مارونيات  الكنيسة المارونيّة والأرض
 
من مقررات المجمع الماروني اللبناني 2004 - 2006، برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير
   
   ملاحظات :
  • الموارنة، من خيمة في العراء في جبال قوروش مع القديس مارون، الى انتشار بدايته كان في سوريا ولبنان ولينتشر لاحقا في بقاع الارض مع خمسة عشرة مليون انسان، اقله:
    1. في الشرق الاوسط، لبنان وسوريا وفلسطين...،
    2. في اميركا اللاتنية ،
    3. في اميركا الشمالية ،
    4. في اوروبا ،
    5. في اوستراليا ونيوزلند
       
  • عام 1993 تقريبا، سلطة الكنيسة المارونية ممثلة بمجلس الاساقفة الموارنة براسة البطريرك صفير  ومشاركة المطران الراعي  يرتكب جريمة اغتصاب بحق المارونية

    عام 1993 تقريبا، مجلس الاساقفة الموارنة ومشاركة المطران بشارة الراعي  يرتكب جريمة اغتصاب بحق المارونية

 
  1- مقدّمة
الكنيسة المارونية والارض، هي واحدة من مقررات المجمع الماروني اللبناني الذي انعقد بين يونيو 2004 ويونيو 2006، برئاسة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، في بكركي، في  لبنان
  1. إنّ المجمع الماروني إذ يعالج موضوع الأرض، يتوخّى أن يلفت الانتباه الى ما لها من قيمة، داعيًا الموارنة الى وعي عميق للأرض، التي عاش عليها الآباء والأجداد، وانتقلت إلينا كإرثٍ ماديّ وروحيّ. هذا الإرث، التي تكوّنت من خلاله وعليه الهويّة المارونيّة، معرض اليوم الى مزيد من الذوبان والتناقص بسبب عوامل عديدة. وهذا ما يعرّض الهويّة المارونيّة نفسها الى الخلل وفقدان التمايز التاريخي والروحي. فإذا ربح المارونيّ العالم كلّه وخسر الأرض التي تكوّنت فيها هوّيته التاريخيّة يكون قد خسر نفسه. فالموارنة ولو انتشروا في جميع أصقاع العالم وحصلوا فيها على التقدّم والرقيّ والبحبوحة والحريّة، يبقون بحاجةٍ الى الأرض التي تجسّد هويّتهم الخاصة والتي تربطهم بتاريخهم العريق، تاريخ قداسة وصراع من أجل البقاء والشهادة للإيمان والقيم الانسانيّة التي تكوّنت لديهم من خلال خبرة تاريخ طويل. 
     

  2.  لذا نتوقّف أولاً حول الثوابت اللاهوتيّة والتاريخيّة، التي تؤكّد على العلاقة مع الأرض وضرورة الحفاظ عليها، من أجل الحفاظ على المعطيات اللاهوتيّة والتاريخيّة الخاصة بالهويّة المارونيّة. ثمّ نتناول ثانيًا الواقع الحالي وما يثير من قلق ومخاوف. ساعين الى عرض استراتيجيّة ممكنة للحفاظ على الأرض وحسن استثمارها وننتهي ثالثًا الى علاقة موارنة الإنتشار بأرضهم الجديدة وأرض المنشأ لكي يسهموا هم أيضًا بالحفاظ على هذه الأرض فتبقى لهم كمرجع أكيد لتمايزهم الحضاري والانساني والديني.

  2- الفصل الأول : الثوابت
  • أولاً، الثوابت الإيمانيّة واللاهوتيّة
    1. إنّ المفهوم الإيماني للأرض يرتكز على معطيات الكتاب المقدّس وعلى ما يستنتجه اللاهوت المسيحي إنطلاقًا من هذه المعطيات ومن سرّ التجسّد الإلهي.
      1. فالكتاب المقدّس يحدّد منذ البدء علاقة الانسان بالأرض بطريقة رمزيّة. فالانسان هو إبن الأرض جُبل منها، وهي بالتالي أمّه وإليها يعود. والانسان خُلق ليحرث الأرض ويستثمرها ويمارس سلطته على كلّ ما عليها، حتّى وإن أنبتت له، بسبب معصيته شوكًا وحسكًا وأن يأكل خبزه بعرق جبينه.

        والكتاب المقدّس يخبرنا بأن الله دعا إبراهيم للخروج من أرضه في بلاد الرافدين والمجيء إلى أرض كنعان، دعاه الى أن يرث هذه الأرض له ولبنيه ليعبدوه هو وحده دون الأوثان. وبهذا المعنى يردّد الكتاب المقدّس مرارًا أنّ الله يدعو شعبه الى أن يقدّسوه ويتقدّسوا في الأرض التي أورثهم إيّاها. من هنا، فالبعد الأوّل لعلاقة الأفراد والشعوب بالأرض التي أوجدهم الله عليها هو بُعدُ القداسة، أي عبادة الله والنمو الإيماني والانساني والتحرّر من كلّ وثنٍ وإشراك.

        من ناحية ثانية، فإنّ الله يقول لإبراهيم عندما دعاه: إني أُباركك فتكون بركة لكلّ الشعوب. أي أنّ البركة الإلهيّة وميراث الأرض الذي يناله إبراهيم ونسله لا يهدف إلى قداستهم ونموّهم وحدهم، (تك12)، وهذا بديهي، بل أيضًا الى أن يتحوّلوا الى بركة للآخرين الذين لم ينالوا هذه الدعوة ولم يقع عليهم هذا الاختيار. من هنا، فالبعد الثاني لعلاقة الأفراد والشعوب بالأرض التي أعطاهم إيّاها الله، هو بُعدُ الرسالة والإنارة ومشاركة الآخرين بالبركة الإلهيّة التي حصلوا عليها.
        إذًا فالبعد الأوّل هو الاختيار والميراث للقداسة والنموّ، والبعد الثاني هو الدعوة للقيام برسالة مشاركة البركة مع الآخرين.

      2. واللاهوت المسيحي يؤكّد لنا أنّ ابن الله الأزلي الذي أتمّ بتجسّده التاريخ الخلاصي أعطانا المعنى الكامل لعلاقتنا بالأرض عندما قال: "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض". وهونفسه عاش وديعًا ومتواضعًا في أرض معيّنة فغدت معه أرض التجسّد الإلهي، وبقداستها تقدّست كلّ بقعة من بقاع الأرض، ولم يعد هناك أرض ميعاد في مكان محدد من العالم بل أصبحت الكنيسة هي أرض الميعاد الجديدة، ملكوت الله، الذي يستطيع كلّ إنسان أن يعبد فيه الله بالروح والحقّ (يو 4:23). ولكن يبقى دائمًا للأرض التي شهدت أحداث الخلاص وانطلاقة الكنيسة الأولى أهميتها وميزتها الخاصة بالنسبة لجميع المؤمنين بالمسيح وكذلك الأرض التي شهدت انطلاقة الكنيسة المارونية بالنسبة للموارنة.

