والمسيح

 

تعيد الكنيسة في هذا الاسبوع تذكار قديسين آمنوا بحقيقة الله والمسيح، وسلكوا في نور هذه الحقيقة.

        القديس ميخائيل رئيس الملائكة (8 تشرين الثاني)

        هو رئيس الملائكة الذي رآه يوحنا الرسول في رؤياه في قتال مع التنين-الشيطان وجنوده حتى انتصر عليهم وطردهم من السماء، فصار اسمه" ميخائيل" اي " من مثل الله"! (رؤيا 12/7), يسميه دانيال النبي "الرئيس العظيم"        ( دانيال12/1).

        ظهرالملاك ميخائيل محامياً وناصراً لشعب الله في العهد القديم، وليسوع ورسله في العهد الجديد، وهو ما يزال ناصراً للكنيسة في جهادها من اجل نشر انجيل الحقيقة والعدالة والسلام.

 

        القديس مينا المصري الشهيد ( 11 تنشرين الثاني)

        من مواليد الاسكندرية في القرن الثالث، تكلل باكليل الشهادة بقطع رأسه سنة 303. ولد في عائلة مسيحية وانخرط في الجندية. ثم تركها ليتجند ليسوع المسيح منفرداً في البرية للصوم والصلاة والتقشف. قاسى الاضطهاد بسبب ايمانه وثبت فيه بالرغم من مرّ العذابات التي انزلها به الوالي الروماني الوثني، وهو يردد: " حياتي هي للمسيح ربي، وكل مجدي وسعادتي به وحده".

 

        ورفعت الكنيسة على المذابح مسؤولين سياسيين معاصرين شهدوا لحقيقة المسيح وطبعوا بقيم الانجيل الشؤون الزمنية، نذكر منهم:

        الطوباوي الملك شارل النمساوي  Charles d'Autride( 1880-1922)

        هو آخر امبراطور وملك على النمسا. اعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباوياً في 3 تشرين الاول 2004. انه ملك ورب عائلة اراد ان يضع ذاته في خدمة ارادة الله، فكان الايمان بالله المقياس لمسؤولياته والموجه لحياته.

 

        القديس بيار- جورجيو فراساتي، Piergiorgo Frassati (1901-1925)

        هو مهندس ومسيحي ملتزم ورجل سياسة مناضل. اعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباوياً في 20 ايار 1990. والده عضو في مجلس شيوخ ايطاليا ومؤسس جريدة لاستامبا ( La Stampa) وسفير لبلاده في برلين: منذ عمر 13 سنة بدأ بيار-جورجيو ( piergiorgio) يتناول القربان يومياً، وراح مدى حياته يجد غذاءه اليومي في قراءة الانجيل وفي الافخارستيا. فجمع بين الصلاة والعمل. انتسب الى الحزب الشعبي الايطالي واصبح فيه مناضلاً، وكرس اوقاته الحرة لخدمة البؤساء والفقراء، كعضو في جمعية مار منصور دي بول. مات بعمر 24 سنة. رسالته هي نداء الى توطيد العلاقة بين الايمان والاعمال على جميع المستويات، والى اعلان الحقيقة والدفاع عنها.

****

 ثالثاً، الخطة الراعوية

        تتناول الخطة اراعوية النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: كنيسة الرجاء" يكشف للجماعات الراعوية اربعة آفاق تشكل محور التفكير معاً وشدّ اواصر الرجاء الشاهد في اربع نقاط:

1.     المسيح هو الرجاء

هو الرجاء الوحيد للمؤمنين، لانه مخلص العالم ولا يخيّب المتكلين عليه؛ ولانه باوصافه: النور والقيامة والحياة، باعماله ودعواته للاتكال عليه، يشجع المؤمنين ليضعوا فيه رجاءهم ومتكلّهم؛ ولان مآثر الله في العهد القديم ومبادرات الرب يسوع في الجديد تحمل على التماس تدخّله في ظروف الحياة الدقيقة، ولانه باستجابته طلبات الكثيرين يعطي الضمانة باستجابة من يلجأون اليه الآن ( فقرة 5).

2.    مرتكزات الرجاء

هي وعود الرب يسوع في انجيل التطويبات ( متى5/1-9)، وحفظ الوصايا، فيصبح الرجاء اشتهاء للملكوت السماوي، وضمانة لنيل الحياة الابدية. ما يساعدنا على مواجهة الصعوبات الداخلية والخارجية، من مثل الاهتمام المفرط بامور الدنيا ومغرياتها، والمضايق الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، والامراض والآلام والفقر والفشل ( فقرة 6).

3.                                 رجاء الشهداء والاموات

وضع الشهداء رجاءهم في المسيح فصمدوا في الايمان، ولم يتراجعوا امام العذابات، وقبلوا الموت بشجاعة، مدركين ان دماءهم بذور المسيحيين. ولقد وطّد المؤمنون رجاء موتاهم في قيامة المسيح ورافقوهم بهذه الصلاة: " سلام معكم ايها الاموات الذين رقدوا بالمسيح بالرجاء الوطيد. فلا يحزنكم فساد جمال وجوهكم، لانه سيتجدد وترثون الملكوت" ( فقرة 7-8).

4.                                 شمولية الرجاء

الرجاء يشمل في الصلاة كل ابناء الكنيسة وقديسيها مع انفتاح اسكاتولوجي على الجموع السماوية في بيعة اورشليم العليا. هذه الشمولية رسخّت الايمان في الموارنة بالرغم من كل الشدائد والمحن، فلم يتزعزعوا في رجائهم بالمسيح ومحبتهم له ( فقرات 9-12).

****

 

صلاة:

ايها الآب القدوس، ابا الانوار، يا من تغمرنا بعنايتك الابوية، نشكرك على محبتك اللامتناهية، اذ خلقتنا على صورتك ومثالك، وجددتنا بالعماد فصيرتنا أبناء لك وإخوة لابنك ربنا يسوع، وهياكل لروحك القدوس. لك المجد والشكر مع الآب والابن الى الابد. (صلاة المجمع).


الاحد 19 تشرين الثاني 2006

 بشارة زكريا

الانسان معاون الله في تحقيق تصميم الخلاص والسلام

 

من القديس  لوقا 1/5-25

 

        كان في ايام هيرودس ، ملك اليهودية، كاهن اسمه زكريا، من فرقة ابيا،له امرأة من بنات هارون اسمها اليصابات. وكانا كلاهما بارين امام الله، سالكين في جميع وصايا الرب واحكامه بلا لوم. وما كان لهما ولد، لان اليصابات كانت عاقراً، وكانا كلاهما قد طعنا في ايامهما. وفيما كان زكريا يقوم بالخدمة الكهنوتية امام الله، في اثناء نوبة فرقته، أصابته القرعة، بحسب عادة الكهنوت، ليدخل مقدس هيكل الرب ويحرق البخور. وكان كل جمهور الشعب يصلي في الخارج، في اثناء إحراق البخور. وتراءى ملاك الرب لزكريا واقفاً من عن يمين مذبح البخور، فأضطرب زكريا حين رآه، واستولى عليه الخوف. فقال  لله الملاك: " لا تخف، يا زكريا، فقد استجيبت طلبتك، وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً، فسمه يوحنا. ويكون لك فرح وابتهاج، ويفرح بمولده كثيرين، لانه سيكون عظيماً في نظر الرب، ولا يشرب خمراً ولا مسكراً، ويمتلىء من الروح القدس وهو بعد في حشاء امه. ويرد كثيرون من بني اسرائيل الى الرب الههم. ويسير امام الرب بروح ايليا وقوته، ليرد قلوب الآباء الى الابناء، والعصاة الى حكمة الابرار، فيهيىء للرب شعباً معداً خير إعداد". فقال زكريا للملاك: " بماذا أعرف هذا؟ فإني شيخ، وامرأتي قد طعنت في ايامها". فأجاب الملاك وقال له: " أنا هو جبرائيل الواقف في حضرة الله، وقد ارسلت لأكلمك وابشرك بهذا. وها أنت تكون صامتاً، لا تقدر ان تتكلم، حتى اليوم الذي يحدث فيه ذلك، لانك لم تؤمن بكلامي الذي سيتم في أوانه". وكان الشعب ينتظر زكريا، ويتعجب من إبطائه في مقدس الهيكل, ولما خرج زكريا، لم يكن قادراً ان يتكلم، فأدركوا أنه رأى رؤيا في المقدس، وكان يشير إليهم بالاشارة، وبقي أبكم. ولما تمّت أيام خدمته، مضى الى بيته. بعد تلك الايام، حملت امرأته اليصابات، وكتمت أمرها خمسة أشهر، وهي تقول: " هكذا صنع الرب اليّ، في الايام التي نظر اليّ فيها، ليزيل العار عني من بين الناس".

 

        مع بشارة الملاك لزكريا بمولد يوحنا تنتهي مرحلة الوعد في العهد القديم بمجيء المسيح مخلص العالم، وتبدأ مرحلة الاعداد المباشر في العهد الجديد. فالخلق والخلاص متلازمان، وهما عهد قطعه له، فخلق العالم ليشرك البشر في حياته الالهية. وعندما نقض الانسان هذا العهد بالخطيئة، صمم الله ترميم الخلق بالفداء. فكان الوعد، وانطلقت منذ البداية عملية الاعداد. ان كتب العهد القديم تشهد للاسلوب التربوي الذي اعتمده حب الله الخلاصي. في هذه الكتب المقدسة الستة والاربعين، بما فيها من تعاليم سامية عن الله، وحكمة حول الحياة البشرية، وينابيع صلاة رائعة، وبما فيها من ناقص ومؤقت، يختبىء سرّ خلاصنا ( دستور الوحي الالهي،1).

        دامت التهيئة البعيدة لمجىء ابن الله، مخلص العالم وفادي الانسان، اجيالاً ودهوراً، توالت فيها طقوس وذبائح، وجوه ورموز، موجهة كلها الى شخص المسيح، الذي أعلنه الآب بفم الانبياء، بدءاً بايليا ووصولاً الى يوحنا السابق، خاتمة العهد القديم وآخر انبيائه. كل هذه المسيرة عبر الاجيال تشكل القسم الاول من تصميم الخلاص الذي هو عمل الله الواحد والثالوث. اما الانسان، موضوع الخلاص، فهو معاون الله في تحقيقه، ببعدين: البعد الشخصي بالانفتاح على عمل الخلاص والتجاوب معه، والبعد الجماعي بالالتزام في عملية خلاص الآخرين.

        انجيل اليوم يلقي الضوء على رموز العهد القديم وعلى مضمون العهد الجديد، وهو بمثابة الجسر بينهما.

 

اولاً، الانسان معاون الله في تحقيق تصميم الخلاص

 

1.                            زكريا واليصابات

 

زكريا كاهن من فرقة ابيا الكهنوتية المتحدرة من هارون. كان موسى قد وحدّ الكهنوت في عائلة شقيقه هارون، وخدمة العبادة في عشيرة لاوي. وبأمر من الله منح الكهنوت لهارون ونسله، فكرّس هارون بمسح رأسه بالزيت كاهناً بامتياز، كرئيس الكهنة، وكرّس نسله برش الماء فقط ( خروج 29/1-7؛ 30/31). انتقل الكهنوت من جيل الى جيل بالوراثة وبدون مسحة جديدة ( خروج40/13). كانت مهمة الكهنة القيام بخدمة بيت الله، وتطهير كل شيء، وحمد الرب وتسبيحه كل صباح ومساء، وتقديم المحرقات للرب في السبوت والاعياد. وقسم داود الكهنة الى فرق من اجل استمرارية الخدمة في الهيكلين: هيكل المحرقات وهيكل البخور. كان عدد الفرق اربعة وعشرين، من بينها فرقة ابيا، وهي الثامنة حسب الترتيب ( اخبار 24؛ لو1/5 و8-10).

بعد خراب هيكل سليمان في اورشليم سنة 70 بعد المسيح، انتزع الكهنوت من الشعب الاسرائيلي، بسبب انتهاء تدبير موسى الكهنوتي وقيام كهنوت العهد الجديد مع المسيح الكاهن الازلي، وتأسيس الكنيسة وكهنزت الفداء، فلم يبقَ اي مبرر للكهنوت الاسرائيلي. وهكذا لا يوجد بعد الآن في الديانة اليهودية سوى المعلمين ( رابيّ) الذين يديرون العبادة المؤلفة من صلوات وقراءات.

اليصابات من نسل هارون. كانت تعيش وزوجها في برّ الله والسير بوصاياه بدون لوم.

هذه الاسرة انجبت يوحنا السابق. يعلم الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان" ان الاسرة هي الكنيسة الصغرى، ومدرسة الحب، والموقع الاول للشهادة المسيحية والرسولية بالمثل وبالكلام. فيها يتربى الاولاد، منذالصغر، على حضور الله والثقة بحنانه الابوي. وفيها يحظى الشباب بمعرفة المسيح، ويختارون اتباعه اتباعاً سخياً، سواء في حالة الزواج ام في الكهنوت ام في الحياة المكرسة ( انظر فقرة 46).

زكريا واليصابات المسنّان انجبا ولداً هو خاتمة الانبياء، بالرغم من انتفاء كل رجاء " كيف اعرف هذا، وانا رجل مسنّ وامرائتي متقدمة في عمرها" ؟

يتحدث الارشاد الرسولي " العلمانيون المؤمنون بالمسيح" عن رسالة المسنين في الاسرة والكنيسة والمجتمع     ( فقرة 48)، ويقول: الدخول في سنّ الشيخوخة امتياز لا يُعطى لجميع الناس، والانسان المسن هو الشاهد لتقليد الايمان ومعلم حياة وصانع محبة وقوة لشعب الله كله. عن المسنين يقول المزمور 91: " ما زالوا في المشيب يثمرون، وفي الازدهار والنضارة يطلون، ليخبروا بأن الرب مستقيم ( مز91/15-16). واليهم يتوجّه هذا النداء: " لستم، ايها المسنون، على هامش حياة الكنيسة، ولستم عناصر سلبية في عالم يتطور بسرعة، ولا يجوز لكم الظن انكم كذلك. بل انكم عناصر فاعلة، في حقبة من الوجوه الانساني، تمتاز بخصبها البشري والروحي. ولكم رسالة يجب ان تؤدوها، وعليكم واجب مشاركة يجب ان تقوموا به. ان كل كائن بشري هو، بحسب التدبير الالهي، حياة تنمو، فتبدأ مع انبثاق اول شرارة من وجوده. ولا تنتهي إلاّ في الرمق الاخير من حياته (الارشاد المزكور، 48).

تدبير الله هذا ينفي التهميش والاجهاض والقتل الرحيم،وينجى من اليأس والانطواء على الماضي.

الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون، الذي انتخب بعمر77 سنة، وكان مفاجأة غير متوقعة للعالم كله، بعد البابا العظيم بيوس الثاني عشر، وشاء مجمع الكرادلة عهده "حبرية انتقالية"، قال عن نفسه بروح النكتة: "قطعة الغيار يمكن ان تكون ايضاً مفيدة". دامت حبريته خمس سنوات ( 1958-1963) لكنها حقاً كانت مفاجأة تاريخية للعالم باسره. فهو بابا المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني اعلنه بعد ثلاثة اشهر من انتخابه، وافتتح دورته الاولى بعد اربع سنوات ( 11 تشرين الاول 1962). وهو الذي هيأ حبرية البابا بولس السادس رائد الاصلاح الشامل في الكنيسة، وهو بابا الرسالتين الكبيرتين: " ام ومعلمة" عن العدالة الاجتماعية، و " سلام في الارض" عن ثقافة السلام، وبابا التجدد                       ( aggiornamento) ورائد وحدة المسيحيين والحوار مع الاديان.

 

2.    يوحنا السابق

 

يوحنا هو ابن صلاة الجماعة ( لو1/8-13) التي كان يرفعها ابوه الكاهن باسم الشعب وتدور كلها حول انتظار الخلاص الموعود، والمعروف بالخلاص المسيحاني. وهو ايضاً ثمرة والديه وامانتهما للرب ولوصاياه. هذا الواقع يتجدد يوم الاحد، في لقاء الجماعة التي يعلن لها كلام الله، كما اعلنه الملاك لزكريا. انه لقاء حوار الله مع شعبه: هو يعلن عجائب الخلاص ويعرض مقتضيات العهد، وجماعة المؤمنين تجدد الامانة لله والخضوع لرسومه، والروح القدس يجعلها تلتزم بما تسمعه ( يوم الرب، 41).

الروح القدس، الذي هيأ مجيء الرب برسالة خفية، هو الذي هيأ يوحنا وملأه وقاد خطاه ليكون ما اعلنه الملاك:

أ- اسمه يوحنا اي " الله يرحم". الاسم وحده يعلن مجيء المسيح الذي سيجسّد رحمة الله. ففي شخصه واعماله ظهرت رحمة الله. هو اكّد ذلك في مجمع الناصرة ( لو4/16-21)، وللبعثة التي ارسلها اليه يوحنا نفسه ( لو7/22). وهو ردد باستمرار كلمة هوشع النبي: " رحمة اريد لا ذبيحة" ( هوشع6/6؛ متى9/13 ؛ 12/7)، وعلّم سرّ الله الرحوم في مثل الرحمة المعروف بمثل الابن الضال ( لو15/11-32). رحمة الله هذه تعلنها المزامير ( انظر خاصة مز46/7-9 ومز147/3 و6).

        يوحنا نفسه هو تجلي الرحمة لزكريا واليصابات اللذين طالما صليا المزمور103/13: " كما يرأف الرب ببنيه، يرأف الرب بالذين يتقونه"، والمزمور 33/18-19: " عين الرب على الذين يتقونه، على الذين يرجون رحمته لينقذ من الموت نفوسهم". هذا ما يعنيه كلام الملاك: " لا تخف يا زكريا، فقد سُمعت صلاتك"، وكلام اليصابات: " هذا ما صنع لي الرب في الايام التي نظر اليّ فيها، لينزع عاري من بين البشر".

 

        ب- سيفرح بمولده اناس كثيرون، لان بيوحنا يتجلى تصميم الله الرحوم على شعبه، يفتقده ويخلصه: " طوبى للشعب الذي الرب الهه" (مزمور 144/15 اليه يهتف: " الرب عزّي، لقد كان لي خلاصاً. اعترف لك لانك شجعتني وكنت لي خلاصاً" ( مز118/14-20).

