مارونيات   الموارنة، متصرفية جبل لبنان
 
في الاقتصاد
   
 
  1- الاقتصاد
كان اقتصاد متصرفية جبل لبنان قبيل الحرب العالمية الأولى يستند إلى ثلاث ركائز أساسية هي: زراعة الزيتون وإنتاج الحرير وأموال المغتربين. غير أن هذه العناصر الثلاثة لم تكن كافية لجعل اقتصاد الجبل قويًا سليمًا متكاملاً، فقد كان ضعف اقتصاد لبنان يبرز في عدد من النواحي أهمها ضعف إنتاج الحبوب وتخلّف الصناعة والقيود على التجارة.
 
 يقص الدكتور جورج حنّا:
 
كنت قد قضيت ليلة كاملة في القطار دون أن يكون لدي ما أطعمه. وإذ نزلت في محطة درعا، التقيت بائع كعك بسمسم، واشتريت منه كعكة بعشرة قروش. وعندما نقدته الثمن ورقة نقدية، شخص إليّ بأكثر ما يكون من الازدراء ورمى الورقة بوجهي قائلاً: "نحنا ما منقبض شراطيط... نحنا ما منبعث مكاتيب بالبوستة"، وهو يعني بهذا أن العملة لا تصلح إلا لشراء تمغة البريد. وإذ لم يكن معي نقد معدني، هممت بإرجاع الكعكة للبائع... غير أن البائع البسيط الكريم، أبى إرجاعها عندما عرف من كلامي أني إنسان عربي من لبنان. فناولني الكعكة... وجعل يسبّ الأتراك وأعداء العرب، ويدعو الله أن يقوّض الدولة العثمانية كي يتخلص العرب من حكمها وبغيها واستعمارها
 
 1- الزراعة  

كان معظم سكّان المتصرفية فلاحين يمارسون الزراعة بأساليب قديمة وبطابع خاص مميز لجبل لبنان ينسجم مع طبيعة الأرض الجبلية وسطحها والتربة وفصول السنة. كانت بساتين الزيتون المنتشرة بكثرة على السواحل وسفوح سلسلة جبال لبنان الغربية، تؤمن عملاً للعمّال ودخلاً محترمًا لأصحابها. ويُشكّل الزيتون عنصرًا مهمًا في غذاء الجبليين ومادة أوليّة لإنتاج الزيت وصناعة الصابون. وكان القسم الأكبر من إنتاج الزيتون ومشتقاته يُستهلك في لبنان، أما الفائض منه فيُصدّر إلى الخارج ويدرّ على البلاد ربحًا ماديًا مهمًا.[وكان اللبنانيون يعتبرون شجرة الزيتون شجرة مقدسة وزيتها مقدس، لكثرة ذكرها في أسفار الكتاب المقدس وفي القرآن، وكانوا يُنتجون منه أنواع مختلفة أبرزها: الصوري، والبلدي، والشتوي، والبستاني.

وفي أيام الربيع كانت أغلبية اللبنانيين تنصرف إلى تربية دود القز الذي يتغذى على ورق أشجار التوت.[وكانت زراعة التوت منتشرة في جميع أنحاء لبنان ساحلاً وجبلاً. وأنشئت في جبل لبنان عدّة مصانع لاستخراج الخيوط الحريرية من الفيالج، وكانت ربّات المنازل تعمل على الأنوال وتحوّل بعض هذه الخيوط إلى منسوجات حريرية جميلة صالحة لصنع الملبوسات والمفروشات. ولكن القسم الأكبر من الخيوط الحريرية كان يُصدّر إلى البلدان الأوروبية، وخصوصًا إلى فرنسا التي كانت تشتري معظم الإنتاج اللبناني

 
بساتين زيتون في بلدة أميون بقضاء الكورة. تميّزت هذه المنطقة منذ عهد المتصرفية بغزارة إنتاج الزيت والزيتون.
بساتين زيتون في بلدة أميون بقضاء الكورة. تميّزت هذه المنطقة منذ عهد المتصرفية بغزارة إنتاج الزيت والزيتون.
   

بالإضافة إلى ذلك، كان العنب وما يُستخرج منه من المواسم الرئيسيّة، التي اعتمد عليها قسم كبير من فلاحي القرى. وصناعة الخمر قديمة في لبنان، فقد ورد ذكر خمور لبنان في العهد القديم، وجاء في بعض النقوش القديمة أنه كان جزية، قدمه السكّان للفاتحين، وجودة الخمر اللبناني المعتّق في الأديرة مشهورة. وكانت معظم إنتاجات العنب من قطاف ونبيذ وعرق وزبيب وخلّ للاستهلاك المحلي، وكذلك الحال بالنسبة للتين، الذي كان شجرة معروفة ومرغوبة.

تعاطى بعض الفلاحين الجبليين تربية أشجار الصنوبر، إذ كان لتلك الأشجار فائدة اقتصادية كبيرة، وكان أغنى فلاحي الجبل هم الذين يملكون أحراج الصنوبر، فهي إلى جانب كون ثمرها غالي الثمن، تمد الفلاح بحطبه وبأخشاب لسقف بيته، وبألواح خشبية لأثاثه ومقاعده، وغير ذلك من الأمور الضرورية لحياته. وكان أكثر استهلاك الصنوبر محلّي، وتصديره إلى الخارج قليل جدًا.

أما بالنسبة للقمح والحنطة والحبوب، فقد كان إنتاجها ضعيفًا جدًا في أراضي المتصرفية، وذلك لضيق الأراضي وقسوة المناخ،[فبعد أن فصل پروتوكول سنة 1861 عن جبل لبنان سهول عكار والبقاع والجنوب، أصبح إنتاج الجبل من القمح ضئيلاً لا يسدّ غير قسم صغير جدًا من حاجة أهله إلى هذه المادة الأساسية في غذائهم اليومي. لذلك اضطروا إلى شراء القمح من حوران ودرعا ومن مناطق أخرى لتأمين قوتهم الضروري.[يقول الدكتور أنيس فريحة، وهو من المؤرخين اللبنانيين الذين عاصروا عهد المتصرفية:

