زمن الصليب
بحسب طقس الكنيسة الانطاكية السريانية المارونية
       التنشئة المسيحية 2008 - 2009
عيد ارتفاع الصليب المقدس - 14 ايلول 2009
  1. عيد ارتفاع الصليب المقدس - الصليب قوة الله وحكمته
  2. الاحد الاول بعد ارتفاع الصليب - قيمة الألم والحياة الابدية بعد الموت
  3. الاحد الثاني بعد ارتفاع الصليب - قيامة المسيح اساس قيامتنا
  4. الاحد الثالث بعد ارتفاع الصليب - الحياة التزام وانتظار بقوة الرجاء المسيحي
  5. الاحد الرابع بعد ارتفاع الصليب - الدينونة الخاصة ومقتضيات السهر
  6. الاحد الخامس بعد ارتفاع الصليب - جدّية الحياة البشرية  التاريخية
  7. الاحد الاخير بعد ارتفاع الصليب - ملوكية المسيح والدينونة
 

 


 

عيد ارتفاع الصليب المقدس

1 كورنتس1: 18-25

يوحنا 12: 20-32

الصليب قوة الله وحكمته

 

  زمن الصليب يدعو الى التأمل في رحمة الله اللامتناهية، والحكيمة والقديرة، التي تجلّت بذروتها على صليب الفداء، حيث صُلب ابن الله المتجسد، يسوع المسيح، لخلاص الجنس البشري. فكانت ولادة البشرية الجديدة.

         قراءات عيد ارتفاع الصليب تكشف هذين الوجهين: يؤكّد بولس الرسول ان الصليب هو " قوة الله وحكمته": قوة تبدّل الضُعف، وحكمة تبيد الحماقة (1كور1: 24-25). والرب يسوع يعلن ولادة البشرية الجديدة من سرّ موته على الصليب، كولادة السنبلة من حبة القمح ( انظر يوحنا12: 24). يبقى الصليب مرتفعاً علامة ودعوة للخلاص والولادة الجديدة: "وانا اذا رُفعت عن الارض، جذبت اليًّ الجميع" (يو12:32).

               

اولاً، سرّ الصليب في القراءات المقدسة

 

1. من رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس: 1كور1/18-25)

 

إِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الـهَالِكِينَ حَمَاقَة، أَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الـمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ الله؛ لأَنَّهُ مَكْتُوب: "سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الـحُكَمَاء، وأَرْذُلُ فَهْمَ الفُهَمَاء!". فَأَيْنَ الـحَكِيم؟ وأَيْنَ عَالِمُ الشَّرِيعَة؟ وأَيْنَ البَاحِثُ في أُمُورِ هـذَا الدَّهْر؟ أَمَا جَعَلَ اللهُ حِكْمَةَ هـذَا العَالَمِ حَمَاقَة؟ فَبِمَا أَنَّ العَالَمَ بِحِكْمَتِهِ مَا عَرَفَ اللهَ  بِحَسَبِ حِكْمَةِ الله، رَضِيَ اللهُ  أَنْ يُخَلِّصَ بِحَمَاقَةِ البِشَارَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُون؛ لأَنَّ اليَهُودَ يَطْلُبُونَ الآيَات، واليُونَانِيِّينَ يَلْتَمِسُونَ الـحِكْمَة. أَمَّا نَحْنُ فَنُنَادِي بِمَسِيحٍ مَصْلُوب، هُوَ عِثَارٌ لِليَهُودِ وحَمَاقَةٌ لِلأُمَم. وأَمَّا لِلمَدْعُوِّينَ أَنْفُسِهِم، مِنَ اليَهُودِ واليُونَانِيِّين، فَهُوَ مَسِيحٌ، قُوَّةُ اللهِ وَحِكْمَةُ الله؛ فَمَا يَبْدُو أَنَّهُ حَمَاقَةٌ مِنَ اللهِ  هُوَ أَحْكَمُ مِنَ النَّاس، ومَا يَبْدُو أَنَّهُ ضُعْفٌ مِنَ اللهِ  هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّاس.

صليب المسيح مرتفع فوق قبب الكنائس والجبال والجدران والصدور، ليكون "قوة الله" الفاعلة في التاريخ، تبدّل الضُعف، تشدد وتقوّي، حسّياً ومعنوياً وروحياً. هذا اختبار عاشه بولس الرسول؛ فعندما سمع في غمرة ضعفه صوت الرب يقول له: " تكفيك نعمتي! لان قدرتي تكتمل في الضعف!". قال: " انا ارضى بالاوهان والاهانات  والضيقات والاضطهادات والشدائد من اجل المسيح؛ لاني عندما أكون ضعيفاً، فحينئذ اكون قوياً" ( 2 كور 12: 9-10).

         والصليب مرتفع ليكون " حكمة الله" التي تبيد حماقة الشك واليأس والقنوط والتراجع امام المحن والصعوبات. انه نور الحقيقة والصلاح، وعلامة رحمة الله. تجلّت حكمة الله على صليب الفداء رحمة" لا متناهية، ملؤها الحقيقة والصلاح. هذه هي قدرة الغفران، ما يدّل ان الله ليس سيداً مالكاً في الاعالي بعيداً، بل هو صديق للانسان محب، يرفعه من ضعفه ويغفر له، ليصبح بدوره عنصر قوة لمن يضعف، وموزّع غفران لمن يسىء.

         وبما ان الصليب هو " قوة الله وحكمته"، فهو حركة تصاعدية ترفع الخلق نحو كماله.

        

         2. انجيل القديس يوحنا: 12/20-42.

 

         عندما جاء بعض اليونانيين، يوم عيد الشعانين، وطلبوا ان يروا يسوع، كشف لهم الرب عن سرّ صلبه وقيامته. وسمّاه " ساعة المجد" ( يو12/23) المزدوج، مجد الله الآب الذي يتمّه الابن يسوع المسيح بفداء الجنس البشري، قابلاً الموت على الصليب، ومجد ابن الله الذي يقيمه الآب من بين الاموات ليعلنه رباً تجثو له كل ركبة ويعترف به كل لسان  (فيليبي2: 1-11).

         وشبّه سرّ صلبه وقيامته " بحبة الحنطة التي تقع في الارض وتموت، فتعطي ثمراً كثيراً" ( يو12:24). هذا الثمر الكثير الذي تحتويه سنبلة القمح يرمز الى الكنيسة، جسد المسيح السرّي، جماعة المفتدين، هؤلاء الذين يولدون من المعمودية، ويتغذون من جسد المسيح ودمه، ويؤلفون جسداً واحداً، هو " المسيح الكلي" اي الكنيسة.

         هذا هو سرّ صليب المسيح، " قوة الله وحكمته". منه وُلدت الكنيسة لتحمل لجميع الشعوب هذه القوة وهذه الحكمة. فبالمعمودية نصبح اعضاء في جسد المسيح، وننتمي عضوياً الى الكنيسة، شعب الله الجديد، ونصبح شركاء في كهنوت المسيح وفي رسالته النبوية والملوكية، لاعلان كلمة الحياة والحقيقة، ولاحلال العدالة والمحبة.

         هذا على مستوى الكيان المسيحي، فيبقي ان يأخذ الكيان طريقه الى الصيرورة التي تكمّله. الكيان والصيرورة ظاهران من قول الرب يسوع: " وانا اذا رفعتُ، جذبت اليَّ الجميع". بارتفاعه وموته على الصليب خلّصنا، وباجتذابه ايانا وضعنا في دينامية رسالة الخلاص لنا ولجميع الناس. يجتذبنا اليه مخلصاً، ويرسلنا اداة خلاص روحي وانساني واجتماعي.

         وبما ان صليب المسيح يجتذب الجميع، فانه يضعنا في دينامية الوحدة والشركة، لنعمل على توطيد اواصرها وازالة كل ما يتسبب بالانشقاق او التفرقة. ان المعمودية والقربان يولّدان فينا، على مستوى الكيان، رباطاً اسرارياً يجمع ويوحّد. الثقافة المسيحية هي ثقافة الوحدة في تنوّع المواهب والخدم والاعمال، والشركة في تقاسم خيرات الارض.

***

ثانياً، السنة الكهنوتية- عظمة الكاهن ورسالته في نظر القديس جان ماري فيانيّه، خوري آرس[1].

        

         بالنسبة الى القديس خوري آرس، الكهنوت هو من محبة قلب يسوع، والكهنة عطية للكنيسة وللبشرية جمعاء. على هذا الاساس، وعى انه عطية عظيمة لشعبه، وقال:   " راعٍ صالح، راعٍ حسب قلب الله، هذا هو الكنز الاكبر الذي يستطيع الله الجوّاد ان يعطيه لرعية، وواحدة من اثمى عطايا الرحمة الالهية".

         وكان يردد: " لو فهم الكاهن عظمته! فالله يطيعه: يقول الكاهن كلمتين، والله ينزل من السماء عند صوته وينحبس في برشانة صغيرة. من دون الكاهن، لا ينفع موت المسيح وآلامه. هو الكاهن من يواصل عمل الفداء على الارض. ماذا ينفع بيت مملؤ ذهباً، اذا لم يوجد احد ليفتح الباب. الكاهن هو قيّم الله الجوّاد، ووكيل خيراته. اتركوا رعية عشرين سنة من دون كاهن، فيعبد شعبها الحيوانات. ليس الكاهن كاهناً لنفسه، بل للآخرين".

         عندما عيّن مطران الابرشية الاب جان ماري فيانيه كاهناً لرعية آرس، قال له: " لا يوجد كثير من محبة الله في هذه الرعية. فضعها فيها". فأدرك انه ذاهب اليها، ليجسّد فيها حضور المسيح، شاهداً لحنانه الخلاصي". وبدأ رسالته بهذه الصلاة: " ربي، امنحني ارتداد رعيتي؛ اني ارضى بالألم الذي تريده كل حياتي!" وهكذا كرّس كل قواه لبلوغ هذه الغاية، واعطى المكان الاول في اهتماماته لتنشئة شعبه مسيحياً. وبهذا ترك نهجاً رعوياً لكل كاهن، هو التماهي مع الخدمة الكهنوتية، على مثال الرب يسوع الذي هو الشخص والرسالة. فكان يسوع يسعى دائماً الى هذا التماهي، واقفاً امام ابيه السماوي " بأنا البنوي"، في موقف خضوع تام محب لارادته. الكاهن مدعو، قياساً، للسعي الى هذا التماهي، الى التناغم بين حياته كخادم للانجيل ونعمة الاسرار وقدسية هذه الخدمة الموكولة اليه. لقد جعل خوري آرس سكنه المادي في كنيسته الرعائية. فكان يدخلها فجراً، ويغادرها عند المساء. فيها كان المؤمنون يبحثون عنه، كل مرة احتاجوا اليه.

         لكن خوري آرس سكن فعلياً في كل ارض الرعية: كان يزور دورياً المرضى والعائلات؛ كان ينظم الرسالات الشعبية والاعياد؛ كان يجمع مساعدات لاعمال المحبة والارساليات؛ كان يجمّل كنيسته بالاواني المقدسة؛ كان يعتني بالايتام وتربية الاولاد؛ كان ينشىء اخويات، ويدعو المؤمنين للانخراط فيها، ولمعاونته في تعزيزها؛ كان يعلّم خاصة بمثل حياته. فتعلّم منه المؤمنون الصلاة والسجود الخاشع امام بيت القربان وانفتاح القلب لله الحاضر هنا. وكان يحرّضهم على المناولة والحياة مع يسوع ليعيشوا من اجله، ويقول: "كل الاعمال الصالحة مجتمعة لا توازي ذبيحة القداس، لانها اعمال البشر، اما القداس فهو عمل الله". لقد كان مقتنعاً بان كل حرارة حياة الكاهن مرتبطة بقداسه، وبأن سبب التراخي يعود الى عدم انتباهه للقداس والى القيام به كشيء عادي.

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص السابع عشر " الكنيسة المارونية والتعليم العالي" وتحديداً التوصيات والاقتراحات على صعيد الجامعة اللبنانية ومؤسسات التعليم العالي الخاص.

         1. على صعيد الجامعة اللبنانية (الفقرات 59-68)

         تولي الكنيسة شؤون الجامعة اللبنانية اهتماماً خاصاً للاسباب التالية:

أ‌-       انها الجامعة الرسمية الوحيدة، المنتشرة في كل المناطق اللبنانية، وتستقطب نصف مجموع الطلاب الجامعيين في لبنان، المتنوعي الانتماءات الاجتماعية والطائفية والسياسية.

ب‌-  الموارنة يشكلون عدداً وافراً بين اساتذتها وطلابها وموظفيها.

ج- الجامعة تقدم مساحة واسعة لعمل الكنيسة على المستوى الفكري والثقافي والروحي.

 

فيوصي المجمع

أ‌-        بأن تؤمّن الدولة مجمّعات جامعية مع ما يلزمها من تجهيزات ومكتبات وتقنيات، وتطبّق اللامركزية الادارية في مجال  التربية، من اجل تلبية الحاجات الاكاديمية والانمائية، وتعزيز الانماء المتوازن، وتوفير تكافؤ الفرص.

ب- بأن تحترم الدولة استقلالية الجامعة اللبنانية مالياً وادراياً واكاديمياً، وتزيد موازنتها لتأمين حاجات تطويرها، وتهتم بطلابها توجيهاً وارشاداً مع تحديث المناهج التعليمية.

 

2. على صعيد مؤسسات التعليم العالي الخاص (الفقرات 69-71).

         يوصي المجمع باثنتين:

أ‌-       اصدار قانون جديد للتعليم العالي الخاص، على ان يكون متطوراً ومتكاملاً ومتجانساً، وقابلاً للتطبيق.

ب‌-  مساهمة الدولة في تمويل مؤسسات التعليم العالي الخاصة التي لا تتوخى الربح، لكي تستطيع هذه ان توازن بين الاقساط والاعباء المالية وتمويل المعدات والتجهيزات، ولكي تظل الامكانية متاحة لجميع الطلاب للانتساب اليها، عملاً بمبدأ الحريات التربوية، وفقاً لشرعة حقوق الانسان والدستور اللبناني.