       

ج- يملاءه الروح القدس وهو في بطن امه، كما كرّس رجالات العهد القديم " وهم في بطون امهاتهم". مثل شمشون وارميا وعبد يهوه الذين سبق واختارهم لرسالتهم. هذا الروح سيملاء يوحنا من ناره، " روح ايليا وقدرته"، فيسير امام الرب كسابقه، ليعدّ له الطريق. الروح يتمم في يوحنا " الكلام بالانبياء"، فينهي يوحنا حقبة الانبياء التي دشنها ايليا. مع يوحنا يبدأ الروح زمن الارتداد والتوبة ( لو16/17)، ويستبق ولادة الانسان الجديد " من الماء والروح" ( يو3/5).

       

د- عظيم امام الرب والناس ( لو1/15).يصف مرقس الانجيلي ( مر1/6) والسيد المسيح ( متى 11/18) تقشف يوحنا. فكان الشعب يهابه ويعدّه نبياً ( متى14/5) وهيرودس يخافه ويعتبره صديقاً ( مر6/20). ووصفه الرب يسوع بأنه " الملاك المرسل أمام وجهه" ( متى11/10), " ايليا المزمع ان يأتي" ( متى 11/14). اما هو فوصف نفسه انه غير اهل لحلّ سير حذاء يسوع ( مر 1/7).

        لقد دشن يوحنا نهجاً جديداً في المسؤولية، سواء في المجتمع ام في الكنيسة: فلا يقدر على الخدمة الاّ الذي احبّها وفضّلها على نفسه، والذي يرى نفسه لا شيء والمواطنين الآخرين كل شيء، والذي تنزه عن المال وشهواته.

 

3.    الصلاة ينبوع ثقافة السلام

اثناء صلاة البخور كان لقاء الله مع زكريا بواسطة الملاك فكان السلام في قلبه وبيته من خلال البشرى بمولد ابن له يحمل رحمة الله الى الشعب كله. فكان الخبر سببب سرور الكثيرين. الكنيسة تناضل بالصلاة من اجل السلام. فالصلاة تفتح القلب الى علاقة عميقة مع الله، والى لقاء مع القريب بروح الاحترام والثقة والتفهّم والتقدير والمحبة. الصلاة تولّد الشجاعة وتعضد اصدقاء السلام الحقيقين الساعين الى تعزيزه في مختلف ظروف حياتهم.

سر الافخارستيا، " مصدر الحياة المسيحية كلها وذروتها" ( الدستور العقائدي في الكنيسة، 11)، هو الينبوع الذي لا ينضب لكل التزام مسيحي اصيل بالسلام. فالقداس يبدأ بنشيد " المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام"، للدلالة ان السلام على الارض انعكاس لمجد الله في السماء، وانه عطية الهية موكولة الى الجماعة الملتئمة حول الرب في القربان. وفي بدء قسم ذبيحة الفداء، المعروف بالنافور، تقام صلاة السلام، ويؤخذ السلام من القرابين المعدة لتتحول الى جسد المسيح ودمه، ويُوزّع على الجماعة المؤمنة استباقاً لمناولة من هو "امير السلام" الذي يجعلنا "فاعلي سلام"، واستعداداً للمشاركة في سرّ الذبيحة والوليمة: " اذا كنت تقدم للرب قربانك، وتذكرت ان لاخيك عليك شيئاً، اذهب اولاً صالح اخاك، ثم عدْ وقدّم قربانك" ( متى 5/33-34). وفي التذكارات تصلي الجماعة من اجل الرؤساء الروحيين والمدنيين وذوي الارادات الصالحة ليعملوا جاهدين من اجل احلال السلام في كل ابعاده الروحية والاجتماعية، السياسية والاقتصادية، المعنوية والانمائية. وبعد الجلوس على مائدة الرب القربانية وفي ختام القداس يصرف الكاهن الشعب ليذهب بسلام مزوداً بالخبز السماوي، خبز الكلمة والنعمة والمحبة، ويعمل في حياته اليومية من اجل احلال السلام على اساس الحقيقة والعدالة وانماء الانسان والمجتمع.

 

***

 

ثانيا، وجوه عاونت في تصميم الخلاص وعاشت روحانية المعمدان

 

من بين القديسين الجدد نذكر الطوباويين الزوجين الايطالين: Luigi Beltrami Quattrocchi ( 1880-1951) وزوجته Maria Corsini ( 1884-1965)، اعلن تطويبهما البابا يوحنا بولس الثاني في 21 تشرين الاول 2001. هما اول زوجين يرفعان معاً في الكنيسة للتكريم على المذابح. عاشا بشكل خارق كزوجين ووالدين، وقد ارتبطا ارتباطاً وثيقاً " بمعبد سيدة الحب الالهي" في روما. اثناء الحرب الكونية الثانية زارت السيدة ماريا معبد السيدة وسلمت العذراء اولادها الاربعة، فنجوا باعجوبة من حادثة حرب. كان لويجي محامياً وزوجته ماريا مثقفة وكاتبة. تزوجا في روما سنة 1905، وانجبا اربعة اولاد: ابنين وابنتين ما بين سنة 1906 و1914، اعتنقوا كلهم الحياة الرهبانية والكهنوت بسبب جو العائلة المقدس، المفعم بالصلاة وعبادة قلب يسوع، والمشاركة اليومية بالقداس الالهي في بازليك مريم الكبرى في روما، وبالنشاط الرسولي في حركة النهضة المسيحية، وحركة " من اجل عالم افضل". كانت الزوجة ممرضة متطوعة في الصليب الاحمر، ومعلمة تعليم مسيحي للسيدات في الرعية، ومنظمة دورات اعدادية للزواج، ومساهمة في انشاء جامعة قلب يسوع الكاثوليكية، وعضواً في المجلس المركزي للاتحاد النسائي الكاثوليكي الايطالي. كانت الحياة الزوجية والعائلية لهذين الزوجين طريقاً الى القداسة، وسيراً الى الله بعيش الحب. فالقداسة هي ان تحب، والحب ممكن للجميع، ولذلك الجميع مدعوون الى القداسة.

 

تنظر الكنيسة حالياً في دعوى تطويب رجلي دولة متزوجين وربيّ عائلة. الاول هو رئيس وزراء ايطاليا  الشيدي دي غاسبري  Alcide de Gasperi (1881-1954)، الذي قيل فيه انه مسيحي متواضع، مخلص، وملتزم، اعطى الشهادة الكاملة لايمانه في حياته الخاصة والعامة، وعرف كيف يجمع معاً الفضائل الدينية والفضائل المدنية، ويضعها في خدمة الالتزام السياسي. كتب مرة الى زوجته Francesca: "يوجد رجال غنيمة، ورجال سلطة، ورجال ايمان. اودّ ان اُذكر بين هؤلاء الاخيرين". والثاني هو الفرنسي  Robert Schuman( 1886-1963) رئيس وزراء ووزير المالية واخيراً رئيس البرلمان الاوروبي في ستراسبورغ لقد لقّبوه "بأبي اوروبا" وبالمسيحي الملتزم من اجل اوروبا مسيحية جديدة. مع زميله  Gasperi  لقد جمع بين الالتزام المسيحي والعمل السياسي المتفاني. وسلكا هكذا الطريق الى القداسة من خلال الالتزام السياسي، عائشين ابعاد المعمودية. هذا ما نرجوه لرجال السياسة عندنا.

**

ثالثا، الخطة الراعوية

 

تواصل الجماعة الراعوية والديرية والتربوية والرياضية، وكذلك الاسرة، التفكير معاً في النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني: " كنيسة الرجاء"، وتحديداً في قسمه الثاني: " الرجاء، هواجس وعلامات"        ( الفقرات 13-17).

يدور التفكير حول التمييز بين الرجاء والامال البشرية.

الرجاء يتناول كل ما له علامة بحياة الانسان، انطلاقاً من الثقة البنوية بالله وبكلامه ووعوده، وصولاً الى الثبات في الرجاء وسط المحن والشدائد، بانتظار تجليات الله الآتية في حينها: " من يصبر الى المنتهة يخلص" ( متى 24/13).

اما الآمال البشرية فتنطلق من فكر الانسان وحساباته ومشاريعه. يمكن لهذه الامال ان تتحقق اذا توفرت لها الظروف الملائمة، كما يمكن لها ان تفشل لاسباب مرتبطة بالانسان نفسه او خارجه عن ارادته ( فقرة 15).

في ضوء هذه التمييز تقوم الجماعات بقراءة الالتباس الحاصل في اذهان الكثيرين بين الرجاء المسيحي والامال البشرية، وسط الاحداث التي رافقت حياتهم. يكشف النص المجمعي عن حالتين:

أ- من الناس من ظل صامداً معتصماً بالايمان ومتمسكاً بالرجاء، مشدداً عزائمه ومرسخاً ايمانه ورجاءه في ما يقول الروح للكنيسة، ولاسيما في الارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان".  هذا رجاء مسيحي.

ب- وهناك من بلبلتهم الانتكاسات السياسية والمآسي الاجتماعية وولّدت لديهم الخيبات، لان الطموحات والآمال البشرية اخفقت. فكان التراشق بالتهم والخيانات. هذه آمال بشرية ( فقرة 16).

ويدعو النص المجمعي الى الجمع بين الرجاء والآمال. بحيث ينطلق الانسان من آماله وطموحاته الى تحقيق المشروع الالهي: خلاص الانسان وترقي الانسانية، واضعاً امامه علامات الرجاء ( فقرة 15 و16).

 

***

صلاة:

ايها الروح القدوس، روح الحكمة والمحبة والقداسة، ثبّت خطانا في طريق التجدد الكنسي، واعضدنا، افراداً، وعائلات وجماعات، كي نلتزم بتوصيات المجمع البطريركي ومقرراته في جميع ابرشياتنا ورهبانياتنا ومؤسساتنا، حتى نواصل الشهادة لحضارة المحبة، بشفاعة امنا مريم والدة الاله، وأبينا القديس مارون وجميع القديسين، لك المجد والشكر مع الآب والابن الى الابد.
    (صلاة المجمع).


 الاحد 26 تشرين الثاني 2006

 

بشارة العذراء مريم

البشارة بداية عهد المسيح والكنيسة للسلام في العالم

 

من انجيل القديس لوقا 1/26-38

 

        قال لوقا البشير: في الشهر السادس، أرسل جبرائيل من عند الله الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. ولما دخل الملاك اليها قال: " السلام عليك، يا ممتلئة نعمة، الرب معك". فاضطربت مريم لكلامه، وأخذت تفكر ما عسى أن يكون هذا السلام ّ! فقال لها الملاك: " لا تخافي، يا مريم، لانك وجدت نعمة عند الله. وها انت تحملين، وتلدين ابناً، وتسمينه يسوع. وهو يكون عظيماً، وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، فيملك على بيت يعقوب الى الابد، ولا يكون لملكه نهاية!".

        فقالت مريم للملاك: " كيف يكون هذا، وأنا لا اعرف رجلاً؟". فأجاب الملاك وقال لها: " الروح القدس يحل عليك، وقدرة العلي تظللك، ولذلك فالقدوس المولود منك يدعى ابن الله! وها إن اليصابات،  نسيبتك، قد حملت هي ايضاً بأبن في شيخوختها. وهذا هو الشهر السادس لتلك التي تدعى عاقراً، لانه ليس على الله أمر مستحيل!". ففالت مريم: " ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك!". وانصرف من عندها الملاك.

 

 

        البشارة  لمريم هي ايضاً للعالم أجمع: منها سيولد المخلص المسيح المنتظر، وهي المخطوبة لرجل اسمه يوسف  من سلالة داود الملك، لكن الله ارادها اماً بتولاً للكلمة ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، بقوة الروح القدس، واماً روحية بالنعمة للجنس البشري المفتدى بدم ابنها الالهي، واماً للكنيسة التي هي المسيح الكلي: المسيح الرأس وجسده المؤلف من جماعة المفتدين.

في هذه البشارة تحقق وعد الله بالخلاص الذي قطعه مخاطباً الشيطان المتمثّل في الحية: " اضع عداوة بينك وبين المرأة هي العذراء مريم حواء الجديدة - بين نسلك ونسلها - اي بين الشيطان والمسيح- هو يسحق رأسك وانت تترصدين عقبه" ( تك 3/ 15) هذا الوعد أبرمه الله فيما بعد عهداً مع ابراهيم ونسله. وفي البشارة تتجلى كرامة العائلة وقدسيتها ودعوتها.

 

1.    البشارة: بداية عهد المسيح والكنيسة

 

 مع البشارة لمريم يبدأ عهد جديد هو دخول كلمة الله في صميم العائلة البشرية، متخذاً طبيعة انسانية من مريم العذراء، وفي تاريخ الجنس البشري مفتدياً اياه من عبودية الخطيئة والشر، وفي كل ثقافة بشرية موجهاً اياها الى كل حق وخير وجمال.

في البشارة يتجلى سرّ يسوع المسيح: انه ابن الله، الذي " اصوله منذ القديم منذ ايام الازل" ( ميخا 5/1)، وهو  "كلمة الآب" (يو1/1-2)، وابن مريم بالجسد في الزمن. حقيقة مزدوجة اعلنها يوحنا الرسول: " والكلمة صار بشراً، وسكن بيننا، ورأينا مجده، مجد ابن وحيد آت من الآب، ملآن نعمة وحقاً" (يو1/14)، وكتب عنها بولس الرسول: " لما بلغ ملء الزمان، ارسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً في حكم الشريعة، لكي يفتدي الذين هم في حكم الشريعة، حتى ننال البنوة" ( غلاطية 4/4-5). هذه اللوحة الانجيلية هي اساس اعلان يوحنا وبولس: فالملاك جبرائيل يؤكد لمريم انها " تحمل وتلد ابناً وتسميه يسوع، هو ابن الله المولود منها بحلول الروح القدس" (لو1/31و35)، وانه " من سلالة داود الملك ويملك على الجنس البشري الى الابد" (لو1/33). ملوكيته ملوكية خلاص وفداء، ملوكية " النعمة والحق".

 ومع البشارة يبدأ شعب جديد هو الكنيسة المؤلفة من جماعة  الذين قبلوا الكلمة الالهي، يسوع المسيح، النور الحقيقي الذي ينير كل انسان آت الى العالم، وآمنوا باسمه، فاعطاهم سلطاناً ان يصيروا ابناء الله، هم الذين، لا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا" (يو1/9،12،13).

هذه الكنيسة هي " مملكة داود" الجديدة التي وعده بها الله على لسان ناتان: " اقيم من يخلفك من نسلك الذي يخرج من صلبك. وانا أثبّت عرش ملكه للابد. انا اكون له اباً وهو يكون لي ابناً" (2 صموئيل7/12-14)، وعلى لسان اشعيا النبي: " الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً...لانه ولد لنا ولد واُعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه...لسلام لا انقضاء له على عرش داود ومملكته، ليقرّها ويوطدها بالحق والبر من الآن وللابد"( اشعيا9/1و5و6). يسوع المسيح ابن الله المتجسد هو الملك الجديد الابدي، والكنيسة مملكته الثابتة الى الابد التي " لن تقوى عليها ابواب الجحيم" ( متى16/18)،  قوى الشر والموت. والكنيسة هي " بيت يعقوب" الجديد اي شعب الله الجديد، بالنسبة الى القديم الذي كان يسمى " اسرائيل". انها ذات عنصرين: عنصر الهي هو يسوع المسيح ابن الله منذ الازل وابن مريم في الزمن، وهو رأسها، وعنصر بشري هو جماعة المفتدين الذين يؤلفون جسد المسيح. هذه الكنيسة هي زرع ملكوت الله وبدايته الذي يكتمل في مجد السماء، في نهاية الازمنة عندما يأتي المسيح بالمجد (الدستور العقائدي في الكنيسة 5 و48؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 768).

 البشارة لمريم هي للكنيسة وللبشرية جمعاء، لان هذه ستكون ام الاله المتجسد، المسيح التاريخي، وستكون ايضاً ام اعضاء جسده السري، المسيح الكلي، الذين ستساهم بحبها في ولادتهم الجديدة (الدستور العقائدي في الكنيسة،  53). ام المسيح الكلي هي " ام الكنيسة" (البابا بولس السادس، 21/11/1964). لهذا السبب حياها جبرائيل بسلام الفرح والتغبيط: " السلام عليك! افرحي! ولا تخافي! لانك نلتِ حظوة عند الله" ( لو1/28و30). هذه الحظوة هي للبشرية باسرها التي يشملها عهد الفداء. فمن مريم، التي حظيت بشرف الامومة للاله وللكنيسة، تفيض بواسطتها النعمة الالهية على البشرية جمعاء، بوصفها الشريكة في التجسّد والفداء. ولهذا السبب ما ناداها الملاك باسمها عندما حياها، بل سماها " ممتلئة نعمة". هذه التسمية تكشف سرّ مريم الغني بالاوصاف.

 انها بريئة من دنس الخطيئة الاصلية، لان النعمة الالهية ملأتها منذ اللحظة الاولى لوجودها، فلم تعرف الخطيئة، لا الاصلية ولا الفعلية.

وهي البتول والام، وقد ظلت بتولاً قبل الميلاد وفيه وبعده، بقدرة الله الفاعلة فيها بحلول الروح القدس، هذا معنى قول الملاك: " الرب معك"، لتأكيد واقع حاضر فيها، لا مجرد دعاء. وبذلك هي مثال  الامومة والابوة الروحية للذين  يكرسون بتوليتهم لله وللكنيسة بنذر العفة، سواء في الحياة الرهبانية ام في الحياة المكرسة وسط العالم.

وهي مثال الكنيسة، الام والبتول ( الدستور العقائدي في الكنيسة،63)، وقدوة لها في الايمان والرجاء والمحبة، بفضل اتحادها الكامل بارادة الآب، ومشاركة ابنها في عمل الفداء، وقبول الهامات الروح القدس (التعليم المسيحي، 967).