كروم عنب بالقرب من مدينة زحلة بالبقاع. اشتهرت هذه المدينة منذ القدم بزراعة العنب واستخراج النبيذ وغيره من الخمور.
كروم ع
نب بالقرب من مدينة زحلة بالبقاع. اشتهرت هذه المدينة منذ القدم بزراعة العنب واستخراج النبيذ وغيره من الخمور.
الخبز مادة الطعام الأساسية... لذا كان أول شيء يهتم به القروي مؤونة القمح، ويُسميها القمحات. في كل قرية لبنانية أفراد قليلون يُنتجون قمحهم. ولكن أكثرهم يشتري قمحًا من الخارج. عندما كنّا أولادًا نلعب في الساحة كنا نرى كل أسبوع من أسابيع آب وأيلول قفلاً من المكارين والجمّالين ينزل في ساحة القرية: من البقاع وحوران وجبل الدروز. يصعد أحدهم إلى سطح البيت، ويُنادي: "يا سامعين الصوت. إلّي عايز قمح قبل النفاق! قمح للمونة ممتاز! قمح مشرقاني، قمح حوراني، قمح بلدي!" فيُقبل الذين لا يُنتجون قمحهم ويشترون ما يكفيهم نصف سنة على الأقل. وبعضهم لا يطمئن قلبه حتى يشتري مؤونة سنة كاملة. ولكن قسمًا منهم لا يستطيع ذلك
 
   
  2- الصناعة والتجارة
 

كانت الصناعة في متصرفية جبل لبنان بدائية متخلفة محصورة في القرى للاستهلاك المحلي. وكان في كل بيت تقريبًا نول لحياكة ما يحتاجون إليه من الأقمشة. باستثناء صناعة الزيت والصابون والحرير، لم يكن في لبنان صناعة متقدمة تستطيع أن تؤمن حاجات السكان. وكان لا بد للآهلين من استيراد السلع الضرورية مثل السكر والأرز والأدوية والألبسة والأدوات المنزلية والآلات وغيرها من المصنوعات الحديثة. ولمّا كانت المرافئ خارج حدود المتصرفية، فقد ازدهرت التجارة بعيدًا عن الجبل، وبتقدم وسائل النقل البحري والبري بدأت البضائع الأوروبية تتدفق على هذه المرافئ. وقد أدّى وصول البضائع الأوروبية المصنوعة بالآلات إلى إضعاف الصناعة المحلية اليدوية وزوالها، ولم يبق منها سوى الأقمشة الجميلة التي تُصنع في بلدة ذوق مكايل وبعض الأماكن القليلة الأخرى، من أغطية للموائد وثياب وفرش وستائر وغيرها.

حاول المتصرّف أوهانس باشا في سنة 1913 إنشاء 3 مرافئ تجارية تابعة للمتصرفية في سبيل إنعاش حركة الاستيراد والتصدير، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بسنة حال دون ذلك.[ولمّا دخلت الدولة العثمانية الحرب في شهر أكتوبر من عام 1914 تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان بشكل سريع وخطير، لأن أساطيل الحلفاء ضربت حصارًا بحريًا على طول الشواطئ العثمانية، ومنها الساحل الشامي، فمنعت السفن من الدخول أو الخروج، فتوقفت بذلك أعمال التصدير والاستيراد، وماتت الحركة التجارية، وفرغت الأسواق المحليّة من السلع الأجنبية، فارتفعت الأسعار ارتفاعًا فاحشًا، وتعذّر على الفقراء ومتوسطي الحال أن يؤمنوا حاجاتهم الضرورية منها.[وبانقطاع المواصلات البحرية انقطع وصول الأموال من المغتربين إلى ذويهم. ولمّا كانت بعض الأسر تعيش على المساعدات المالية التي كانت تردها من بلاد الاغتراب، فقد أصبحت في حالة يُرثى لها من العوز والفقر. وأثّر انقطاع هذا المورد المالي المهمّ على الحالة الاقتصادية العامة في لبنان، فأدّى إلى اشتداد الأزمة الاقتصادية وتعقيدها.

شرنقة دودة قز، مصدر الحرير الأساسي في المتصرفية، وعماد اقتصادها.
شرنقة دودة قز، مصدر الحرير الأساسي في المتصرفية، وعماد اقتصادها.
   
  3- العملة
 
كان اللبنانيون يتعاملون بالعملة العثمانية منذ بداية عهد المتصرفية، ويسمونها "الليرة العثمليّة" أو "العثمليّة" اختصارًا، وكانت الليرة العثمانية تُسك من الذهب والفضة وتُقسم إلى مئة واثنين وستين قرشًا.[كذلك تعامل السكان بالعملة المصرية، ومنها اكتسبت النقود لفظة "مصاري" و"مصريات" اللتان لا تزالان تُستعملان في بلاد الشام بمعنى "عملة".
وكانت العملة التركية تُقسم أيضًا إلى متاليك وبشالك، والمتليك يُسك من الحديد أو النحاس أو البرونز، والبشلك عملة نحاسية برونزية، وهو يساوي 10 متاليك أو 3 قروش

خلال الحرب العالمية الأولى، أصدرت الحكومة الاتحادية نقدًا ورقيًا وأرغمت الشعب على التداول به.[ذلك أن إنفاق الدولة العثمانية مبالغًا طائلة على الحرب، أدّى إلى اضطرارها أن تصدر أوراقًا نقدية لأوّل مرة في تاريخ البلاد، وأن تُكثر من الكميّات التي أنزلتها إلى السوق، فهبطت قيمة هذه العملة الورقية بالنسبة للنقد الذهبي والفضي هبوطًا كبيرًا، ولكن الحكومة كانت تصرّ على اعتبار الليرة الورقية مساوية لليرة الذهبية، وكانت تجبر الناس على قبضها والتعامل بها.[وكانت نكبة البلاد بهذا النقد مزدوجة، فقد أضاع جزءًا من ثروة اللبنانيين، وأحدث ركودًا في حركة البيع والشراء، لأن الناس كانوا يتهربون من قبضه ويُفضلون أن يحتفظوا بما عندهم من بضائع وغلال بدلاً من أن يبيعوها بأوراق صادرة عن دولة مرهقة بنفقات الحرب الباهظة.[
 وزاد الأزمة المالية سوءًا فقدان القطع النقدية الصغيرة من أيدي الناس، فتعذّر على المواطنين تسديد قيم الأعمال والأشياء الصغيرة، من أجرة حمّال، أو ثمن طابع بريدي، أو تذكرة قاطرة كهربائية، أو غير ذلك.
5 ليرات عثمانية معدنية.
ليرات عثمانية معدنية.
عملة ورقية عثمانية من فئة 100 ليرة.
عملة ورقية عثمانية من فئة 100 ليرة
 