 

***        

الصلاة 

         ايها الرب يسوع، شددنا بقوة صليبك لنغلب الضعف، فنرتضي الألم، مهما كان نوعه، لانك انت تحوّله الى قوة خلاصية، مثل آلامك الفادية. انتزع منا بحكمة الصليب الشك واليأس والتراجع امام الصعوبات والمحن، فان منه نور الحقيقة والرحمة وينبوع الغفران. اعطنا ان نعيش على مثالك ثقافة حبة الحنطة اي التجرد واخلاء الذات من اجل حياة جديدة في العائلة والكنيسة والمجتمع. قدّس الكهنة لكي يجسّدوا حضورك الهادي بكلمتهم، والشافي بالنعمة التي تُوزّع على ايديهم، ولكي يجتذبوا الناس اليك، على مثال القديس خوري آرس. ألهم المسؤولين في بلادنا ليديروا شؤون التعليم العالي فتتمكن اجيالنا الطالعة من اعداد مستقبلهم ومستقبل وطنهم بأوفر علم واختصاص. ونرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر التي اعلن بها السنة الكهنوتية (16 حزيران 2009).

 


 

الاحد الاول بعد ارتفاع الصليب

طيموتاوس 2: 1-10

مرقس 10: 35-45

قيمة الألم والحياة الابدية بعد الموت

 

          زمن الصليب مخصص لما يسمى بزمن النهايات، اي ما بعد موت الانسان ونهاية العالم، وباللغات المشتقة من اليونانية نقول " اسكاتولوجيا"، والاصل  eskatos - النهاية. في هذا الزمن نجد جواباً على السؤال المطروح: ماذا بعد الموت؟ هل يوجد شيء من بعده؟ هل يبقى شيء منا بعد الموت؟ هل العدم ينتظرنا؟

         الجواب يأتي من قراءات هذا الاحد: بولس الرسول يتكلم  عن المجد الآتي للانسان المؤمن المتألم مع المسيح. وفي الانجيل، طلب يعقوب ويوحنا وجواب يسوع يؤكدان هذا المجد للذين يشربون كأس الألم مع المسيح، ويصطبغون بدم الاستشهاد.

         كما ان زمن الصليب يلقي الضوء على قيمة الألم البشري في تاريخ الخلاص.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

1.    رسالة بولس الرسول الثانية الى تلميذه طيموتاوس:2/1-10

 

وأَنْتَ، يا ابْنِي، تَشَدَّدْ بِالنِّعْمَةِ الَّتي في الـمَسِيحِ يَسُوع. ومَا سَمِعْتَهُ مِنِّي  بِحُضُورِ شُهُودٍ كَثِيرِين، إِسْتَودِعْهُ  أُنَاسًا أُمَنَاء، جَدِيرِينَ هُم أَيْضًا بِأَنْ  يُعَلِّمُوا غَيْرَهُم. شَارِكْنِي في احْتِمَالِ الـمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِلمَسِيحِ يَسُوع. ومَا مِنْ جُنْدِيٍّ يَنْهَمِكُ في الأُمُورِ الـمَعِيشِيَّة، إِذا أَرادَ أَنْ  يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ. ومَنْ يُصَارِعُ لا يَنَالُ إِكْلِيلاً إِلاَّ إِذا صَارَعَ بِحَسَبِ الأُصُول. والـحَارِثُ الَّذي يَتْعَبُ لَهُ الـحَقُّ بالنَّصِيبِ الأَوَّلِ مِنَ الثَّمَر. تأَمَّلْ في مَا أَقُول: والرَّبُّ سَيُعْطِيكَ فَهْمًا في كُلِّ شَيْء! تَذَكَّرْ يَسُوعَ الـمَسِيحَ الَّذي قَامَ مِنْ بَينِ الأَمْوَات، وهُوَ مِنْ نَسْلِ دَاوُد، بِحَسَبِ إِنْجِيلِي، الَّذي فِيهِ أَحْتَمِلُ الـمَشَقَّاتِ حَتَّىالقُيُودَ كَمُجْرِم، لـكِنَّ كَلِمَةَ اللهِ لا تُقَيَّد. لِذـلِكَ أَصْبِرُ على كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِ الـمُخْتَارِين، لِيَحْصَلُوا هُم أَيْضًا على الـخَلاصِ في الـمَسِيحِ يَسُوعَ مَعَ الـمَجْدِ الأَبَدِيّ.

 

نجد في الرسالة معنى زمن الصليب وقيمة الألم البشري في سبيل المسيح، والمجد الأتي بعد الموت. والاثنان من نعمة المسيح.

    في القسم الاول، يؤكد بولس ان نعمة المسيح هي التي تشدد. فيدعو الى احتمال المشقات بثبات، مثل الجندي الملتزم، والمصارع حسب الاصول، وحارث الارض الصبور (1-6). فالجندي في النهاية ينتصر، والمصارع ينال اكليل الثواب، والحارث ينعم بثمار الارض.

         الكنيسة السائرة في التاريخ تسمى " الكنيسة المجاهدة"، لانها تسعى الى كمال الخلق وتحرير الانسان والعالم من معوّقاته، وجعله خلقاً جديداً بالمسيح. فالمعوّقات هي ثمار الخطيئة والشر المرتكبين بحرية الانسان. فكان الشر الحسّي والشر المعنوي اللذين جاء المسيح يحررمنهما، ويستخرج الخير من الشر بسرّ الحكمة الالهية، اذا عرف المتألم منهما ان يستضيء بنور الكلمة، يسوع المسيح. فمن أكبر شرّ ادبي ارتُكب في التاريخ، وهو رفض ابن الله المتجسد وقتله صلبا، بسبب خطيئة كل البشر، استخرج الله، بفيض من نعمته، اكبر الخيور: تمجيد المسيح وفداءنا. ولكن الشرّ لا يصبح خيراً. ولهذا قال بولس الرسول: " كل شيء يؤول لخير الذين يحبون الله"  (روم8/28)[1].

         في القسم الثاني من الرسالة، يضع بولس الاساس لما بعد الموت: " تذكّر يسوع المسيح الذي قام من بين الاموات". فأعطى السبب الذي من اجله احتمل هو المشقات كمجرم، وصبر على كل شيء. وأكّد ان بعد الموت يوجد الخلاص بالمسيح مع المجد الابدي، لاننا " ان متنا معه نحي معه" ( 2 طيم 2: 8-11).

         بما ان المسيح قام من الموت، الانسان ايضاً يقوم. تؤمن الكنيسة بقيامة الموتى، كما تعلن في قانون الايمان. هذا يعني ان " الانا" البشري يستمر، ونسمّيه " النفس" حسب الكتب المقدسة والتقليد. تؤمن الكنيسة في ضوء كلام بولس وسواه بسعادة الابرار الذين ينضمون بعد موتهم الى المسيح. وتؤمن بالمقابل بعقاب المائتين في حالة الخطيئة، فيُحرمون من مشاهدة الله، والعقاب يطال كل كيانهم.

         في كلام القديس بولس الداعي الى تذكّر قيامة الرب يسوع والى الصبر على المحن، اساس الرجاء المسيحي بالقيامة العتيدة، هو الذي قال: " لو لم يقم المسيح، لكان ايماننا  باطلاً" (1كور 15: 14). المسيح القائم من الموت هو اساس رجائنا الذي ينفتح على ما بعد حدود حياتنا الارضية. هذا ما حمل الرسل على قبول الألم في سبيل البلوغ الى المجد الابدي. والشهداء الذين اقتيدوا الى الموت كانوا يجدون قوتهم في رجائهم بملاقاة المسيح من خلال الموت، وبقيلمتهم العتيدة. بفضل هذا الرجاء، ارتفع قلب المؤمنين نحو السماوات، فالتزموا باتمام واجباتهم في هذا العالم بكل سخاء وكمال، ارضاءً لوجه الله الذي يرجون مشاهدته بعد الموت.

 

2.    انجيل القديس مرقس: 10/35-45

يورد النص الانجيلي طلب يعقوب ويوحنا الى يسوع " ليجلسا الواحد عن يمينه والواحد عن يساره في مجده" ( 10/37). ما يعني ان في عهد المسيح كان التلاميذ يؤمنون بالحياة الابدية بعد الموت. وكان ايمانهم موطّداً على تعليم كتب العهد القديم، مثل المزامير (مز 73: 23-26؛ 49: 16) وكتاب ايوب ( 19: 25-27)، وسفر الحكمة ( 3: 1 و4 و15 – 16؛ 15: 3-4)، وتثنية الاشتراع (12:2)، وسفر المكابين الثاني ( 7:9 و14؛ 12: 43). وزاد ايمانهم بالقيامة في اليوم الاخير بفضل ما سمعوا من تعليم الرب يسوع.

وضع يسوع في جوابه شرط احتمال الألم معه: " شرب كأس الألم، والاعتماد بمعمودية الدم" (مز10: 38-39)، للمشاركة في مجده. ما يعني انه بآلامه قد اعطى قيمة خلاصية لآلام البشر التي يقبلونها بصبر، ويشركونها بآلام الفادي الالهي. واضاف ان الطموح الى العلى والى المجد يمرّ عبر الخدمة حتى بذل الذات  (مز10: 44-45).

يحتاج عالم اليوم الى مزيد من الرجاء لكي يلتزم بموجبات الحياة الارضية والمسلك الصالح وعيش القيم الروحية والانسانية والخلقية. فالرجاء يضعف اليوم بسبب روح الدنيوية اي عدم المبالاة بالدين او الاعتبارات الدينية ( secularization - secularism) مع نظرة مستقلة للانسان وللعالم، وبسبب الشك لدى البعض حول الرجاء الاسكاتولوجي، والقلق حيال الموت، والخوف من الدمار النهائي.

 

***

 

ثانياً، السنة الكهنوتية – الكاهن وعمله الراعوي مع الشبيبة[2].

 

      يستوحي الكاهن عمله الراعوي مع الشبيبة من حوار الرب يسوع مع الشاب كما تورده الاناجيل الازائية[3]، كمن ينبوع اول واساسي.

       استطاع الشاب ان يقارب يسوع بسهولة، وكله ثقة بمعلم الناصرة. يستطيع ان يطرح عليه بصراحة الاسئلة الجوهرية، ومنه استطاع ان ينتظر الجواب الحق. الكاهن مدعو ليكون هذا الشخص – الثقة، السهل الوصول اليه من دون اي حاجز مادي او نفسي او روحي، والذي يجد فيه الشباب الانفتاح والمحبة والجهوزية لمقاربة معضلاتهم الاساسية. وعليه ان يساعدهم على تخطي ترددهم وانغلاقهم على ذواتهم. فهو المعني الاول ببدء " حوار الخلاص".

     ان يكون الكاهن سهل المقاربة هذا يعني اولاً امكانية الدخول في حوار معه في الكنيسة وفي بيته، في الرياضة والسياحة والثقافة، ويعني ثانياً ان يكون صاحب ثقة لدى الشباب بتهيئته الرعوية ومهارته التربوية، ما يحملهم على طرح تساؤلاتهم الروحية والضميرية والاخلاقية عليه,

          سأله الشاب: ايها المعلم، ماذا اعمل لارث الحياة الابدية؟ سؤال يفتح حقلاً واسعاً للحوار مع الشاب حول شؤون الحياة البشرية، والانجيل غني بالاجوبة الممكنة. على الكاهن ان يحسن السماع والاجابة، وهما ثمرة نضجه الداخلي، وثمرة الصلاة والاتحاد بالمسيح الرب، وثمرة جهوزيته للانقياد لفعل الروح القدس، وثمرة حسّه بالمسؤولية تجاه الحقيقة وتجاه مخاطبه. سمّى الشاب يسوع " بالمعلم الصالح"، لانه شعر بأنه يسوع صاحب مصداقية وسلطة معنوية لقول الحقيقة التي ينتظرها منه، ولانه يعتقد ان جوابه سيكون ملزماً.

                  القسم الثاني من جواب يسوع، بشأن ترك كل شيء واتباعه، احزن الشاب ولم يستطع الالتزام. لكنه " حزن خلاصي" لا بدّ وان يقوده يوماً الى الحقيقة والفرح. ينبغي على الكاهن ان يقول كل الحقيقة للشباب مع كل مستلزماتها وشروطها من دون خوف، ليتمكنوا من اختيار طريقهم.

        بجوابه " الصالح هو الله وحده" اراد يسوع ان يختفي ليظهر  وجه الله، اراد نوعاً ما ان يُنسى. هكذا لا يحجب الكاهن في عمله الراعوي مع الشباب وجه المسيح، بل يلتزم شخصياً ويتصرف بشكل طبيعي، كمخاطب وصديق وموجّه. فيكشف وجه الله الذي هو "اقرب لذاتي من أنا لذاتي" (القديس اغسطينوس).

 

      نظر يسوع الى الشاب وأحبّه ( مر10: 21). ان الينبوع الاول والاعمق لفاعلية العمل الراعوي هو " النظرة بحب"، مثل المسيح. هو حبّ كل انسان في المسيح، اياً كان عمره وظرفه، ميله وحالته. وهو حبّ الشبيبة بنوع خاص، في طموحاتها وفي ضعفها، في حريتها المحرّرة وفي استعبادها لنزواتها ومصالحها. فعمر الشباب هو عمر الخيارات والقرارات الحاسمة، وبه يرتبط مستقبل الشخص البشري الوحيد في فرادته وشخصيته. حبّ الشباب من قبل الكاهن هو وعيه لمسؤليتهم عن مستقبلهم الشخصي، وجهوزيتهم على تحمل المسؤولية المشتركة. وعليه، هو حبّ مجّاني، مخلص، متجرّد، متميّز بالطيبة والامانة الكهنوتية والعزم. وهذه صفات نابعة من القلب.

       عرض يسوع على الشاب كل الخير: حفظ الوصايا، واتباعه في المحبة الكاملة.