وهي ايقونة الكنيسة النهيوية، اذ تكشف ما ستصير الكنيسة في الوطن السماوي، في نهاية رحلتها على وجه الارض، ومصير  كل مؤمن (المرجع نفسه،976).

وهي مثال لكل مسؤول يحمل سلطة كنسية ام عائلية ام مدنية، فيدرك ان " لا سلطة الا من الله" (روم13/1)، وان صاحب السلطة هو خادم الله لدى الجماعة، ويلتزم العمل بموجب ما يوحيه الله له للخير العام. موقفه موقف مريم: " انا امة الرب، فليكن لي حسب قولك" ( لو1/38).

 

2.                                 العائلة المسيحية

 

البشارة لمريم التي تعلن دخول ابن الله وفادي الانسان عائلة يوسف ومريم، مولوداً بالجسد بقوة الروح القدس، انما تكشف كرامة العائلة المسيحية وطهارة الحب الزوجي وقدسية الحياة بفضل حضور الله الثالوث فيها: " محبة الآب القديرة تظللك، والروح القدس يحل عليك، والمولود منك قدوس وابن الله يدعى" ( لو1/35). العائلة النابعة من سرّ الزواج هي حقاً  "كنيسة بيتية".

العائلة حَرَم الحياة البشرية: التي هي هبة من الله، وتحمل طابعاً مقدساً. وهي من اللحظة الاولى لتكوينها في احشاء الام كائن بشري كامل الحقوق وصاحب فرادة في شخصيته ودعوته ورسالته، اذا لم يوضع حدّ لتطوره الطبيعي البيولوجي، واذا حظي بتربية بيتية وكنسية واجتماعية سليمة. لوحة البشارة خير دليل لهذا الواقع. العائلة هي مدرسة ثقافة الحياة التي تشجب وتدين كل تعدٍ على الحياة البشرية سواء بوسائل منع الحمل او بالحبوب المجهضة ام بالاجهاض، وكل تعدٍ عليها وعلى كرامتها وحقوقها وسلامتها الروحية والجسدية والمعنوية، بعد ولادتها.

والعائلة هي المربي الاول للانسان في ضميره الخلقي المسؤول، بحيث يربى على حسن التمييز بين الخير والشر، الحق والباطل. الضمير كالغرسة، اذا استقامت تربيته كانت اخلاقه سليمة في كبره، لان من شبّ على امر شاب عليه. هكذا الغرسة اذا زرعت مستقيمة نمت كذلك، وإلا ظللت على انحرافها.

والعائلة مصدر النمو الروحي والاجتماعي والرعوي والوطني، لان فيها يحاك اول نسيج لعلاقات الانسان بالله والمجتمع والكنيسة والوطن، وفيها يعاش اول اختبار لتقاسم الخيرات معهم. هذا النمو مرتبط بالطاعة للوالدين اللذين يربيان على " النمو بالقامة والنعمة والحكمة قدام الله والناس"، كما جرى ليسوع في عائلة الناصرة (لو2/51-52).

العائلة مكان التنشئة الروحية والايمانية، لانها المدرسة الاولى للايمان، حيث تُقبل بشرى الانجيل وتُعلن، ولانها المعبد الاول للصلاة، والكنيسة، الاولى حيث يدخل الانسان في شركة مع الله ومع الناس. ان الكنيسة الرعائية تبدأ في البيت، حيث تلتئم الاسرة للصلاة، وتبلغ اليه لتجسّد تعليمها ونعمتها في افراد الاسرة، ومن خلالهم في المجتمع.

 

3. البشارة لمريم اعلان لثقافة السلام

 

السلام هو ثمرة بركة الله، ولذلك هو باعث الفرح والابتهاج. ان تحية الملاك لمريم " بالسلام عليك" تعني في مفهومها اللفظي الآرامي: " افرحي يا مريم، تهللي، ابتهجي"، لانك نلت " حظوة" عند الله و"بركة منه" اذ ملأك نعمة ودعاك لتكوني ام ابنه مخلص العالم الذي سيأخذ جسداً بشرياً  منك. ولهذا انت " مباركة بين النساء". ولان السلام عطية الهية عظيمة مقدَّمة لكل الناس، فانه يقتضي طاعة لتصميم الله. هذا ما فعلته مريم عندما اجابت: " انا أمة الرب، فليكن لي حسب قولك".

أمر الرب الاله ان يصلي الكاهن على الشعب هكذا: " يباركك الرب ويحفظك، يضىء الرب بوجهه عليك ويرحمك، يوجّه الرب نظره نحوك ويمنحك السلام" (العدد6/24-26). السلام هو مجموعة الخيرات الالهية: البركة والعناية والرحمة والرضى والاختيار والدعوة. هذه الخيرات افيضت على مريم، فباتت الكنيسة تهتف اليها بلقب " يا سلطانة السلام".

ان ثقافة السلام تقتضي التماس الخيرات السماوية وادراكها والشهادة لها بين الناس، بتقاسمها وتجسيدها في الاعمال والمواقف والمسلك. هذه الثقافة تنطلق من حق كل انسان وشعب ان ينعم بالسلام الذي لا يعني فقط انعدام الحرب، بل هو اعطاء كل انسان حقوقه الاساسية ولاسيما منها حقه في النمو وتحقيق الذات، وخروجه من حالة الفقر والجهل والحرمان. السلام الحقيقي والدائم هو ثمرة العدالة والمحبة والانماء والترقي. عنه قال المسيح: " سلامي اعطيكم، لا كما يعطيه العالم اعطيكم انا" ( يو14/27)؟

ما اجمل ان يكون الانسان لاخيه ولشعبه "بشارة سلام" يحمل اليهم خيور السلام الآتي من الله!

 

**

 ثانياً، اعياد الاسبوع

 

اجمل عيدين تحتفل بهما الكنيسة عيد تقدمة العذراء مريم الى الهيكل وعيد والديها يواكيم وحنه.

تقدمة العذراء مريم للهيكل ( 21 تشرين الثاني)

عندما بلغت الطفلة مريم ثلاث سنوات من عمرها قدّمها ابواها الى الهيكل لتتربى فيه وتخدم، حسب التقليد الرسولي والكنسي، وذلك  وفاء لنذر قطعته امها حنة، التي كانت عاقراً. فطلبت من الله ان يعطيها ولداً لتكرسه لخدمته، فرزقها ابنة " ممتلئة نعمة". فقدمها ابواها للرب عن يد الكاهن زكريا. هذه التي قدمت الى الهيكل اصبحت هيكل الثالوث القدوس" الآب الذي ملأها بحبه، والابن الذي استقر في حشاها، والروح القدس الذي حلّ عليها وفيها.

تفرّغت مريم في الهيكل للصلاة والتأمل والخدمة، وتعلمت مطالعة الكتب المقدسة. واقامت فيه حتى بلغت الخامسة عشرة من عمرها. ثم عادت الى الناصرة، حيث بلغتها البشارة الملاك، وكانت مخطوبة ليوسف. وبعد ثلاثة اشهر اخذها يوسف الى بيته بعد بيان الملاك له، فانتقلت الى البيت الزوجي حسب العادة اليهودية، وكرّس الزوجان بتولتهما لله من اجل خدمة ابن الله المتجسد وملكوت الله البادىء مع الكنيسة الناشئة في بيتهما.

مريم المكرّسة هي شفيعة المكرسين والمكرسات سواء في الحياة الرهبانية المنظمة ام في العالم واقفين ذواتهم على خدمة الله والكنيسة على خطى المسيح وامه مريم.

 

عيد القديسين يواكيم وحنه ( 22 تشرين الثاني)

هما والدا امنا مريم العذراء وجدّا سيدنا يسوع المسيح. يواكيم من الناصرة من ذرية داود الملك، وحنه من بيت لحم من عشيرة يهوذا. كانا بارّين وسائرين في شريعة الرب، متحدين قلباً واحداً، مضطرمين بمحبة الله والناس، عائشين بالصلاة والتأمل، منتظرين مجيء مخلص العالم.

لم يطعما ثمرة البنين، وظلاّ برجاء وطيد يلتمسان ولداً من الله مع الوعد الصادق بتكريسه لله. فكانت مريم التي عصمها الله، منذ اللحظة الاولى لتكوبنها في حشى امها، من الخطيئة الاصلية الموروثة من ابوينا الاولين، وملأها نعمة القداسة، وارادها اماً لابنه مخلص العالم.

يتضح جلياً ان الازواج هم معاونو الله في صنع تاريخ الخلاص، وان كل ولد يولد لامرأة يريده الله ويحبه لذاته ويقسم له دوراً خاصاً في التصميم الخلاصي، وان الجنين كائن بشري منذ اللحظة الاولى لتكوينه، وان الزواج والابوة والامومة دعوة الى القداسة.

***

 

 

ثالثا، الخطة الراعوية

 

تواصل الجماعات المنظمة: الاسرة، الرعية، الاديار، المنظمات الرسولية، المجالس الراعوية، اللجان، النوادي الثقافية والرياضية، التفكير معاً في النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني: كنيسة الرجاء.

في القسم الثاني من النص نفكّر معاً في علامتين من علامات الرجاء (فقرة 18 و19).

 

1.                            انتشار الكنيسة

انتشرت الكنيسة عامة، والمارونية خاصة، في العالم، بالرغم من النكبات والمحن والاضطهادات، لتكون خميرة في عجين هذا العالم. هذا الانتشار هو الدليل لعناية الله ولوجود العنصر الالهي في الكنيسة الى جانب العنصر البشري. فلا خوف على الكنيسة ومستقبلها، شرط ان يحمل ابناؤها وبناتها رسالة الاصالة لتراثها الانطاكي السرياني، وان يتفاعلوا مع مجتمعاتهم بالانثقاف الروحي والخلقي والثقافي، ويتعاونوا مع الكنائس الاخرى بروح الوحدة في المحبة، ويدخلوا في حوار مع الاديان الاخرى. ومن علامات الرجاء ما لعبته الكنيسة المارونية من دور في الانفتاح الثقافي وفي النهضة العربية في محيطها الشرق اوسطي، فضلاً عما حملت الى الغرب من ثقافة الشرق منذ القرن السادس عشر، انطلاقاً من المدرسة المارونية في روما التي تأسست  سنة 1584، فقرة 18).

2. التمسك بالمركزية البطريركية

شكلّ دوما شخص البطريرك الضامن لوحدة الموارنة، والبطريركية رمز هذه الوحدة. تمسّك الموارنة بالمركزية البطريركية بوجهيها المتلازمين.

أ- الوقاية من التشرذم الكنسي ومن اي حركة انفصالية. فعلى مدى التاريخ، فيما جُرحت الكنائس كلها بجرح الانقسام، ظلت الكنيسة المارونية، بعون الله وحسن الارادة، متماسكة في الوحدة حول شخص البطريرك، وحول خليفة القديس بطرس، بابا روما. وهذه علامة رجاء كبيرة.

ب- دعم الوحدة وتفعيلها في داخل الكنيسة المارونية، من اجل الشهادة للمسيح، مبدأ كل وحدة واساسها، ومن اجل خدمة اوفر، ورسالة أشمل في اي مجتمع تواجد فيه ابناء هذه الكنيسة. ما تحقق الى الآن يشكل علامة رجاء ناطقة ومشجعة ( فقرة 19).

بعد التفكير معاً، لا بدّ للجماعات المذكورة من ان ترسم خطة عمل لمواصلة علامتي الرجاء هاتين، ولتدعيمهما بمبادرات عملية.

***

 

صلاة:

 

زر يا رب بحبك عائلتنا المجتمعة امامك، واجعلها كنيسة مصغّرة بيتية، تشهد لك. أبعد عنها كل خلاف. رسخّها في الايمان والرجاء والمحبة. احمها من المصائب. قوّها في الشدائد. وحدّها برباط المحبة والسلام. واعطها قوة روحك، فنكون حجارة حية في بناء كنيستك. لك المجد الى الابد. آمين ( من كتاب صلاة العائلة).


الاحد 3 كانون الاول 2006

 

زيارة مريم لاليصابات

تجليات عظام الله

من انجيل القديس لوقا 1/ 39-46

 

        فال لوقا البشير: في تلك الايام ( بعد البشارة بيسوع)، قامت مريم وذهبت مسرعة الى الجبل، الى مدينةٍ في يهوذا. ودخلت بيت زكريا، وسلمت على اليصابات. ولما سمعت اليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من الروح القدس. فهتفت بأعلى صوتها وقالت: مباركة أنت في النساء، ومباركة ثمرة بطنك! ومن أين لي هذا ان تأتي اليّ أم ربي؟ فها منذ وقع صوت سلامك في أذتيّ، ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطني! فطوبى للتي آمنت أنه سيتم ما قيل لها من قبل الربّ!". فقالت مريم: "تعظم نفسي الرب...

 

**

        بدافع من المحبةالمسكوبة في قلب مريم، هي الممتلئة نعمة، المظللة بمحبة الآب، الحالّ عليها الروح القدس، والحامل بابن الله، اسرعت لزيارة اليصابات لكي، في ضوء ما سمعت من الملاك، تكون في خدمتها حتى مولد يوحنا، وتتأمل معها في تدابير الله العجيبة، وترفعان معاً صلاة التسبيح والشكر. ثلاثة اشهر من الخدمة والصلاة، في ضوئها صارت القاعدة الرهبانية،حسب  القديس بندكتوس: " صلّ واعمل". هذه كانت نيتها في الزيارة. لكن النتائج جاءت كبيرة جداً، لانها من صنع الله الذي يفتقد شعبه.

 

اولاً، لوحة الزيارة

       

1.    نتائج الزيارة

 

لان الله هو الذي يعمل من خلال الانسان بحكم اختياره وارساله، تأتي النتائج كبيرة وغير متوقعة.

امتلأت اليصابات من الروح القدس وتنبأت وكشفت سرّ مريم: فهي المباركة بين جميع النساء، وحامل بثمرة مباركة، وام ربها، ومطوّبة لانها أمنت ان ما قيل لها من عند الرب سيتم. ذلك ان اليصابات كانت  منفتحة على سر الله، بشهادة لوقا الانجيلي عنها وعن زوجها زكريا: " كانا بارين عند الله وتابعين جميع وصايا الرب واحكامه، ولا لوم عليهما (لو1/6). فخصّهما بانجاب آخر نبي في العهد القديم واول رسول في العهد الجديد، يوحنا المعمدان.

امتلاء يوحنا من الروح القدس، وهو جنين في حشى امه، كما انبأ الملاك لزكريا. وحيّا بارتكاضه المسيح الجنين هو ايضاً في بطن امه مريم، كما عبّرت اليصابات: " مذ وقع صوت سلامك في اذني، ارتكض الجنين بفرح عظيم في بطني". اللقاء بين الوالدتين اصبح في الواقع لقاء بين الولدين اللذين هما في خدمة الرسالة. وكأن الجنين يوحنا، المملؤ من الروح القدس، يفتتح رسالته كسابق للمسيح يدلّ اليه بلسان امه.

مريم، المملؤة من الروح القدس، تنشد نشيد المديح لله القدير: " تعظّم نفسي الرب"، من اجل سرّ التجسد، الذي تمّ في الخفاء والصمت في حشاها الطاهر. في هذا النشيد تعلن مريم اربع حقائق اساسية:

أ‌-  القدير صنع العظائم في مريم الامة الوضيعة. وقد كشفت الكنيسة هذه العظائم: الحبل بلا دنس، الامومة الالهية، البتولية الدائمة، الانتقال بالنفس والجسد الى مجد السماء. ولذلك " سوف يطوّبها جميع الاجيال".

ب‌-الله يتميز بثلاث صفات تكشف عمله في الانسان والتاريخ للذين يخافونه ويعيشون في مرضاته بفضيلة التدين والتقوى. والميزات هي القدرة: القدير صنع بي العظائم؛ والقداسة: اسمه قدوس؛ والرحمة: رحمته الى جيل وجيل".

ج-عناية الله وافتفاده الوضعاء فيرفعهم، والجياع فيشبعهم. وفي المقابل يندد المتكبرين فيشتت افكارهم،

    والاقوياء فينزلهم عن الكراسي، والاغنياء فيرسلهم فارغين.

د-عهد الرب لشعبه: ينصره ويذكره بالرحمة" كما وعد ابراهيم ونسله".

نشيد " تعظم نفسي الرب"، صلاة غنية في مضمونها، مستلهمة من المزامير ومن صلاة حنه (1صموئيل 2/1-10) ومن اقوال بعض الانبياء. مريم، ككل مؤمن تقي، غذّت نفسها من الكتب المقدسة، فكانت النصوص تتسارع الى شفتيها. جمعتها في شخصيتها واعطتها روحاً منها. هذا الواقع يشبه بنائي الكنائس المسيحية الاولىالذين اخذوا الحجارة وقطع الرخام والبلاط من الهياكل الوثنية، واعطوها في الكنائس روحاً آخر، ووجهاً آخر، كذلك الصلاة هي جواب المؤمن على كلام الله الذي يسمعه ويقبله في قلبه فيصبح صلاة وحواراً داخلياً متبادلاً بين الانسان والله.

 

2.    الافتقاد الالهي

 

        في خط افتقاد الله لشعبه، كما نجده بشكل ملفت في العهد القديم، زار الله افراداً وجماعات. هذه الزيارة الالهية المتكررة يُعبر عنها بلفظة " افتقاد" الله، الذي يعني عمل النعمة. نجد في الكتب المقدسة لفظتين متلازمتين: الله افتقد وافتدى، يفتقد شعبه ليخلصه.

        افتقد الله ابيملك في الحلم ونبهه على خطأه فارتد عنه ونجاه من السقوط والهلاك (تك20/3-7). افتقد ساره فولدت لابراهيم ابناً، اسحق، وكلاهما مسنين (تك21/1). افتقد لابان الارامي في الحلم وقد ادرك يعقوب الهارب من وجهه فنبهه: " اياك ان تكلم يعقوب بخير او شر" (تك31/24). افتقد حنة فولدت خمسة بنين وبنات، بعد ان كان الله قد حبس رحمها (1صموئيل 2/21،1/5).