  2- الوضع الاقتصادي أثناء الحرب العالمية الأولى


الوضع الاقتصادي أثناء الحرب العالمية الأولى،
ازدادت الحالة الاقتصادية سوءًا في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى بفعل التدابير التي اتخذتها السلطات العسكرية العثمانية، فقد منعت قيادة الجيش الرابع في بدء الحرب نقل الحبوب على اختلاف أنواعها إلى جبل لبنان، وبما أن الجبل لم يكن ينتج كفايته من الحبوب ويعتمد على البقاع وحوران وجوارها لتأمين حاجته، فقد اختفت الحبوب من الأسواق وارتفعت أسعارها ارتفاعًا فاحشًا، حتى بلغ ثمن رطل الخبز ليرة ذهبية، وتعذّر على الفقراء ومتوسطي الحال الحصول عليه، وبدأوا يموتون من الجوع.[وكان الناس يتحملون المشقّات والأخطار من أجل تهريب كميّات قليلة من القمح من عكار أو البقاع أو حوران ليردوا بها الموت عن أهلهم وذويهم، ولكن عيون المراقبين كانت يقظة ساهرة لمنع تهريب الحبوب ومعاقبة المهرّبين.

وبعد مراجعات كثيرة ومداولات مستفيضة، سمح جمال باشا لعدد من الوجهاء البيروتيين بتأسيس شركة لاستيراد الحبوب وتوزيعها بأسعار معتدلة تحت إشراف القادة العسكريين.[وفي مطلع سنة 1917 باشرت مراكز الإعاشة أعمالها في جميع الأقضية اللبنانية، فكانت تعطي مئتين وخمسين غرامًا من القمح لكل شخص يوميًا بسعر سبعة قروش للرطل الواحد، في حين وصل سعر الرطل إلى مئة قرش في السوق السوداء. ولكن تواطؤ القوّاد العسكريين مع أركان الشركة ومُحتكري بيع القمح في السوق الحرّة السوداء، عطّل أعمال الإعاشة وجعلها قليلة الفائدة. مثال ذلك، أنهم كانوا يتذرعون بمختلف الحيل والأعذار للتهرّب من تسليم مخصصات الإعاشة إلى أصحابها، وعندما كانوا يضطرّون إلى تسليمها كانوا يغشّون القمح بالحصى والتراب والكرسنّة والزوان

 
  3- المجتمع والثقافة
  1- التركيبة السكّانية
 

شكّل المسيحيون أغلبية سكّان متصرفية جبل لبنان، وأغلب هؤلاء كان يتبع الملّة السريانية المارونية، وقد تمركز الموارنة منذ أن استوطنوا جبل لبنان في شماله، وفي عهد المتصرفية كان الموارنة ينتشرون في شمالها، أي في أقضية كسروان والبترون والكورة وزحلة وفي دائرة دير القمر، وما زالت هذه المناطق حتى اليوم تقطنها أغلبية مارونية.
 أما في باقي الأقضية، فقد اختلط الموارنة مع الطوائف المسيحية الأخرى ومع الدروز، الذين شكلوا ثاني أكبر طائفة في الجبل، وأغلبية سكان قضائيّ الشوف والمتن. كذلك كان هناك وجود ملحوظ للروم الأرثوذكس في كلا القسمين من الجبل، أما الشيعة والسنّة فكان وجودهما، وما زال، قليل جدًا، فقد انتشر الشيعة في بضع قرى في المتن وكسروان، وعاش السنّة على ساحل الشوف وفي زحلة. وكان من نتيجة هذا التقارب والتجاور أن اعتنق عدد من اللبنانيين ديانة جيرانهم أو مذهبهم الطائفي، وأصبحت ألقاب العائلات ألقابًا مشتركة عند المسيحيين والمسلمين. كانت منطقة بكركي تُشكل مقر الكرسي البطريركي الماروني منذ عام 1823، وقد استمرت كذلك طيلة عهد المتصرفية حتى الآن، وتعني كلمة بكركي بالعربية "مكان حفظ الوثائق والكتب".

كانت اللغة العربية هي اللغة المتداولة يوميًا بين السكان، وقد طُعّمت لهجة الجبليين بكثير من الكلمات السريانية، بسبب شيوع تلك اللغة بينهم في السابق. وقد استمرت اللغة السريانية لغة طقسيّة فقط تُستخدم في التراتيل الدينية المارونية.

أما في بشرّي والقرى المجاورة في شمال الجبل، فقد ظلت اللغة السريانية لغة التخاطب في القرن التاسع عشر؛ورغم تراجع سطوتها إلا أن اللغة السريانية ظلت تعتبر اللغة الرسمية للكنيسة ولغة طقوسها وكتبها الليتورجية، وظهرت في تلك الأثناء الكتابة الكرشونية وهي اللغة العربية المكتوبة بحروف سريانية،إذ إن أغلب الموارنة وإن كانوا قد أجادوا اللغة العربية إلا أنهم لم يكونوا قد أجادوا بعد قراءة الحرف العربي. واستمرت كتب الليتورجيا والكتاب المقدس المسموح باستعماله طقسيًا تصدر فقط باللغة السريانية حتى مطلع القرن العشرين.