        بفضل التجسد الإلهي أصبح للأرض قيمة خلاصيّة، لذا ينبغي العناية بها والمحافظة عليها واحترامها لأنها لم تعد أرض الإنسان فحسب بل أصبحت أرض التجسّد الإلهي . هذا المفهوم اللاهوتي للأرض قد ترسّخ في أعماق النفس المارونيّة وهذا ما نتلمّسه في صلواتنا البيعيّة وفي كتابات آبائنا القدّيسين.

        لذلك نريد أن نؤكّد هنا بأن وجود الكنيسة في هذا الشرق ليس صدفة بل بفعل عطيّة إلهيّة ثمينة جدًّا أعطاها الله للهدفين عينهما اللذين ذكرناهما سابقًا، أي أنّ هذه الأرض أعطاها الله للموارنة كميراث ليتقدّسوا عليها وينموا فيها ويتحرروا من كل وثن لينصرفوا الى عبادة الله وحده فيها. وهذا وحده يفسّر وجود الموارنة في أرض لبنان بشكل خاص لأنهم وجدوا فيه أرضًا تؤمّن لهم الحريّة الانسانيّة والدينيّة وإمكانيّة الشهادة للمسيح والتعاون الحرّ والمنفتح للتعايش مع الآخرين على قدر ما تسمح لهم بذلك الظروف والأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة.

    2. وبهذا المعنى فإن إيمان الكنيسة ثابت اليوم أيضًا، وقد عبّر عنه بطاركة الشرق في رسائلهم المتعدّدة أي أنّ لنا رسالة في هذا الشرق لا يحق لنا أن نتخلّى عنها. إنها رسالة إيصال البركة التي باركنا الله بها الى إخوتنا الذين يعيشون معنا في هذه الأرض والى كل شعوب هذا الشرق الذي دعانا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الى الانخراط فيه وحمل همومه وإغنائه بما لدينا. إنّ كلمة البابا هذه ليست مجرّد تمنٍّ بل دعوة، لا بل نبوءة عن رسالة المسيحيين في هذا الزمن. أمّا الأخوة الذين تركوا هذه الأرض الى أراضٍ أخرى، وبمعزل عن أسباب هجرتهم القديمة والحديثة، فإنّهم هم أيضًا مباركون في الأرض التي يعيشون فيها. وإن عاشوا هذه الدعوة الى القداسة والشهادة فهم أيضًا يكونون بركة لأرضهم الجديدة وللناس الذين يعيشون عليها.

  • ثانيًا، الثوابت الوجدانيّة والإنسانيّة
    1. الأرض في تقليدنا ليست ملكًا نتصرّف به على هوانا، بل هي إرثٌ من الآباء والأجداد. هذا الإرث أشبه بوديعة ثمينة أو "ذخيرة مقدّسة".
      1. التعامل مع هذا الإرث يصلنا بالخالق كما يصلنا بالأجيال السابقة التي تركت فيه بصمات لا تمحى من تعبها ودمها. فالعلاقة التي تربطنا بالأرض-الإرث علاقة روحيّة، وبالتالي ما تعطينا الأرض هو أكثر بكثير من الثمار والمواسم الماديّة. فمن خلال هذه العلاقة، نؤكّد هويّتنا الخاصة ونتواصل مع تاريخنا. إنّ أرضنا هي بحقّ ذاكرة حيّة وهي بنفس الوقت مدرسة تعلّمنا الصبر والرجاء والقناعة والوداعة، الصدق والإخلاص والكرم والعطاء والثبات والجرأة. وهذا هو الإرث الأكبر الذي تركه لنا آباؤنا الموارنة وبخاصة في تعلّقهم بأرضهم وبكنيستهم وبأديارهم التي علّمتهم أن يفضّلوا التقشّف في أرضهم على البحبوحة في أرض الغربة، وعلى مقاومة كل الاضطهادات أو المغريات بهدف البقاء في أرض الأجداد. وإذا كان قسم الموارنة قد اضطّروا للتغرّب عن أرضهم لأسباب قاهرة فإنّهم بأكثريتهم ما زالوا يحنّون اليها والى ما تمثّل من قِيَم عريقة. من هنا فإنّ الإنسان الماروني مطبوع بهذا الطابع الكنسي والروحيّ الذي يميّزه. فالأرض تسهم بطريقة مباشرة في أنسنة الانسان الماروني وتطبعه بطابعها ومميزاتها الخاصة . علاقتنا بها لا يمكن أن تكون فقط نفعيّة، بل هي أيضًا وفي الأساس وجدانيّة وإنسانيّة.
         

      2. إذا كان ما يتعرّض له الموارنة في أرض المنشأ من ضغوط وضيق يبرّر إنسانيًّا هجرة العديد منهم الى بلدان أخرى تستضيفهم وتؤمّن لهم ما لم يحصلوا عليه في أرضهم، فإنّ ذلك يحرمهم بنفس الوقت التواصل الوجداني مع أرضهم وتاريخهم وحضارتهم، ويعرّضهم الى أن يصبحوا شعبًا من دون ثوابت وجذور. لذلك تستنهض كنيستنا اليوم أبناءها وتحثّهم على الثبات في أرضهم والحفاظ عليها وعلى من تبقّى فيها مهما كانت التضحيات. فقدّيسو الموارنة بدءًا من مارون الناسك الذي عاش في العراء الى شربل ورفقا ونعمة الله يعلّموننا الصبر والثبات من أجل الشهادة ليسوع الذي تعرّى من مجده والتصق بأرضنا ليقدّسنا ويحرّرنا.

  • ثالثًا، ثوابت تاريخيّة
     
    1.  الأرض مكوّنة للهويّة التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة
       

      إرتبط التاريخ الماروني بلبنان كأرض وكوطن، من دون أن يتنكّر الموارنة لجغرافيّة نشأتهم وانتشارهم القديم والحديث من قورش وإنطاكيا وضفاف العاصي في شمال سوريا الى قبرص وفلسطين ومصر والى أوروبا وأميركا وأفريقيا وأوستراليا في فترات تاريخيّة متباعدة ونتيجة ظروف دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة صعبة وقاهرة

      لكن الهويّة التاريخيّة المارونيّة، التي لا يمكن التنكّر لها، قد تجذّرت أوّلاً في الاطار الإنطاكي. خاصةً في لبنان حيث نمت وتطوّرت وترسّخت الكنيسة المارونيّة. والمجتمع الماروني تأثّر بالبيئة وبالجغرافيا التي عاش فيها، وزرع وسقى أرضها من عرق جبينه، فأمّنت له الضروري من أجل العيش الكريم واحتمى بها من صروف الدهر والاضطهادات، فانطبع بها وطبعها بإيمانه.