      "الخير" الذي يقدمه الكاهن للشباب هو " اتباع يسوع"، ولا خير اكبر منه. فاتباع المسيح سعي الى ايجاد الذات على حقيقتها كأنسان، ذلك ان المسيح كشف تماماً الانسان للانسان، وأبان له سمو دعوته كأنسان؛ وواتباعه سعي الى ايجاد هذه الدعوة تكتمل بها كرامته وتعطي معنى ومضموناً لصورة الله التي خُلق على مثالها، من خلال الخيارات التي يتخذها والقيم الانسانية المسيحية التي تلهم كل خيار.

   الغاية الاخيرة من هذا " الخير" المقدم للشباب باتباع المسيح، انما هي مساعدتهم في ايجاد دعوتهم، وفي تحقيق رغبتهم بتحويل العالم، وجعله اكثر انسانية واكثر اخوّة. هذا هو  "ملكوت الله" وفي الوقت عينه " ملكوت الانسان"، أعني العالم الجديد حيث تتحقق ملوكية الانسان الاصيلة.

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         ما زالت الخطة الراعوية تتقبل النص السابع عشر " الكنيسة المارونية والتعليم العالي"، وتحديداً ما يختص بتوصيات المجمع على صعيد مؤسسات التعليم العالي الماروني (الفقرات 72-86). هذه التوصيات هي:

         1) ضرورة الحفاظ على اللغة السريانية، نظراً لقيمتها الطقسية والمجتمعية والثقافية، والعمل على احياء تراثها الادبي والفكري والروحي، وادخاله في المناهج الدارسية.

         2) تعزيز اللغة العربية لانها تدخل في صلب رسالة الموارنة الروحية، ولانها اداة اتصالهم الفضلى بالعالم العربي والاسلامي، ولانها تحافظ على اشعاع لبنان الثقافي في البيئة المشرقية.

         3) ضرورة اتقان اللغات الاجنبية لانها تشكّل حاجة ماسّة لكل المواطنين في المجتمعات الحديثة، ولانها من مقتضيات ديموقراطية التعليم.

         4) تبني الثلاثية اللغوية: العربية والفرنسية والانكليزية، بالشكل التراتبي، حفاظاً على الاتصال بالجذور، وتلبية لمقتضيات العولمة.

         5) تعزيز التنسيق بين مؤسسات التعليم العالي المارونية، وبينها وبين المؤسسات الكاثوليكية، من خلال هيئة تحدد مهامها وصلاحياتها، وتكون لها وظيفة تمثيل المؤسسات الاعضاء لدى المراجع الكنسية والمدنية، وتتوضّح طبيعة قراراتها على مستوى الاستشارة والتوصية والتقرير.

         6) صياغة شرعة تربوية لمؤسسات التعليم العالي المارونية، تستمد مبادئها من وثائق منظمة الاونسكو، وبيان المجمع الفاتيكاني الثاني " في التربية المسيحية"، والارشاد الرسولي " رجاء جديد للبنان"، ومن النص التأسيسي لكل جامعة، ومن الابعاد التي تكوّن شخصية كل مؤسسة، ومن ميزاتها المشتركة: جامعة كاثوليكية، مارونية، عاملة في الوطن اللبناني، وعلى ضفاف البحر المتوسط، وفي قلب العالم العربي، وفي مواجهة التحديات الكبيرة للغاية. 

***        

         صلاة 

         ايها الرب يسوع، أضىء في قلوبنا شعلة الرجاء بالقيامة العتيدة، لكي نواصل في الكنيسة ومعها بناء ملكوت الله على الارض، غير متأثرين بالمحن والمصاعب. اعطنا ان نستمد من الصليب القوة والحكمة لنعلن الحقيقة، ونوطّد العدالة، ونحقق الحرية، ونبثّ المحبة. فليكن رجاؤنا بالحياة الابدية التزاماً بموجبات الحياة الزمنية في مدينة الارض، لكي نبني فيها مدينة الله على القيم السميا. اعضد الكهنة في قيامهم باعباء راعوية الشباب، ليهدوهم الى الحقيقة والخير اللذين هما انت ايها المسيح، فيحسنوا خيارات مستقبلهم الحاسمة. أنر بالهامات روحك القدوس القيّمين على التعليم العالي في جامعاتنا، لكي يغتني شبابنا بالعلم والاخلاقية، فيكونوا ثروة البلاد والقوى التجددية في المجتمع والكنيسة. ونرفع التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثولكية، 310-312.

[2] . رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى الكهنة بمناسبة خميس الاسرار 1985.

[3] . انجيل متى 19: 16-22؛ مرقس10: 17-22؛ لوقا 18: 18-23.

 


 

الاحد الثاني بعد ارتفاع الصليب

1 كورنتس 15: 19-34

متى 24: 1-14

قيامة المسيح اساس قيامتنا

 

         زمن الصليب هو زمن مسيرة الحج الفردي والجماعي على وجه الارض، وسط المحن والصعوبات، بجهاد السعي الى احلال ملكوت الله في الذات وفي المجتمع. وفيما الصليب ثابت، العالم ينطوي يوماً بعد يوم سائراً نحو نهايته. ان مسيرة الحج تفتح آفاق النهايات. هذا هو زمن الصليب. والكنيسة، يقول القديس اغسطينوس، "تسير بين اضطهادات العالم وتعزيات الله".

         القراءات تتكلم في هذا الاحد عن النهايات: القيامة من الموت على مثال المسيح، ومجيء الرب يسوع الثاني بالمجد، ونهاية العالم.

 

اولاً، القراءات المقدسة

 

1.    انجيل القديس متى: 24/ 1-14 – مجيء المسيح الثاني ونهاية العالم.

 

وخَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الـهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يُلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الـهَيْكَل. فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: "أَلا تَنْظُرونَ هـذَا كُلَّهُ؟ أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض". وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَّيتُون، دَنَا مِنْهُ التَّلامِيذُ على انْفِرَادٍ قَائِلين:" قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هـذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟". فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: "إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!         فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلين: "أَنَا هُوَ الـمَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هـذَا. ولـكِنْ  لَيْسَتِ النِّهَايَةُ بَعْد! سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ  في أَمَاكِنَ شَتَّى، وهـذَا كُلُّه أَوَّلُ الـمَخَاض. حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِّيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي. وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا. ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين. ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين. ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ. ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ الـمَلَكُوتِ هـذا في الـمَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِّهَايَة.

 

عندما تنبأ يسوع عن خراب مدينة اورشليم وهيكل سليمان، وقد حصل فعلاً على يد الرومان سنة 70 بعد المسيح، ولم يعد ممكناً اعادة بنائه الى اليوم، فهم التلاميذ ان هذا الحدث يعني مجيء الرب الثاني ونهاية العالم. فكان سؤالهم: " قل لنا متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك ونهاية العالم؟" (متى24/3).

لم يجب يسوع مباشرة على هذا السؤال حول الحدثين، بل تحدث عن علامات الضيق والمصاعب والمحن التي تعترض مسيرة المؤمنين والكنيسة فدعاهم الى امرين:

الاول، بشأن مجيئه الثاني المسمّى باللاتينية واليونانية parusia، ان يتنبّهوا الى ظهور "مسحاء كذبة" يدّعون انهم المسيح الآتي من السماء (الآيتان 4 و5)، والى عدم الخلط بينه وبينهم. ولم يقل اي شيء عن مجيئه الثاني، لان المهم عدم الانزلاق في الاضاليل، والثبات على ما تعلّم الكنيسة، حامية التعليم الصحيح والانجيل.

الثاني، بشأن نهاية العالم، ان يصبروا الى النهاية (الأية 13)، وألاّ يخافوا من الحروب والاضطهاد، او يتأثروا من الاحقاد وجحود الايمان وفتور المحبة. ولكن ليست النهاية بعد، بل البداية لمسيرة طويلة يلتزم فيها المؤمنون بناء ملكوت الله في العالم، وهو الاتحاد بالله عمودياً، والوحدة بين جميع الناس افقياً، والكل على اساس القداسة والحقيقة والعدالة والمحبة وحرية القلب والضمير.

أكدّ الرب يسوع ان حقيقة الحدثين تقتضي ان  "يُكرز بانجيل الملكوت في المسكونة كلها، شهادة لجميع الامم، وحينئذ تأتي النهاية" (الآية 14).

تُعنى الكنيسة، جيلاً بعد جيل، بالكرازة بانجيل الشركة مع الله بالاتحاد الايماني والروحي به، بواسطة كلمة الحياة ونعمة الاسرار، والشركة مع الناس بوحدة الجنس البشري القائمة على رباط المحبة التي يسكبها الله بالروح القدس في قلوب البشر. فيما تكرز بالانجيل تعلّم الكنيسة، بما لها من سلطان تعليمي الهي، الحقائق التي يهديها اليها الروح القدس، على مستوى الايمان والحياة الاخلاقية؛ وتحكم على صلاح الافعال البشرية، الشخصية والجماعية، وشرها؛ وتقرأ علامات الازمنة، باحثة عن ارادة الله في احداث الحياة اليومية وظروفها، وتعطي اجوبة على تساؤلات الانسان والجماعات، وتصوغ برامج راعوية لتلبية الحاجات المطروحة.

 

2. رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل كورنتس: 15/ 19-34: قيامة الاموات.

إِنْ كُنَّا نَرْجُو الـمَسِيحَ في هـذِهِ الـحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين! وَالـحَالُ أَنَّ الـمَسِيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين. فَبِمَا أَنَّ الـمَوْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات. فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الـجمِيع، كَذ,لِكَ في الـمَسِيحِ سيَحْيَا الـجَمِيع، كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: الـمَسِيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ. وَبَعْدَ ذـلِكَ  تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ الـمَسِيحُ الـمُلْكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة، لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه. وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الـمَوْت. أقسِمُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، بِمَا لي مِنْ فَخْرٍ بِكُم في الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا، أَنِّي أُوَاجِهُ الـمَوْتَ كُلَّ يَوْم. إِنْ كُنْتُ صَارَعْتُ الوُحُوشَ في أَفَسُس، لِغَايَةٍ بَشَرِيَّة، فأَيُّ نَفْعٍ لي؟ وإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَب، لأَنَّنَا غَدًا سَنَمُوت! لا تَضِلُّوا! إِنَّ الـمُعَاشَرَاتِ السَّيِّئَةَ تُفْسِدُ الأَخْلاقَ السَّلِيمَة! أَيْقِظُوا قُلُوبَكُم بِالتَّقْوَى، ولا تَخْطَأُوا، فَإِنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَجْهَلُونَ الله! أَقُولُ هـذَا لإِخْجَالِكُم!

يؤكد بولس الرسول ان بعد الموت توجد القيامة، واساسها قيامة المسيح. ذلك ان في كل جيل، يتساءل الناس حول المصير بعد الموت. ويخالج الشك والريبة نفوسهم مع كثير من القلق. ويتساءلون: هل الموت يقود الى العدم ام الى حياة جديدة؟ وهل الحياة بعد الموت هي عودة من جديد الى الارض بنوع من التقمّص؟ وما هو اساس الرجاء بحياة ابدية؟ أهو وعد الله بالمسيح ام مخلص آخر ينبغي انتظاره؟ وتكثر الاسئلة ويزداد الشك في النفوس بسبب عدم الاكتراث الديني، والروح الدنيونة والمادّية والاستهلاكية، وتيّار النسبية.

فالمسيح القائم من الموت هو رجاء قيامتنا، لانه " القيامة والحياة"، كما قال لمرتا اخت لعازر (يو11:25)، واعطى البرهان باقامته لعازر  من الموت بعد ثلاثة ايام. فيؤكد بولس ان " المسيح قام من بين الموات، وهو باكورة الراقدين"، ويضيف ان كل انسان انما يموت بآدم الانسان الاول، ويقوم بالمسيح آدم الثاني (الآيات 20-22).

وهو نموذج قيامتنا " لانه الباكورة" ( الآية 23). ما يعني ان على مثاله يقوم الجميع. وكونه رأس الجسد، والبشرية المفتداة اعضاء فيه، فاذا قام رأس الجسد، ينبغي حتماً ان تقوم الاعضاء كذلك. حيث يمرّ الرأس، يمرّ الجسد ايضاً.

وهو سبب قيامتنا، وبرهان بولس هو: " بما ان الموت كان بواسطة انسان، فبواسطة انسان ايضاً تكون قيامة الاموات" (الآية 21). والمسيح مات وقام، ليبطل الموت ويقيمنا. ويقول بولس ان " آخر عدّو يبطله المسيح بقيامته هو الموت" (الآية 26).

في رسائل اخرى، يؤكد بولس الرسول ان القيامة بدأت فينا اسرارياً بالمعمودية: "لقد دُفنتم مع المسيح في المعمودية، وفيها ايضاً اُقمتم معه، لانكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الاموات" ( كول2: 12). ان قيامتنا من الموت تشكّل ذروة السّر الذي بدأ في المعمودية، وتدخلنا في الشركة الكبرى مع المسيح ومع سائر اخوتنا البشر، وتصبح الموضوع الارفع لرجائنا، وهو " اننا سنكون مع المسيح على الدوام" ( اتس 4: 17). على هذا الاساس تكون قيامة الاموات حدثاً كنسياً، بحيث ان المسيح الكلي او السرّي الذي هو الكنيسة، يقوم على مثال المسيح التاريخي.

فلأننا ابناء القيامة العتيدة، ينبغي ان نعيش دوماً قيامتنا الاسرارية، التي هي قيامة القلوب، يتكلم عنها بولس في القسم الاخير من هذه الرسالة. انها:

·        مصارعة الشر ومواجهة الموت الحسي بالاستشهاد، لاننا سنقوم.

·        اعطاء معنى لحياتنا، فلا تقتصر على الاكل والشرب.

·        المحافظة على الاخلاق السليمة بتجنّب العشرات السيئة.

·        ايقاظ القلب بتقوى الله ومعرفته (الآيات 32-34).