        ونجد في اقوال الانبياء وعوداً بان الله سيفتقد شعبه:

        يهوديت تؤكد ان الله يفتقد اسرائيل عن يدها" ( يهوديت8/33).. اشعيا ينبىء ان الله يفتقد صور...فتصير تجارتها واجورها قدساً للرب (اشعيا23/17-18). زكريا اعلن يوم مولد يوحنا بعد انحلال عقدة لسانه: " مبارك هو الرب لانه افتقد شعبه وجعل له خلاصاً, وباحشاء رحمة الهنا يفتقدنا نجم من العلى، لينير الذين في الظلمات وظلال الموت، وليقود خطانا في طريق السلام (لو1/67 و78-79)

        كذلك الشعب، عندما رأى يسوع يقيم من الموت ابن ارملة نائين، هتف: " نبي عظيم قام بيننا وافتقد الله شسعبه" (لو7/16). والسيد المسيح عاتب اورشليم، كمدينة وشعب، وتنبأ على خرابها، لانها لم تكترث لافتقاده، اي الخلاص وتدبير الله الجديد: " لو كنت عرفت انت ايضاً، في يومك هذا، ما هو لسلامك. ولكن لقد خفي على عينيك الآن. ستأتي ايام فيها يحيط بك اعداؤك من كل ناحية، ويسحقونك وبنيك الذين فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لانك لم تعرفي زمان افتقادك" (لو19/42-44). في يوم الدينونة سيحاسبنا السيد المسيح، الفادي والديان، على افتقادنا المريض والسجين (متى25/36-43)

        يؤكد يعقوب الرسول ان " الخدمة الطاهرة والمقدسة امام الله الاب، بالعبادة والتدين الطاهر النقي، هي افتقاد اليتامى والارامل في ضيقاتهم، وصيانة الانسان نفسه عن العالم بغير دنس" ( يعقوب 1/20). واسطفانوس الشهيد يفسّر، في خطبته امام مجلس اليهود، كيف ان " موسى زار اخوته بني اسرائيل في مصر. وانتصر واحد منهم كان يسوقه احد المصريين ظلماً وغضباً. وظن انهم سيفهمون ان الله سيؤتيهم على يده خلاصا، فلم يفهموا" وخلص الى القول: " يا قساة الرقاب، انكم في كل حين تقاومون الروح القدس، وكما كان آباؤكم فكذلك انتم. اياً من الانبياء لم يضطهده آباؤكم، وقد قتلوا الذين سبقوا وتنبأوا بمجيء الصدّيق، ذاك الذي انتم سلمتموه وقتلتموه" ( اعمال 7/51-52).

 

3.    مريم المباركة بين النساء

 

        لقب " المباركة" اطلقه عليها الملاك جبرائيل واليصابات (لو1/28 و43) فهي " الممتلئة نعمة"، بفضل اختيار حرّ من قبل الله، وبفضل ايمانها الكامل بنداء الله. في هذا، مريم هي المثال والقدوة لكل المختارين والمؤمنين الطائعين. انها تعلن لنا ان الله هو في بداية كل انسان، وانه في سرّ تدبيره، قد دعاه باسمه وكتبه في تاريخ الخلاص. والله، فيما يدعونا الى الوجود، انما يدعونا في الوقت عينه الى الشركة معه. انه يحيط بحياة كل انسان بمحبة مخلصة لا يُسبر غورها.

        مريم المباركة هي دلالة على ان الله ونعمته يسبيان كل كياننا وكل اعمالنا، بحيث اننا لسنا على شيء من ذواتنا، بل كل ما نحن عليه انما هو من الله وفي الله. هذه هي " عظائم الله" التي انشدتها مريم الكلية القداسة، واصبحت عقائد ايمان في الكنيسة.

        أ- عقيدة الحبل بلا دنس التي اعلنها الطوباوي البابا بيوس الناسع في 8 كانون الاول 1858: " ان العذراء مريم بقيت منذ اللحظة الاولى لحبلها،  بنعمة وامتياز فريدين من قبل الله القدير، نظراً لاستحقاقات يسوع المسيح، مخلص الجنس البشري، مصونة من كل وصمة الخطيئة الاصلية".

ب- عقيدة امومتها الالهية، فهي والدة الاله كما اعلنها مجمع افسس المسكوني سنة 431، على اساس ما يعلنه العهد الجديد عن مريم ام يسوع. لم تلد مريم الله كاله، انما ولدت يسوع المسيح في بشريته المرتبطة ارتباطاً جوهرياً بالالوهة. الاعتراف بان مريم هي " والدة الاله"، هو في النهاية اعتراف بان يسوع المسيح هو اله حقيقي وانسان حقيقي. ولانها ام الاله، يسوع المسيح، هي ايضاً امنا، نحن اعضاء جسده السّري، وبهذه الصفة تشفع بنا لدى ابنها وتقودنا اليه، وتصبح وسيطة كل النعم، وبالتالي ام الكنيسة (انظر شرحاً بيبلياً ولاهوتياً مسهباً في " المسيحية في عقائدها"، صفحة 194-198).

        ج- عقيدة بتولية مريم، بالاضافة الى ولادة يسوع البتولية، اعلنها "بتولية دائمة" المجمع المسكوني الخامس المنعقد في القسطنطينية سنة 553، اذ يثبت ان مريم بقيت بتولاً قبل الولادة، وفي الولادة، وبعد الولادة. لفظة " قبل الولادة" تعني ان يسوع هو حقاً ابن الله الذي لم يسلك سبيل الولادة البشرية الاعتيادي، بل سلك سبيل الولادة البتولية الذي يتلاءم مع التجسد الالهي على انه علامة له. ولفظة  "في الولادة" تعني ان مريم لم تتألم آلام المخاض لانها منزّهة من الخطيئة الاصلية ومن كل خطيئة شخصية، وقد استعادت كمال الخليقة البشرية السابقة لخطيئة آدم. ولفظة " بعد الولادة" تعني ان مريم، بعد ان ولدت يسوع بقيت عذراء ولم تنجب اولاداً آخرين (المرجع المذكور، صفحة 198-203).

        د- عقيدو انتقال العذراء مريم بنفسها وجسدها الى السماء، اعلنها البابا بيوس الثاني عشر في 15 آب 1950: " انها لحقيقة ايمانية أوحى الله بها، ان مريم والدة الاله الدائمة البتولية والمنزهة عن كل عيب، بعد اتمامها مسيرة حياتها على الارض، نقلت بجسدها ونفسها الى المجد السماوي".

        عقيدة الانتقال تقدّم لنا في مريم مثالاً مشعاً للرجاء المسيحي الحقيقي.انها آية الرجاء من اجل الانسان في كل كيانه. فالجسد ايضاً سوف  يُخلّص. هذا الرجاء قائم لان يسوع المسيح قام من بين الاموات فهو البداية وهو الاساس الثابت. وفي مريم اتّضح ان هذا الرجاء سيكون مثمراً بالنسبة الينا وانه ينطوي على اكتمال الانسان في كل كيانه. هكذا مريم هي المثال الاول لرجاء جميع المسيحيين (المرجع المذكور، صفحة 206-208).

 

***

 

ثانياً، وجود نساء تقدسن في الامومتين الدموية والروحية

 

        من بين القديسات اللواتي تقدسن في آن في الحياة الزوجية المزدانة بالامومة الدموية والامومة الروحية، نذكر قديستين ايطاليتين اعلن قداستهما البابا يوحنا بولس الثاني مع اعلان قداسة مار نعمة الله الحرديني.

 

1.    القديسة جنّا بريتّا مولاّ( Gianna Beretta Molla) ( 1922-1962)

 

هي زوجة وام وطبيبة اطفال. أعلن قداستها البابا يوحنا بولس الثاني في 14 ايار 2004. هي العاشرة بين 13 ولداً، تزوجت سنة 1955 المهندس بياترو مولاّ (Pietro Molla) الذي ما زال حياً وقد حضر الاحتفالين بإعلانها طوباوية سنة 1994 وقديسة سنة 2004، انجبت ابناً وابنتين ما بين سنة 1956-1959. في الحبل الرابع بالابنة إمنويلا- جنّا ( Emanuela Gianna) سنة 1961 بدأ الخطر يهدد حياتها. فطلبت من الطبيب الجرّاح أن يخلّص الحياة التي تحملها في بطنها، وسلمت أمرها للعناية الالهية وللصلاة. قالت للاطباء: اذا كان لا بدّ من اتخاذ القرار بيني وبين الطفلة، فلا تترددوا: اختاروا، وهذا ما اريد، الطفلة وخلّصوها. ولدت الطفلة في 21 نيسان 1962، وبعد اسبوع ماتت الام وهي تردد: " يا يسوع انا احبك، وكان عمرها 39 سنة. لكن القديسة جنّا عاشت في القداسة منذ طفولتها، عندما قبلت المناولة الاولى بعمر خمس سنوات وتربّت في عائلتها تربية مسيحية عميقة، والتزمت في صباها بمنظمة العمل الكاثوليكي، واستمرت في حياتها الجامعية والطبية والزوجية تمارس سرّي التوبة والافخارستيا. وأعطت الكثير من  وقتها للخدمة الرسولية والطبية المجانية في المستوصفات والمستشفيات.

 

2. الطوباوية بولا اليزابيتّا شيريولي (Paola Elisabetta Cerioli) (1816-1965) من شمال ايطاليا، متزوجة وأم لاربعة اولاد. أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية في 16 ايار 2004. ترملت ولها من العمر 29 سنة، وفقدت ثلاثة من اولادها بعمر الطفولة، والرابع كارلو بعمر 16 سنة. على فراش النزاع قال لها كلمة نبوية: " ماما، لا تبكي بسبب موتي القريب، لان الله سيعطيك اولاداً آخرين كثيرين". بعد الصلاة والاسترشاد وشرب كأس المرارة كاملاً، فتحت بيتها الكبير الذي ورثته من زوجها، وراحت تتفانى في خدمة المحتاجين والمرضى في محيطها. وفيما كانت تتأمل يوماً وهي تنظر الى صورة العذراء المتألمة، ادركت ان كلمات ابنها النبوية قد تحققت في العائلة المقدسة، عائلة الناصرة، حيث ساهمت مريم ويوسف بشكل عجيب في تصميم الاب الخلاصي، بالامومة والابوة الروحية الشاملة. فانصرفت الى الاعتناء بالاطفال المهملين، بهدف تأمين مستقبل للذين هم بدون مستقبل، بسبب حرمانهم من عائلة كريمة. فأسست مع زميلاتها الخمس جمعية راهبات العائلة المقدسة، وأنشأت دوراً للأيتام والاولاد المهملين ومدارس ومستشفيات، ودورات تعليم مسيحي ورياضات روحية ومخيمات صيفية. وهكذا تمّت نبؤة ابنها كارلو بامومتها الروحية. ماتت ليلة الميلاد سنة 1865 بعمر 49 سنة.

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

        تواصل الجماعات الراعوية التفكير معاً في النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: " كنيسة الرجاء"، وبوجه التحديد في علامات الرجاء (الفقرتان 20 و21). بعد تقبّل النص المجمعي تضع الجماعات خطة تطبيقية.

1.    الخصوصية والتراث

من علامات الرجاء ما أنعم به الله على كنيستنا عبر العصور من خصوصية شكلت تراثها الروحي والثقافي واللاهوتي. لقد غذّى هذا التراث ابناءها، وأسهم في تغذية فكر الكنيسة الجامعة.

تقتضي الخطة الراعوية وعي هذا التراث واتخاذ مبادرات لتفعيله ونشره، بالتعاون مع الكنائس الانطاكية الشقيقة  (فقرة 20).

       

2.    حسّ الانتماء الكنسي

من مدعاة الرجاء ان نلاحظ لدى المؤمنين العلمانيين حسّ الانتماء الكنسي الذي ظهر بنوع خاص في التجاوب مع المجمع البطريركي الماروني على كل المستويات: الصلاة والتفكير معاً والاجابة على الاسئلة التحضيرية وتقديم الاقتراحات والمشاريع، وكتابة المقالات واقامة الندوات والتغطية الاعلامية وتوزيع المنشورات.

تقتضي الخطة الراعوية اتخاذ مبادرات لتعزيز هذا الحسّ الكنسي، وقد بلغنا الى مرحلة تطبيق التعليم والتوصيات المجمعية. فالمسؤولون في الكنيسة يعملون على تثمير طاقات المؤمنين، وهؤلاء يلتزمون بالتعاون والمشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها في العائلة والرعية والابرشية والمجتمع والوطن ( فقرة 21).

 

***

صلاة

 يا مريم، فجر العالم الجديد وام الاحياء، اليك نكل قضية الحياة. انظري الى هذا العدد المتزايد من الاجنّة الذين يُمنعون من ان يبصروا النور، والفقراء الذين يصعب عليهم العيش، والرجال والنساء الذين يقعون ضحية العنف اللاانساني، والمسنين والمرضى الذين يموتون بسبب الاهمال.

ساعدي ذوي الارادات الطيبة، المؤمنين بابنك فادي الانسان، ليعلنوا انجيل الحياة، بفرح وامتنان طيلة حياتهم، وان يسشهدوا له بشجاعة وثبات من اجل بناء حضارة الحقيقة والمحبة، لمجد الله الخالق والمحب للحياة، آمين
     ( صلاة للبابا يوحنا  بولس الثاني).


 

الاحد 10 كانون الاول 2006

مولد يوحنا المعمدان

ارحمة والانصاف اساس السلام

 

من انجيل القديس لوقا 1/ 57-66

 

        قال لوقا البشير: تمّ زمان اليصابات لتلد، فولدت ابناً. وسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد عظّم رحمته لها، ففرحوا معها. وفي اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا الصبي، وسمّوه باسم أبيه زكريا. فأجابت أمه وقالت: " لا! بل يُسمى يوحنا!". فقالوا لها: " لا أحد في قرابتك يدعى بهذا الاسم". وأشاروا الى ابيه ماذا يريد أن يسميه. فطلب لوحاً وكتب:  "إسمه يوحنا!". فتعجبوا جميعهم. وانفتح فم زكريا، وانطلق لسانه، وجعل يتكلم ويبارك الله، فاستولى الخوف على جميع جيرانهم، وتحدث الناس بكل هذه الامور في كل جبل اليهودية. وكان من سمع بذلك يحفظه في قلبه قائلاً: " ما عسى هذا الطفل أن يكون؟". وكانت يد الرب حقاً معه.

**

 

         الله يتم وعده، الذي اعلنه في بشارة الملاك لزكريا: يوحنا يولد، الشعب يفرح، ورحمة الله تتجلّى، والمولود يعطى اسمه، والنطق يعود لزكريا. هذه كلها علامات لعظمة هذا الصبي. الله امين في وعده وعهده، فعندما يعد يفي. انه انجيل الرحمة. نصلي في المزمور 105: " احمدوا الرب الهنا وادعو باسمه، انشدوا له وافتخروا باسمه القدوس. هو الرب الهنا يتذكر للأبد عهده: الكلمة التي أوصى بها الى ألف جيل، العهد الذي قطعه مع ابراهيم، والقسم الذي أقسمه لاسحق، والذي جعله فريضة ليعقوب وعهداً ابدياً لشعبه" (مز105/1-10

 

اولاً، انجيل رحمة الله

 

1.                           انجيل الرحمة

 

اعتلن انجيل الرحمة بمولد يوحنا وباسمه الذي يعني الله رحوم  " يهوحنان". وهو اعتلان يشمل تجليات رحمة الله في العهد القديم، ويوحنا آخر انبيائه، ويفتتح تجلياتها في العهد الجديد، ويوحنا رسوله الاول. تجلى الله الرحوم في المسيح وبواسطته، وجسّد المسيح الرحمة في شخصه، وكأنه ألبسها شخصه. لقد اصبح هو الرحمة، فمن رآها فيه، تجلى له الآب بصورة خاصة على انه " غني بالرحمة" ( افسس 2/4؛ البابا يوحنا بولس الثاني: في الرحمة الالهية،2). والرب يسوع جعل الرحمة مسلكاً جوهرياً ورسالة في حياة الانسان وطوّبه عليها: " طوبى للرحماء فانهم يُرحمون" (متى5/7).

مريم، في بيت يوحنا، اأنشدت " رحمة الله من جيل الى جيل" ( لو1/50)، مستبقة اختبارها لها عندما شاركت في كشف رحمة الله ونشرها بتضحية قلبها مع ابنها المصلوب، وبقبول سرّ الفداء الالهي، حيث التقت العدالة الالهية السامية والمحبة، فكانت الرحمة التي هي " القبلة المطبوعة على جبين العدالة" (مز85/11). ولهذا لُقّبت مريم، ام الله، "بأم الرحمة وسيدة الرحمة وام المحبة الرحيمة" (في الرحمة الالهية،9). ولهذا لا سلام في داخل الانسان وبين الناس ولا غفران، بدون عدالة ملطفة بالرحمة، اي بدون انصاف. عندما نقول عدالة نعني التساوي في الحقوق والواجبات. وعندما نقول رحمة نعني مشاعر الانسانية والشفقة واحترام الشخص البشري وكرامته والمغفرة. العدالة والرحمة مجتمعتان تشكلان الانصاف.

لقد طبع " انجيل الرحمة"  القوانين الكنسية بالانصاف، حتى انها تخضع كلها لقاعدة عامة تنيرها: "خلاص النفوس يجب ان يكون دائماً في الكنيسة الشريعة الاسمى" (ق1440)، كل قانون في الكنيسة ينبغي ان يكون في خدمة التدبير الالهي الذي يخلص كل انسان بالمسيح. فالانسان هو طريق الكنيسة الاول والاساسي وغايتها الاولى، لانه مفتدى بدم المسيح. (البابا يوحنا بولس الثاني: فادي الانسان،14).

لفظة " انصاف"  تعني في الكتاب المقدس رحمة الله وحنانه تجاه الانسان. وتعني امانته لهما، مهما ابتعد عنه الانسان او اساء اليه او انكره: " الرب اله رحيم ورؤوف، طويل الاناة كثير الرحمة والوفاء، يحفظ الرحمة لالوف الاجيال، ويحتمل الاثم والمعصية والخطيئة، ولكنه لا يترك شيئاً دون عقاب" (خروج34/6-7). تصلي الكنيسة: " الرب رؤوف رحيم طويل الاناة كثير الرحمة، لا على الدوام يخاصم ولا للابد يحقد ولا على حسب خطايانا عاملنا. بل كارتفاع السماء عن الارض عظمت رحمته على الذين يتقونه" ( مز103/8-11). ويؤكد اشعيا غفران الله المرتبط بعدله: " لذلك ينتظر الرب المناسبة ليرحمكم، لانه اله عدلٍ لجميع الذين ينتظرونه" (اش30/18).