      أمّا الهويّة السياسيّة المارونيّة فقد تفتّحت وأثمرت في لبنان أوّلاً ومن ثمّ في باقي بلدان الانتشار. فالهوّية السياسيّة المارونيّة نابعة من إيمان الموارنة بالله واتّكالهم عليه ومن ديناميّتهم الثقافيّة والحضاريّة ومن انفتاحهم على مختلف الحضارات والشعوب وتعايشهم وتأقلمهم معهم.

    2. الأرض وطن ورسالة
       

      الأرض هي الوطن والكيان، وقيمتها هي بما تجسده من قيم وخبرة وبعد حضاري ووجودي. فتوسع الموارنة الى كل لبنان والتعايش مع غيرهم من الطوائف نابع من قيمهم الإيمانية والرسولية. ولم تكن أرض الموارنة لهم وحدهم، بل إستضافوا فيها كل تائق للحرية والعيش الكريم، شرط ألا يهدد ذلك الآتي إيمانهم وحريتهم ووجودهم. وهكذا تكوّن جبل لبنان وبالتالي لبنان وإرتبط إسمه بالموارنة.

      ولبنان–الأرض كان ولا يزال وطن التلاقي وقبول الآخر والإنفتاح عليه وتبادل الخبرات الحياتية والحضارية معه، على تناقضها أحياناً، ولإن كانت سبب نزاع دموي أحياناً أخرى.

      وكل أرض سكنها الموارنة إعتبروها أرضهم وتفاعلوا معها، من دون أن ينسوا أرض المنشأ ولا سيّما أرض لبنان التي تبقى في وجدانهم أرض أجدادهم وقديسيهم ومرجعيتهم البطريركية. هذه الأرض ستبقى دائمًا الركيزة الحتمية لصيانة الهوية المارونية. ونحن نرى من حولنا كيف يسعى هذا الشعب أو ذاك لتثبيت حقّه في أرض معيّنة ليبقى له تاريخه وهويته وكم يبذل بالتالي من تضحيات في سبيل هذه الأرض والمحافظة عليها.

    3. الأرض إرث وطني وجماعي: الحفاظ عليها يحفظ الوطن والأقليات المكونة له
       

      الأرض قيمة إيمانية عند المسيحيين عامة وعند الموارنة خاصة، نابعة من إيمانهم بالتجسد. وذاكرتهم الجماعية تدرك أهمية التراكم الحضاري والتاريخي على أرضهم. فالأرض، بالنسبة إليهم، إرث وليست رزقًا للتجارة به أو ملكًا للتصرف به بهوى. من هنا كان همهم تسليم الأرض – الأمانة كاملة للأجيال الآتية بعدهم من دون تبديد أو إستبدال: "معاذ الله أن أبيعك ميراث آبائي
      من هنا مبدأ "وقفيات" العائلات عند الموارنة وما يعرف بالوقف الذري. فالحفاظ على الأرض هو حفاظ على الهوية، والحفاظ على الهوية حفاظ على الكيان والإيمان والديمومة.

      وقديماُ، عرف الموارنة بالحفاظ على أرضهم، إذ عملوا بها أباً عن جد، وتربوا على الإعتناء بها والحفاظ عليها. ومتى كانت تضيق الأحوال بهم كانوا يهجرونها دون أن يبيعوها، إذ فيها تراث الآباء والأجداد وتاريخهم. من هنا نرى "التشريك" في ملكية الأراضي عندهم. وتبرز هنا ضرورة التوعية والتثقيف الدائم للشباب على قيمة الأرض الروحية والمعنوية قبل قيمتها المادية، وضرورة إسثمار الأرض بطرق حديثة بدل بيعها.

    4. االكنيسة المارونية والأرض امس واليوم
       

      الموارنة قدسوا الأرض وتقدسوا بها. إستعاروا منها التشابيه وأدخلوها في صلواتهم[6]، كما وضعوا اعياداً "زراعية" مثل عيد سيدة الزروع وعيد سيدة الحصاد. كان كل الموارنة يعملون في الأرض من بطاركة وأساقفة ورهبان وعلمانيين. فالأرض مدرسة حياة وروحانية بالنسبة إليهم، كانوا ينشّئون الشباب الماروني عليها. وقد عمدت الكنيسة المارونية، ومن بعدها باقي رجالات الإقطاع، إلى نظام الشراكة من أجل إسثمار أراضيها ومن أجل حث الموارنة الذين لا يملكون أرضاً على العمل في ألأرض. ورغم مساوئ هذا النظام، وبالرغم من سوء تطبيقه أحياناً، ما حدا بالعديد من الموارنة للنزوح إلى المدن أو الهجرة، فقد أفرز قرى بكاملها إنبثقت عن الأديار.

      إن تحول المجتمع الماروني من مجتمع ريفي زراعي إلى مجتمع مديني تجاري، وصناعي وخدماتي، أثر سلبًا على أخلاقية الموارنة وروحانيتهم وتقاليدهم. وتبدلت همومهم من تأمين الحاجيات (فلاح مكفي سلطان مخفي) إلى التفتيش عن الكماليات ورغد العيش، ولو على حساب ضميرهم وكرامتهم ومبادئهم الإنسانية والمسيحية أحيانًا. فالعودة إلى الجذور، تتطلب من الموارنة العودة إلى العمل في الأرض مع إستعمال الوسائل والتقنيات الحديثة، في إستراتيجية متقدمة.

      فالعمل في الأرض، قبل أن يكون بهدف نفعي أو رياضي، هو قيمة مسيحية وروحية. من هنا كان المبدأ الرهباني "صلّ وإعمل".

      والتاريخ يشهد بأن جميع الأديار القديمة وكذلك أيضاً مقر الأساقفة وكنائس الرعايا، كانت كلها تملك أوقافًا وأملاكًا[7] يدأب فيها الرهبان والموارنة والأساقفة أحياناً كثيرة مع المؤمنين الشركاء على العمل. وقد عمدت الرهبانيات بعد إعادة تنظيم الحياة الرهبانية في أواخر القرن السابع عشر الى الإهتمام بالأرض وأصبح الرهبان رائدي الزراعة فإستعان بهم الأمراء لتعليم رعاياهم الكتابة والقراءة والعناية بالأرض.

      هذه الشراكة بالعمل في الأرض، ما بين الرهبان والخوارنة والأساقفة أحياناً من جهة والمؤمنين من جهة أخرى. جعلت حياة المؤمنين مطبوعة بالإبعاد الروحية التي كان أكليروسهم ورهبانهم يعيشونها ببساطة وعفوية. وكما كانت الشركة في العمل كذلك كانت في الصلاة الخورسية والإفخارستيا والعبادات. هذا ما كان يوحد الكنيسة المارونية بروحانيتها وتقاليدها. واليوم نشعر بقيمة ما فقدنا. فعدم الإهتمام بالأرض والهجرة إلى المدينة والسعي إلى التطور والنمو غير المتزن، لأنه غير مرتبط بالأرض، كل ذلك أفقد الموارنة الكثير من قيمهم التاريخية وضعضع وحدتهم وأبعدهم عن روحانيتهم. لذلك لا بد من عودة إلى الأرض وإلى روح الشراكة والوحدة بين الإكليروس والرهبان والمؤمنين بأساليب حديثة ومتطورة، مع المحافظة على ما اكتسبناه من قِيَم جديدة ناتجة عن الانفتاح المديني ومواكبة ركب الترقّي العالمي.