ثانياً، السنة الكهنوتية - خدمة سرّ التوبة والمصالحة على مثال القديس خوري آرس[1]

 

          ان غاية تجسّد ابن الله وفداء الجنس البشري، بموته على الصليب وقيامته، هي مصالحة الانسان مع الله والذات والناس، وحدها نعمة الفداء تشفيه من خطيئته وضعفه، وبها ينال الخلاص الابدي  وينجو من الهلاك. فاسس الرب سرّ التوبة وأعطى كهنة العهد الجديد سلطان الحلّ من الخطايا بقوة الروح القدس الذي يحقق ثمار الفداء في كل تائب: " خذوا الروح القدس! من غفرتم خطاياه غفرت، ومن امسكتم خطاياه اُمسكت" ( يو20: 23).

         يترك القديس جان ماري فيانيه، خوري آرس، مثالاً ونهجاً للكهنة في سماع اعتراف المؤمنين والبلوغ بهم الى التوبة.

         بفضل تماهي خوري آرس مع ذبيحة الصليب، كان ينتقل عفوياً ويومياً من المذبح الى كرسي الاعتراف. كان معتاداً، عند احتفاله بالقداس اليومي، ان يقدّم ذاته ذبيحة لله في كل صباح.

         سعى خوري آرس بالكرازة والتوجيه الى اقناع ابناء رعيته باكتشاف مفهوم التوبة الاسرارية وجمالها، مبيّناً انها ثمرة حضور المسيح في سرّ القربان. وبسجوده الطويل امام بيت القربان، راح يجتذب الناس الى الاقتداء به، وزيارة الرب يسوع، وهم على يقين من انهم يجدون هناك كاهنهم، جاهزاً لسماع اعترافهم ومنحهم الغفران. وسريعاً ما زاع صيته، فكان يتوافد اليه المؤمنون من كل انحاء فرنسا، وكانت الجماهير تأسره في كرسي الاعتراف حتى الساعة الرابعة بعد الظهر. وشاع القول ان " آرس اصبحت المستشفى الكبير للنفوس".

         لقد نال  خوري آرس نعمة التوبة عن الخطيئة، هذه النعمة التي كانت تبحث عن الخطأة. كان يقول: " ليس الخاطىء هو الذي يرجع الى الله ليطلب الغفران؛ بل الله نفسه هو الذي يبحث عنه ويلاحقه ليرجعه الى الغفران. هذا المخلص الصالح هو مملؤ حباً لنا، حتى انه يبحث عنا في كل مكان. ويكلّف كهنته ليعلنوا انه مستعد دائماً لاستقبال الخطأة، وان رحمته لا متناهية".

         القديس جان ماري فيانيه هو مثال للكهنة في جعل سرّ التوبة اول اهتماماتهم الرعوية، وترك لهم اسلوباً لحوار الخلاص مع مختلف التائبين:

         فمن يأتيه بحاجة عميقة ومتواضعة الى الغفران، كان يجد لديه التشجيع على ان يغطس في تيار الرحمة الذي يجرف معه كل شيء.

         ومن يأتيه متألماً من ضعفه وخائفاً من العودة الى سقطاته السابقة، كان يكشف له سرّ الله بتعبير جميل ومؤثر: " الله الصالح يعرف كل شيء. ويعرف مسبقاً انك، من بعد الاعتراف، ستخطأ من جديد. لكنه يغفر لك. ما اعظم حب الله هذا، فيذهب حتى نسيان المستقبل عمداً، لكي يغفر لنا".

         ومن يأتيه شاكياً نفسه بالفتور وبشيء من عدم الاكتراث، كان يقدّم له، من خلال دموعه، البرهان عن الألم والخطورة اللذين يحدثهما هذا المسلك المقيت. ويقول له: "انا ابكي ما لا تبكيه انت. فلا يجوز ان يكون الانسان بربرياً مع الله كلي الجودة والصلاح". واذ كان يظهر ألم الله على وجه الكاهن القديس، كانت الندامة تولد في قلب الفاترين.

          ومن يأتيه بشوق واعٍ الى حياة روحية اكثر عمقاً، كان يُدخله في اعماق الحب، وسعادة  العيش في الاتحاد مع الله واستحضاره. وكان يعلمه ان يصلي: " اعطني يا الهي النعمة لاحبك بمقدار ما استطيع".

 

***

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تختم الخطة الراعوية تقبّل النص السبع عشر: " الكنيسة المارونية والتعليم العالي"، في القسم الاخير من التوصيات والاقتراحات المختصة بأولياء الطلاب، والطلاب انفسهم، والاساتذة، والانتشار..


 

1.    على صعيد اولياء الطلاب (الفقرتان 87-88).

         يشجع المجمع باسم الكنيسة الاهل على دفع اولادهم بهمّة واندفاع وكثافة الى طلب التعليم العالي بانواعه الثلاثة: الاكاديمي والتكنولوجي والمهني، وفقاً لكفاءات الشباب ومواهبهم وتطلعاتهم وحاجات المجتمع.

         كما يشجع المدارس والرعايا على انشاء مراكز معلومات وتوجيه وارشاد، لكي يتمكن الطلاب وأهلهم من اختيار ما يتلاءم مع تطلعاتهم وامكاناتهم من الاختصاصات الاكاديمية والتقنية والمهنية، ومن اختيار مؤسسة التعليم العالي التي تناسبهم، عملاً بحرية التعليم وديموقراطيته.

 

2.    على صعيد الطلاب (الفقرات 89-92)

         يدعو المجمع الى توجيه اختصاص الطلاب وتوزيعهم على المؤسسات الجامعية، انطلاقاً من احصاءات دقيقة وشاملة عن انواع التعليم العالي والجامعات والمعاهد، تقوم بها مراكز او لجان متخصصة.

         ويطالب المجمع بالحدّ من هجرة الادمغة، طلباً للعلم او للعمل، بمعالجة اسبابها الامنية والاقتصادية والسياسية.

         ويدعو الى انشاء صندوق قروض ومنح جامعية، يستفيد منها الطلاب لكي يتمكنوا من اختيار الجامعة التي يريدون والاختصاص الذي يرغبون فيه.

 

3.    على صعيد الاساتذة الجامعيين ( الفقرات 93-98)

         تسهر الكنيسة وتعمل عل ان يتحلّى الاساتذة الجامعيون بالمعارف والمهارات وبالثقافة الايمانية، والروح الوطنية، والاخلاقية والالتزام الروحي. فانهم مسؤولون امام الله والوطن والكنيسة عن الرسالة المنوطة بهم تجاه اعداد اجيالنا الطالعة في خدمة العائلة والوطن والمجتمع البشري.

         تعمل الكنيسة على انشاء رابطات بين الاساتذة الجامعيين من اجل تبادل الخبرات والمشاركة في التفكير، ومواجهة التحديات، وتعزيز روح التعاون والتضامن فيما بينهم.

         ومن الضرورة ان تتعاون الكنيسة مع الاساتذة الجامعيين في وضع الدراسات التي تحتاج اليها في عملها الراعوي والرسولي والاداري، وفي ما تحتاج اليه من مشورة ورأي وقرار في الشؤون الرعوية والاجتماعية والوطنية.

 

4.    على صعيد الانتشار (الفقرة 99).

          يوصي المجمع بانشاء روابط للاساتذة وللطلاب في بلدان الانتشار، وبتقصّي الاشخاص المجلّين في العلوم، في بلدان الانتشار، والافادة من معارفهم ومهارتهم في جامعات لبنان، وتنظيم مؤتمرات يشارك فيها اساتذة وطلاب الانتشار، وتخصيص منح جامعية للطلاب، والسعي الى ادراج اللغة العربية بين اللغات الاختيارية في جامعات الانتشار. 

***

         صلاة 

         ايها الرب يسوع، نبّهنا بواسطة رعاة الكنيسة، المؤتمنين على وديعة الايمان السليم والتعليم الصحيح، الى تمييز " المسحاء الكذبة" وعدم الانزلاق في اضاليلهم، فنثبت على تعليمك معطي الحقيقة والخلاص. قوّنا بالصبر على المحن والصعوبات في مسيرة الدنيا التي نوظفها في بناء ملكوت الله بحيث يعيش الناس اتحادهم بالله والوحدة فيما بينهم. إبعث ايها المسيح، بقوة قيامتك، قيامة القلوب  الاسرارية الى حياة جديدة فنصارع الشر، ونعطي معنى وجودنا للحياة، ونحافظ على الاخلاق السليمة، ونوقظ قلوبنا بتقوى الله ومرضاته. اعضد الكهنة في خدمتهم لسرّ التوبة، لكي يضعوها، على مثال القديس جان ماري فيانيه، في اولى اهتماماتهم، ضمانة لخلاص النفوس الموكولة الى عنايتهم. ساعد القيّمين على مؤسسات التعليم العالي لاتخاذ التدابير التي تؤول لخير الطلاب واوليائهم واساتذتهم، الذي منه خير الاسرة البشرية والاوطان. فنرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . رسالة البابا بندكتوس السادس عشر لاعلان السنة الكهنوتية (16 حزيران 2009).

 


 

الاحد الثالث بعد ارتفاع الصليب

فيليبلي 3: 17-4: 1

متى 24: 23-31

الحياة التزام وانتظار بقوة الرجاء المسيحي

 

         زمن الصليب هو زمن لاهوت الالتزام والانتظار. التزام بالرسالة المسيحية التي هي اعلان تصميم الله الخلاصي والعمل على تحقيقه. وانتظار مجيء المسيح الثاني وقيامة الاموات ونهاية العالم. الالتزام والانتظار هما العيش في الرجاء المسيحي، في ضوء قراءات هذا الاحد البيبلية.

         تعيّد الكنيسة اليوم للقديس فرنسيس الاسيزي، وللقديسة تريز الطفل يسوع اللذين عاشا بامتياز لاهوت الالتزام والانتظار، كما تعيّد ايضاً للسيدة العذراء سلطانة الوردية المقدسة، المخصص لها شهر تشرين الاول.

 

اولاً، القراءات البيبلية

 

1.    من رسالة القديس بولس الرسول الى اهل فيليبي 3: 17 – 4: 1

 

إِقْتَدُوا بِي، أَيُّهَا الإِخْوَة، وانْظُرُوا إِلى الَّذِينَ يَسْلُكُونَ على مِثَالِنَا. فَكَثِيرٌ مِنْ أُولـئِكَ الَّذِينَ كُنْتُ أُكَلِّمُكُم عَنْهُم مِرَارًا، وأُكَلِّمُكُم عَنْهُمُ الآنَ باكِيًا، يَسْلُكُونَ كأَعْدَاءٍ لِصَلِيبِ الـمَسِيح، أُولـئِكَ الَّذِينَ عَاقِبَتُهُمُ الـهَلاك، أُولـئِكَ الَّذينَ إِلـهُهُم بَطْنُهُم، ومَجْدُهُم في عَارِهِم، وفي أُمُورِ الأَرْضِ هُمُّهُم. أَمَّا نَحْنُ فمَدِينَتُنَا في السَّمَاوَات، ومِنْهَا نَنْتَظِرُ الرَّبَّ يَسُوعَ الـمَسِيحَ مُخَلِّصًا. وهوَ سَيُغَيِّرُ جَسَدَ هَوَانِنَا، فيَجْعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، وَفْقًا لِعَمَلِ قُدْرَتِهِ، الَّتي بِهَا يُخْضِعُ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيء. إِذًا، يَا إِخْوَتِي، الَّذِينَ أُحِبُّهُم وأَشْتَاقُ إِلَيْهِم، وأَنْتُم فَرَحِي وإِكْلِيلي، أُثْبُتُوا هـكذَا في الرَّبّ، أَيُّهَا الأَحِبَّاء.

يدعونا بولس الرسول الى الاقتداء به في الثبات على الرجاء، والاتكال على قدرة صليب المسيح وحكمته في مسيرة حياة الدنيا، لئلا نحصر همّنا بشؤون الارض ومجد الدنيا الباطل، ولكي نتغلب على شهوة العين والجسد. هذا هو الالتزام.

   ويدعونا في الوقت عينه الى موقف انتظار الوعد بالخلاص الابدي في مدينة السماء التي لم تصنعها ايدي البشر، مترقبين بالرجاء مجيء المسيح مخلصنا، في حياتنا اليومية، وفي نهاية العالم.

   ان لاهوت الالتزام والانتظار يضعنا في صراع دائم بين الخير والشر، كما يوجه مثل القمح والزؤان ( متى13: 24- 30). يعتبر القديس اغسطينويس ان التاريخ البشري، منذ بدء الخلق حتى نهاية الازمنة، صراع بين ملكوت الله وملكوت العالم المعروف بعالم الشيطان. لقد اعلن الرب يسوع ان التاريخ البشري مدعو ليصبح تاريخ تقدّم، يتوطّد فيه الخير والحقيقة والايمان، بقوة موته وقيامته. ينبغي في كل ذلك ان نكون واقعيين فنعي ان قوى الشر آخذ في موقف العداء للكنيسة وتعليمها. كتاب رؤيا يوحنا يسمّي قوى الشر بالتنين، والكنيسة بالمرأة، ويقول: " غَضِبَ التنين على المرأة، فذهب يشّن الحرب على باقي نسلها، الحافظين وصايا الله، والذين لهم شهادة يسوع، ووقف على رمل البحر" ( رؤيا، 12: 17-18). على هذا الاساس، يقول بولس الرسول لكل واحد منا ما قاله لتلميذه طيموتاوس: " وانت يا ابني، تشدد بالنعمة التي في المسيح يسوع. وشاركني في احتمال المشقات كجندي صالح للمسيح يسوع" ( 2 طيم/ 1 و3).

   في ضوء ما تقدّم نفهم كلمة القديس اغسطينوس: " الكنيسة تؤدي رسالتها الخلاصية بين اضطهادات العالم وتعزيات الله".