أما اللغة التركية فكانت منتشرة في الدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية وتكلمها المثقفون من أبناء المتصرفية إلى جانب اللغة الفرنسية في الغالب

الصرح البطريركي في بكركي، مقر البطريركية المارونية طيلة عهد المتصرفية وحتى اليوم.
الصرح البطريركي في بكركي، مقر البطريركية المارونية طيلة عهد المتصرفية وحتى اليوم
مسجد الأمير فخر الدين، أقدم مسجد في جبل لبنان، يقع في بلدة دير القمر.
مسجد الأمير فخر الدين، في دير القمر، انه أقدم مسجد،
   
  2- الأوضاع الاجتماعية
 

كان الزائر الغربي في أوائل القرن التاسع عشر يرى في لبنان مشاهد ذات طابع محلّي مميز في أزياء الرجال والنساء، وطراز الأثاث، وألوان الطعام، وأنواع العادات والتقاليد.ولم ينقض القرن التاسع عشر حتى تغيّر كثير من هذه المظاهر، وخاصة في المدن الكبرى، وبدأت الحضارة الغربيّة والحياة الأوروبية تغزو حياة اللبنانيين وتغيّر من مظاهرهم في اللباس والطعام والأثاث على نحو لم تعرفه البلاد العربية المجاورة. وتميّز عهد المتصرفية بهجرة الجبليين من القرى إلى المدن، فنمت المدن وأصبحت كبيرة واسعة، كما أن ازدهار المدن ساعد على ظهور طبقة جديدة ثالثة في المجتمع اللبناني، فبعد أن كان الناس طبقتين: طبقة الأمراء والإقطاعيين ورجال الدين الكبار، وطبقة العمّال والفلاحين، ظهرت في المدن طبقة وسطى من التجّار والأطباء والمحامين والمعلمين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة.

ساعدت الحرب العالمية الأولى على اتساع الفوارق الاجتماعية بين اللبنانيين، لأن ظروفها مكّنت الأغنياء من أن يُصبحوا أكثر غنى، وجعلت الفقراء أشد فقرًا. فقد تقرّب بعض الأغنياء من الضبّاط والحكّام العسكريين الكبار، الذين كان الحل والربط بأيديهم، فصادقوهم وسايروهم وأقاموا لهم الحفلات الفاخرة والمآدب السخيّة وأغرقوهم بالهدايا الثمينة. فكافأهم العسكريون العثمانيون على ذلك بغضّ النظر عن مخالفاتهم، وتركوهم يحتكرون السلع الضرورية ويغشّون الأقوات، ويُنشئون سوقًا سوداء ترتفع فيها الأسعار ارتفاعًا فاحشًا، وتؤمن لهم ربحًا وفيرًا. بل إن أكثر أولئك الضبّاط الكبار كانوا شركاء حقيقيين للمحتكرين اللبنانيين ومسؤولين مثلهم عن الضيق الذي تألّم منه الشعب. ولمّا قلّت المؤن واشتد الجوع، وبدأ الموت يحصد الأنفس حصدًا، اضطر كثيرون من متوسطي الحال إلى بيع حلاهم وأراضيهم وبيوتهم وأغلى ما يملكون بأبخس الأثمان، ليشتروا بها القمح من السوق السوداء ويبعدوا خطر الموت جوعًا عنهم وعن أولادهم وذويهم. وقد عاش بعض هؤلاء إلى نهاية الحرب ليجدوا أنفسهم وقد أصبحوا فقراء مُعدمين، وليروا أن الأغنياء قد ضاعفوا ثرواتهم بما انتزعوا منهم من مال وأرض وعقار
ا
لطنطور،
زي نسائي تقليدي في لبنان. لم يعد مألوفًا في مدن الساحل بعد عام 1840، واندثر في الجبل مع أواخر القرن التاسع عشر
امرأة لبنانية ترتدي الطنطور، وهو الزي النسائي التقليدي في لبنان. لم يعد هذا الزي مألوفًا في مدن الساحل بعد عام 1840، واندثر في الجبل بحلول أواخر القرن التاسع عشر.
امرأة لبنانية ترتدي الطنطور
   
  3- البناء وطرق المواصلات
 

تمّت في عهد المتصرفية أعمال عمرانية كثيرة، لعلّ أهمها كان تشييد السرايات وإنشاء طرق المواصلات التي شُقّت بين القرى والمدن. ففي سنة 1863 أنجزت شركة فرنسية شق طريق العربات بين بيروت ودمشق، ومن هذه الطريق الرئيسيّة، تفرّعت طرق ثانوية شمالاً وجنوبًا ربطت القرى ببعضها البعض. وتمّت في عهد المتصرّف نعّوم باشا طريق بيروت - طرابلس، وبيروت - صيدا على الساحل. وفي عهد المتصرفية أتمّت شركة الحديد خطها الحديدي بين بيروت ودمشق (1895)، ورياق وحلب (1902)، وطرابلس وحمص (1912). وفي هذا العهد أُصلح مرفأ بيروت وأُعدّ لاستقبال السفن الكبيرة. غير أن كل هذه المشاريع لم تستطع أن تحل الأزمة الاقتصادية التي تعرّض لها أبناء الطبقة الفقيرة في لبنان، وهم أكثريّة السكان.

أما البيوت النموذجية التي سكنها العامّة، فكانت تختلف هندسة ومادّة، فبعضها بُني من الحجر والرخام والبلاط والقرميد أو الطوب الأحمر، وبعضها الآخر من اللبن. وكان اللبنانيون الأغنياء ومتوسطو الحال يعيشون في بيوت من طبقتين: الطبقة العليا تُسمّى العليّة، وهي الغرفة الأنيقة النظيفة للضيف، وفي أحيان كثيرة كانت المسكن العادي الذي لا تعرف العائلة مسكنًا سواه. أما الطابق الأرضي أو الثاني فهو "المدّ" أو "القبو"، وفيه كان الفلاحون يبيتون حيواناتهم ويضعون أدوات الفلاحة ويخزنون الحطب وعلف الحيوانات.

بيت لبناني تقليدي في جبيل.
بيت لبناني تقليدي في جبيل
   
  4- الفلكلور
 
استمر فلكلور متصرفية جبل لبنان هو نفسه الفلكلور اللبناني حتى العصر الحالي، وهو فلكلور مشترك في كثير من النواحي مع باقي بلاد الشام وتركيا وقبرص واليونان، ومميز خاص بلبنان في نواح أخرى. من أبرز أشكال الفلكلور اللبناني الرقصة الشعبية المعروفة باسم "الدبكة". تمارس هذه الرقصة غالبًا في المهرجانات والاحتفالات والأعراس.[تتكون فرقة الدبكة من مجموعة لا تقل عن عشر أشخاص يدعون دبّيكة وعازف الأرغول أو الشبابه والطبل. يصطف فيها الراقصون إما على شكل صف أو على شكل قوس أو دائرة. يكون الراقصون من الذكور أو الإناث، وتؤدى الرقصات إما معًا أو كل على حدة. يقود الرقصة أول الراقصين، وهو يحدد بشكل عام منحى الرقصة، ويقوم عادة بأداء حركات إضافية تظهر مهارته. والدبكة تكون عبارة عن حركات بالأرجل وتتميز بالضرب على الأرض بصوت عالي. ومن الدبكة أنواع كثيرة تختلف باختلاف المنطقة التي يأتي منها الراقصون.