  • رابعًا، ثوابت بيئية
     
    1. من الناحية الوجدانية والروحية
      وفي اليوم السادس من عملية الخلق " رأى الله كل ما خلقه إذ كان حسنًا جدًّا (تك 1/31) وفي اليوم السابع إستراح (تك 2/2). ولما سلط الإنسان على كل المخلوقات، أفسد الإنسان ما خلقه الله حسناً جداً وأفسد علاقته بالله من خلال الخطيئة الأصلية، وبعد ذلك أفسد الطبيعة وشوهها بتصرفاته. هذا الواقع، واقع اللعنة للأرض بسبب خطيئة آدم، تخطّاه الماروني بحبٍّ كبير للأرض التي أُخِذَ منها، فسقاها من دمه وعرقه دفاعًا عنها واعتناءً بها. أكرمها فأكرمته وأشبعته من خيراتها. كما أقام معها علاقة وجدانية فتغنّى بهامع الأرض وحافظ عليها، لأنها أولاً من أعمال الله الحسنة، وثانياً لكي تحافظ عليه وتغذيه وتحميه. فالأرض هي أم كل حي: "أنت من التراب والى التراب تعود" (تك 3/19) وهي مقدسة لأنها تضم رفات الآباء والأجداد والقديسين.
       

    2.  من الناحية الطبيعية
      البيئة هي الإطار الذي عاش ويعيش فيه الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فقديمًا عرف الماروني كيف يحافظ على البيئة الطبيعية من دون أي تشويه. إستعمل عناصر الطبيعة في عمله وبناء منزله وطريقة عيشه وأكله. أما ماروني اليوم، شأنه شأن المجتمع الإستهلاكي، فهو أناني بشكل عام، في تعاطيه مع الطبيعة ويفكر فقط بنفسه من دون التفكير في الأجيال التي ستأتي بعده.
      من ناحية أخرى، إن موجة التصحر الناتجة عن قطع الأشجار من دون زرع مكانها، قد أفقرت لبنان والموارنة تراثاً طبيعياً نادرًا. يكفي أن نتأمل كم شجرة أرز بقي عندنا من أرز لبنان الذي يتغزل به ويمتدحه الكتاب المقدس، وأن نرى ما قضت عليه الحروب والحرائق المفتعلة والغير مفتعلة من ثروات حرجيّة وما يقتلع يوميًا من أشجار لكي ندرك حجم الكارثة التي وصلنا اليها.
      بالإضافة إلى ذلك، إن الإستعمال المطّرد للمواد المصنعة التي لا تتحلل في الطبيعة، ناهيك عن رمي النفايات بطريقة عشوائية، عملية تشوه الطبيعة لمدى طويل، خاصة أنه لم يكن عندنا توجيه وتربية بيئية لا في العائلات ولا في
       المدارس. بيئتنا في الأساس غنية وصالحة لذا ينبغي المحافظة عليها وعدم إفسادها. وكنيستنا المارونية تتضامن تلقائيًا مع العديد من المنظمات البيئية الدولية والجمعيّات الوطنية والمحلية وتشجّع أبناءها على الانخراط فيها والتعاون معها من أجل الحفاظ على بيئة سليمة.
       

    3. من الناحية الصحية
      إذا كان الإنسان إبن بيئته، فالبيئة تؤثر سلبًا أو إيجابًا على صحة الإنسان. وليس أفضل من العيش مع الطبيعة والعمل في الأرض للحفاظ على الصحة. وشتان ما بين صحة ماروني الجبال وصحة ماروني المدن. وما من شكّ في أنّ نوعية عيش الماروني في الماضي كانت سليمة أكثر من طريقة عيش ماروني اليوم. وإن التلوث الناتج عن الحضارة الممكننة والمصنعة ينعكس سلباً على صحة الماروني الذي لم يعِ بعد كما ينبغي الأخطار البيئية التي تتهدده حاضراً ومستقبلاً نتيجة إهماله أو أنانيته في سبيل كسب مادي سريع، مثله مثل غيره من أبناء المجتمع الاستهلاكي.
       

    4. من الناحية الجمالية والسياحية
      إن طبيعة الأرض المارونية القديمة سمفونية ألوان وأصوات، كثيراً ما وصفها وأعجب بها الرحالة والمستشرقون. فالطبيعة المارونية، على تنوعها، جميلة بحد ذاتها، ويكفي على الإنسان، وبالتالي الماروني، عدم تشويه جمالها (مثلاً قطع الأشجار أو رمي النفايات فيها) لكي تؤمن له إطاراً حياتياً سليماً يحميه ويفتنه ويجتذب السياح إليه. ورغم الكوارث البيئية التي عاشتها أرض الموارنة إلا أنها لا تزال مركزاً مهماً للسياحة البيئية التي نشطت حديثًا.
       

    5. من الناحية العمرانية والتراثية
      إن حضارة الباطون التي حلت مكان الهندسة المارونية التقليدية ومكان عمار الحجار المعقود، لخير دليل على جهل ماروني اليوم تراثه وعلى فقده الحس الجمالي. فكم كنيسة أو منزل قديم رائع الجمال قد تعرض للهدم من أجل بناء كنيسة أو منزل جديدين لا تربطهما أيّ علاقة بالفنّ والتاريخ. إن ماروني الأمس عرف أن يطوع الطبيعة ويحافظ على البيئة العمرانية والتراثية من خلال إستعمال عناصر الطبيعة للحفاظ عليها من بناء الحجر والكلين ومن خلال سقف الطين واللبن ومن خلال قرميد السطوح. ولا بدّ من التنويه هنا بالعودة التي بدأت منذ عدّة سنين الى المعطيات القديمة في الفنّ والهندسة وتطويرها لتتجاوب مع حاجات العصر.

  3- الفصل الثاني : الأرض واقع ومرتجى

بعدما توقفنا في القسم الأوّل على الثوابت نتناول الآن الواقع الراهن، كما نحاول أن نكون رؤيا مستقبليّة للحدّ من سلبيّات هذا الواقع. فلعلّ كنيستنا تسهم هكذا مساهمة فعّالة، ليس فقط بعرضها للسلبيّات والتشكّي مما وصلنا إليه، بل أيضًا بتكوين نظرة جديدة عن الأرض تتطابق مع الثوابت الايمانيّة والتاريخيّة وتتبنّى خطّة عمليّة للحفاظ عليها وحسن استغلالها فتحفظ للأجيال القادمة حظوظًا للبقاء والاستمراريّة وللنموّ نموًّا سليمًا متوازنًا وللعيش بكرامة في ميراث الآباء والأجداد.