 

2.    انجيل القديس متى 24: 23-31

 

في القسم الاول من انجيل هذا الاحد يعود الرب يسوع فينبّه الى عدم الانصياع الى المسحاء الكذبة". هذا " التنبيه" هو بمثابة تعليم استودعه رعاة الكنيسة الذين يحفظون وديعة الايمان والتعليم الصحيح. فتجب العودة اليهم لتمييز كل تعليم. من اجل هذه الغاية نشرت السلطة التعليمية في الكنيسة " كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية".

 

حينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُم أَحَد: هُوَذَا الـمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاك! فَلا تُصَدِّقُوا. فَسَوْفَ يَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأَنْبِيَاءُ كَذَبَة، ويَأْتُونَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ وخَوارِق، لِيُضِلُّوا الـمُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا. هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم! فَإِنْ قَالُوا لَكُم: هَا هُوَ في البَرِّيَّة! فلا تَخْرُجُوا، أَو: هَا هُوَ في دَاخِلِ البَيْت! فَلا تُصَدِّقُوا.

 

ثم في القسم الثاني من الانجيل، يصف الرب مجيئه الثاني بالمجد من السماء paroussia الذي لا يعرف احد زمانه:

فكَمَا أَنَّ البَرْقَ يُومِضُ مِنَ  الـمَشَارِق، ويَسْطَعُ حَتَّى الـمَغَارِب، هـكَذَا يَكُونُ مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَان. حَيْثُ تَكُونُ الـجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُور. وحَالاً بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّام، أَلشَّمْسُ تُظْلِم، والقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوءَهُ، والنُّجُومُ تَتَسَاقَطُ مِنَ السَّمَاء، وقُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع. وحينَئِذٍ تَظْهَرُ في السَّمَاءِ عَلامَةُ ابْنِ الإِنْسَان، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّها، وتَرَى ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم.

المقصود من هذا الوصف الثبات والسهر والانتظار. فالرب آتٍ  ليغيّر وجه الارض بالشكل النهائي. لكننا نؤمن ان يسوع ما غاب عن الارض حين  صعد الى ابيه. فالصعود يعني الدخول الى المجد الالهي نهائياً بطبيعته البشرية. ونؤمن ايضاً انه حاضر ابداً معنا في الكنيسة، كما وعد: " ها انذا معكم طول الايام الى نهاية العالم" (متى28: 20).

ان وصف مجيئه "بعلامة ابن الانسان" يرمز الى الصليب المنتصر على الخطيئة والشر والموت، ويدعو الى اللجوء اليه كاداة خلاص.

القديس فرنسيس الاسيزي استمد من صليب كنيسة القديس دميانوس دعوته الالتزامية في اصلاح كنيسة المسيح. فقد دعاه يسوع المصلوب بصوته المباشر الى "اصلاح كنيسته". ورآه البابا في الحلم يُسند بكتفه الكنيسة المتصدعة وهي في حالة الانهيار.

القديسة تريزا الطفل يسوع استمدت من صليب المسيح قوة خلاصية لآلامها ولمرضها، فتقدست بها، وجعلت منها قرباناً روحياً من اجل الرسالات في العالم، فاعلنتها الكنيسة شفيعة المرسلين والمرسلات.

اما المسبحة الوردية باسرارها الاربعة الفرح والنور والحزن والمجد، فخير وسيلة لتجسيد لاهوت الالتزام والانتظار على مثال السيدة العذراء.

الوصف الرمزي لمجيء المسيح بالمجد في نهاية العالم يعني، ان المؤمنين به والمخلصين بصليبه سيتحوّلون الى المجد نفسه الذي نشاهده، على ما قال يوحنا الرسول: "نحن نعلم اننا، متى ظهر، سنكون امثاله" ( 1 يو 3: 2)., ما يعني الدخول في عالم السماء مع اجواق الملائكة المسبحيين في سعادة لا تفنى. هذا ما نفهمه من خاتمة نص الانجيل:

ويُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ يَنْفُخُونَ في بُوقٍ عَظِيم، فيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ الأَرْبَع، مِنْ أَقَاصي السَّمَاوَاتِ إِلى أَقَاصِيهَا.

انها القيامة الجماعية " في اليوم الاخير" ( يو6: 54)، حيث يقوم الجميع بالمجد ويدخلون في شركة كاملة مع المسيح القائم. وهكذا يكتمل جسد المسيح السرّي، كما يورد يوحنا في رؤياه ( رؤيا 6: 11). في نهاية الازمنة، تكون قيامة جسد المسيح السرّي الواحد على طريقة قيامة جسده التاريخي ( مجمع توليدو الحادي عشر).

 

***

ثانياً، السنة الكهنوتية: حياة الكاهن اجوبة يومية لله الذي ينادي[1]

 

         الكهنوت دعوة الهية يلبيّها المدعو، وليس خياراً شخصياً ينطلق من الذات. انه جواب حرّ، واعٍ، ومسؤول لنداء الهي. انه دعوة شخصية وجواب شخصي في اطار الحياة المسيحية حيث توجّه الى هذا دعوة الى الحياة الزوجية والعائلية، والى اخر دعوة الى الحياة المكرّسة، والى آخر دعوة الى الكهنوت. كل واحدة من هذه الدعوات تقتضي جواباً بخيار حرّ ومسؤول.

اما نداء المسيح الموجّه الى المدعو للحياة الكهنوتية، فمعبّر عنه بكلمة  "اتبعني"[2]، قالها لكل واحد من الرسل الاثني عشر، كهنة العهد الجديد. المدعو اليوم لا يسمع باذنه النداء اياه من فم المسيح، بل يسمعه بقلبه وذهنه. انها دعوة مجّانية وحرّة. فالمسيح يختار من يشاء.

لقد اختار صيادي سمك مثل بطرس ويعقوب ويوحنا ( متى 4: 19 و22)؛ واختار عشاراً ( متى 9:9) هو لاوي الذي اصبح متى، جابي الضرائب المعروف بالخاطي المشتهر؛ واختار مضطهداً للمسيحيين والكنيسة، هو شاول الطرسوسي الذي اصبح بولس  رسول الامم ( اعمال 9: 1-19).

الدعوة الكهنوتية نداء الهي هو، في بعده الاول والاساسي، فاتحة الطريق الذي على المدعو ان يسلكه في الحياة. لكنه طريق يدوم حتى الممات، بمعنى ان الله يدعوه كل يوم، وفقاً لحاجات الكنيسة والمجتمع، وعليه ان يلبي الدعوة الان وهنا في هذه وتلك من المسؤوليات والخدم والمبادرات والمواقف، وهو في ذلك يؤكد خياره الاول، ويجدد جوابه الى نداء الله بشكل دائم. ولذلك نقول: الحياة الكهنوتية هي تعاقب اجوبة لله الذي ينادي. وتمتلك بالتالي قوة تحرّك دينامية، لانها تنتمي الى عهد الله مع الانسان بواسطة سرّ الافخارستيا، ولا مجال لتحقيق هذا العهد ما لم يكن في قلب الكاهن حبٌ كبير للكهنوت والخدمة الكهنوتية.

 

***

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تبدأ الخطة الراعوية بتقبّل النص الثامن عشر: " الكنيسة المارونية والثقافة".

         يؤكد النص في مقدمته اهمية الثقافة كوسيلة لترقي الشخص البشري على مستوى الانسانية، وكعنصر جوهري في تطوّر المجتمعات البشرية وتفاعلاتها. ان الثقافة بُعد اساسي في حياة الانسان، لكونها تصقل امكانات الانسان المتعددة وتنمّيها، وتساعده على اخضاع الكون بالمعرفة والعمل، وعلى انسنة الحياة العائلية والمدنية والمجتمعية بالاخلاق والتنظيم. كما تشمل انماط السلوك والفكر والاحساس لدى الشخص في علاقته المثلثة بالطبيعة والانسان والله. انها تشكل قوة دينامية للخلق والابداع اللذين ينعشان الانسانية عامة (الفقرتان 1 و2).

         ونقرأ في مقدمة النص ان الكنيسة المارونية تفاعلت مع الثقافات المتنوعة عبر مسارها التاريخي الطويل، فأفادت منها وطبعتها بثقافتها الخاصة، ما أعطى قيمة لوجودها، وقوة لرسالتها وحضورها. وهكذا تنعم بتراث ثقافي خاص وتقاليد كنسية وليتورجية ولاهوتية وروحية وتنظيمية مميزة (الفقرة 3).

يدعو المجمع البطريركي الماروني الى المحافظة على هذا التراث الثقافي، وتوظيفه في حركة الانثقاف من اجل استمرارية التفاغل بين الانجيل والثقافة، والانخراط في حركة رسولية متجددة على هذا الاساس (الفقرتان 4 و5).

ان الفصل الاول من النص يعرض المسار التاريخي ودينامية الانثقاف في الكنيسة المارونية عبر ثلاث محطات: البُعد السرياني، والانطاكي الخلقيدوني، واللبناني على مدى الالف الاول (الفقرات 8 – 14)؛ التفاعل مع العالم العربي والاسلامي، ودور الموارنة في النهضة العربية وحركة الانثقاف العربي (الفقرات 15 -19)؛ فالتفاعل مع العالم العربي من خلال: وحدة الايمان، والمدرسة المارونية في روما، والتوازن بين الانفتاح والاصالة (الفقرات 20-22). هذا ما سنعرضه بالتفصيل في التنشئة المقبلة.

****

         صلاة 

         ايها الرب بيسوع، فليكن نور صليبك هادياً لنا في الالتزام. ساعدنا لكي، في قلب الكنيسة المجاهدة، نحلّ الحقيقة حيث الكذب، والنعمة حيث الخطيئة، والمحبة حيث البغض، والعدالة حيث الظلم، والحرية حيث الاستعباد. وهكذا نبني ملكوت الله في عالمنا. وانتِ يا امنا وسيدتنا مريم العذراء، علّمينا معرفة وجه يسوع ابنك لكي نتأمله ونجسّده في حياتنا، بواسطة تلاوة اسرار مسبحتك الوردية، التي تختصر لنا كل الانجيل. اعضد ايها المسيح، الكاهن الازلي، كهنتنا لكي يعطوا جوابهم الملتزم والسخي لنداءاتك االيومية، فيستمر على ايديهم وبواسطتهم حضورك الخلاصي في العالم. فقّه المسيحيين بانوار روحك القدوس وتعليم الكنيسة لكي يكسبوا ثقافة انجيلية وعلمية تمكّنهم من اداء رسالتهم الرامية الى طبع قيم الانجيل في ثقافات الشعوب والمجتمعات حيث يعيشون. فنرفع معاً المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . من رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى الكهنة، بمناسبة خميس الاسرار 1996.

[2] . متى 4: 19؛ 9: 9؛ مرقس 1: 17؛ 2: 14؛ لوقل 5: 27؛ يوحنا 1: 43؛ 21: 19.

 


 

الاحد الرابع بعد ارتفاع الصليب

1 تسالونيكي 5: 1-11

متى 24: 45-51

الدينونة الخاصة ومقتضيات السهر

 

 زمن الصليب، الذي يفتح نافذة على النهايات، يؤكد ان بعد نهاية الحياة بالموت، يخضع كل انسان لدينونة خاصة عن تصرفاته واعماله، يكون بنتيجتها ثواب او عقاب، كما يظهر من انجيل هذا الاحد. ويدعو هذا الزمن بلسان بولس الرسول الى العيش المستقيم بفضائل الايمان والرجاء والمحبة، وبالتزام الواجب اليومي.

 

اولاً، القراءات البيبلية

 

1.    انجيل القديس متى 24: 45-51: الدينوتة الخاصة على المسلك والاعمال

مَنْ هُوَ العَبْدُ الأَمِينُ الـحَكِيْمُ الَّذي أَقَامَهُ سَيِّدُهُ عَلى أَهْلِ بَيتِهِ، لِيُعْطِيَهُمُ الطَّعَامَ في حِينِهِ؟ طُوبَى لِذـلِكَ العَبْدِ الَّذي يَجِيءُ سَيِّدُهُ فَيَجِدُهُ فَاعِلاً هـكَذَا! أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يُقِيْمُهُ عَلى جَمِيعِ مُمْتَلَكَاتِهِ. ولـكِنْ  إِنْ قَالَ ذـلِكَ العَبْدُ الشِّرِّيرُ في قَلْبِهِ: سَيَتَأَخَّرُ سَيِّدِي! وبَدَأَ يَضْرِبُ رِفَاقَهُ، ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ مَعَ السِّكِّيرِين، يَجِيءُ سَيِّدُ ذـلِكَ العَبْدِ في يَومٍ لا يَنْتَظِرُهُ، وفي سَاعَةٍ لا يَعْرِفُهَا، فَيَفْصِلُهُ، ويَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الـمُرَائِين. هُنَاكَ يَكُونُ البُكَاءُ وصَرِيفُ الأَسْنَان.

 

الحياة نوع من وكالة من الله في مسؤولياتها كافة. وبما ان الحياة البشرية هبة من الله للعائلة والمجتمع، فانها تحمل واجبات ينبغي ان تؤديها بمسؤولية واخلاص تجاه من هم في علاقة مباشرة معها. هذا ما تعنيه كلمة الرب: " من تراه الوكيل الامين الحكيم الذي أقامه سيّده على بني بيته ليعطيهم الطعام في حينه". ولا بدّ من تأدية حساب الوكالة والخدمة في نهاية العمر، " عندما يأتي سيده في ساعة لا يخالها.

هذا يعني ان الحياة والموت يتداخلان دونما انفصال. حيث لا اكتراث بالموت او تناسيه، لا يعيش الناس بشكل انساني. لا يستطيع ان يعيش حياة انسانية حقة في المسلك واداء الواجب، من لا ينظر الى الموت وجهاً لوجه ويقبله. انه مسلك " العبد الشرير"  الذي يقول في قبله: سيتأخر سيدي، ويبدأ يضرب رفاقه، ويأكل ويشرب مع السكّرين" ( الآية 48- 49).