ومن أوجه الفلكلور الأخرى، الغناء القروي اللبناني، وهو غناء ذو طابع خاص، ومنه ما يُعرف باسم "الميجانا" أو "العتابا"، والمعنّى، وهذين النمطين هما نوعا الغناء اللبناني الصرف وأكثرهما شيوعًا، وأحسنهما استئنافًا لقلوب القرويين، وهي عبارة عن أبيات من الشعر العاميّ تتلى باللهجة اللبنانية وتتغنى عادةً بحبيب بعيد أو بالوطن الأم أو بالشوق. تُرد لفظة الميجانا إلى جذر آرامي "نجن"، ويُفيد معنى اللحن والغناء. أما لفظة المعنّى، فهي اسم مفعول سرياني من وزن فعّل، ومعناها المُغنى. وأبيات الميجانا تقوم على مبدأ المقطع، وكان من يقولها شخص من أبناء القرية ذو صوت رخيم، يُطلقون عليه "القوّال"، وكان أبناء القرية يفخرون بقوّالهم، كما كانت تفخر القبيلة العربية بظهور شاعر. وكان قوّال القرية يُدعى إلى الأعراس والأعياد في القرى الأخرى، فيذهب وتذهب معه "حوزته"، أي مريدوه وأصحابه، الذين يرددون أبياته والذين يصفقون له إعجابًا وتشجيعًا. وغالبًا ما كانت تقوم مباريات في إلقاء الشعر بين قوّالين أو أكثر، وما زالت هذه العادة سارية في قرى لبنان حتى الوقت الحالي.

من ألوان الفلكلور اللبناني التي كانت سائدة في المتصرفية، واندثرت اليوم، أو لم يبق منها إلا في بعض القرى النائية، تلك العادات التي تتعلق بالزواج والإنجاب، فقد كان التزاوج بين عائلة وأخرى قضية يُنظر فيها طويلاً، ولا سيما بين الأوساط المسيحية والإسلامية المحافظة. فكانت العائلات التي تدّعي شرف الحسب والنسب، أو التي تنعم بمقام دينيّ، لا تزوّج ولا تتزوّج إلا من "المجاويز"، والمجاويز هم العائلات التي لا يرون غضاضة في إعطائهم بناتهم بالزواج، أو تزويج أبنائهم من بناتهم. وفي كثير من الأحيان كان كبار العائلة ومشايخها يتفقون على تزويج الابن للبنت عندما يبلغان سن الرشد. وكان القرويون يقيمون حفلتان ليلة العرس: حفلة للرجال وحفلة للنساء، ويوم العرس كانت تُقام "حفلة تعجيز"، وهي تتمثل في طلب أهل العروس إلى العريس ذاته أن يقوم بأعمال جسدية تبرهن على رجولته، وقوّة جسمه، في دار العروس، أو في ساحة القرية، فإن لم يقدر يستعين بأحد رفاقه ذوي البنية المتينة، ومن أعمال التعجيز هذه رفع جرن حجري ثقيل بيد واحدة أو بيدين، حسب الاتفاق، إلى فوق رأسه وذراعه ممدودة، أو أن يرفع مخلاً ثقيلاً لقلع الحجارة. وكان كثير من الرجال يكنون بألقاب قبل زواجهم، ثم يُطلقون على أبنائهم الذكور اسم الكنية التي أعطيت لهم قبل الزواج، وما زالت هذه العادة قائمة في لبنان، ومثالها: إلياس يُكنى بأبي ناصيف، وسليم يُكنى أبو نجيب، وجريس يُكنى أبو عسّاف، وحسن يُكنى أبو علي أو أبو يوسف، وداود يُكنى أبو سليمان، وإبراهيم يُكنى أبو إسماعيل، وغير ذلك.

 
رجال ونساء يرقصون الدبكة.
رجال ونساء يرقصون الدبكة.
 
 
 يا بني السما تضحكلك وتحميك
وتضل درب العز تمشيها  
والغار كل مواسمو يهديك

وافكارك قناديل تضويها

وعالشمس خلّي حلمك يوديك

ودراج فوق دراج تبنيها

ويوم الرجوع بلادك تلاقيك

وعنّك اخبار المجد ترويها

نموذج من الشعر القروي اللبناني، المغنى
 
 
   4-
النهضة الثقافية

بعد أن اجتاز لبنان عهدًا طويلاً من الركود الفكري، دبّ في القرن التاسع عشر نشاط ظاهر في مختلف العلوم والآداب، وشهد عهد المتصرفية نهضة أدبية كان من أبرز أسبابها العوامل التالية:

  • الاتصال بالغرب: كان لقرب لبنان من البحر، ولاتصاله القديم بالغرب أثر كبير في خلق نهضته الحديثة. فإن حفر قناة السويس سنة 1869، وما تبعه من تطور سريع في استخدام السكك الحديدية والسفن البخارية والسيارات ربط ما بين الشرق والغرب من جديد، وأعاد إلى المنطقة دورها التقليدي كجسر طبيعي تلتقي فيه الشعوب، وتتفاعل الحضارات. وقد دفعه هذا الاتصال دفعًا حثيثًا في طريق التقدم.
     