  1. أولاً، الواقع الراهن
     تنظر كنيستنا اليوم بكثير من القلق الى ما تناهت اليه أوضاع الأرض عندنا، في بلدان الإطار البطريركي عامة، وفي لبنان خاصةً. وهذا القلق يتزايد يومًا بعد يوم بسبب هجرة الأرض سنة بعد سنة وتعرّضها للإهمال والبيع. ففي بعض البلدان عمدت الأنظمة الحاكمة الى تأميم الأراضي الخاصة فحرمت بالتالي المسيحيين، أسوةً بغيرهم، من حقّهم المقدّس. أمّا في بلدان أخرى، فبفعل الحرب والتهجير، اضطرّ المسيحيون الى البعد عن أرضهم. وهذا ما عرّضهم ويعرّضهم اليوم للتخلّي عنها أو إهمالها أو بيعها كما هي الحال في قبرص ولبنان وفلسطين. هذا الوضع المستجدّ، إذا بقيت الحال كما هي عليه، يدعو الى وضع علامة استفهام كبيرة حول الوجود المسيحي عامةً في الشرق والماروني خاصةً، وبالنسبة للبنان حول الوطن الرسالة والعيش الحرّ المشترك والمتفاعل مع الآخرين. فالمارونيّة من دون أرض كالمسيحيّة من دون سرّ التجسّد.


    إنّ الإحصاءات تدلّ اليوم على أن المسيحيين في لبنان في الثلاثين سنة الأخيرة قد فقدوا قسمًا كبيرًا من أراضيهم. وهناك مناطق أصبحت شبه خالية من الوجود المسيحي الفاعل وقد بيعت أجزاء كبيرة منها الى غير المسيحيين من لبنانيين وغير لبنانيين. كما ان الإقبال على شراء أراضٍ، في المناطق المعروفة تاريخيًّا مسيحيّة، من قبل غير المسيحيين والأغراب يقوى يومًا بعد يوم. فالأرض تكاد تتحوّل، من إرثٍ مقدّس ورزق أنعم به الله على الإنسان، إلى سلعةٍ تجاريّة، طمعًا بالربح السريع. ولعلّ الآفة الكبرى، بالنسبة للبنانيين عامةً وللمسيحيين والموارنة بنوع خاص، هي الهجرة من الريف الى المدينة، طمعًا بالوظيفة والعمل والعلم وبما توفّره المدينة من إمكانيّات تطوّر علمي واجتماعي ووسائل راحة وتسلية. هذه الآفة التي بدأت في منتصف القرن العشرين أدّت الى إهمال الأراضي وعدم استغلالها والاستهتار بقيمتها الماديّة والمعنويّة، ما أدّى الى فك الارتباط بين الماروني وأرضه؛ أرض الأجداد والتراث، والى الابتعاد عن تراثه القروي وقيمه النابعة من الارتباط بأرضه، وأهمّها الأمانة والصدق والقناعة والتفاعل السليم مع محيطه البشري وبيئته الطبيعيّة. كما ان الابتعاد عن الأرض والعمل فيها أدّى بطبيعة الحال الى ضعف بالبنية وتفشّي أمراض ناتجة عن التلوّث الحاصل في المدينة، كما الى تدهور في الأخلاق، التي ترعاها التقاليد والأعراف. ان الابتعاد عن الطبيعة يؤدّي غالبًا الى ابتعاد الانسان عن أصالته فهو في الأساس ابن الطبيعة وفيها يجد كامل عافيته واتزانه النفسي والخلقي.

    الواقع الراهن يدلّ على ان الماروني هو إنسان طموح مغامر، يعشق التطوّر والترقّي ويندفع دائمًا الى ما يظن أنه نافع ومفيد له، ولو كلّفه ذلك البعد والاغتراب والانقطاع عن بيئته وتاريخه وأرضه. ولكن ألا يمكن أن يحصل على ذلك من دون أن يتخلّى عن تلك؟ وهل يعقل ن يتخلّى الموارنة عن أرضهم وحضارتهم وعن الرسالة التي خصّهم الله بها في هذا الشرق؟ وهل يبقى الموارنة موارنة إذا ما تخلّوا عن أرضهم ومعالم تاريخهم؟ نحن نعتقد بأن الموارنة اليوم ما زال لديهم ما يكفي من إمكانيّات ومزايا ووسائل بشريّة تخوّلهم أن يترقّوا، لا بل أن يسيروا في طليعة موكب التطوّر الانساني، مع المحافظة، وربما فقط، بالمحافظة على أرضهم وقيمهم وتراثهم ورسالتهم من دون أن يتراجعوا عمّا اكتسبوا من إمكانيات وتطوّر نتيجة انخراطهم في المجتمع المديني. ولكي يكون ذلك لا بدّ من مخطّط توجيهي أو استراتيجيّة تنمويّة شاملة.
     

  2. ثانيًا، استراتيجيّة تنمويّة شاملة للحفاظ على الأرض
    هذه الاستراتيجيّة التنمويّة الشاملة تنطلق من الواقع الراهن الذي أشرنا إليه سابقًا. إذ ينبغي الأخذ بالاعتبار المؤثرات السلبيّة التي أدّت الى إهمال الأرض وهجرها وربما أحيانًا الى بيعها. ان المجتمع الماروني تحوّل بسرعة في النصف الثاني من القرن المنصرم من مجتمع زراعي الى مجتمع خدماتي. ولم تعد الزراعة التقليديّة كافية لمواكبة مسيرة العلم والتطوّر الاجتماعي والإنفتاح العالمي. والدولة، بدل أن تهتمّ بالمزارع وتدعمه ليبقى في بيئته الطبيعيّة وليواكب من حيث هو، ومع اهتمامه بأرضه، مسيرة التطوّر، أهملته بغيابها عن المناطق الريفيّة وعدم عنايتها بالزراعة وتوفير الطرق الحديثة لتسهيل العمل وزيادة الانتاج وتنويعه مع الاهتمام بإيجاد الأسواق الخارجيّة لتشجيع التصدير. لقد ترك المزارع وشأنه من دون أي دعم أو توجيه أو تعويض في حال حصول النكبات الطبيعيّة والقضاء على المواسم. مع العلم بأن غالبيّة اللبنانيين، ومنهم الموارنة، هم من صغار الملاّكين، وبالتالي مدخولهم العادي من الزراعة لم يعد كافيًا لسدّ الحاجات المتكاثرة من تعليم واستشفاء وسكن. لذلك راحوا يفتّشون عن وظائف وخدمات تؤمّن لهم مدخولاً ثابتًا وضمانات تعليميّة واستشفائيّة.