بولس الرسول ينطلق من " انصاف المسيح" (2كور10/1)، الظاهر في وداعته وحلمه وهو ملك السماوات (فيليبي 2/5-11)، ويدعو كل صاحب سلطة  ان يتصف بالانصاف (اعمال 24/4). بولس نفسه يصف الانصاف بأنه "عدالة طبيعية" بمعنى الشريعة المكتوبة في الضمائر بمعزل عن الدين: " فالوثنيون الذين بلا شريعة، اذا عملوا، بحسب الطبيعة، ما تأمر به الشريعة، كانوا شريعة لانفسهم، هم الذين لا شريعة لهم، فيدلون على ان ما تأمر به الشريعة من الاعمال مكتوب في قلوبهم، وتشهد لهم ضمائرهم وافكارهم، فهي تارة تشكوهم وتارة تدافع عنهم" (روم2/14-15).

لهذا اوصت الكنيسة دائماً القضاة بأن يتحلوا بالانصاف كصفة ضرورية للقيام بواجباتهم في تطبيق الشرائع وتفسيرها. فالانصاف يفترض المحبة وهذه تمكّن القاضي من ان يجعلها الروح في قراراته، ويتجنّب الحرف الذي يقتل، وياخذ بعين الاعتبار الشخص البشري ومقتضيات وضعه وظروفه. هذا الانصاف يحمله عادة على تطبيق القانون وتوزيع العدالة باكثر انسانية وتفهّم (البابا بولس السادس، في خطابه لقضاة الروتا الرومانية، 8 شباط 1973). واوصت الكنيسة ايضاً المشترع بالاستناد الى الانصاف في صياغة القوانين وتفسيرها وتطبيقها، من اجل تلطيف شدة القانون، بحيث يأتي ملائماً للحالات الراهنة، مستلهماً روح الرحمة والعطف والمبادىء الخلقية والقيم التي تشكل الاساس لقيام اي نظام اجتماعي على المستوى المحلي والدولي ( البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة الى المؤتمر القانوني السادس عشر في جامعة اللاتران بروما، في 21 اذار 2002، الفقرة 5- 6).

في هذا الضوء ندرك الظلم الكبير والضرر في الحياة الاجتماعية والوطنية، عندما يسيّس القضاء او عندما يمارسه  الحكم الديكتاتوري والتوتاليتاري. وندرك ايضاً ابعاد " انجيل الرحمة" المعلن يوم مولد يوحنا المعمدان.

 

2.                                التربية على الرحمة والانصاف كأساس للسلام

 

العائلة هي المدرسة الاساسية للتربية على الرحمة والانصاف، لان في عائلة زكريا واليصابات ويوم مولد يوحنا اعتلن انجيلهما. " فلما " ولدت اليصابات ابناً، سمع جيرانها وانسباؤها ان الله اكثر رحمته لها ففرحوا معها"، فكان انجيل الرحمة. ولما طلب زكريا لوحاً وكتب: اسمه يوحنا، انفتح للحال فمه ولسانه، وتكلم ممتلئاً من الروح القدس وبارك الله" (انظر نشيده: لو1/67-79)، فكان الانصاف.

 في العائلة يجد الافراد اول تلقين للفضائل الاجتماعية التي تنعش حياة المجتمع وتعمل على تطويره. عندما عيش افراد العائلة في شركة الحياة وتقاسم الخيرات، يتوفر للاولاد الاسلوب التربوي الاكثر واقعية. وفوق ذلك يشكل اختبار الشركة والتقاسم يشكل المساهمة المهمة والاساسية في انسنة المجتمع. وعندئذ  تتطور العلاقات بين اعضاء الجماعة العائلية على اساس الكرامة الشخصية والاستعداد السخي للخدمة المجردة والتضامن عميق" (ص435).

الرحمة والانصاف ينبعان من فضيلتين اساسيتين، المحبة والعدالة اللتين تثمران سلاماً.

السلام هو ثمرة المحبة وفعلها الخاص والمميّز. فلأن الله محبة، هو اله السلام؛ ولآن محبة المسيح بلغت ذروتها في صليب الفداء، فالمسيح امير السلام. من يحب يزرع السلام.

والسلام ثمرة العدالة ( اشعيا 32/17)، لان هذه تشمل كل مساحات الشخص البشري، فتؤمن كل ما هو متوجب له، وتضمن احترامه في كرامته، وتوجه العيش معاً الى الخير العام، وتعزز حقوق الانسان. وبذلك تبني مجتمعاً سليماً، وتضع الاسس لانماء الافراد والشعوب انماءً شاملاً.

هذا السلام، بمفهومه اللاهوتي والاجتماعي، اعلنه يوحنا المعمدان ويناضل في سبيله، عندما كان يدعو الشعب الى التوبة ويحرّضهم على اعطاء ثمار تليق بها، وعندما كان ينادي بتقويم سبل الله في برّية هذا العالم ( متى3/2 و3 و8). وبهذا تحققت نبؤة ابيه زكريا يوم مولده: " سينير الجالسين في الظلمات وظلال الموت، ويقود خطانا في طريق السلام" ( لو1/79).

**

ثانيا، اعياد هذا الاسبوع

 

تحتفل الكنيسة بعيد الحبل بلا دنس ( 8 كانون الاول)

عندما تكونت مريم في حشا امها حنه بعد ان حبلت بها من زوجها يواكيم، عصمها الله منذ اللحظة الاولى من خطيئة آدم التي يرثها كل مولود لامرأة، والمعروفة بالخطيئة الاصلية. ثم في حياتها الخاصة " عصمت" نفسها من اي خطيئة فعلية. هذه العقيدة اعلنها الطوباوي البابا بيوس التاسع في 8 كانون الاول 1854، وايّدتها مريم الكلية القداسة لبرناديت في ظهورات لورد، بعد اربع سنوات، في 11 شباط 1858، فلما سألت الصبية هذه " المرأة الفائقة الجمال" عن اسمها، أجابت: " انا الحبل البريء من الدنس".

 من سفر التكوين الى رؤيا يوحنا يظهر " سر المرأة"، التي هي مريم، سرّ شخصها ورسالتها، ومعه ينكشف تصميم الله الخلاصي تجاه البشرية (ام الفادي،47).

في سفر التكوين تظهر المرأة، رمز العذراء مريم، في عداوتها للحية- الشيطان، وفي اتحادها بالمسيح الفادي ونسله: " واجعل عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها: فهو يسحق رأسك وانت تصيبين عقبه" ( تك 3/15). وفي رؤيا يوحنا تظهر المرأة في شخصها ورسالتها: " وظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها اكليل من اثني عشر كوكباً، حاملٌ تصرخ من ألم المخاض، وضعت ابناً ذكراً فخُطف الى حضرة الله من وجه التنين العظيم الذي ألقي الى الارض (بموت المسيح وقيامته)، فغضب على المرأة ومضى يجارب سائر نسلها الذين يحفظون وصايا الله، وعندهم شهادة يسوع المسيح، واقفاً على رمل البحر" (رؤيا12). مريم هي، وفق هذه الرؤيا، ممتلئة نعمة بالتحافها الشمس، وباسطة ملكها على الخلق اجمع بارتفاعها فوق القمر، واسمى من الملائكة باكليلها المرصّع وشريكة الفداء بالآم المخاض، وقاهرة الشيطان- التنين العظيم، وتشفع باخوة ابنها على شط هذا العالم.

عند دخول مريم بيت اليصابات، وابن الله المتجسد جنين في حشاها، تقدس يوحنا وغّسل من الخطيئة الاصلية، وامتلأت اليصابات من الروح القدس وتنبأت عن الام والجنين الذي في حشاها (لو1/39-45)، وعندما ولد يوحنا، ومريم ما زالت هناك، امتلأ زكريا ابوه من الروح القدس وتنبأ بدوره عن ابنه الذي ارسله الرب الاله افتقاداً لشعبه، وقياماً لعهد خلاص معه من جميع الاعداء والمبغضين، واداة رحمة، وفقاً لوعده لأبي الشعوب ابراهيم (لو 1/68-74).

الحدث الاساس كان انتصار المرأة، مريم حواء الجديدة، على الشيطان . وهو انتصار تحقق يوم تكونت مريم في حشا امها معصومة من الخطيئة، استباقاً لاستحقاقات من سيكون ابنها،الفادي الالهي، وتدشيناً لهذا الانتصار الدائم الذي سيحققه المخلص في الجنس البشري بواسطة مريم. في الواقع كان يوحنا اول المنتصرين وهو في بطن امه. وهو بدوره، كاول رسول في العهد الجديد المسيحاني، عهد انتصار النعمة، سيبدأ منذ مولده بأن " ينمو ويتقوى بالروح القدس" ( لو1/80).

بفضل امتلاء مريم من النعمة والروح القدس، اصبحت " بريئة من دنس الخطيئة الاصلية، وبالتالي شريكة الفداء بانتصارها على الحية ( تك 13/5) وعلى التنين (رؤيا12)، ووسيطة الخلاص التي تحمل  يسوع الى البشر وتحملهم اليه، وفي كل ذلك هي " ايقونة الروح القدس"، وصورة الكنيسة الشاهدة للرحمة والممارسة لها في اسرار الخلاص، ولاسيما في المعمودية والتوبة والقربان.

 

وتضع الكنيسة تذكار قديسين شهدوا لانجيل يسوع المسيح، انجيل الرحمة والمحبة.

 

القديسة برباره الشهيدة ( 4 كانون الاول)

اسشهدت سنة 235 بقطع رأسها في عهد الوالي الروماني مركيانوس. هي في الاصل وثنية من عائلة غنية، اهتدت للايمان بالمسيح واعتمدت وامرت خدّام بيتها بتحطيم تماثيل الالهة الاصنام، ونذرت بتوليتها للرب يسوع، وراحت تشهد له، وتتحمل ما انزل بها والدها الوثني والوالي الروماني من آلام، وكان المسيح يشفيها ويبدد جراحها وآثارها عن وجهها.

 

القديس سابا (5 كانون الاول)

راهب ناسك وكاهن رقد بالرب سنة 532 في ضواحي اورشليم. امتاز بممارسة التقشف والصلاة والتسامي بالفضائل. اقبل عليه الرهبان والنساك فبنى لهم ديراً وانشأ مناسك وبيوتاً لخدمة المرضى والفقراء بفضل ما سلّمته امه من مال بعد موت والده. انتدبه بطريرك اورشليم الى الملك البيزنطي في القسطنطينية للتوسط ورفع الظلم، فكان يلقى كل تجاوب وتكريم بفضل مهابته ووقاره.

 

القديس امبروسيوس اسقف ميلانو (7 كانون الاول)

ولد في فرنسا حيث كان والده والياً. وعادت به امه الى روما حيث ربّته تبية مسيحية صالحة مع شقيقته وشقيقه. دخل سلك الكهنوت وحاز ثقافة فلسفية ولاهوتية رفيعة واصبح اسقف ميلانو فرعى شؤونها بالعدل والاستقامة. على يده ارتدّ اغسطينوس الى التوبة. جمع بين فضيلتي التواضع والشجاعة، ولم يكن يهاب احداً من عظماء الدنيا اياً كان في الدفاع عن الحق والعدل.

منع الملك تيودوسيوس دخول الكنيسة وحضور القداس بسبب قتله ابرياء في تسالونيكي قائلاً له: " لا يجوز لك، ايها الملك، ان تدخل بيت الله بيدين ملطختين بدم الابرياء، ما لم تتقدم من سرّ التوبة وتعوّض عن الضحايا وعن اثمك".

ولما تحقق الاسقف توبته مدة ثمانية اشهر في قصره محروماً، اذن له بدخول الكنيسة وحضور الذبيحة الالهية، فكان التاأثر العميق بادياً على  وجه الملك والشعب.

وامتاز امبروسيوس بمحبته للفقراء والمحتاجين، وكان شغوفاً بالعبادة للعذ1راء مريم. فألف نشائد عديدة بمديحها.

 

**

 

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

        تستعرض الخطة الراعوية علامات اخرى للرجاء، استكمالاً للتفكير معاً في النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، وهو بعنوان: " كنيسة الرجاء"

           

1.     جاذبية الكنيسة ( فقرة 22).

 

من علامات الرجاء في حياتنا اليوم جاذبية الكنيسة بفضل قديّسيها الذين أتموّا ارادة الله في مساعيهم ومشاريعهم، وصمدوا بوجه المصاعب والمحن والاضطهادات، وبفضل الامانة للمسيح وانعكاس وجهه.

تظهر جاذبية الكنيسة في كونها تستقطب الشبان والفتيات لتكريس حياتهم للمسيح والكنيسة، في الحياة الكهنوتية والرهبانية؛ وتغذّي المؤمنين بما تقدم لهم في صلواتها وليتورجيتها؛ وتعزز نهضة روحية على مستوى الشبيبة في الانتساب الى الاخويات ومخنلف الحركات والمنظمات الرسولية، وفي القيام بنشاطات متنوعة في اطار الرعية والابرشية والمجتمع.

وتبقى الكنيسة، بفضل رعاتها، ملاذاً ومرجعاً يهرع اليه المؤمنون لسماع كلام الحق، وللدفاع عن الانسان وحقوقه، وكرامته، وللذود عن سيادة الوطن وشرفه.

 

2.     توق الى التجدد ( 23).

 

ومن علامات الرجاء هذا  التوق الى التجدد الذي نشهده على المستوى الشعبي وبخاصة على مستوى الشبيبة، التوّاقين الى حياة روحية اصيلة على خطى القديسين اللبنانيين شربل ورفقا ونعمة الله.

تقتضي الخطة الراعوية ايجاد السبل لتعزيز هذا التجدد وجعله شمولياً.

 

3.   مبادرات تضامن (فقرة 24).

 

  في قلب محنة الحرب والهجرة والتهجير، سطعت علامة رجاء على الصعيد الاجتماعي في مبادرات التضامن التي قام بها  افراد ومنظمات ومؤسسات. وكانت مشاريع وحملات تبرع شملت المدارس والجامعات والرعايا. وبسبب هذا الوعي، راح المربّون يوجهون الشبيبة الى نشاطات تطوّعية استكمالاً لتنشئتهم.

تسعى الخطة الراعوية الى رسم مساحات للتضامن، بحيث يشعر الجميع اننا مترابطون بعضنا ببعض، واننا مسؤولون كلنا عن كلنا. فلا بدّ من تنظيم خدمة المحبة والتضامن، وتعزيز حضارة التقاسم.

 

***

        

صلاة

         ايها القديس يوسف، حارس يسوع وعريس مريم البتول، لقد انصرفت بكليتك الى خدمة الكنزين الاغليين، يسوع ومريم، بالعمل اليدوي والصلاة، بالمحبة والتعب. اليك نلجأ لتعيننا في تحمّل مسؤولياتنا في العائلة والكنيسة والمجتمع. هب لنا الادراك اننا لسنا لوحدنا في العمل والمسعى، فنعرف كيف نكتشف حضور يسوع الى جانبنا، ونقبله بالكلمة والنعمة، ونشهد له في المحبة التي تطبع شؤوننا الزمنية. اعطِ  كل مسيحي مخلص، حيثما يتواجد، ان يتقدس نشاطه بالمحبة والصبر والعدالة والخير، فتنزل على عالمنا غزيرة عطايا الله الذي منه كل صلاح وخير، له المجد الى الابد، آمين
    ( من صلاة الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين).


الاحد 17 كانون الاول 2006

البيان ليوسف

الله في كشف دائم لمقاصده الخلاصية

 

من انجيل القديس متى 1/ 18-25

 

        قال متى الرسول: أما ميلاد يسوع المسيح فكان هكذا: لما كانت أمه مريم مخطوبة ليوسف، وقبل ان يسكنا معاً، وجدت حاملاً من الروح القدس. ولما كان يوسف رجلها باراً، ولا يريد ان يشهّر بها، قرر ان يطلقها سراً. وما إن فكر في هذا حتى تراءى له ملاك الرب في الحلم قائلاً: " يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، فالمولود فيها إنما هو من الروح القدس. وسوف تلد ابناً، فسمه يسوع، لانه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم". وحدث هذا كله ليتم ما قاله الرب بالنبي: " ها إن العذراء تحمل وتلد ابناً، ويدعى اسمه عمانوئيل، اي الله معنا". ولمّا قام يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها، فولدت ابنهاً. وسماه يسوع.

**

   
الملاك الذي بشّر زكريا ومريم في اليقظة، هو اياه بشّر يوسف في الحلم. هكذا تكتمل البشارات الثلاث التي اوحى الله فيها ذاته المتجلية في الكلمة المتجسد يسوع المسيح، وكشف سرّ الانسان كمعاون لعمل الله الخلاصي في شخص يوحنا المعمدان ومريم ويوسف، وابان ان العائلة هي المكان الذي يتواصل فيه الوحي واعلان مقاصد الله.

 

اولاً، مضامين النص الانجيلي

 

1.                                 تكامل البشارات الثلاثاء

 

أوحى الله  ذاته بشكل متكامل وكشف سر الانسان:

 في البشارة لزكريا بمولد يوحنا(لو1/5-25)، اوحى الله ذاته انه صادق في الوعد، ومستجيب لصلاة الابرار، ومفتقد شعبه السائر في ظلمات هذه الدنيا، واله غني بالرحمة. وكشف  سرّ الانسان بشخص يوحنا المعمدان، هو الصوت الذي يسبق الكلمة ويعبّر عنها، والبشير الناطق بكلام الله، والفجر الذي يعكس اقتراب طلوع الشمس، والسابق الذي يمهّد طريق المسيح الى القلوب والعقول.