الموت، هذا الواقع الحاصل رغماً عنا، يأخذ معناه من سرّ موت المسيح وقيامته، بحيث يصبح مروراً من الموت الى الحياة ( يو5: 24). اذا كانت شريعة الموت تؤلمنا، فان الوعد بالحياة الخالدة يعزّينا، لان الحياة لا تنهدم بالموت، بل تتحوّل. وعندما تنتهي المسيرة على الارض، نجد في السماء بيتاً ابدياً. في ضوء هذا الايمان نستطيع ان نسمي الموت اخاً، كما فعل فرنسيس الاسيزي، ما يقتضي منا ان نتصالح مع الموت، من خلال حياة مسؤولة، مخلصة.

ان الدعوة التقليدية في الحياة المسيحية: " تذكّر اواخرك ايها الانسان"، ليست للهروب من العالم، بل لترتيب الحياة وعيشها بالشكل المناسب. لا تعني قلقاً وحسرة تجاه الموت، بل الاهتمام بنجاح الموت الشخصي، والاستعداد له روحياً ونفسياً وبحسن الاعمال والتصرف، ومواحهته بوعيٍ كامل.

تعلّم الكنيسة، في ضوء الكتب المقدسة، ان كل انسان، منذ لحظة موته، يخضع لدينونة شخصية فينال في نفسه الخالدة ثوابه او عقابه الابدي وفقاً لاعمال وكالته: أكانت على حياته، أم على الخلاص، أم على مسؤوليته الشخصية وواجباته في كل حالة او ظرف او منصب وُجد فيه. فيدخل مباشرة إما الى سعادة السماء، واما الى حالة تطهير زمنية، واما يُحكم عليه بالهلاك الابدي[1].

يتكلم الرب يسوع في انجيل اليوم عن الحالتين الاولى والثانية: العبد الحكيم الامين ينال الخلاص الابدي: " الحق اقول لكم: يقيمه سيده على كل ما له" (الآية 47). اما العبد الشرير فيُعاقب بالهلاك الابدي: " فيفصله سيده، ويجعل نصيبه مع المرائين حيث البكاء وصريف الاسنان" (الآية 51).

 

2.    رسالة القديس بولس الرسول الاولى الى اهل تسالونيكي 5: 1-11

يؤكد بولس حتمية الموت ويسميّه " يوم الرب"، لانه يوم لقاء الانسان بربه، وهو لقاء حاسم لجهة الثواب او العقاب. ويؤكد ان موعده مفاجيء ابداً، بحيث ان قراره يخرج عن ارادة الانسان وخياره. فيدعو الى الجهوزية لمواجهته  بالسهر والسير في النور اي بالعيش المسؤول والواعي في الاتحاد مع الله، على مستوى الحياة الروحية والواجب الديني، وفي الوحدة مع جميع الناس، على مستوى العلاقات الخلقية السليمة. هذا تقوله الرسالة بامثال ورموز:

" تَعْلَمُونَ جَيِّدًا أَنَّ يَوْمَ الرَّبِّ يأْتي كَالسَّارِقِ لَيْلاً. فحِينَ يَقُولُون: سَلامٌ وأَمْنٌ! حِينَئِذٍ يَدْهَمُهُمُ الـهَلاكُ دَهْمَ الْمَخَاضِ لِلحُبْلى، ولا يُفْلِتُون. أَمَّا أَنْتُم، أَيُّها الإِخْوَة، فَلَسْتُم في ظُلْمَةٍ لِيُفَاجِئَكُم ذـلِكَ اليَومُ كالسَّارِق. فأَنْتُم كُلُّكُم أَبْنَاءُ النُّور، وأَبْنَاءُ النَّهَار؛ ولَسْنَا أَبْنَاءَ اللَّيلِ ولا أَبْنَاءَ الظُّلْمَة. إِذًا فلا نَنَمْ كَسَائِر الـنَّاس، بَلْ لِنَسْهَرْ وَنَصْحُ".

يعطي بولس الوسائل للسهر واليقظة، وهي بمثابة درع واقٍ بوجه التجارب والمغريات، ويعني " درع الايمان والمحبة والرجاء بالخلاص" (الآية 8)، لأن الله  "لا يريد هلاكنا بل خلاصنا بالمسيح الذي مات من أجلنا، لنحيا معه" (الآية 9 و10).

فالايمان بالله الذي يوحي محبته هو ينبوع الحياة الروحية والاخلاقية. " جهل الله" هو في اساس كل الانحرافات الاخلاقية. فيجب حفظ الايمان والاعتناء بتثقيفه وحمايته من الشك والجحود والهرطقة واللادين [2].

           والرجاء بالله يعطي المؤمن الثبات في ايمانه، وامكانية الاجابة على محبة الله بحفظ وصية المحبة، والخوف من الاساءة لله، وانتظار الخلاص الابدي. فيجب حماية الرجاء من اليأس والادّعاء [3].

المحبة لله هي جواب الانسان المؤمن والثابت في الرجاء على محبة الله، وعلى دعوته ليحبه من كل قلبه وارادته وعقله، ويحب اخاه الانسان محبته لنفسه، فيجب حماية المحبة من اللامبالاة ونكران الجميل، والانانية والفتور والحقد[4].

****

 

ثانياً،السنة الكهنوتية، نمط جديد في الحياة والعمل على مثال القديس خوري آرس[5]

 

الكاهن مدعو ليعيش نمطاُ جديداًفي الحياة والعمل يتميز بقوة شهادته الانجيلية، من اجل تقديس ذاته وفاعلية خدمته الكهنوتية. " ان انسان اليوم – على ما يقول البابا بولس السادس- يستمع بطيبة خاطر الى الشهود اكثر منه الى المعلمين. وان سمع للمعلمين، فذلك لانهم شهود".

هي كلمة الله، اذا طبعت حياة الكاهن حقاً، وغذت عقله وقلبه، جعلته ذا شهادة انجيلية، وأعطته نمطاً جديداً في الحياة والعمل. فيسوع دعا الاثني عشر، كهنة العهد الجديد، ليكونوا معه (مر 3: 14)، قبل ان يرسلهم للكرازة بالانجيل. هذا يعني انهم، من بعد أن اخذوا نهج حياته، انطلقوا للرسالة على هذا النهج.

تميّزت روحانية القديس جان ماري فيانيه، خوري رعية آرس، " بهذا النمط الجديد" القائم على عيش المشورات الانجيلية الثلاث كوسيلة لتقديس الذات، وغدت مثالاً لكل كاهن.

تميّز بفضيلة الفقر، فتعاطى مع المال معتبراً اياه معطى للكنيسة وللفقراء واليتامى والعائلات المعوزة. كان غنياً بعطايا المؤمنين وفقيراً في حياته. وشرح: " سرّي بسيط جداً، وهو ان اعطي كل شيء ولا احتفظ لنفسي بشي". وعندما لم يكن يملك شيئاً، كان يقول للفقراء: " انا اليوم فقير مثلكم؛ انا واحد منكم". وفي نهاية حياته استطاع القول: " ليس عندي اي شيء، فالله الصالح يستطيع ان يدعوني ساعة يشاء".

وتميّز بالعفة واعتبرها مطلوبة من اجل خدمة الكاهن، هو الذي يلمس القربان كل يوم ويتأمل فيه بحرارة القلب ويعطيه بمحبة للمؤمنين، وهو الذي يكرّس كل حبه وجسده وقواه لخدمة جميع الناس في اي مكان بسخاء كامل. قيل عنه ان " الطهارة كانت تشع في نظره"، وكان المؤمنون يرون ذلك عندما ينظر الى بيت القربان بنظرة حبيب.

اما طاعته فتجسّدت كلياً في ارتضائه التضحيات الكهنوتية وآلام الخدمة اليومية. بقوة الطاعة وحبّه للنفوس استمر حيث هو، وشعاره: ان افضل طريقة لخدمة الله هي ان نخدمه كما هو يريد ان يُخدم". وكانت قاعدته الذهبية في عيش حياة الطاعة: " ان لا نعمل إلاّ ما يمكن ان نقدّمه بشكل يليق بجودة الله".

اذا التزم كل كاهن بهذا النمط الجديد في الحياة والعمل، اتخذت الخدمة الكهنوتية شكلاً جماعياً، ظاهراً في الشركة بين الكهنة، وبينهم وبين الاسقف، وبالتالي في الاخوّة العاطفية والفاعلة.  ان خصوبة الخدمة الكهنوتية ترتبط بهذه الشركة المزدوجة.

 

****

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تبدأ الخطة الراعوية بتقبّل النص المجمعي الثامن عشر: " الكنيسة المارونية والثقافة"، من فصله الاول: المسار ودينامية الانثقاف.

         تتميّز الالفية الاولى بثلاثة ابعاد:

1.    البُعد السرياني (الفقرات 8-10)

تنتمي الكنيسة المارونية الى اطار ثقافي طغى عليه الطابع الآرامي-السرياني، وميّزها عن المجتمع الرومي البيزنطي. البعد السرياني، الظاهر خصوصاً في الكتب الليتورجية، هو المرجع الاساس للتراث الماروني الاصيل الذي أغناه تعليم القديس افرام. يركّز تعليمه على اهمية المادّة وكرامة الجسد والخليقة باسرها، لان الله المحجوب بالوهيته ظاهر في مخلوقاته، وقد صنعها على صورته، كمثاله، اي على صورة الابن المتجسّد.

 

2.    البُعد الانطاكي الخلقيدوني (الفقرات 11-13)

تقوم العقيدة الانطاكية على ان يحقق الفرد والجماعة مسيحيتهما بقدر ما يسموان بالانسانية. ذلك ان الاشتراك الالهي الفعلي في الطبيعة الانسانية يمكّن الانسان من الاشتراك في الطبيعة الالهية. في هذا الضوء، يرتقي الماروني الى ملاقاة ربه وخالقه من خلال عمله اليومي العادي، وعلاقته بأخيه الانسان وبالطبيعة، اذ انه باتحاد الله بالانسان اتحّد الخالق بخليقته.

 

3. البُعد اللبناني (الفقرة 4)

اتخذت الثقافة المارونية في جبل لبنان ميزات اجتماعية هي النشاط والعزيمة في العمل والصمود، والكرم والضيافة، والتشبّث بالحرية. وقد دخلت الرسالة المارونية ارض لبنان مع تلاميذ مار مارون وعلى رأسهم ابراهيم القورشي، وكان الدين المسيحي قد دخل الساحل اللبناني الكنعاني- الفينيقي منذ عهد السيد المسيح والرسل. لا شك في أن الثقافة المارونية تأثرت بالثقافة القائمة. ان المعابد الكثيرة التي تحوّلت الى كنائس تشهد على هذا التفاعل الثقافي بين الحقبات التاريخية المختلفة. 

***

         صلاة

         ايها الرب يسوع، لقد أمّنتنا على الحياة والدعوة المسيحية وواجبات الحالة، فأعطنا ان نتحلّى بالامانة والحكمة المطلوبتين من كل حامل وكالة. وبما انك ستديننا على إداء الوكالة، ساعدنا بانوار كلمتك وقوة نعمتك ومشورة الروح القدس لان نسهر على حسن القيام بالواجب. وفيما نرفع نظر العقل والقلب الى مجد السماء، نستمد منها القيم الروحية والخلقية. قدّس الكهنة بنعمتك لكي يعيشوا نمطاً جديداً في الحياة والعمل، على مثال القديس جان ماري فيانيه، خوري آرس. وفي زمن عودة كنيستنا المارونية الى وعي ثقافتها المكوّنة لهويتنا، شدّد ابناءها في الامانة لابعاد ثقافتهم السريانية والانطاكية الخلقيدونية واللبنانية. فنرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد. آمين.


[1] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1022.

[2] . كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثةليكية، 2087- 2089.

[3] . المرجع نفسه، 2090-2091.

[4] . المرجع نفيسه، 2093-2094.

[5] . من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر في اعلان السنة الكهنوتية (16 حزيران 2009).

 


 

الاحد الخامس بعد ارتفاع الصليب

فيليبي 2: 12-18

متى: 25: 1-13

جدّية الحياة البشرية  التاريخية

 

         الزمن الذي يتبع عيد ارتفاع الصليب، وهو الاخير من السنة الطقسية، يفتح آفاقاً على العالم الاسكاتولوجي المعروف بالنهايات التي تلي الموت ونهاية العالم. القراءات تدور حول هذه المواضيع. رسالة القديس بولس تدعو الى العمل لخلاص النفس بانتظار يوم الرب الذي يعني ساعة مجيئه عند الموت، ومجيئه الثاني في نهية الازمنة. في انجيل العذارى العشر، يدعو الرب للاستعداد الدائم ليوم الرب الذي يكون للمستعدين عرس خلاصهم الابدي.

 

اولاً، القراءات البيبلية

 

1.    من رسالة القديس بولس الى اهل فيليبي 2: 12-18

إِذًا، يَا أَحِبَّائِي، فَاعْمَلُوا لِخَلاصِكُم بِخَوْفٍ ورِعْدَة، كَمَا أَطَعْتُمْ دَائِمًا، لا في حُضُورِي فَحَسْب، بَلْ بِالأَحرى وبِالأَكْثَرِ الآنَ في غِيَابِي. فَاللهُ هُوَ الَّذي يَجْعَلُكُم تُرِيدُونَ وتَعْمَلُونَ بِحَسَبِ مَرْضَاتِهِ. إِفْعَلُوا كُلَّ شَيءٍ بِغَيْرِ تَذَمُّرٍ وَجِدَال، لِكَي تَصِيرُوا بُسَطَاءَ لا لَومَ عَلَيْكُم، وأَبْنَاءً للهِ لا عَيْبَ فيكُم، وَسْطَ جِيْلٍ مُعْوَجٍّ ومُنْحَرِف، تُضِيئُونَ فيهِ كالنَّيِّراتِ في العَالَـم، مُتَمَسِّكِينَ بِكَلِمَةِ الـحَيَاة، لافْتِخَارِي في يَومِ الـمَسِيح، بِأَنِّي مَا سَعَيْتُ ولا تَعِبْتُ بَاطِلاً. لو أَنَّ دَمِي يُرَاقُ على ذَبِيحَةِ إِيْمانِكُم وخِدْمَتِهِ، لَكُنْتُ أَفْرَحُ وأَبْتَهِجُ مَعَكُم جَمِيعًا. فَافْرَحُوا أَنْتُم أَيْضًا وابْتَهِجُوا مَعِي.