    هذه المعطيات تدفعنا الى القناعة بأن دعوة الموارنة الى العودة للاهتمام بالأرض ستبقى كتعبير عن أمنية لن تجد أي صدى إيجابي، الاّ إذا استندت الى رؤيا أو استراتيجيّة تنمويّة شاملة، تكون الزراعة واحدة من مكوّناتها. فالتنمية هي مجموعة التغييرات الذهنيّة والاجتماعيّة التي تنهض بالشعوب وتدفعها الى زيادة اجمالي الناتج الفعلي لديها بشكل تراكمي ومستديم. وهي نتيجة فكر سياسي يعبّر عنه بخيارات اجتماعيّة واقتصاديّة يعقبها تنفيذ على المدى البعيد.لذا ينبغي أن تتضافر جميع القوى: الدولة والكنيسة والمؤسسات لوضع هذه الاستراتيجيّة. مع العلم أنّه نظرًا لقصر المسافات  يمكن الاهتمام بالريف من دون التخلّي عن المصالح الخاصة في المدن.

    ولعلّ النقاط التالية هي أهمّ ما ينبغي أن يتمّ التركيز عليه;
    1. على الدولة أن تعي لأهميّة الأرض وتلتزم بالمحافظة عليها ومساعدة المزارعين على حسن استغلالها. كما عليها أن تسهر على عدم بيعها من الغرباء بتطبيق قانون تملّك الأجانب[10] تطبيقًا سليمًا. فتضع حدًّا للمضاربات العقاريّة الفوضويّة التي طبعت الثلاثين سنة الأخيرة، وأدّت الى تحوّل فاضح في بعض المناطق بملكيّة الأرض من طائفة الى أخرى. هذا إذا كانت الدولة واعية لأهميّة العيش المشترك والتفاعل والانصهار بين اللبنانيين.



    2. على الكنيسة، برجالاتها العلمانيين المسؤولين عن سياسة الوطن وبسلطتها الروحيّة، أن تعمل وتحرّك إدارات الدولة لتفعّلها كما ينبغي. وعليها أن تتخّذ المبادرات الممكنة، إنطلاقًا من أملاك الكنيسة الخاصة وبالتعاون مع العلمانيين، لإقامة تعاونيات زراعيّة فعّالة تؤدّي الى تشجيع المزارعين والشباب بنوع خاص على العودة الى الريف واستغلال أرضهم بطريقة جديدة ومجدية. هذه التعاونيات يمكن أن تطوّر فكرة الشراكة القديمة التي كانت قائمة بين الأوقاف والأديار من جهة والعلمانيين من جهة أخرى. على هذا الصعيد تشجّع الكنيسة المارونية الشباب على شراء أرضٍ وبيوت خاصة بهم في الأرياف إنطلاقًا من مبدأ أنّه على كلّ ماروني أن يكون مالكًا.



    3. على الدولة والكنيسة أن تتعاونا معًا من أجل توفير المؤسسات التربويّة والاستشفائيّة والخدماتيّة اللازمة في المناطق الريفيّة، مع إمكانيّة إنشاء مصانع صغيرة أو محترفات مهنية لتوفير مجالات العمل لأبناء الريف، حتى لا يفرغ من أهله وتزدحم المدن وتهمل الأرض.



    4. التعاون بين الكنيسة والدولة ضروري أيضًا لتعديل قوانين الأوقاف وتبسيط المعاملات العقاريّة سواء للحفاظ على الأراضي أو استثمارها بطرق أفضل مما هي عليه الآن.



    5. على الكنيسة أن تسعى مع مؤسسات أجنبيّة، كالسوق الأوروبيّة المشتركة ومنظمة التغذية العالميّة، الى الاستفادة من الخبرات العالميّة لاستغلال الأراضي بحسب تنوّع المناخ والبيئة. إنّ الترشيد الزراعي وتنوّعه والتصنيع المُمَكنَن للمواد الزراعيّة، هذه كلّها أصبحت من الضروريّات من أجل انقاذ الزراعة وتنميتها.



    6. إن تنمية الثروة الحرجية من شأنها أن تسهم مساهمة فعالة في الحفاظ على بيئة سليمة، كما تشجع السياحة والإصطياف. هناك مساحات خضراء ينبغي الحفاظ عليها ومساحات أخرى أصبحت جرداء ينبغي تحريجها. فتعاون الكنيسة والدولة ضروري هنا ايضاً لإنماء هذه الثروة الطبيعية وزيادة عدد المحميات والأحراج المصانة. تشجّع الكنيسة اتّخاذ مبادرات جدّية من أجل تحريج المناطق اللبنانية كزرع غابات على إسم جاليات الانتشار الماروني أو على إسم جمعيّات ومنظمات ونوادٍ محلية.



    7. في لبنان أراضٍ كثيرة يمكن الإستفادة منها زراعيًا إذا ما توفرت لها مياه الري. لذا ينبغي الإستفادة مما يفيض الله على أرضنا طوال فصل الشتاء من أمطار وثلوج ومما يتفجر عندنا من ينابيع بإنشاء سدود وبرك لجمع هذه المياه وتوظيفها في خدمة الزراعة.



    8. يبقى أن الأهم، من أجل الحفاظ على الأرض وإستثمارها، هو أن نعرف قيمتها فتنشأ الأجيال الجديدة على حبها والعناية بها. لذلك ينبغي وضع سياسة تربوية متكاملة بدءًا من العائلة مروراً بالمؤسسات التربوية والجامعية، سواء كانت رسمية أو خاصة. هذه السياسة تهدف إلى تعريف الأجيال الجديدة على طبيعة أرضنا وغناها وإلى تشجيع الخبرات الزراعية الناجحة وتنظيم الندوات المتعلقة بالأرض والتراث ووضع الكتب والمجلات وجميع وسائل المعرفة التي تتناول الطبيعة وتقاليد القرى. كما أن أحياء المهرجانات الزراعية وحث الشبيبة على المشاركة فيها وفي مواسم القطاف والغلة هو من انجح الوسائل للتوعية على قيمة الأرض ومحبتها.



    9. حاليا، ومن أجل الحفاظ على الأراضي والحد من بيع المزيد منها وأيضًا من أجل شراء أراضٍ جديدة لا بد من إنشاء صندوق تعاوني أو شركة عقارية أو بنك خاص، تحت إشراف البطريركية المارونية بتمويل المسيحيين الأغنياء ولا سيّما الموارنة منهم في لبنان وعالم الإنتشار. هذا البنك يعمل، لا طمعاً بالربح والإستثمار، بل لإنقاذ العقارات المعرضة للبيع، برهنها وأقراض أصحابها أموالاً هم بحاجة إليها. من شأن هذا البنك، إذا توفرت لديه القدرات، أن يسهم أيضاً في أحياء البلدات والقرى التي تهجرت خلال الحرب وفي إنشاء مشاريع زراعية رائدة في مختلف المناطق. من دون تدخل من هذا النوع ستبقى الأراضي معرضة للبيع وستفقد الكنيسة المارونية مع الوقت قسماً كبيراً مما تبقى لها من مقومات بقاء.