 في البشارة لمريم بتجسد ابن الله وامومتها له (لو1/26-37)، اوحى الله ذاته بشخص المسيح انه اله واحد مثلث الاقانيم: آب خالق بحبه، وابن مخلص بتجسده، وروح قدس محيي ومقدِس بحلوله، وان المسيح كلمة الله المتجسد يوطّد في الارض ملكه الدائم الى الابد، هو ملكوت الله الظاهر في الكنيسة السر والشركة والرسالة، مبتدئاً في التاريخ على الارض ومكتملاً بالابدية في السماء. وكشف الله سرّ الانسان بشخص المرأة مريم التي هي زوجة تحب وام تعطي الحياة، وعذراء طاهرة تقدم ذاتها بسخاء وتجرّد من دون حساب وام نقية روحية تشفع وتحمي وتواكب الحياة البشرية من البداية حتى النهاية، وانثى تؤنسْ المجتمع وتنعش البيت كما الروح ينعش الجسد.

 في البشارة ليوسف بابوته ليسوع المخلص وببتولية مريم خطيّبته ( متى1/18-25)، اوحى الله ذاته انه بشخص الابن الذي يصبح انساناً اسمه في التاريخ يسوع اي " الله الذي يخلص شعبه من خطاياه"، ويتضامن مع كل انسان في شتى مراحل حياته، ويحضر بقربه في كل ظروفه وحالاته بكلمته ونعمته ومحبته الى منتهى الدهر، لكونه " عمانوئيل- الهنا معنا ". وكشف سرّ الانسان بشخص يوسف الذي هو زوج امين للوعد يتعهد شريكة الحياة باخلاص ويحمي كرامتها، واب محب يتفانى بالعمل في اعالة الاسرة ورعاية الحياة البشرية، ورجل مسؤول يحافظ على الكنزين: الام وابنها، ومعطيهما هوية عائلية واسماً في سجل العائلة البشرية، ومربٍ لابنه بالمثل والعمل.

 

3.                                  الحبل بلا دنس الاساس البعيد للبيان ليوسف

4.                                   

احتفلت الكنيسة في الاسبوع الماضي بعيد الحبل بلا دنس الذي يأتى بمثابة اساس للبيان ليوسف تكامل مع البشارة لمريم.

البراءة التي اعلن بها  الطوباوي البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بلا دنس في 8 كانون الاول 1854، وعنوانها: "الله غير المدرك" ( Ineffabilis Deus)، قالت: " ان الله غير المدرك اختار مرة منذ البدء وقبل الدهور اماً لابنه الوحيد الذي سيولد منها بالجسد وهو المولود من قلب الآب مساوياً له في جوهر الالوهة، وجعلها فوق جميع الخلائق، متقدمة على الملائكة وجميع القديسين، واغناها بغزارة المواهب الفائضة من كنز الالوهة، وحررها من كل دنس خطيئة وجمّلها بكمال البراءة والقداسة، وعصمها من وصمة الخطيئة الاصلية ونصرها على الحية القديمة، وزيّنها ببهاء القداسة الكاملة". ويضيف البابا  في براءته: " لمجد الثالوث الاقدس، ولاكرام لائق بالعذراء والدة الاله، ولتعزيز الايمان الكاثوليكي والدين المسيحي، اناّ بسلطان سيدنا يسوع المسيح والرسولين بطرس وبولس وبسلطاننا نحدد ونعلن  العقيدة بان العذراء مريم الكلية الطوبى، بنعمة خاصة وامتياز من الله القادر على كل شيء،  حفظت من كل دنس الخطيئة الاصلية منذ اللحظة الاولى للحبل بها، استباقاً لاستحقاقات المسيح يسوع مخلص الجنس البشري. انها عقيدة موحاة من الله، ينبغي على جميع المؤمنين الايمان بها بثبات وشكل دائم".

في البيان ليوسف انكشف الوحي الالهي بشأن عقيدة الحبل بلا دنس بطريقة غير مباشرة.

 مريم زوجة يوسف، التي لم تنتقل بعد الى بيته ولم تساكنه، هي العذراء الحبلى من الروح القدس بيسوع " الاله الذي يخلص شعبه من خطاياه". المرأة العذراء نبؤة نجدها في الصفحة الاولى من سفر التكوين، حيث تظهر مع ابنها بدون رجل: " اجعل عداوة بينكِ ( الحية القديمة- الشيطان) وبين المرأة، بين نسلكِ ونسلها، هو يسحق رأسكِ، وانت تترصدين عقبه" ( تك3/15). يكشف اشعيا مضمون النبؤة: "يؤتيكم الرب آية، ها ان العذراء تحبل فتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل"  (اشعيا 7/14). ونجد  رموزها العديدة في كتب العهد القديم: العليقة المتقدة التي رآها موسى تلتهب ولا تحترق، وكان منها نداء الله لخلاص شعبه ( خروج3/1-11)؛ عصا هارون التي ابتلعت عصي سَحَرَة مصر التي انقلبت تنانين (خروج7/12)؛ جزّة جدعون التي ملأها الندى ( قضاة 6/38)؛ العروس البستان المقفل والينبوع المختوم ( اناشيد4/12).

كانت ان مريم الام العذراء تحفظ في صميم قلبها الرغبة في تكريس ذاتها لله وحده تكريساً كاملاً، بحيث تقف ذاتها كلياً له وحده، كما نفهم من سؤالها للملاك: " كيف يكون هذا وانا لا اعرف رجلاً"( لو1/34). لكن الله سبق وكرّسها له في اللحظة الاولى للحبل بها، تكريساً عصمها من خطيئة آدم الاصلية. واليوم يحقق  رغبتها في تكريس بتوليتها له بصيرورتها حصراً اماً لابن الله  بفعل الروح القدس ( البابا يوحنا بولس الثاني: حاري الفادي،18). امومتها لابن الله بالجسد هي ثمرة تكريسها المزدوج المصدر: تكريس من الله وتكريس منها.

 مريم زوجة يوسف هي المرأة الحامل بفعل الروح القدس: " لا تخف يا يوسف ان تأخذ مريم امرأتك، لان الذي ولد فيها هو من الروح القدس" ( متى1/20). لقد رأها يوحنا الرسول في بهاء سرّها ورسالتها كأم المسيح الاله وام جسده السري، الكنيسة: "  ظهرت آية عظيمة في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها اكليل من أثني عشر كوكباً، حاملٌ تصرخ من ألم المخاض. وظهرت آية اخرى: تنين كبير اشقر  له سبعة رؤوس وعشرة قرون... وقف امام المرأة التي توشك ان تلد، حتى اذا وضعت ولدها ابتلعه" ( رؤيا 12/1-4).

رؤيا يوحنا ترجمت نبؤة سفر التكوين (3/15)، وافتتحت نبؤة العهد الجديد: " يا امرأة هذا ابنك" ( يو19/26)، وهي امومة مريم بالنعمة للكنيسة، جسد المسيح السري، وللجنس البشري؛ وكشفت ان الكنيسة هي على صورة مريم، عذراء وام، ام ومعلمة؛ واظهرت بُعدها النهيوي- الاسكاتولوجي، اعني انتصار الكنيسة الدائم على التنين وسائر قوى الشر: " ابواب الجحيم لن تقوى عليها" ( متى16/18)، وهي قوى الشر" القائمة على رمال بحر هذا العالم، تحارب سائر نسل المرأة الذين يحفظون وصايا الله، والذين لهم شهادة يسوع" ( رؤيا12/17-18).

في لوحة البيان ليوسف، انكشف سرّ الرجل في عمل الله الخلاصي، الى جانب المرأة. حاول يوسف ان يخلي سبيل مريم سراً  ( متى1/19)،  بعد ان قرر انسحابه لئلا يعرقل الخطة الالهية التي باتت تتحقق في مريم". لكنه ادرك ان الخطة الالهية تشمله هو ايضاً كزوج لمريم وابٍ شرعي ليسوع ومربٍّ له.

 فالله يريده، بقوة العهد الزوجي، شريكاً لمريم في كرامتها السامية، ورفيقاً لحياتها، وشاهداً لبتوليتها، وحارساً لشرفها. ويريده اباً لابنه الالهي، لا بالانجاب، بل باعطاء الاطار البشري لأسرة ابن الله. فهو الاب بالاصالة البشرية وحامل كل دور الاب في العائلة. ويدعوه الى كمال حبه الزوجي لمريم، مجدداً اياه بالروح القدس، فوهب يوسف كل ذاته وحياته وعمله لمريم، وحوّل دعوته البشرية  لتأسيس عيلة الى  تقدمةً ذاته وقلبه وجميع طاقاته وبذلها في خدمة المخلص المولود في بيته (حارس الفادي،8 و10 و21). هكذا، بطاعة الايمان أخذ يوسف مريم الى بيته واحترم تكرسّها المطلق لله" فلم يعرفها، وولدت ابنها البكر" (متى1/25).

 

2.                            القديس يوسف معلم ثقافة السلام

 

            عاش يوسف البار في مخافة الله، ساعياً الى مرضاته، ما جعله في حالة اصغاء دائم لما يقول الرب ويوحي، في اليقظة وفي الحلم. فاتّصف بالحكمة التي مكّنته النظر الى احداث حياته من منظار الله: " لما قام من نومه، صنع كما امره ملاك الرب، فاخذ مريم امرأته الى بيته، ولم يعرفها، فولدت ابنها البكر، يسوع". انها ثقافة السلام.

        لقد حمى يوسف كرامة مريم خطيبته البريئة، وهي البتول الحبلى بيسوع بقوة الروح القدس، دون ان يشك بشأن حبلها. جابه النزاع بتجنّب اللجوء الى القضاء، وفكّر بتخلية مريم سراً. هذا الموقف يشكلّ الاساس في بناء السلام. جميع القوانين تدعو الى الحلول السلمية مثل المصالحة والتحكيم والتسوية، قبل الذهاب الى المحاكمة القضائية البغيضة. لم يشك يوسف ببراءة مريم، فسعى الى حمايتها.

        السلام يوجب حماية الابرياء، على مستوى الافراد والشعوب. في كثير من الظروف السكان المؤنيون يُضربون ويُستهدفون في النزاعات المسلحة. يُقتلون ويُهجرون من بيوتهم وأراضيهم بطريقة وحشية. وتُعطّل مصالحهم وتُخرّب مؤسساتهم، وتقطع طرقاتهم، وتُدمّر جسور معابرهم. هذا ما عشناه مؤخراً في لبنان في الحرب المدمّرة التي فرضت عليه طيلة 33 يوماً في تموز – آب 2006. ان الشرع الدولي الانساني يقضي بحماية الابرياء، فيجب احترامه. كم العالم بحاجة الى انسنة!

        ونحن ايضاً المؤتمنين على السلام، عطية الله للبشرية بشخص يسوع المسيح، الذي نستعد لاستقباله في قلوبنا، مدعوون الى التشبّه بفضيلتي القديس يوسف البتول، الحكمة ومخافة الله. بالحكمة نستلهم انوار الروح القدس لننظر الى احداث حياتنا والى الاشخاص من منظار الله، بروح الحنان والانصاف. وبمخافة الله نسعى في كل موقف وقرار وعمل الى مرضاة الله، مدركين اننا اليه تعالى نسيء عندما نرتكب الاساءة الى الانسان. الحكمة ومخافة الله تحميان الابرياء، وتبنيان ثقافة السلام.

**

ثانياً، وجوه عاشت في الحكمة ومخافة الله

 

        من بين القديسين المعاصرين الجدد، نذكر وجهين من العلمانيين المؤمنين بالمسيح، بلغا الى القداسة من خلال نشاطهما الزمني في الطب والادارة المدنية، وعززا ثقافة السلام.

        القديس جوزبّي موسكاتي (Giuseppe Moscati) (1880-1927)

        اعلنه قديساً البابا يوحنا بولس الثاني. هو طبيب ورئيس قسم في مستشفى مدينة نابولي. تربّى في عائلة مسيحية حقة، اختبر الألم الخلاصي بوفاة الوالد عندما كان طالباً جامعياً، وبوفاة  شقيق له بعمر 32 سنة بداعي المرض. عاش الدعوة الى القداسة في حياته العلمانية، وقال عنه البابا يوحنا بولس الثاني ان هذا القديس يدعو العلمانيين الى اعتبار دعوتهم الى القداسة كأبناء للكنيسة.

 

        الطوباوي البرتو مارفيلّي (Alberto Marvelli) (1918-1946)

        أعلنه البابا يوحنا بولس الثاني طوباوياً في 5 ايلول 2004. تربى في عائلة من ستة اولاد، وانتمى الى منظمة العمل الكاثوليكي فإلى الحزب الديموقراطي المسيحي في ايطاليا وانتخب عضواً في مجلس بلدية مدينة ريميني(Rimini). خدم المحبة اثناء الحرب الكونية الثانية واتخذ مواقف إيمانية وجعل من القداس اليومي ينبوع نشاطه الكنسي والاجتماعي والسياسي مقتنعاً بضرورة العيش بشكل كامل كإبن لله في التاريخ. توفي بحادث سير وهو بعمر 28 سنة.

 

**

ثالثاً، الخطة الراعوية

 

        وفي زمن المجيء والميلاد، وهو زمن الرجاء، تواصل الخطة الراعوية التفكير معاً، على مستوى الجماعات في الكنيسة والمجتمع، حول " كنيسة الرجاء" وهو عنوان النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني، فنفكّر سوية في علامات الرجاء.

1.    الرسالبة في المحيط المشرقي ( فقرة 25)

يذكّرنا النص المجمعي ان للمسيحيين في هذا الشرق، الذي تدين اكثرية سكانه بالدين الاسلامي، رسالة لها جذورها التاريخية ومبرراتها، ولو كانت محفونة بالاخطار. ان حضورهم هو للشهادة والرسالة والخدمة. هذا ما ردده بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالاتهم الراعوية المشتركة. لهذه الثلاثة كان خيارهم في هذا الشرق، والتزامهم بالعيش المشترك القائم على الاحترام والحوار والتعاون لبناء وطن يسوده الحق والعدل.

تقتضي الخطة الراعوية من الجماعات اتخاذ مبادرات عملية لاداء الشهادة والقيام بالرسالة وتأدية الخدمة، في ضوء انجيل اليوم.

 

2. وعي المسيحيين العوام دورهم في حياة الكنيسة ورسالتها ( فقرة 26).

ان هذا الوعي آخذ في التنامي، ولاسيما على مستوى الشبيبة والمرأة. يشير النص المجمعي الى مساهمة الاخويات والمنظمات الرسولية، ومعاهد التثقيف الديني، ووسائل الاعلام الدينية، في تنامي هذا الوعي,

تقتضي الخطة الراعوية ايجاد السبل لتعزيز الانتماء الكنسي، على مستوى المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها، والتشجيع على القيام بالمهمات الكنسية على صعيد الرعية والابرشية واللجان الاسقفية الراعوية. يبقى القديس يوسف البتول النموذج والمثال.

 

**

صلاة

 

 ايها القديس يوسف، شفيع الكنيسة، انت العامل الصامت في كرم الرب، من اجل حراسة الكنزين الاغليين مريم ويسوع. مساهماً في حياة ورسالة الكنيسة الناشئة في الناصرة، بارك كنيستنا المحلية، في الرعية والابرشية والوطن، اعضدها دائماً وسرّ بها الى الامام في طريق الامانة للانجيل. اعطِ ابناءها وبناتها نعمة الالتزام في حياتها ورسالتها، على مثالك. ساعدنا لكي نصغي الى الهامات الروح. احمِ السلام في العالم، هذا السلام الذي يستطيع وحده ضمانة ترقي الشعوب، وتحقيق الآمال البشرية. نسألك ذلك من اجل خير البشرية ورسالة الكنيسة اومجد الآب الذي اختارك والابن الذي شرّفك بابوته والروح القدس الذي قاد خطاك وقراراتك،  للاله الواحد الحق كل مجد واكرام. آمين
    ( مقتبسة من صلاة البابا بولس السادس).


الاحد 24 كانون الاول 2006

 

نسب يسوع

 

أنسنة الحياة البشرية والمجتمع

 

من انجيل القديس منى 1/1-17

        فال متى الرسول: كتاب ميلاد يسوع المسيح، إبن داود، إبن ابراهيم: ابراهيم ولد إسحق، إسحق ولد يعقوب، يعقوب ولد يهوذا واخوته، يهوذا ولد فارص وزارح من تامار، فارص ولد حصرون، حصرون ولد آرام، آرام ولد عميناداب، عميناداب ولد نحشون، نحشون ولد سلمون، سلمون ولد بوعز من راحاب، بوعز ولد عوبيد من راعوت، عوبيد ولد يشى، يشى ولد داود الملك.

        داود ولد سليمان من امرأة أوريا، سليمان ولد رحبعام، رحبعام ولد أبيا، ابيا ولد آسا، آسا ولد يوشافاط، يوشافاط ولد يورام، يورام ولد عوزيا، عوزيا ولد يوتام، يوتام ولد أحاز، آحاز ولد حزقيا، حزقيا ولد منسى، منسى ولد آمون، آمون ولد يوشيا، يوشيا ولد يوكنيا وإخوته، وكان السبي الى بابل.

        بعد السبي الى بابل، يوكنيا ولد شألتيئيل، شألتيئيل ولد زربابل، زربابل ولد ابيهود، ابيهود ولد إلياقيم، إلياقيم ولد عازور، عازور ولد صادوق، صادوق ولد آخيم، آخيم ولد إليهود، إليهود ولد إليعازر، إليعازر ولد متان، متان ولد يعقوب، يعقوب ولد يوسف رجل مريم، التي منها ولد يسوع، وهو الذي يدعى المسيح.

        فجميع الاجيال من ابراهيم الى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود الى سبي بابل اربعة عشر جيلاً، ومن سبي بابل الى المسيح أربعة عشر جيلاً.

 

**

 

نسب يسوع الى العائلة البشرية يعني ان ابن الله ، الكلمة الالهي، صار انساناً بين الناس ، مواطناً في هذا العالم ، خاضعاً للشريعة ، لكنه مخلص العالم . نسبه يبيّن مسيحانيته: فهو " مشتهى الامم " الذي انتظرته الشعوب وتاقت اليه وصلّت : " ذابت نفسي شوقاً الى خلاصك " ( مز118/81). الاسماء المدوّنة في شجرة نسب يسوع ترمز الى كل الشعوب في كل حالاتها : المؤمنة والوثنية والبارّة والخاطئة . هذا يعني ان يسوع المسيح هو الالف والياء، وقلب التاريخ، ومحور البشرية . من سبقه ذاب في انتظار مجيئه ، ومن تلاه يذوب في انتظار تجلّيه. " فمنذ البدء الى منتهى الازمنة ، لم يعرف الانتظارايَّ توقف الاّ في الفترة التي عاشها المسيح على الارض برفقة تلاميذه . فيحق لجسد المسيح بكامله ، وهو يئنّ في هذه الحياة ، ان يرتل مع صاحب المزامير " تذوب نفسي الى خلاصك ، واترجى اقوالك" ذلك ان " في المسيح قال الله لنا كل شيء " ( القديس يوحنا الصليبي ).