 

الخلاص الذي هو مشاركة في الحياة الالهية وفي سعادة الله، انما هو مقدّم مجاناً لجميع الناس، وهو الهدف الاساسي للحياة البشرية في مسيرة تاريخها. وبما أن هذه الحياة التاريخية الشخصية لا تتكرر، يجب ان تؤخذ بجدّية، لما لها من نتائج اسكاتولوجية، نُهيوية لا تتغيّر. ان الحياة في الجسد تقود الى مصير ابدي.

   من هنا دعوة بولس: " اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة. فالله هو الذي يجعلكم تريدون وتعملون بحسب مرضاته" ( الآيتان 12 و13).

خلق الله الانسان في الاساس، بفيض من حبه، ليجعله شريكاً في سعادة السماء وفي الحياة الالهية، ووضعه في فردوس (تكوين 2: 4). اعطاه عقلاً ليتمكن من معرفته، وقلباً وارادة ليحبّه بحرية، وأخضع له كل مخلوقات الارض، ليتولى ادارتها ويستخدمها، ويمجد الله من خلال اعماله التي يقوم بها وفقاً للشريعة الالهية الطبيعية والموحاة، ولالهامات الروح القدس، مدركاً ومعترفاً ان الله هو السيد المطلق[1].

الدعوة للعمل من اجل خلاص الذات والآخرين تقتضي، بحسب تعليم بولس الرسول، ان يتحلّى الانسان " بالبساطة والعيش بلا لوم" وان يعيش " البنوة لله من دون عيب، ويتمسك بكلمة الحياة، بفرح وابتهاج" ( الآيات 15 و16 و17).

وفيما ينبّه بولس على اننا نعيش "وسط جيل ملتوٍ ومنحرف"، فانه يحثّ المؤمنين على ان  "يضيئوأ فيه  كالنيّرات في العالم" (الآية 15). وهو بذلك يكرر دعوة الرب يسوع: " فليضىء نوركم امام الناس، ليروا اعمالكم الصالحة، ويمجدوا اباكم الذي في السماوات" (متى 5: 16). وبذلك يكون الانسان وفياً لتصميم الله الذي " خلقه على صورته ومثاله" (تكوين1: 26) واراده ان يكون بقربه وفي صداقته؛ لكنه يبتعد عنه بخطيئته. اما الله، فيظل اميناً لخلقه ولتصميمه، ويصالحه  بالمسيح الذي " لم يعرف الخطيئة، فجعله الآب خطيئة من اجلنا، لكي نصبح برّ الله" ( 2كور5: 21)، نحن الذين اختارنا بابنه للنعمة والمجد[2]، و" اعطانا سلطاناً ان نصير اولاد الله" ( يو1:12).

 


 

2.    انجيل القديس متى 25: 1-13

 

في مثل العذارى العشر والعرس، يكشف الرب يسوع ان هدف حياة الانسان هو البلوغ الى الخلاص بالمسيح حيث سعادته العظمى المشبّهة بسعادة العرس. يبدأ الخلاص، الذي هو اللقاء بالمسيح، في حياة الدنيا، ويكتمل بعد الموت في سعادة السماء، اذا استمر الانسان في صداقة الله حتى النسمة الاخيرة من عمره.

نجد عناصر هذه الحقيقة في مضامين المثل الانجيلي:

العريس هو المسيح، العذارى الحكيمات يرمزن الى المؤمنين الذين يعيشون في صداقة الله بالمسيح حتى آخر نسمة من حياتهم، ومصابيح ايمانهم واعمالهم الصالحة مضاءة ابداً. مجيء العريس المفاجىء يدل على ساعة الموت التي لا يعرفها احد. وصوله عند منتصف الليل دليل على حتمية الموت. الدخول الى العرس هو الخلاص الابدي. العذارى الواتي انطفأت مصابحهن هم المؤمنون الذين لم يثبتوا على الامانة، ومات الايمان في نفوسهم وتخلّوا عن الاعمال الصالحة، وظلوا على هذه الحالة حتى ساعة موتهم، فمكثوا "خارج الباب" اي في حالة الهلاك الابدي.

ان سعادة السماء، المشبّهة بسعادة العرس، هي اكتمال الصداقة –الشركة التي قدّمها الله مجاناً بالمسيح لكل انسان، وقبلها هذا الاخير بملء حريته. انها " الكينونة مع المسيح"، كما يسمّها بولس الرسول في الرسالة الى اهل فيليبي (1: 23)، وهي الكينونة في حالة الصداقة التي تشكّل جوهر السعادة الابدية في السماء، يسميها ايضاً بولس الرسول " الاقامة مع الرب على الدوام" (2 كور 5: 8؛ اتسا4:17).

اما الانسان الذي يرفض بملء حريته صداقة الله المقدّمة له، " فلن يكون له نصيب في ملكوت المسيح والله، ( افسس 5:5). فقد حكم هو على نفسه بالهلاك الابدي، برفضه الحرّ لشركة الخلاص، وبالتالي لمحبة الله وغفرانه[3]. حالة الهلاك الابدي هي الحرمان من مشاهدة الله وتداعيات هذه العقوبة الابدية على كامل كيانه. هذه حال العذارى الجاهلات.

تظهر لنا من هذا التعليم جديّة حياتنا الارضية التي تمرّ في هذا العالم مرة واحدة ولا تتكرر (عبرانيين 9: 27). فالقرارات التي نتخذها بشأن الصداقة-الشركة المقدَّمة لنا مجاناً من الله، بفيض من حبه، انما لها نتائج ابدية حاسمة. اما الله فيحترم خيارنا وحريتنا، لكنه لا يفتأ، هنا على الارض، يقدّم لنا نعمته الخلاصية.

 

****

ثانياً، السنة الكهنوتية: الرباط بين السيدة العذراء والكهنوت[4]

 

         يوجد رباط وثيق بين مريم العذراء والكهنوت، من شأنه ان يحوّل حياة الكاهن. يتأصل هذا الرباط في سرّ التجسّد. عندما قرر الله أن يصير بشراً بالابن الوحيد، احتاج الى جواب " نعم" الحرّ من احدى خلائقه، مريم التي من الناصرة. فالله لا يعمل ضد حريتنا. انه امر عجيب: تدبير الله يصبح مقيداً بحرية الانسان، بكلمة " نعم" من مريم خليقته.

         كلمة " نعم" من مريم هي الباب الذي استطاع الله ان يدخل من خلاله الى العالم، وان يصبح انساناً. وهكذا تشارك مريم فعلياً وبعمق في سرّ التجسّد، وفي سرّ خلاصنا. ان غاية التجسد هي ان يعطي الله ذاته بكثير من الحب على الصليب، ليصبح خبزاً من أجل حياة العالم. ثلاثة مترابطة: الذبيحة والكهنوت والتجسد، ومريم تشكل نقطة الدائرة لهذا السّر المثلث.

من على الصليب رأى يسوع مريم امه ويوحنا، الابن الحبيب، الذي يمثّل كل التلاميذ الاحباء، كل الاشخاص المدعوين من الرب ليكونوا " التمليذ الذي كان يحبه،" وبنوع أخص الكهنة. فقال: " يا امرأة، هذا ابنك" ( يو 19: 26). انه نوع من الوصية الاخيرة، " سلّم امه الى عناية الابن، التلميذ. وقال ايضاً للتلميذ: " هذه امك" (يو19: 27). منذ ذلك الحين اخذها التلميذ الى خاصته، كما يقول الانجيل. لقد أدخلها في دينانية وجوده بأسره، وفي كل ما يشكّل أفق رسالته.

نفهم ان علاقة الامومة الخاصة بين مريم والكهنة هي الينبوع الاول والسبب الاساسي للحب الذي تغذيه العذراء لكل كاهن. انها تحبّهم لسببين: لانهم شبيهون بالاكثر بيسوع وبحب قلبه الاسمى؛ ولانهم مثلها هم ايضاً ملتزمون برسالة اعلان المسيح والشهادة له وحمله الى العالم. والكاهن، كل كاهن، بحكم تماهيه وتشبهه الاسراري بيسوع، ابن الله وابن مريم، يمكنه ويجب عليه ان يشعر بالحقيقة انه الابن المحبوب لهذه الام الكثيرة النبل والتواضع.

يدعو المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الكهنة ليروا في مريم القدوة الكاملة لوجودهم، اذ يتشفعونها " ام الكاهن الاعظم الازلي، وملكة الرسل، وعضد الكهنة في خدمتهم" [5].

كان خوري آرس يكرر: " ان يسوع المسيح، من بعد ان أعطى كل ما كان باستطاعته، يريد ايضاً ان يجعل منا وارثين لأثمن ما عنده، اعني امه القديسة".

هذا القول يخص الكهنة، بل كل مسيحي. فلتجعل مريم كل الكهنة، بوجه معضلات عالم االيوم، على  صورة ابنها يسوع، وكلاء كنز محبة الراعي الصالح. 

****

ثالثا، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي الثامن عشر: الكنيسة المارونية والثقافة، وتحديداً المسار التاريخي ودينامية الانثقاف، في مساحات التفاعل مع العالم العربي والاسلامي، ومع العالم الغربي.

 

         1. التفاعل مع العالم العربي والاسلامي (الفقرات 15-19).

         استطاع الموارنة ان يحافظو على خصوصيتهم الروحية والثقافية في محيطهم الاسلامي. ثم تبنّوا الثقافة العربية مع المحافظة على ارثهم الثقافي الخاص بهم. وقد اصبحوا، بفضل التفاعل الكبير بين الحضارة العربية والمفكرين المسيحيين في العصر العباسي روّاد النهضة العربية الاولى بين القرنين التاسع والحادي عشر، خاصة بفضل ترجمة التراث اليوناني الى اللغة العربية. واستعمل الموارنة باكراً اللغة العربية، كما يظهر من المخطوطات ومن كتاب الهدى، دستور الطائفة المارونية آنذاك، الذي تُرجم من السريانية الى العربية سنة 1095.

ثم أطلق الموارنة بوادر واسس النهضة العربية الثانية بدءاً من القرن السابع عشر مع المطران جرمانوس فرحات (1670-1732) والخوري بطرس التولاوي (1657-1746) وغيرهما. فاعادوا الى الثقافة العربية مكانتها الحضارية بوجه حملة التتريك، بلوغاً الى النهضة العربية الثالثة في القرن التاسع عشر. وهكذا، اصبحت الثقافة العربية احد عناصر تراثنا الكنسي، ونواة الفكر المسيحي العربي.  

3.    التفاعل مع العالم الغربي (الفقرات 20-22).

 

بفضل وحدة الايمان مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، دخل الموارنة في عمق الثقافة الغربية، وتواصل تفاعلهم معها بعد وصول الفرنجة مع الحملات الصليبية الى الشرق، واخذ منطلقاً لكل ابعاده في القرن السادس عشر مع تأسيس المدرسة المارونية في روما سنة 1584، ومع انفتاح جبل لبنان على الغرب، في عهد الامراء المعنيين، ومع وصول الارساليات الكاثوليكية الى الشرق وانشائها العديد من المدارس.

لا بدّ من التنويه بالدور الريادي الكبير الذي قامت به المدرسة المارونية في روما فأغنت الغرب والشرق معاً بتعريف الواحد على تراث الآخر، ذلك بانجازات العلماء الذين انجبتهم، امثال جبرائيل الصهيوني (1577-1648) الذي اصبح رئيساً لدائرة اللغات الشرقية في المعهد الملكي في باريس، وادخل الحروف الشرقية الى اوروبا صباًُ وطباعة؛ ويوسف السمعاني (1687-1768) الذي عيّن حافظاً للمكتبة الفاتيكانية، وأوفده البابا لترؤس المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزة سنة 1736؛ ويوسف اسطفان (1729-1793 ) الذي أسس مدرسة عين ورقه، أمّ المدارس المسيحية في الشرق.

وبفضل ادخالهم الطباعة الى لبنان سنة 1585، استطاع الموارنة المحافظة على تراثهم ونشره. وبفضل انفتاحهم على الغرب واتقانهم لغاتة، انفتحوا على الحداثة ومفاعليها الثقافية المتنوعة. 

***
صلاة

         ايها الرب يسوع، لقد صرتَ انساناً لتعيد للانسان بهاء انسانيته، يساعدنا لان نعيش حياتنا على هذه الارض بجدّية ووعي ومسؤولية، جاعلين منها طريقاً ووسيلة لخلاصنا. لقد علمتنا ان الغاية من وجود الانسان، كل انسان، ان يبلغ الى الخلاص ومعرفة الحقيقة التي اعلنتها انت عن سرّ الله والانسان والتاريخ. فلتضىء انوار روحك القدوس مصابيح الايمان والرجاء والمحبة عندنا، لكي نكون دائماً في حالة انتظار لتجلياتك ولليوم الاخير. قدّس الكهنة، واعضدهم لكي يدركوا ان كهنوتهم انما يجد صورته ونموذجه في ام الكهنة، مريم العذراء امك الكلية القداسة، فتقوم خدمتهم الكهنوتية على كلمة " نعم" لارادة الله في دعوتهم ورسالتهم، يقولونها كل يوم بايمان وسخاء. واعطنا ايها المعلم الالهي ان نعمّق ثقافتنا ونفعّلها مع ثقافات بيئتنا، بما فيها من قيم روحية وخلقية وعلمية تجمع بين الشعوب، وتبني عائلة الله البشرية. فنرفع التسبيح والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . انظر الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 12.

[2] . البابا يوحنا بولس الثاني، رسالته العامة: " الغني بالرحمة"،7.

[3] . انظر " إعلان الايمان" للبابا بولس السادس، فقرة 12.

[4] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 12 آب 2009.

[5] . القرار المجمعي في حياة الكهنة ورسالتهم، 18.