ثانوية برمّانا قرابة سنة 1890. إحدى أعرق المدارس في لبنان وأقدمها، تأسست على يد إرسالية سويسرية، ودرست فيها بعض الشخصيات العربية واللبنانية الشهيرة.[79]
 
غلاف قديم لمجلة الهلال، مجلة أسسها اللبناني جرجي زيدان في مصر خلال عهد المتصرفية.
ثانوية برمّانا قرابة سنة 1890. إحدى أعرق المدارس في لبنان وأقدمها، تأسست على يد إرسالية سويسرية، ودرست فيها بعض الشخصيات العربية واللبنانية الشهيرة
 
غلاف قديم لمجلة الهلال، مجلة أسسها اللبناني جرجي زيدان في مصر خلال عهد المتصرفية
 
  • الإرساليات الأجنبية: وكان للإرساليات الأجنبية التي نزلت لبنان لأهداف دينية أثر بعيد في تطوّر الحياة الفكرية. فقد رأى المرسلون أن خير الوسائل لنشر مذاهبهم الدينية هي إنشاء المدارس. فأسسوا عشرات المدارس الابتدائية وعددًا من المدارس الثانوية. وأنشأ المرسلون الأمريكيون "الكليّة السورية الإنجيلية" في سنة 1866، التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية في بيروت، وأسس اليسوعيون جامعة القديس يوسف سنة 1874.[وإلى جانب هذه المدارس كان للمرسلين الأمريكيين واليسوعيين مطبعتان في بيروت. وكان لهذه المدارس والمطابع فضل كبير جدًا في نشر العلم وتقدم الحياة الفكرية في لبنان.
  • البعثات: وقد رافق هذا النشاط الثقافي الذي بعثه المرسلون الغربيون، قيام بعثات علميّة للتخصص خارج البلاد. فقد أرسل المرسلون الأمريكيون أنطونيوس الأميوني وعبد الله عازار وإسماعيل جنبلاط إلى لندن ليستزيدوا من العلوم العالية. ثم ذهب بعد ذلك أربعة طلاّب إلى معهد قصر العيني في مصر للتخصص في الطب. وقد أرسل المتصرف فرانكو نصري باشا بعض شبّان المتصرفية إلى أوروبا ليتموا دراساتهم العالية. ثم تكاثرت البعثات إلى الخارج، وعادت لتُسهم في نشر العلم والثقافة في لبنان.

تجلّت النهضة الأدبية والعلمية في عهد المتصرفية في عدد من المظاهر، وكان أهمها: تأسيس المدارس الوطنية، فقد كان إنشاء المدارس الأجنبية حافزًا للوطنيين والحكّام على تأسيس مدارس وطنية، وعلى إنعاش المدارس القديمة وتقويتها. وكان من أشهر المدارس التي تأسست في بيروت في هذا العهد المدرسة البطريركية سنة 1865،[ومدرسة الثلاثة أقمار سنة 1866، ومدرسة الحكمة سنة 1872، ثم مدرسة زهرة الإحسان للبنات والمدرسة الداودية في عبيه. وجميع هذه المدارس لا تزال مزدهرة حتى الآن. ولم يمض وقت طويل حتى كان في كل قرية كبيرة من قرى المتصرفية مدرسة وطنية أو أجنبية، وحتى أصبحت بيروت أغنى مدن المشرق العربي بالمدارس. ومع أن بيروت كانت خارج حدود المتصرفية فإن قسمًا كبيرًا من تلاميذها كان من أبناء المتصرفية. وقد أدّت هذه المدارس قسطها في نشر العلم في لبنان والأقطار المجاورة.

وفي عهد المتصرفية انتشرت المطابع في أنحاء جبل لبنان بعد أن كانت منحصرة في مطبعتيّ الشوير ودير قزحيا. فأنشئت مطبعة في بيت الدين وأخرى في دير القمر، ثم لم تلبث المطابع أن عمّت مختلف بلاد المتصرفية كبعبدا وجونية وعاليه وعبيه وحمّانا والبترون وجبيل وحاريصا وزحلة. وتدل كثرة المطابع على انتشار وسائل الثقافة، ويدل توزيعها في مختلف أنحاء البلاد على أن العناية بأسباب الثقافة لم تكن مقصورة على المدن فحسب وإنما كانت تشمل مراكز الأقضية وبعض القرى الصغيرة أيضًا.

     
بشارة تقلا
أحمد فارس الشدياق.
إبراهيم اليازجي.

تبوأ لبنان مركز الصدارة في عالم الصحافة، فقد صدر خلال عهد المتصرفية عدد كبير من الصحف والمجلاّت كان من أشهرها: جريدة "لبنان" التي ظهرت سنة 1867 بأمر من داود باشا، وجريدة البشير للآباء اليسوعيين سنة 1870، و"الجنينة" لبطرس البستاني سنة 1871، و"ثمرات الفنون" لعبد القادر القبّاني سنة 1875، وجريدة "لسان الحال" لخليل سركيس سنة 1877، وجريدة "بيروت" لمحمد الدنا سنة 1886. هذا بالإضافة إلى الصحافة اللبنانية التي ظهرت وازدهرت في خارج لبنان، وخصوصًا في مصر، مثل جريدة الأهرام لسليم وبشارة تقلا سنة 1875، و"المقتطف" سنة 1876، وجريدة مصر لأديب إسحق سنة 1877، وجريدة المقطّم ليعقوب صرّوف وفارس نمر سنة 1889، ومجلة الهلال لجرجي زيدان سنة 1892، والضياء لإبراهيم اليازجي سنة 1898. وكانت الصحافة العربية من أهم مظاهر النهضة وأسباب انتشارها وتقدمها.

ومن مظاهر النهضة الثقافية أيضًا ظهور الجمعيات الأدبية، وكان من أشهرها جمعية العلوم التي كان يرأسها الأمير محمد أرسلان، وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي أنشأها في بيروت مدحت باشا والي سوريا سنة 1880، والمجمع العلمي الشرقي الذي ترأسه الدكتور ڤانديك، وجمعية زهرة الآداب برئاسة أديب إسحق، وغيرها. ومن المظاهر الأخرى للنهضة الثقافية ظهور عدد من أعلام الأدباء والعلماء الذين برزوا في مختلف الحقول، منهم: في حقل اللغة وآدابها؛ الشيخ ناصيف اليازجي، وعبد الله البستاني، والشيخ يوسف الأسير، وأحمد فارس الشدياق. وفي حقل التاريخ المطران يوسف الدبس. وفي حقل التأليف العلمي الدكتور يوحنا ورتبات واضع كتابيّ "مبادئ التشريح" و"صناعة الجرّاح"، والدكتور أمين الجميّل واضع كتاب "الصحة". والمعلّم بطرس البستاني ناشر "دائرة المعارف" وواضع قاموس "محيط المحيط"

 
  5
- الهجرة اللبنانية، اسبابها
بعد أن أصيبت البلاد بعدد من الفتن الدامية، في أواسط القرن التاسع عشر، وبعد أن أصبح جبل لبنان متصرفية صغيرة المساحة محدودة الإنتاج، ضاقت أبواب الرزق في وجوه عدد كبير من الشبّان العاطلين عن العمل، فبحثوا عن مخرج ينقذهم مما كانوا يعانون من الفقر والعوز. وضاق بعض الفلاحين بالضرائب التي فُرضت عليهم، فتخلّص فريق منهم بأن لجأ إلى حماية الأديرة التي أعفيت من الضرائب، فاضطرت حكومة المتصرفية إلى توزيع مجموع الضرائب المطلوبة على سائر الفلاحين الذين يملكون الأراضي الباقية، فرزح هؤلاء تحت ثقل هذه الضرائب وانتظروا الفرصة حتى تسنح لهم ليلقوا هذا الثقل عن كواهلهم.