        كونه مخلص العالم ، فهو يعيد اليه بهاء الخلق ، ويعيد الى الانسان انسانيته .

 

اولاً، مفهوم نسب يسوع

 

1.    يسوع ابن ابراهيم ابن داود

 

        يفتتح متى الرسول انجيله هكذا: " نسب يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم " (1/1)، وينهي بالقول " ويعقوب ولد يوسف زوج مريم التي وُلد منها يسوع، الذي يقال له المسيح " (متى1/16). اربعة اسماء تحدّد هوية يسوع: ابراهيم وداود ويوسف ومريم.

        ابراهيم يعني وعود الله له التي تحققت في المسيح : فابراهيم هو ابو المؤمنين، وابو امّة تحافظ على فكرة الاله الحق وعبادته ومنها يخرج خلاص الجنس البشري. المسيح هو رأس البشرية المفتداة، وهو علة الخلاص الوحيدة للجنس البشري بكامله. من ابراهيم ونسله الذي يبلغ ذروته في المسيح ، ينتشر الخلاص المسيحاني الى جميع الشعوب: " وانا اجعلك امّة كبيرة واباركك واعظم اسمك، وتكون بركة لجميع امم الارض" (تك12/1-2). وهكذا يستمر ويتوضح وعد الله لابوينا الاولين: " واجعل عداوة بينك ( الحية الشيطان ) وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك وانت تصيبين عقبه " (تك3/15). هو اول اعلان للخلاص الذي تحقق في مريم، حواء الجديدة، وفي المسيح. يعتبر ابراهيم كالاساس في بنيان تاريخ الخلاص، ويسوع حجر الزاوية .

        داود هو الملك التيوقراطي بامتياز، الشاعر والنبي، رجل حسب قلب الله (1 صموئيل13/14)، ورمز المسيح الذي سيولد من نسله ويُعرف بانه " ابن داود ". فيه تمت المواعيد لداود على لسان ناتان النبي: " اذا تمّت ايامك واضطجعت مع آبائك، اقيم من يخلفك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وانا اثبّت عرش ملكه الى الابد " (2صموئيل7/12-13).

         يوسف ومريم بزواجهما البتولي هما والدا المسيح، ابن الاله المتجسّد، الذي هو الوعد لابراهيم ولداود، ومحقق هذا الوعد بشخصه التاريخي وبجسده السرّي الذي هو الكنيسة.

 

 المراحل الثلاث في لوحة نسب يسوع تدل الى انه محور تاريخ الخلاص:

            في المرحلة الاولى من ابراهيم الى داود، كان الوعد لابراهيم (2000سنة قبل المسيح ) وتواصل مع داود من سنة 1042الى 972 ق م. في المرحلة الثانية من داود الى سبي بابل كانت حملات نبوكدنصر ملك الاشوريين ضد يهوذا واورشليم  ما بين 597و582، وكان نفي الشعب الى بابل، وقد عاتبه الله على خيانته للعهد . ولكن في الواقع ظل الرب في وقت المحنة حاضراً، واستمر بوفائه العجيب يعمل على انهاض شعبه  من عثرته، كما وعد على لسان ارميا: " اجعل نظري على ابناء يهوذا الذين ارسلتهم من هذا المكان الى ارض الكلدانيين لخيرهم، واجعل عينيَّ عليهم لخيرهم، وارجعهم الى هذه الارض، وأبنيهم ولا اهدمهم، واغرسهم ولا اقتلعهم، واعطيهم قلباً ليعرفوا اني انا الرب، ويكونون لي شعباً واكون انا لهم الهاً، لانهم يرجعون اليّ بكل قلوبهم "( ارميا23/5-7). وفي المرحلة الثالثة من سبي بابل الى المسيح، اكتملت كل الوعود وتحققت في المسيح، كغاية لكل شيء.

 

2.    انسنة الانسان بالفداء والخلاص

 

        بزواج يوسف ومريم البتولي انتمى ابن الله المتجسّد الى العائلة البشرية، وبالاحصاء الذي اجري لسكان الارض في عهد اغسطس قيصر، احصي يسوع المسيح في الاسرة البشرية (لو2/1-7). لقد حمل للبشرية الانسنة الاصيلة، وما زال يؤنسن كل ابعاد حياتها: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، العائلة، المجتمع، التربية، الاعلام. نستند في هذا العرض الى محاضرة للكردينال بول بوبار ( Poupard) رئيس المجلس الحبري للثقافة، "أنسنة جديدة للالف الثالث": القاها في مؤتمر الاونسكو الدولي (3-4 ايار 1999).

        الانسنة (Humanisme) هي ان كل انسان محبوب من الله ومدعو ليصبح دائماً اكثر"على مثال صورة ابنه" (روم8/29). كل تعليم الكنيسة الاجتماعي يدعو الى تعزيزالانسنة الكاملة : انها انفتاح الانسان على المطلق الذي يشكل دعوة الحياة البشرية ( البابا بولس السادس: ترقي الشعوب، 42)؛ وهي تغني الكرامة البشرية اذا توفرت لدى كل انسان، عندما تعلن له الكنيسة خلاص الله ، وتقدّم له الحياة الالهية ، وتنقلها اليه بواسطة الاسرار الخلاصية، وتوجه حياته بوصايا حب الله والقريب ( البابا يوحنا بولس الثاني: السنة المئة 55)؛ وتثمر ثقافة جديدة للحياة ، عندما يستنير الانسان بجدّة الانجيل ، فيكتشف في ضوئه، بالعقل والاختبار، معنى كيانه ووجوده، ويدخل في حوار مع المؤمن وغير المؤمن (  انجيل الحياة 82)، فيحقق جميع الناس ملء دعوتهم لان يصيروا " شركاء في الميراث والجسد والوعد في يسوع المسيح حسب البشارة"  (افسس3/6)، " ويصبحوا الانسان الراشد ، ويبلغوا القامة التي توافق كمال المسيح" ( افسس4/13).

 

         انسنة الاقتصاد

        الانسان في نظرة ماركس هو المنتج والمستهلك . انها نظرة تحطّ من كرامته ، فتهدم الرجل والمرأة في طبيعتهما العميقة . ندّد البابا لاوون الثالث عشر ، في رسالته العامة " الشؤون الحديثة (1891) باستغلال الانسان للانسان استغلالاً يرفع من شأن المادة ويحط من قدر الانسان من خلال عمله بالذات. اننا نرى الطبيعة تتلوث والانسان يتشوه. وعندما يتحول الانسان الى مجرد قدرة اقتصادية ، يصبح شيئاً مجرداً من الشخصية ، وبالتالي ليس اخاً بل وحشاً للانسان، حسب المقولة الوثنية القديمة. من هنا التفاوت الاجتماعي المتنامي الذي يجعل الاغنياء أكثر غنى والفقراء اكثر فقراً .

 

 

        انسنة السياسة

        السياسة تحديداً هي خدمة الخير العام ، وحسب تعبير البابا بيوس الثاني عشر هي "حقل المحبة الاوسع". اصبحت الحقل المقفل للانانيات المقتدرة التي تسحق ضعف الضعفاء، وباتت ممارسة السلطة حكراً لفئات او مدن او دول. واذا بالمواطنين، المنتزعة حقوقهم الاساسية، يعيشون في خيبة مرّة ، على الرغم من اعلان الشرعة العالمية: " ان الناس يولدون ويمكثون احراراً ومتساوين في حقوق الانسان".

 

 أنسنة الثقافة

        الثقافة في الاساس هي روح شعب : انها من حياة الانسان ومن صنعه ومن اجله. هي كيفية عيشه وتفكيره، ونوعية وجوده ، وطريقة تواجده في مكان وبيئة محددين . يعيش الانسان حياة انسانية حقة بفضل الثقافة . اما اليوم ، فاصبحت الثقافة المسيطرة ، التي يسمونها بفخر الحداثة، خليطاً من التكنولوجيا والاستهلاكية والسعي الى اللذة . انها انتصار روح الفردية ، والسعي الجنوني الى الكسب اكثر ، بدون أي اهتمام بالصيرورة . انها فصل لذة الجنس عن فرح الابوة والامومة . نحن امام اولاد بدون حب ، وامام حب بدون اولاد .

 

        انسنة العائلة

        العائلة قلب المجتمع ومهد الانسانية." قل لي ما عائلتك اقول لك من انت". لا يكفي ان تكون ابن رجل وامرأة، بل ان تعرف وتشعر بانك محبوب كثمرة حبهما، الذي هو عطية من الله. كثيرون من الاولاد يموتون من اليتم على انواعه، كموت احد الوالدين او انفصالهما." لا احد يستطيع ان يعيش بدون حب"، كما يؤكد البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته "فادي الانسان". يموت رجال ونساء هذا الزمن لانهم غير محبوبين: فوسائل منع الحمل والاجهاض والاباحية الجنسية بكل اشكالها والخلاعة والمخدرات، كلها تستصرخ فقدان الحب.الانسنة الجديدة هي ثمرة نداء المسيح في الانجيل: " احبوا بعضكم بعضاً كما انا احببتكم" (يو13/34).

 

        انسنة المجتمع

        الانسان كائن شخصي واجتماعي. انا وانت نصبح نحن : اشخاص، عائلات، رابطات، احزاب سياسية ، نقابات، فرقاء عمل نحن متكاملون في جسد واحد (1كور12/12-18). كما الحجارة في البناء تتصدع بدون الاسمنت، كذلك الناس في المجتمع يتفككون بدون الحب. نبع الانسان الاجتماعي الذي لا ينضب هو في الثالوث القدوس : فالآب ليس اباً الاّ في الابن ، والآب والابن متحدان في روح الحب .

 

        انسنة التربية

        لا يعيش الانسان بفضل غريزته بل بالتربية. الانسان كائن سريع العطب، فلكي يندمج في المجتمع، ويشكلّ في صرحه حجراً، يحتاج الى تربية، تكسبه المعرفة وحسن العيش، وتقنيات ووسائل للعمل، وطرقاً وافكاراً وصوراً، وقيماً روحية وانسانية واجتماعية واسباباً للعيش. النهج التربوي مريض لان المجتمع لا يحب المعلمين، ولان المعلمين لا ينقلون معنى الحياة والحب، معنى العمل والمستقبل، معنى السلطة والمعرفة، معنى ينشّىء اشخاصاً بملء شخصيتهم.

 

        انسنة الاعلام

        وسائل الاعلام هي وسائل للتواصل البشري اذ " لا احد جزيرة " (Thomas Merton). نعاني اليوم من هجوم صور تهدم الثقافات وتحطّ من قدسية القيم . لدينا تقنيات رائعة لكنها مبتذلة في مضامينها المؤسفة: تبث هاجس الجنس والعنف والطلاق. فلا بدّ من ردة فعل واعتراض على هذا الوضع الذي يجرّد الثقافة من حضارتها والانسان من انسانيته.

 

يقيننا ان انسان اليوم آخذ في الانحطاط منذ قرر ان يعيش مستقلاً عن الله ، وان تجدده يأتي من عودته الى الجذور، الى المسيح الذي " يبيّن تماماً الانسان لذاته ، ويجعله يكتشف سمو دعوته . ففي المسيح وحده يستنير لغز الانسان وسرّ الوجود " ( الكنيسة في عالم اليوم 22).

هذه الانسنة تشكل جوهر ثقافة السلام.

***

 

ثانياً، الخطة الراعوية

 

في ضوء مسيرة الاجيال نحو المسيح الذي يوحدها بشخصه، وهو " الآلف والياء، البداية والنهاية، الاول والاخير" (رؤيا22/13)، تواصل الخطة الراعوية التفكير معاً في علامات الرجاء التي يقدمها المجمع البطريركي الماروني في نصه الاول: " كنيسة الرجاء".

 

1.     التقارب المسكوني ( فقرة 27).

من علامات الرجاء  ان المسيح يجتذب ابناء الكنائس الى سلوك الطريق نحو وحدتهم بالمسيح. فقد قامت مبادرات متنوعة هدفت الى تعزيز التواصل بين المسيحيين، وبثّ روح المحبة والتعاون فيما بينهم، وازالة نقاط سوء التفاهم والاحكام المسبقة. ذلك على مستوى السلطات الكنسية والشعب.

تقتضي الخطة الراعوية من الجماعات في الرعايا والمجتمع اتخاذ مبادرات عملية لتشديد اواصر الوحدة بين المسيحيين، وللقام باعمال ونشاطات لعيش الشهادة معاً لرسالة المسيح الواحدة ولقيم انجيله.

 

2.     مريم العذراء حاملة الرجاء ( فقرة 28).

وضع المسيحيون عامة والموارنة خاصة رجاءهم في شخص العذراء مريم ونظروا اليها كعلامة رجاء تقودهم. وهتفوا اليها: " يا ام الله، يا حنونة، يا كنز الرحمة والمعونة. انت ملجانا وعليك رجانا. وان كان جسمك بعيداً منا، صلواتك هي تصحبنا.

تقتضي الخطة الراعوية اظهار علامات الرجاء بشخص مريم في ليتورجيا القداس والصلوات والزياحات، وتعزيز التعبّد للسيدة العذراء، سيدة لبنان، التي تضمن حماية هذا الوطن، هي التي من على تلة حريصا تبسط يديها عليه مملوءة نعماً وبركات سماوية. ولا بدّ من المحافظة على التقليد المسيحي والماروني باعطاء البعد المريمي لصلاتهم في العائلة والجماعات. ان صلاة المسبحة التأملية تبقى الصلاة الفضلى التي تطبع حياة الافراد والجماعات بالقيم الانجيلية.

 

***

صلاة

            في هذا الاحد الاخير من مسيرتنا نحو ميلاد الرب يسوع، الذي يجتذب الاجيال والشعوب ويوحّدهم، نصلي صلاته الاخيرة من اجل وحدة المؤمنين به:

 

        " ايها الآب، مجّد ابنك باعطاء الحياة الابدية لكل من اعطيتهم له. والحياة الابدية هي ان يعرفوك انك انت الاله الحقيقي وحدك، ويعرفوا الذي ارسلته، يسوع المسيح. احفظهم باسمك ليكونوا واحداً كما نحن واحد. انا ألقيت عليهم كلمتك، فأبغضهم العالم، لانهم ليسوا من العالم، كما اني انا لست من العالم. انا لا اصلي لتخرجهم من العالم، بل لتحفظهم من الشرير. قدّسهم بحقك، فأن كلمتك هي الحق. كما ارسلتني الى العالم، انا ايضاً ارسلتهم الى العالم. ليكونوا مقدّسين في الحق. ليكونوا كلهم واحداً، كما انت فيّ يا ابي. ليكونوا هم ايضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم انك انت ارسلتني، وانك احببتهم كما احببتني. ايها الآب، اريد ان يكون الذين وهبتهم لي، هم ايضاً معي، حيث اكون، ليشاهدوا مجدي الذي وهبتنيه قبل انشاء العالم. آمين
    ( انجيل القديس يوحنا 17/1-3، 24،21،19،14،11).


 الاثنين 25 كانون الاول 2006

 

ميلاد الرب يسوع

المسيح يقود التاريخ البشري نحو الانسنة والسلام

من انجيل القديس لوقا 1/ 1-20

 

        "قال لوقا البشير: في تلك الايام، صدر أمر من اغوسطس قيصر بإحصاء كل المعمورة. جرى هذا الإحصاء الاول، عندما كان كيرينيوس والياً على سوريا. وكان الجميع يذهبون، كل واحد الى مدينته، ليكتتبوا فيها. وصعد يوسف من الجليل، من مدينة الناصرة، الى اليهودية، الى مدينة داود تدعى بيت لحم، لانه كان من بيت داود، وعشيرته، ليكتتب مع مريم خطيبته، وهي حامل. وفيما كانا هناك، تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر، وقمتطه، واضجعته في مذود، لانه لم يكن لهما موضع في فاعة الضيوف.

        وكان في تلك الناحية رعاة يقيمون في الحقول، ويسهرون في هجعات الليل على قطعانهم. فاذا بملاك الرب قد وقف بهم، ومجد الرب أشرق حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الملاك: لا تخافوا! فها انا ابشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله، لانه ولد لكم اليوم مخلص، هو المسيح الرب، في مدينة داود. وهذه علامة لكم: تجدون طفلاً مقمطاً، مضجعاً في مذود!". وانضم فجأة الى الملاك جمهور من الجند السماويين يسبحون الله ويقولون: " المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر".

        ولما انصرف الملائكة عنهم الى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: "هيا بنا، الى بيت لحم، لنرى هذا الامر الذي حدث، وقد أعلمنا به الرب". وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود. ولما رأوه اخبروا بالكلام الذي قيل لهم في شأن هذا الصبي. وجميع الذين سمعوا، تعجبوا مما قاله لهم الرعاة. أما مريم فكانت تحفظ هذه الامور كلها، وتتأملها في قلبها. ثم عاد الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا، حسبما قيل لهم".

 

** 

             لوحة الميلاد تكشف ان الله يقود مجرى التاريخ. فالبشرية في مسيرة خلاص شخصي وجماعي يشمل جميع الوقائع الزمنية. الكنيسة تحمل " انجيل هذه البشرى السارة، وتشهد له في حياة ابنائها وبناتها ومؤسساتها.