  4- الفصل الثالث : الأرض وموارنة الإنتشار

ان موارنة الإنتشار، المقيمين خارج إطار بطريركية إنطاكيا، يشاركون الإنسان المعاصر بجميع ابعاد الحياة الإنسانية وقيمها. وهم يتحسسون المشاكل العالمية الناتجة عن التطور الصناعي والتي تهدد جميع أبناء الأرض بالتلوث والأوبئة والإختراقات الحاصلة في الفضاء الذي يحمي كوكبنا من الأشعة والغازات السامة. كما أنهم يعون أهمية علاقة الإنسان بالطبيعة والأرض وضرورة سلامة النتاج الزراعي وتأثير كل ذلك على صحة الإنسان الجسدية والنفسية وإنعكاسها المباشر على روحانيته ومستقبله. على هذا الصعيد يتلاقى موارنة الإنتشار مع إخوتهم الموارنة المقيمين في الإطار البطريركي، كما مع جميع ذوي الإرادات الطيّبة، في العمل الملتزم من أجل الحفاظ على الأرض والبيئة كثروة عالميّة مشتركة وكخير عام لجميع البشر. والإنسان المعاصر يتأكد يوماً بعد يوم من حقيقة إنتمائه إلى عالم موحد. وقد ساهمت وسائل الإتصال وطرق المعرفة المتطورة في تقصير المسافات بين قارة وأخرى وربط جميع أطراف العالم بعضها ببعض، ما يتيح للإنسان اليوم بأن يشعر بشمولية الإنتماء إلى العالم، وبأنه لم يعد فقط مواطن بلد واحد، بل أصبح العالم كله بلده.

ولعل الماروني، بفضل إنتشاره في أكثر أطراف العالم، يختبر واقع الشمولية هذا بطريقة بديهية، ربما أكثر من الشعوب الأخرى. ولكن الإنسان المعاصر بدأ يشعر أيضًا بأهمية الإنتماء الحضاري التاريخي، وبأن عالم اليوم هو وريث هذا التراكم، الذي خلفته الأجيال السابقة. لذا لا يمكن إقتلاع الإنسان من جذوره التاريخية، لا بل ينبغي المحافظة على هذه الجذور وترسيخ العلاقة فيها، ليبقى الحاضر على إتصال بالماضي فيتغذى من غناه، وينمو بالحفاظ على أصالته وتمايزه. إنطلاقاً من هنا يتوجه المجمع الماروني إلى موارنة الإنتشار ليذكرهم بأنهم حاملو رسالة فريدة نابعة من علاقتهم بارضهم الجديدة وعلاقتهم بأرض المنشأ.

  1. أولاً، علاقة موارنة الإنتشار بأرضهم الجديدة

    إن إنتشار الموارنة اليوم في أكثر انحاء العالم يمكن إعتباره غنى لهم وللعالم. فالموارنة حملة تراث وقيم روحية وإنسانية، ينشرونها ويشهدون لها حيث يحلون. والخبرة التاريخية، التي عاشها الآباء والأجداد في علاقتهم بالأرض، فقدسوها وتقدسوا بالتعامل الأمين والصادق معها، تبقى مترسخة في نفوس الأبناء، حتى ولو تغيرت ظروف حياتهم. فالكينونة الإنسانية هي نتيجة لتراكم معطيات طبيعية وخبرات وجدانية تتناقلها الأجيال، لتكوّن مع الوقت شخصية مميزة لشعب أو لحضارة. وعلى أساس ما ورد في القسم الأول حول الثوابت الإيمانية والثوابت التاريخية عند الموارنة، يمكن القول بأن الماروني، حيث ما وجد سيبقى طابع هذه الثوابت يؤثر على نفسيته وسلوكه لأجيال عديدة. فعلى موارنة الإنتشار أن يعوا لهذه الثوابت، فتكون محبتهم لأرضهم الجديدة، في البلدان التي ينتمون اليوم إليها، مخلصة وصادقة. فهي أرض إستضافتهم وساعدتهم على تكوين مستقبل وأسرة. وأمنت لهم، في بعض الحالات ، ما لم تؤمنه أرض المنشأ للآباء والأجداد، من سهولة عيش وراحة وضمانات عديدة، وربما أيضًا ثروات وشهرة. من واجبهم إذن ومن حق هذه الأرض عليهم، أن يخلصوا لها ويحبوها ويرتبطوا بها مصيرياً، لأنها تحتضنهم وتفسح لهم بتحقيق طموحاتهم المشروعة وبناء مستقبل واعد لهم ولبنيهم. في هذه الأرض الجديدة يعبّر الموارنة عن إيمانهم بالله، بحسب طقوس وتقاليد توارثوها عن الأجداد، فيشهدوا للأبعاد الإيمانية والروحانية المتأصلة فيهم. وهكذا ينقلون غنى تقاليدهم وإيمانهم إلى أبناء هذه الأرض، ويسهمون في تقديسهم وإغنائهم ونقل البشرى المسيحية ربما إلى شعوب أخرى، ويشهدون أمامهم على غنى التراث المسيحي الشرقي، الذي يتحدرون منه وينتمون إليه.

  2. ثانيًا، علاقة موارنة الإنتشار بأرض المنشأ
    1. الواقع
      لقد أصبح عدد الموارنة في الإنتشار أضعاف عدد الباقين منهم في أرض المنشأ. والجميع يعلم بأن الظروف التاريخية، التي دفعت بأعداد منهم إلى ترك أرضهم وأوطانهم، كانت ظروفاً قاهرة، نتيجة لحروب وإضطهادات وضيق مادي. إذ قليلون هم الذين قرروا الهجرة عن طيبة خاطر، بل أكثرهم غادروا بلادهم في غالب الأحيان مقهورين، مضطرين إلى السفر بحثاً عن باب الرزق والعيش الحر الكريم في بلدان بعيدة. والأخبار عن معاناة الأجيال الأولى في بلاد الإنتشار وما تعرضوا له من أخطار وصعوبات، ما زالت حتى اليوم حاضرة في ذهن الأحفاد، وهي مدعاة فخر لهم وإعتزاز، كما أنها ترسم أيضاً خبرة إنسانية مؤثرة، تحرك العواطف وتذكر بماض يستحق أن يدون في تاريخ الموارنة الحديث.

      هؤلاء المغتربون الأول غادروا أوطانهم مقهورين إذاً، لا من أهل أحبوهم ولا من أرض تفانوا في خدمتها، بل بسبب ظروف قاسية وظالمة. لذلك بقي حنينهم للأوطان قوياً، وكذلك تعاطفهم مع الأهل، فأمدوهم بالمساعدات كلما توفرت لديهم الإمكانيات. ولقد ربوا أبناءهم وأحفادهم على الحب والحنين للوطن المنشأ، مركز بطريركيتهم وقديسيهم. وعندما لحقت بهم دفعات جديدة من المغتربين، كانوا يستقبلونهم ويمدون إليهم يد المساعدة، ليوفروا عليهم قسطاً من المعاناة التي قاسوها هم من قبلهم. ويمكن القول بأن عملية الإنتشار، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى أيامنا، ما زالت قائمة، ولو إختلفت الظروف والأسباب، وبأن هذا الإنتشار ما زال متحسساً جداً لمشاكل أوطان المنشأ، وما زال يتعاطف مع المقيمين فيها، وهو مستعد للمساهمة في إيجاد الحلول الحياتية لأهله في هذه الأوطان، إنما ضمن خطط مبرمجة وقابلة للتنفيذ. من هنا، ومع عدم الإستغناء عن المبادرات الفردية، لا بد من تنظيم خطة عملية لتشجيع المنتشرين على متابعة دعمهم لأوطان المنشأ وللإستفادة من هذا الدعم بأفضل طريقة ممكنة للحفاظ على الأرض وإستغلالها وتثبيت المقيمين فيها. مع العلم بأن مثل هذه الخطة ينبغي أن تعود بالخير أيضاً على المنتشرين.