في حين كان اللبنانيون يزرحون تحت كابوس الفقر والعوز، كان يترامى إلى أسماعهم أن في الخارج بلدانًا غنية، يستطيعون فيها تحقيق مطامعهم في وقت قصير. فما كان منهم إلا أن فكروا في الهجرة إليها. ولم تكن الحكومة العثمانية تلاحق مواطنيها لتجبي منهم الضرائب فقط، بل كانت أحيانًا تلاحقهم هم أنفسهم، وخصوصًا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، عندما كانت الدولة قد أصبحت شديدة الضعف واشتد التدخل الأوروبي في شؤونها، واستمالت بعض الدول رعايا عثمانيين يخدمون مصالحها، فقام العثمانيون بمطاردة كل من يشتبهون بأنه يميل للأوروبيين أو يدعمهم، واضطهدوه، وكان بعض من هؤلاء يعمل لصالح فرنسا أو بريطانيا أو روسيا بالفعل، بينما كان بعضهم الآخر بريئًا من ذلك، فوجد كل من الفريقين الهجرة خير وسيلة للتخلص من ضغط العثمانيين.[

كانت وسائل النقل العالمية بطيئة، كثيرة الأخطار، باهظة النفقات حتى أواسط القرن التاسع عشر. وفي عهد المتصرفية طرأ عليها تحسن عظيم. فقد حلّت السفن البخارية محل السفن الشراعية في البحار والمحيطات، وانتشرت السكك الحديدية في معظم البلدان، وبدأت السيارات تحل محل حيوانات النقل وتتطور بسرعة. وكان من نتيجة هذا التقدم أن نشطت حركة السفر بين الأقطار المختلفة بعد أن قلّت أخطاره وانخفضت نفقاته وزادت سرعته. وكان في طليعة المستفيدين من هذا التطور أبناء جبل لبنان في عهد المتصرفية الذين تشجعوا على السفر وأقبلوا على الهجرة بعد أن توفرت لهم وسائل النقل الحديثة.

ميناء بيروت في عهد المتصرفية: انطلق منه المهاجرون.
ميناء بيروت في عهد المتصرفية: انطلق منه المهاجرون.
 
   5- المهاجر
 
     
جرجي زيدان
لشيخ رشيد رضا.
يعقوب صرّوف
 

على أثر حوادث سنة 1860 نزح عدد كبير من الدروز إلى حوران وجبل العرب واستوطنوا هناك. وفي سنة 1869 فُتحت قناة السويس، فقصرت الطريق بين أوروبا وبلدان الشرق العربي العثماني. وعندما احتلت بريطانيا مصر سنة 1882 ساد الأمن وازدهرت التجارة ازدهارًا عظيمًا فقصدها المهاجرون اللبنانيون، إما هربًا من جور الإقطاعيين والولاة، أو طلبًا للرزق.[وقد أصاب كثيرون منهم النجاح فجمعوا الثروات الطائلة وتبوأوا مراكز مرموقة في الإدارة والصحافة والتجارة. ومن أبرز الذين استوطنوا مصر سليم وبشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام، ويعقوب صرّوف وفارس نمر مؤسسا جريدة المقتطف وجريدة المقطّم، والشيخ رشيد رضا مؤسس مجلة المنار، وجرجي زيدان مؤسس دار الهلال وصاحب المؤلفات الكثيرة في الأدب والتاريخ.

وبعد مصر اتجه المهاجرون اللبنانيون نحو البلدان الأمريكية الشمالية واللاتينية مثل الولايات المتحدة وكندا والمكسيك والبرازيل والأرجنتين. وكانت الأنباء عن خصب الحياة وغناها في العالم الجديد وأستراليا تُنقل إلى المشرق العربي موسعة مكبّرة فتغري الناس وتدفعهم إلى الهجرة وراء السعادة المنشودة. ويُقال أن أوّل هؤلاء كان شابًا من قرية صاليما اسمه أنطوان البشعلاني، الذي هبط اليابسة في بوسطن سنة 1854، وتوفي في نيويورك بعد سنتين. وإحياءً لذكراه المئة اعتبرت الحكومة اللبنانية سنة 1955 سنة المغتربين، فاستقبلت وفودهم في ذلك العام وأقامت لهم مهرجانات ضخمة. يتحدث الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة عن الهجرة في عهد المتصرفية خلال عام 1900 وكيف مزقت أوصال أسرته،
فيقول ميخائيل نعيمة:

في خريف ذلك العام جاءنا من مصر نعي خالي الأكبر إبراهيم، فكان موته كارثة... لأمي التي... بلغ بها التفجع حدًا أهملت معه نفسها وبيتها وبنيها بما فيهم طفلها الرضيع. وتمضي السكرة وتأتي الفكرة. لقد مات من مات. وهنالك أحياء لا بد من الاهتمام بمعاشهم... وأشواك الشخروب لن تدرّ الحنطة، وصخوره لن تنضح بالشهد والزيت، وبستان التوت في الضيعة لن ينتج من الحرير ما يملأ خزانة العائلة بالقروش. فأين المخرج؟ - أمريكا! وبقلب دام تتخذ أمي قرارًا بسفر أخي أديب إلى الولايات المتحدة - ولمّا يطرّ شارباه. إنه في خريفه السادس عشر. لقد سافر أبوه قبله ولم ينجح. فلعلّه يكون أوفر حظًا من أبيه... ولعلّه يعود بعد سنين لينتشل العائلة من القاع إلى الذروة كما فعل البعض من أبناء بسكنتا. ويذعن والدي للأمر على مضض. إنه يتمنى لو بقي ابنه الأكبر بجانبه يُساعده في أعماله الشاقة في الشخروب... ولكن تبقى مشكلة "الناولون" - تذكرة السفر. وكان يبلغ نحو عشرين ليرة ذهبية. ويستدين والدي المبلغ من خالي سليمان... ويُسافر أخي أديب على بركات الله برفقة نفر من أبناء بسكنتا وبناتها، وهو أصغرهم سنًا.
 
