الموارنة قدسوا الأرض وتقدسوا بها. إستعاروا منها التشابيه
وأدخلوها في صلواتهم[6]،
كما وضعوا اعياداً "زراعية" مثل عيد سيدة الزروع وعيد سيدة
الحصاد. كان كل الموارنة يعملون في الأرض من بطاركة وأساقفة
ورهبان وعلمانيين. فالأرض مدرسة حياة وروحانية بالنسبة
إليهم، كانوا ينشّئون الشباب الماروني عليها. وقد عمدت
الكنيسة المارونية، ومن بعدها باقي رجالات الإقطاع، إلى نظام
الشراكة من أجل إسثمار أراضيها ومن أجل حث الموارنة الذين لا
يملكون أرضاً على العمل في ألأرض. ورغم مساوئ هذا النظام،
وبالرغم من سوء تطبيقه أحياناً، ما حدا بالعديد من الموارنة
للنزوح إلى المدن أو الهجرة، فقد أفرز قرى بكاملها إنبثقت عن
الأديار.
إن تحول المجتمع الماروني من مجتمع ريفي زراعي إلى مجتمع
مديني تجاري، وصناعي وخدماتي، أثر سلبًا على أخلاقية
الموارنة وروحانيتهم وتقاليدهم. وتبدلت همومهم من تأمين
الحاجيات (فلاح مكفي سلطان مخفي) إلى التفتيش عن الكماليات
ورغد العيش، ولو على حساب ضميرهم وكرامتهم ومبادئهم
الإنسانية والمسيحية أحيانًا. فالعودة إلى الجذور، تتطلب من
الموارنة العودة إلى العمل في الأرض مع إستعمال الوسائل
والتقنيات الحديثة، في إستراتيجية متقدمة.
فالعمل في الأرض، قبل أن يكون بهدف نفعي أو رياضي، هو قيمة
مسيحية وروحية. من هنا كان المبدأ الرهباني "صلّ وإعمل".
والتاريخ يشهد بأن جميع الأديار القديمة وكذلك أيضاً مقر
الأساقفة وكنائس الرعايا، كانت كلها تملك أوقافًا وأملاكًا[7]
يدأب فيها الرهبان والموارنة والأساقفة أحياناً كثيرة مع
المؤمنين الشركاء على العمل. وقد عمدت الرهبانيات بعد إعادة
تنظيم الحياة الرهبانية في أواخر القرن السابع عشر الى
الإهتمام بالأرض وأصبح الرهبان رائدي الزراعة فإستعان بهم
الأمراء لتعليم رعاياهم الكتابة والقراءة والعناية بالأرض.
هذه الشراكة بالعمل في الأرض، ما بين الرهبان والخوارنة
والأساقفة أحياناً من جهة والمؤمنين من جهة أخرى. جعلت حياة
المؤمنين مطبوعة بالإبعاد الروحية التي كان أكليروسهم
ورهبانهم يعيشونها ببساطة وعفوية. وكما كانت الشركة في العمل
كذلك كانت في الصلاة الخورسية والإفخارستيا والعبادات. هذا
ما كان يوحد الكنيسة المارونية بروحانيتها وتقاليدها. واليوم
نشعر بقيمة ما فقدنا. فعدم الإهتمام بالأرض والهجرة إلى
المدينة والسعي إلى التطور والنمو غير المتزن، لأنه غير
مرتبط بالأرض، كل ذلك أفقد الموارنة الكثير من قيمهم
التاريخية وضعضع وحدتهم وأبعدهم عن روحانيتهم. لذلك لا بد من
عودة إلى الأرض وإلى روح الشراكة والوحدة بين الإكليروس
والرهبان والمؤمنين بأساليب حديثة ومتطورة، مع المحافظة على
ما اكتسبناه من قِيَم جديدة ناتجة عن الانفتاح المديني
ومواكبة ركب الترقّي العالمي.
|