    2. الخطة المرجوة
      أي خطة من هذا النوع ينبغي أن تنطلق أولاً من عملية إحصاءات عددية ونوعية شاملة. لذا ينبغي تأليف لجنة متخصصة للقيام بهذه المهمة. ولا بدّ من إقامة علاقات دائمة ودورية ما بين البطريريكة ومختلف الجاليات المارونية في العالم بالإستفادة من الطرق العصرية المتاحة لتأمين مثل هذه العلاقات. هذه العلاقات تُطلع الموارنة في العالم على موقف كنيستهم الرسمي من القضايا المختلفة، وتنقل إليهم الأخبار الموضوعية عما يجري في أوطان المنشأ، كما توحي إليهم بما يمكن عمله خدمة لهذه الأوطان، إنطلاقًا من روح العونة التي يشهد لها تاريخنا.

      أما بالنسبة إلى الأرض فهناك مجال واسع لمساهمة المنتشرين في الحفاظ عليها وإستغلالها. فيصار مثلاً إلى إقامة توأمة بين المنتشرين وقراهم أو مدنهم الأصليّة. فيتمّ على أساسها إنشاء مشاريع تنمية، يكون للمنتشرين إمكانية المساهمة وإستملاك أراض أو بيوت لهم فيها. كما يمكن تشجيع المنتشرين، وبنوع خاص الشبيبة، على القدوم إلى أوطان المنشأ وتمضية الفرص الطويلة فيها، مع برامج مدروسة لإشراكهم في مواسم زراعية ممكنة، كالقطاف مثلاً، وإطلاعهم على تراثهم الفكري والفولكلوري والطقسي وعلى الإمكانيات المتوفرة حالياً في الجامعات المارونية وما يمكن أن يستفيدوا منها أو يفيدوا.

      إن أعمالاً كهذه تؤدي حتمًا إلى تشجيع المقيمين وإلى ترسيخ التراث الحضاري لدى المنتشرين فلا تبقى العلاقة مع أوطان المنشأ مستندة فقط إلى الحنين والذكريات بل تكتسب بعداً آنياً وتعمق عرى القربى والصداقة مع أوطانهم الأصلية وأهلهم المقيمين فيها.

  5- خاتمة

إرتباط الماروني بأرضه إرتباط مقدس وحيوي فهو بنفس الوقت إرتباط بالقيم والتراث المادي والمعنوي والروحي والأخلاقي. فالأرض تشد الماروني إلى تاريخه وجذوره وتبني له معالم هويته وإنتمائه الديني والحضاري. وإذا كنا قد ركزنا على لبنان، فما ذلك لأن الأرض في بلدان المنشأ الأخرى أقل أهمية، بل لأن الكيان اللبناني مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالموارنة، ولأن هؤلاء تمركزوا منذ نشأة كنيستهم في الأرض اللبنانية ثم إنتقلت إليه بطريركيتهم وما زالت ثابة على صخوره. ولقد أصبح لبنان أرض التجدد والقداسة وبنفس الوقت ارض الشهادة المسيحية المنفتحة على الحوار والعيش المشترك مع الطوائف المسيحية الأخرى ومع غير المسيحيين. أرضه اصبحت بالرغم من الحروب العديدة التي شهدتها، أرض العيش الحر المشترك. إنها أرض الوطن الرسالة لذلك ينبغي الحفاظ عليها لتبقى الرسالة ويبقى للحوار بين الحضارات والأديان وطن تاريخه العيش المشترك ودعوته الحوار.

 
  6- مراجع
1 راجع الفصول الثلاثة الأولى من سفر التكوين
2 راجع "رجاء جديد للبنان"، عدد 93.
3 لقد شهد التاريخ الماروني موجات هجرة عديدة، حفاظًا على حريّة الإيمان سعيًا للعيش بحريّة وكرامة واستقلال. (راجع نصّ الانتشار الماروني).
4 قول نابوت اليزراعيلي لآحاب الملك 1مل 21:3
5

نذكر على سبيل المثال أنّ الصلوات البيعيّة تسمّي المسيح "الفلاّح الصالح الذي أتى ليقتلع الزؤان الذي زرعه إبليس في حقل بني آدم" (راجع صلاة مساء الأحد من الزمن العادي اللحن الثاني المقطع الثاني)؛
كما أنّ يسوع نفسه هو "حبّة الحنطة التي قبلتها أحشاء مريم كأرض طيّبة" (راجع نشيد زيّاح القرابين في القدّاس الإلهي)؛
كذلك الصدقات وأعمال الرحمة تُشَبّهُ بالزرع الذي يحمله الزارع وينطلق ليزرعه في الحقالي التي هي الفقراء والمعوزون. فكما أنّ الزارع يحمل الزرع ويذهب ليزرعه ولا ينتظر الحقالي أن تأتي إليه كذلك المؤمن مدعوّ لأن يذهب هو الى المحتاجين ولا يتنظرهم ليأتوا إليه. (راجع باعوت مساء الخميس في زمن الصوم).

6 منذ القدم، تنبّهت الكنيسة المارونيّة  إلى أهميّة الوقفيّات بالنسبة للأديار والرعايا والمؤسسات لتربويّة والإجتماعيّة، فمع إنشائها كانت تقيم لها الوقفيّات لتؤمّن لها ديمومة الحياة، مثلاً لمدرسة عين ورقة.
7 من اللافت في فولكلورنا كثرة التغنّي بالأرض والطبيعة والغلال ومواسم القطاف على أنواعه.
8 نلاحظ أنّ التواجد المارونيّ في لبنان يشكّل عنصر دمج وتعايش بين الطوائف الأخرى وبخاصّة الطوائف الغير مسيحيّة. فالمارونيّ يختلط بسهولة مع الدرزي والشيعي والسنيّ، ويسهّل بالتالي إمكانية تعايش هذه الطوائف بين بعضها البعض.
9 بعد مداخلات عديدة للمؤتمر الدائم للرؤساء العامّين في لبنان استجابت الدولة اللبنانيّة الى طلب تعديل المرسوم الذي كان قد صدر سنة 1959 بخصوص تملك الاجانب
 
 
       Chucri Simon Zouein, Computer engineer
     
echkzouein@gmail.com
www.puresoftwarecode.com
© pure software code - Since 2003