وفي عهد المتصرفية أخذت أعداد المهاجرين اللبنانيين إلى أستراليا والعالم الجديد تزداد باطّراد، كما أخذت أموالهم تتوالى على أهلهم لترفّه عنهم، فأصبحت الهجرة حديث الناس في قرى الجبل. ويُروى أن الإسكافي "فضّول متري بشارة" هاجر من بلدة الشوير إلى البرازيل حوالي سنة 1885. فلم تكد تمرّ على هجرته سنتان حتى أرسل إلى والده في لبنان خمسين جنيه استرليني ذهبًا. فتنعم والده بالمال المُرسل إليه فاشترى سروالاً من الجوخ، وأردفه بمعطف ثمين، وشال من الكشمير، وأخذ يتبختر في سوق الشوير. فاهتزت البلدة واندفع من أبنائها إلى أمريكا ثمانون شخصًا في عام واحد سافروا دفعة واحدة. ويُقال أن جبل لبنان خسر ما بين عام 1900 وعام 1915 مئة ألف شخص من أبنائه، وهو عدد يبلغ ربع عدد السكان الإجمالي آنذاك.
 
  6- نتائج الهجرة
 

كان للهجرة عدّة نتائج، منها الحسن ومنها السيء. حقق أكثر المهاجرين ما أرادوا من هجرتهم، فقد أثري الفقير، وتحرر المضطهد، ووجد المغامرون ما يُغذي طموحهم ويقربهم من أهدافهم. وكان من نتيجة ذلك أن تدفقت الأموال على المقيمين من أبنائهم وأقربائهم المغتربين. وكانت أسر عديدة تعيش على ما يرد إليها من بلاد الغربة. وبذلك تحسنت حياة بعض الجماعات، فاستطاعوا أن يُنشئوا بما جناه أبناؤهم من الأموال المشروعات الصناعية والتجارية والزراعية، فخدموا الوطن ونشطوا حياته الاقتصادية. ومن الطبيعي أن الأموال الغزيرة ما كانت لتصل إلى لبنان لو لم يكن هؤلاء المهاجرون قد حققوا لأنفسهم ثروة كبيرة ومكانة مرموقة في البلاد التي هاجروا إليها، وقد تبوأ الكثير من اللبنانيين منزلة عالية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية وشغلوا مناصب كبيرة في الإدارة والقضاء والجيش والسياسة.

وكان للمغتربين من رجال الأدب أثر كبير في نهضة الأدب العربي وتطوره. فقد أصبح لهم مدرسة أدبية ذات طابع خاص هو مزيج من إيحاء الشرق وفكر الغرب. وقد برز في هذا المجال في أواخر عهد المتصرفية عدد كبير من الأدباء منهم على سبيل المثال: جبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وإيليّا أبو ماضي في الولايات المتحدة، وخليل مطران وأنطوان الجميّل في مصر. على أن هذه المدرسة الأدبية المهجرية قد بلغت ذروة مجدها بعد عهد المتصرفية. وإذا كانت الهجرة قد أتاحت لفريق من أبناء جبل لبنان أن يتبوأ أعلى المناصب ويُصيب حظًا وافرًا من النجاح والثروة، فإن المنطقة كانت تخسر بهجرة هؤلاء نفوسًا طامحة وسواعد قويّة وشبابًا قادرًا على بناء الوطن والنهوض به في الوطن نفسه لا في بلاد الغربة. وقد أصبح عدد المهاجرين من أبناء لبنان اليوم، سواء المهاجرين حديثًا أو المتحدرين من أصول لبنانية، يفوق عدد اللبنانيين أنفسهم.

 
   *  متحدرين من اصل  لبناني في الانتشار - تعداد يصدم!
البلد السكان  
 البرازيل 10,000,000 برازيلي لبناني
 الولايات المتحدة 3,300,000 اميركي لبناني
 الأرجنتين 1,500,000 أرجنتيني لبناني
 كولومبيا 700,000 لبنانيون كولومبيون
 أستراليا 500,000 أسترالي لبناني
 كندا 449,000 كندي لبناني
 المكسيك 400,000 مكسيكي لبناني
 فنزويلا 340,000 فنزويلي لبناني
 فرنسا 250,000 فرنسي لبناني
 السعودية 120,000 لبنانيون في السعودية
بلدان الخليج 100,000 اللبنانيون في الخليج
 الإكوادور 100,000 إكوادوري لبناني
 تشيلي 90,000 تشيلي لبناني
البلد السكان  
 المملكة المتحدة 90,000 بريطاني لبناني
 الأوروغواي 70,000 أوروغواي لبناني
 ساحل العاج 60,000 عاجي لبناني
 ألمانيا 50,000 ألماني لبناني
 نيوزيلندا 47,200 نيوزيلندي لبناني
 السنغال 40,000 سنغالي لبناني
 اليونان 30,000 يوناني لبناني
 الدنمارك 23,500 دنماركي لبناني
 قبرص 20,000 قبرصي لبناني
 جنوب أفريقيا 20,000 جنوب أفريقي لبناني
 السويد 20,000 سويدي لبناني
 جامايكا 20,000 جامايكي لبناني
 هايتي 15,000 هايتي لبناني
البلد السكان  
إسبانيا 14,500 إسباني لبناني
 ليبيريا 10,000 ليبيري لبناني
 نيجيريا 30,000 نيجيري لبناني
 سيراليون 10,000 سيراليوني لبناني
 الكويت 10,000 اللبنانيون في الكويت
 مصر 7,500 اللبنانيون في مصر
 بلجيكا 7,000 بلجيكي لبناني
 غانا 6,700 غاني لبناني
 سويسرا 5,800 سويسري لبناني
 إيطاليا 3,860 إيطالي لبناني
 أنغولا 3,300 أنجولي لبناني
 بلغاريا 3,000 بلغاري لبناني
 المغرب 2500 مغربي لبناني
 
       Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
www.puresoftwarecode.com
pure software code - Since 2003