 

 

اولاً، مضامين لوحة الميلاد الانجيلية

 

1.                             الله يقود مجرى التاريخ

 

حدث الميلاد يظهر ان الله هو الذي يقود مجرى التاريخ، بحيث يتحقق في واقعاته تصميم الخلاص. بمناسبة الاحصاء العالمي يحصل ميلاد الرب في بيت لحم، فتتم نبؤة ميخا التي قالها قبل الميلاد بسبعماية سنة عن " الحامل" التي تلد في بيت لحم من " يقف ويرعى شعب الله بعزّة الرب، ويعظمة اسم الرب الاله، ويتعاظم الى اقاصي الارض" (  ميخا 5/1-3). ان الذي أمر بالاحصاء، هو المتسلط على العالم، اغسطوس قيصر، لكن المولود الوضيع في بيت لحم هو سيد السماء والارض، ابن الله الذي صار انسانا، كما اعلن الملاك للرعاة: " ابشركم بفرح عظيم، يكون للعالم كله: لقد ولد اليوم لكم المخلص الذي هو المسيح الرب، في مدينة داود" ( لو2/10-11). داود هو رمز هذه الملوكية من جوانب ثلاثة: الجانب البيولوجي: يوسف ومريم هما من سلالة داود، والمولود الالهي " من زرع داود في الجسد" ( روم1/3) يحصى في هذه السلالة؛ الجانب الجغرافي: بيت لحم هي مدينة داود؛ الجانب الاجتماعي: فقر مذود بيت لحم لا قصور اورشليم التي هي مدينة داود بامتياز: " انت، يا بيت لحم، أصغر عشائر يهوذا، ولكن منك يخرج من يكون متسلطاً على اسرائيل" ( ميخا 5/1).

وتتحقق نبؤة اشعيا، السابقة للميلاد هي ايضاً بسبعماية سنة: " يؤتيكم الرب نفسه اية: ها ان العذراء تحبل فتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل" ( اشعيا 7/14). فيستعمل لوقا عن قصد لفظة " خطيبة يوسف حبلى" ( لو2/5)، على الرغم من المساكنة الزوجية حسب الاصول القانونية منذ ستة أشهر. هذه للدلالة على ان مريم هي عروسة الروح القدس، " قوة العلي التي ظللتها" ( لو1/35)، لا يوسف، وانها العذراء الام، وان يوسف زوجها الشرعي هو ابو يسوع بالشريعة لا بالطبيعة.

ولدت البتول " ابنها البكر". لفظة " بكر" تعني المولود الاول الذي لا يعقبه اخوة، بل الذي ينبغي ان " يقدم للرب فدية وولاء للرب الذي حرر شعبه" ( خروج13/1-16). وسيقدم هذا البكر نفسه للاب على الصليب ذبيحة فداء عن البشرية جمعاء. ومعه " كبكر بين اخوة كثيرين" ( روم8/29) يبدأ شعب الله الجديد خلقاً جديداً  يدشن الازمنة الجديدة للعهد المسيحاني. انه " بكر الآب" اي " ابن الله الوحيد" ( يو1/18؛ 1 يو4/9)، الذي صار ابن البتول بالجسد البشري،  "ليكون، وهو صورة الله الذي لا يرى، بكر جميع الخلائق"، ( كولسي1/15)، و"ليكون، وهو الذي كان قبل الكل وبه كل شيىء كوّن، رأس الكنيسة والاول والبكر القائم من بين الاموات" ( كولسي 1/17-18).

لقد بدت علامات الخلاص والفداء في البتول الام التي تلد بدون وجع المخاض، هي التي سافرت طيلة خمسة ايام من الناصرة الى بيت لحم ( 150 كلم)، وهي التي، وحدها وبدون مساعدة من احد، " ولدت ابنها البكر ولفته بالقماتات ووضعته في مذود"، فتكللت بمجدين: البتولية والامومة الالهية. كما ظهرت شروط الفداء في فقر المولود الالهي ووداعته، وقد وُضع في مذود للبهائم، هو " الذي سيخلي ذاته أخذأً صورة عبد، ويطيع حتى الموت على الصليب" ( فيليبي2/7-9).

 

2.                                 مسيرة خلاص البشرية

 

 عندما ولد يسوع في بيت لحم كان ظهور ملائكي في سمائها، بمثابة ليتورجية سماوية احتفلت بالحدث الذي  "يسير بالازمنة الى تمامها" ( افسس 1/10)، ماسكاً زمام ماضي البشرية والكون وحاضرها ومستقبلها حتى نهايتها الاخيرة ( Eskaton). " فالمسيح المولود هو هو امس واليوم والى الابد" ( عبر13/8). وقد أنشد جنود السماء: " المجد لله في العلى وعلى الارض السلام، للناس الذين يحبهم" ( لو2/14)، محتفلين بذاك الذي تنبأ عنه اشعيا: " الشعب السائر في الظلمة أبصر نوراً عظيماً... وفرّت للامة الفرح... لانه قد ولد لنا ولد واعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه. دُعي اسمه عجيباً مشيراً، الهاً جباراً، أبا الأبد، رئيس السلام، لنمو الرئاسة ولسلام لا انقضاء له، على عرش داود مملكته، ليقرّها ويوطدها بالحق والبر من الآن والى الابد. غيرة الرب تصنع هذا ( اش 9/1-2؛5-6). ان ليتورجيا الارض في الكنائس تواصل هذا الاحتفال بالحدث الخلاصي. والناس ذوو الارادة الحسنة يلتزمون بعمل الخلاص على اختلاف مستوياته: الروحية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية، السياسية والانمائية.

بلغت البشرى الى الرعاة، وهم رمز الناس المهمشين والفقراء والمستضعفين والاخيرين في الفئات الاجتماعية والرحل وغير المستقرين، سواء على الصعيد المادي ام الروحي ام الخلقي ام الاجتماعي. هؤلاء الذين قال عنهم الفادي الالهي يوم اعلن رسالته في مجمع الناصرة: " روح الرب عليّ مسحني وارسلني لابشر المساكين" ( لو3/18). وقد أظهر تضامنه الحسي والمعنوي والاجتماعي معهم بولادته في مذود لعدم وجود موضع له حيث نزل والداه ( انظر لوقا 2/7). لهؤلاء قال الملاك: " ابشركم بفرح عظيم" هو ميلاد من يأتي ليحمل لهم التحرير والخلاص. كانت البشرى لشعب زمانه المنتظر بشوق هذا التحرير الخلاصي، وهي " للعالم كله" ولكل شعب يلتقي في اي زمان هذا النداء ويسعى الى عيشه. لفظة " ابشركم" تعني " انقل اليكم خبراً مفرحاً. هذا ما تعنيه لفظة " انجيل" ومنها " الانجلة"، لا بالمعنى السلبي الذي تأخذه اليوم لفظة " تبشير"، اي " اقتناص" الناس لدين او مذهب لغايات سياسية او مصالح بشرية واجتماعية.

        رسالة الكنيسة هي " الانجلة" اعني نقل بشرى الخلاص لجميع الناس، والشهادة لهذا الخلاص في نشاطاتها ومؤسساتها الروحية والثقافية والاجتماعية والانسانية، والحكم الادبي على اداء بشري زمني، بما فيه الاداء السياسي في ما يتعلق بالخلاص لجميع الناس في مختلف مضامينه، دون ان تتدخل الكنيسة في " تقنيات " هذا الاداء او تتلون باي لون سياسي حزبي او فئوي.

        نسمع اليوم من يقول: " على الكنيسة الاّ تتعاطى الشأن السياسي". هؤلاء يخلطونه من جهة بين المبادىء التي تعلنها الكنيسة والتقنيات التي يمارسها السياسيون؛ ومن جهة ثانية لا يريدون تطبيق المبادىء على ممارستهم، فينحرفون عن الخير العام وكرامة الانسان وحقوقه، وعن العدالة الاجتماعية والوفاق، وعن كرامة شعب ومصلحة وطن ودولة. فلا بد من التعاون المخلص بين السلطة السياسية والكنيسة.

        انها بشرى-انجلة دائمة: " اليوم ولد لكم المخلص" (لو2/11). انه  يوم الله الذي يصبح  يوم الانسان، اليوم الخلاصي والنهيوي: بداية العهد المسيحاني الذي انتهت معه مسيرة التحضير الطويلة في العهد القديم، وبداية الزمن الاخير والحاسم لخلاص جميع الناس.  اليوم، دخل في التاريخ عالمُ الله النهائي، لا بالمفهوم السياسي والقومي، بل بمفهوم الخلاص المسيحاني. فالله وحده الرب، ولا اله سواه: " انا الاول وانا الاخر، ولا اله غيري ( اشعيا44/6). توجهوا اليّ فتخلصوا يا جميع اقاصي الارض" ( اشعيا45/22). ويجيب الشعب بصلاة المزمور: " أنصرنا يا اله خلاصنا اكراماً لمجد اسمك، وانقذنا واغفر خطايانا من اجل اسمك" (مو79/9). وعندما سأله الرسل في آخر لحظة، قبيل صعوده الى السماء: " أفي هذا الزمن تعيد المُلك الى اسرائيل"؟ ( اعمال1/6)، صحح نظرتهم وامالهم، وحدثهم عن مملكته الروحية وقوتها: " الروح القدس ينزل عليكم، فتنالون قوة وتكونون لي شهوداً حتى اقاصي الارض" ( اعمال1/8).

        مملكته ذات سلطان كهنوتي وخلاصي. فالمولود، كما اعلنه الملاك، هو " المسيح الرب", لفظة" مسيح" تعني ذاك الذي مُسح كاهناً ونبياً وملكاً، واصبح ينبوع المسحة الكهنوتية والنبوية والملوكية لشعب الله الجديد، الذي قبل بدوره هذه المسحة بالمعمودية، باب الاسرار كلها. الكنيسة تعمل بسلطان هذه المسحة المثلثة، وتشهد لمفاعيلها.

        لفظة " الرب" تشمل الالوهة وسلطان المسيح الخلاصي. ففي المفهوم البيبلي، لقب " الرب" المتصل بالله يعني دائماً وفي ان الالوهة والعمل الخلاصي. اما الكنيسة فهي " اداة الخلاص الشامل"، بفضل حضور الله فيها وعمله بواسطتها.

 

3.    مسؤولية المخلصين

 

تلقى " رعاة بيت لحم" خبر الحدث والوحي وقالوا بعضهم لبعض: " هلّم بنا الى بيت لحم لنرى الحدث الذي اخبرنا به الرب" ( لو1/15). فاسرعوا الى المكان، ورأوا الحدث، واخبروا عن الوحي الذي قيل لهم عن الطفل (لو2/16-17). " فحفظته مريم في قلبها" واضحت قدوة لكل نفس تصغي وتتأمل في كلمة الله، وتتعمق في الايمان اكثر فاكثر. نحن مدعوون لنصغي مثل مريم والرعاة، ونؤمن بما نسمع ونعلن بدورنا الخبر. فكل خبر من عند الله سارّ، ولذا ينبغي ان نقبله في القلب ونعلنه بالكلمة والعمل. هذا ما جرى مع الرعاة الذين واصلوا نشيد الملائكة، اذ " رجعوا وهم يمجدون الله ويسبحون" ( لو2/20). فكانوا اول المستودعين بشرى المخلص، واول المعلنين الفرحين للبشرى، واول الممجدين لله والمسبحين" على كل ما سمعوا ورأوا".

عندما دخل البكر الى العالم، سجدت له جميع ملائكة الله" (عبرانيين1/6). وفي الارض سجد له يوسف، وسجدت مريم لمن ولدت، وسجد رعاة بيت لحم، وسيسجد المجوس من المشرق. هكذا تلتقي ليتورجيا السماء وليتورجيا الارض. ويلتقي الله والبشر، والرب والرعاة، في من هو اله حق وانسان حق. بهذا يتمجد الله في السماء ويحلّ السلام في الارض.

 

4.                                 لوحة الميلاد انجيل الانسنة والسلام

 

بميلاد ابن الله انساناً ، عاد لكل انسان بهاء انسانيته ، ومنح الله العالم هبة السلام ، وأعطى معنى للحياة البشرية وللوجود التاريخي.

         " يسوع ابن يوسف من الناصرة " (يو1/45) هكذا أحصي السيد المسيح مخلص العالم في اول احصاء للعالم المعروف. انه ينتمي الى الجنس البشري, انساناً بين الناس ، مواطناً في هذا العالم ، خاضعاً للشريعة ، لكنه مخلص العالم. .

        اوريجانس يفسّر المعنى اللاهوتي لاحصاء يسوع المسيح : " أحصي مع الجميع ، فاستطاع ان يقدس الجميع . مع كل الارض اكتُتب في الاحصاء ، فقدّم للارض الشركة معه . كتب كل اناس الارض في كتاب الاحياء ، بحيث ان من يؤمن به يُحصى في السماء مع القديسين حول من له المجد والسلطان الى دهر الدهور " (حارس الفادي ،9).

         انشد الملائكة ليلة ميلاده : " المجد لله في العلى ، وعلى الارض السلام ، والرجاء الصالح لبني البشر ".

        المجد لله : " مجد الله الانسان الحي " يقول القديس ايريناوس . ابن الله المتجسد هو هذا  الانسان الحي ،  وقد  "صار بكراً لاخوة كثيرين " ، على ما كتب القديس بولس الى اهل روما ، " لكي يكونوا على مثال صورة هذا الابن " (روم 8/29). وهكذا يكون كل انسان " مجد الله الحي ". هذه هي الانسنة الجديدة .

 كتب خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة الاولى " فادي الانسان ":

        " لقد نفذ المسيح ، فادي العالم ، الى سرّ الانسان ودخل قلبه " ( فقرة 8). وتابع من تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني " ان المسيح آدم الجديد ، باظهاره سرّ الآب ومحبته ، كشف بجلاء الانسان للانسان عينه وابان له سمو دعوته. ان سرّ الانسان لا يتضح الاّ في سرّ الكلمة المتأنس. ذاك الذي هو صورة الآب غير المنظور ( كولسي1/15) هو عينه الانسان الكامل الذي اعاد الى ابناء آدم الشبه الالهي الذي شوهته منذ ذاك الحين الخطيئة الاولى . ولما كان قد اتخذ الطبيعة البشرية دون ان يذيبها فيه ، فقد رفعها بذات الفعل الى مقام عظيم.لانه هو ابن الله الذي بتجسده قد انضمّ نوعاً ما الى كل انسان . لقد اشتغل بيدي انسان ، وفكرّ بعقل انسان ، وعمل بارادة انسان ، وأحب بقلب انسان.لقد ولد من عذراء وصار حقاً واحداً منا مشابهاً لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة "(الكنيسة في عالم اليوم،22). انه الانسان الجديد، فادي الانسان .

        " السلام على الارض" : عندما يستعيد الانسان انسانيته ، أي صورة الله فيه ، يعيش بسلام مع الخلق اجمع . "فالسلام مع الله سلام مع الخليقة كلها. و" المسيح سلامنا" (افسس 2/14). لقد " بشر بالسلام الاباعد والاقارب " ( افسس 2/17)، و " حقق السلام بدم صليبه " ( كولسي 1/20). السلام عطية من الله ، وقد ائتمننا عليها . لكن السلام هو " ثمرة العدالة " ( اشعيا 32/17)، وهو " انماء الانسان والمجتمع الذي اصبح الاسم الجديد للسلام " ( البابا بولس السادس : ترقي الشعوب،87)..

        " الرجاء للبشر " : اعطى ابن الله المتجسد معنى لحياة الانسان ووجوده . الرعاة جاؤوا مسرعين ورأوا مريم ويوسف والطفل في المذود . ولما رأوا آمنوا بما قيل لهم من الملائكة ، واخبروا بما قيل لهم عن الطفل ، ورجعوا مهللين فرحين  يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا (لو1/16-20). ما ينقص الناس بالاكثر ، بل ما يحتاجون اليه ، ليس فقط الوسيلة للعيش ، بل الاسباب للعيش . ينقصهم الرجاء ، والرجاء هو ان نؤمن ان للحياة معنى . التزامنا، في الالف الثالث ، ان نعطي الناس اسباباً للعيش .

 

***

 

ثانيا، الخطة الراعوية

 

مع  ميلاد الرب يسوع تنتهي الخطة الراعوية من التأمل معاً في موضوع " كنيسة الرجاء"، وهو مضمون النص الاول من نصوص المجمع البطريركي الماروني. وقد بلغنا الى "آفاق الرجاء" (الفقرات29-30).

ذروة الرجاء تجسّد ابن الله ليكون " عمانوئيل"_ الله معنا، الذي وعد الكنيسة بأن " ابواب الجحيم، قوى الشر، لن تقوى عليها" ( متى16/18). الرجاء التزام، والالتزام برهان على مصداقية الرجاء.

الرجاء، في خطتنا الراعوية، هو التزامنا جميعاً ككنيسة في متابعة المسيرة المجمعية بتقبل التعليم وتطبيق التوصيات، بالاتكال على الروح القدس الذي يقود الكنيسة الى كل حق وخير وجمال. ان العمل الكنسي المشترك يتطلب تضحيات جمّة، منها التخلي عن الانانيات بكل اشكالها، وتبني الموقف الذي اوصى به الرب يسوع: " الكبير فيكم فليكن خادم الجميع، ومن فقد نفسه من اجلي، حفظها لحياة الابد".

بعد التأمل معاً في كنيسة الرجاء طيلة زمن الميلاد، يدعونا النص المجمعي ان نقول لابن الله المتجسد في مغارة بيت لحم، ما قاله له تلاميذا عماوس، يوم قيامته: " إبقَ معنا يا رب" (لو24/29). لكنه هو يقول لنا: ابقوا انتم معي، "لانكم بدوني لا تقدرون ان تفعلوا شيئاً" ( لو15/5). هذه هي دعوة المستقبل التي تعيدنا الى عمق هويتنا، وتجدد حاضرنا، وتحقق حضورنا الفاعل في عالم اليوم.

***

 

صلاة 

ليلة الميلاد، يُمّحى البغضُ، ليلة الميلاد، تُزهر الارضُ

ليلة الميلاد، تدفنُ الحربُ، ليلة الميلاد، ينبتُ الحب.ُّ

عندما نسقي عطشان كأس ماء، نكون في الميلاد.

عندما نكسو عرياناًً ثوبَ حبّ، نكون في الميلاد.

عندما نكفكفُ الدموعَ في العيون، نكون في الميلاد.

عندما نفرشُ القلوبَ بالرجاء، نكون في الميلاد.


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code