 


 

الاحد الاخير بعد ارتفاع الصليب

روميه 12: 9-21

متى 25: 31-46

ملوكية المسيح والدينونة

 

         انه الاحد الاخير بعد ارتفاع الصليب ومن السنة الطقسية، وهو مخصص لعيد المسيح الملك الذي سيأتي في نهية الازمنة دياناً للاحياء والموتى. وتدور دينونته حول وصية المحبة، التي تركها للعالم من بعد ان افتداه بموته على الصليب، وبرره بقيامته، وقدّسه بالروح القدس.

        

اولاُ، المسيح الملك والدينونة العامة: سنُدان على المحبة

 

         1. المسيح الملك

         المسيح الذي مات وقام هو سيّد الموتى والاحياء (روم 14:9). بصعوده الى السماء فور قيامته، شارك ببشريته في قدرة الله وسلطانه، وجُعل سيداً وملكاً في السموات والارض، وهو " فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة، لان الآب أخضع كل شيء تحت قدميه" (افسس 1: 21-22). انه سيّد الكون والتاريخ ومكمّل لكل خليقة، بفضل عمل الفداء.

         والمسيح هو ايضاً رأس الكنيسة التي هي جسده (افسس 1:22)، ويمارس سلطته السميا عليها. انها مملكته المعروفة " بملكوت المسيح" اي " ملكوت الله" الذي يبدأ في الكنيسة على هذه الارض. ولذا تسمى الكنيسة زرع ملكوت الله وبدايته[1].

         ليست الكنيسة مجرد طائفة مكوَّنة من جماعة المسيحيين، بل هي تصميم الله الخلاصي الذي يجدد وجه العالم، ويسميه الانجيل " ملكوت الله". قوام هذا الملكوت الاتحاد بالله عمودياً، ووحدة الجنس البشري افقياً، والكل على اسس الحقيقة والنعمة، المحبة والعدالة، الاخوّة والسلام.

         استودع الرب يسوع الكنيسة وسائل هذا الاتحاد بالله ووحدة الجنس البشري، وهي كلمة الله، ونعمة الاسرار، وهبة الروح القدس الذي هو المحبة المسكوبة في القلوب.

         لكن الكنيسة، فيما تبني ملكوت الله هذا بين الشعوب، تخضع لمحنة الاضطهاد والرفض، وتواجه صراعاً عنيفاً مع قوى الشر. وها هي " تسير في التاريخ بين اضطهادات العالم وتعزيات الله"، على ما يقول القديس اغسطينوس. لن تدخل الكنيسة مجد الملكوت إلا عبر فصحها، الذي تتبع فيه سيدها في موته وقيامته. ان انتصار الله على كل قوى الشر يأخذ شكل دينونة اخيرة، يرويها يوحنا في رؤياه (رؤيا 20: 11-15) [2].

 

         2. الدينونة الاخيرة او العامة

         الدينونة هي محاسبة الانسان ومجازاته ثواباً بالخلاص السماوي او عقاباً بالهلاك الابدي. تُسمى الاخيرة لانها تجري في نهاية الازمنة، المعروفة " باليوم الاخير" من تاريخ الخلق، والعامة بالنسبة الى الخاصة التي يخضع لها كل انسان حال وفاته، ولانها تشمل الاحياء والاموات عند انتهاء العالم.

         انها تدين الشعوب وتحاسبهم على ايمانهم بالله وقبول روح المحبة المتجسّدة في المحبة الاجتماعية لكل انسان.

 

1.    انجيل القديس متى 25: 31-46

 

ومَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وجَمِيعُ الـمَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ. وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الـجِدَاء. ويُقِيمُ الـخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالـجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ. حِينَئِذٍ يَقُولُ الـمَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا الـمَلَكُوتَ الـمُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛ لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني، وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ. حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟ ومَتَى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟ ومَتَى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟ فَيُجِيبُ الـمَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هـؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه! ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الـمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛ لأَنِّي جُعْتُ فَمَا أَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَمَا سَقَيْتُمُوني، وكُنْتُ غَريبًا فَمَا آوَيْتُمُونِي، وعُرْيَانًا فَمَا كَسَوْتُمُونِي، ومَرِيضًا ومَحْبُوسًا فَمَا زُرْتُمُونِي! حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ هـؤُلاءِ أَيْضًا قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جاَئِعًا أَوْ عَطْشَانَ أَوْ غَرِيبًا أَو مَريضًا أَو مَحْبُوسًا ومَا خَدَمْنَاك؟ حِينَئِذٍ يُجِيبُهُم قِائِلاً: أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا لَمْ تَعْمَلُوهُ لأَحَدِ هـؤُلاءِ الصِّغَار، فلِي لَمْ تَعْمَلُوه. ويَذْهَبُ هـؤُلاءِ إِلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إِلى الـحَيَاةِ الأَبَدِيَّة".

 

         سيديننا الله على المحبة التي تحتوي كل عمل صالح وفقاً لحالة كل انسان وحاجته:

         - اطعام الجائع خبزاً مادياً او كلمة روحية او عاطفة انسانية.

         - ارواء العطشان ماءً طبيعياً او عدالة او علماً ومعرفة.

- ايواء الغريب في بيت يسكنه، او في قلب يفهمه ويتسع له، او في وطن يكرّمه.

         - كسوة العريان بثوب او بكرامة او قدسية او محبة تستر العيوب.

         - زيارة المريض في جسده او نفسه كالخاطي والسائر في طريق الشر، او في روحه

                         كالحزين  واليأس.

- افتقاد المحبوس أكان سجيناً وراء قضبان الحديد، أم سجين انانيته وملذاته ونزواته، ام

                           مستبعداً لاشخاص ايديوليوجيات او مستضعفاً تحت وطأة الظلم.

         على هذه المحبة، أُمّ كل الفضائل، سيديننا المسيح الذي افتدانا من كل ما يخالفها، وترك لنا تعليمه في الانجيل وعبر الكنيسة لحسن عيشها. فالذين مارسوها ينالون الخلاص بقوله لهم: " تعالوا، يا مباركي ابي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ انشاء العالم" ( متى25: 34). اما الذين اهملوها فيعاقبون بالهلاك الابدي، ويسمعهم حكمه المخيف: " اذهبوا عنا، يا ملاعين، الى النار الابدية المعدّة لابليس وجنوده" ( متى 25: 41).

 

2.    رسالة القديس بولس الرسول الى اهل روميه 12: 9-21.

         يصف بولس المحبة، التي سندان عليها، في مختلف الوانها:

-       تجنّب الشر، وملازمة الخير.

-       مبادرة الواحد الآخر بالاكرام.

-       اجتهاد في الخدمة من دون كسل، بحرارة الروح، وجعلها فعل عبادة لله.

-       ملازمة الفرح بالرجاء، والثبات في الضيق، والمواظبة في الصلاة.

-       مشاركة في تلبية حاجات الاخوة، والسعي الى ضيافة الغريب.

-       مباركة المضطهدين وعدم ردّ الاساءة باللعنة.

-       تقاسم الفرح مع الفرحين، والحزن مع الباكين.

-       الاتفاق مع الجميع بالتواضع ومن دون كبرياء او ادّعاء.

-       عدم مبادلة الشر بالشر بل بالخير.

-       العمل على مسالمة الجميع.

-       تجنّب الانتقام والاتكال على عدالة الله.

-       اطعام العدو اذا جاع، وسقيه اذا عطش.

وينهي بولس بالقاعدة الذهبية: " لا تدع الشر يغلبك، بل اغلب الشر بالخير" (الآية 21). فان من يريد ان يغلب الشر بالشر، ينغلب هو نفسه للشر.

 

****
 

ثانياً، السنة الكهنوتية – محبة الكاهن القربانية[3]

 

         سيدان الكاهن على محبته الراعوية التي تتصف بانها " محبة قربانية" يستمدها من قداسه اليومي.

         عند كلام التقديس يردد ما فعل الرب يسوع ليلة تأسيس سرّي القربان والكهنوت، في عشائه الفصحي الاخير: شكر وبارك وقدّس. فيجعل من حياته اليومية نشيد شكر لله وعرفان جميل، وهذا ما تعنيه في الاساس لفظة " افخارستيا". يشكر الله على نعمه وعظائمه التي يختبرها في حياته الشخصية وخدمته الكهنوتية. يشكره باسمه وباسم الشعب الموكول الى عنايته.


       ويقول في قداسه باسم المسيح: " خذوا كلوا، هذا هو جسدي يُبذل من اجلكم؛ خذوا اشربوا هذا هو دمي يٌراق من اجلكم". فينخرط شخصياً في خط تياّر المسيح، ويجعل من ذاته عطية، واضعاً نفسه ووقته وامكانياته، وعمله وصحته، في تصرف الجماعة وخدمة المعوزين. انه بذلك يجدد عهد المسيح القرباني للكنيسة، بفعل طاعة كاملة لارادة الآب الخلاصية. لا يستطيع الكاهن ان يعيش ثقافة القربان من دون طاعة مخلصة للمسيح وللسلطة الكنسية.

         ويردد: " هذا هو جسدي يبذل من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا... وهذا دمي يراق من اجلكم ومن اجل الكثيرين لمغفرة الخطايا". الكاهن هو اول منْ مِن اجله يُبذل جسد المسيح ويراق دمه، لمغفرة خطاياه. وهو مؤتمن، في الخدمة الكهنوتية، على ان تشمل نعمة الخلاص والقداس "الكثيرين" من الناس الموكولين الى عنايته، والمرتبطين بكهنوته. في كل مرة يردد كلمات المسيح هذه، يدرك ان الخلاص مقدّم للجميع، فيذكي في قلبه الكهنوتني الغيرة الرسولية، ويسعى الى ان يصير " كلاً للكل ليخلّص، على كل حال، قوماً منهم" (1كور9: 22).

 

****

 

ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني

 

         تواصل الخطة تقبّل النص الثامن عشر: الكنيسة المارونية والثقافة، وتبدأ بالفصل الثاني: الابداع الثقافي الماروني ونتاجه واستمراريته. فتعرض التراث الماروني والفن الماروني وضرورة المحافظة عليه وإحيائه.

 

1.    التراث الماروني (الفقرات 23-28).

 

انه التراث الذي انتجه الشعب الماروني عبر الزمن وفي اطاره الجغرافي. وهو نتاج مادي وفكري وفني وروحي وثقافي، ويشكّل هويّة هذا الشعب الحضارية وذاكرته التي تضمن استمراريته. يشمل هذا التراث الآثار والممتلكات الثقافية من أبنية وفنّ هندسي ورسم ونحت وموسيقى، وكتب ووثائق تاريخية ومخطوطات، ومؤلفات ادبية وعادات وتقاليد شعبية، ومزارات ورموز وشعائر دينية. ان هذا التراث الماروني متأصل في التراث الديني والمسيحي الذي جعل من لبنان ارضاً مقدسة وارض قداسة.

ولهذا التراث معالم غنية مثل وادي قاديشا المقدس، والمراكز البطريركية، واديار القديسين وبلداتهم، والعديد من الكنائس الاثرية القديمة والصور الجدرانية فيها، والملابس البيعية والاواني المقدسة.

 

2.    الفن الماروني (الفقرات 29-31).

 

الفن جزء من التراث، ويشمل الموسيقى والاناشيد الكنسية، والرسم التشكيلي والايقونوغرافي. تشهد كنيستنا حالياً نهضة واسعة لاحياء كل هذه الفنون. ويعدد النص المجمعي انجازات النهضة الفنية الحديثة في الكنيسة المارونية ( انظر الفقرتين 30 و31).

3.    المحافظة على التراث وضرورة إحيائه (الفقرات 32-38).

 

المحافظة على التراث واجب لان إهماله يقتلع الجماعة من جذورها، ويعرّضها لخطر الذوبان او التغرّب عن بيئتها، ولان التراث اصبح ملكاً عاماً لخدمة الجماعة والبشرية جمعاء.

لا بدّ من تخصيص اشخاص لهذه الغاية فيتثقفوا على الوسائل العلمية، وانشاء هيئة رسمية تعنى بهذا الموضوع، وترميم الآثار المارونية وفقاً لمعايير علمية، وتأسيس متحف ماروني لجمع التراث المنقول.

ويجب ان تقوم الجامعات المارونية بدور اساسي من ناحية البحث العلمي والتعريف بالثروة الثقافية، وحثّ الاجيال الطالعة على التواصل من خلالها.

وينبغي تشجيع الكتّاب والمؤلفين الموارنة على نشر دراسات وابحاث عن التراث بمختلف انواعه وقطاعاته.

من  بين وسائل المحافظة على التراث تشجيع السياحة الثقافية والدينية الى معالم التراث الماروني المذكورة اعلاه، واحياء مسارات سياحية وزيارات تقوية. وينبغي تنظيم نشاطات سياحية يشارك فيها موارنة الانتشار. 

*** 

صلاة

 

ايها المسيح الملك، لقد أشركتنا في ملوكيتك بالمعمودية والميرون لكي نحلّ المحبة الاجتماعية في مجتمعنا، ونحارب الظلم، ونرسي قواعد العدالة والاخوّة والتضامن. اضرم في قلوبنا شعلة المحبة التي تغذّيها فنيا بخبز كلمتك وجسدك ودمك، لكي نسخو نحو " اخوتك الصغار" في مختلف حاجاتهم وظروفهم. قدّس الكهنة، ليقدموا، على مثالك، ذواتهم عطية للمؤمنين الموكولين الى عنايتهم، جاعلين من حياتهم واعمالهم نشيد شكر دائم لله على نعمه وعظائمه. اعطنا ان نعرف تراثنا الذي هو من عطايا الله لنحفظه ونتقاسمه ونحيي ذاكرتنا التاريخية ورسالتنا الانجيلية والثقافية في مجتمعاتنا. فنرفع المجد والشكران للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.


[1] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 668-669.

[2] . التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 675-677.

[3] . رسالة البابا يوحنا بولس الثاني الى الكهنة بمناسبة خميس الاسرار 2005.

 


 
     
 بقلم  بشاره الراعي    مطران جبيل
 
 

pure software code